فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243619 / تحميل: 10715
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

انفتل جلس في قبلته والناس حوله. فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من مهاجرة العرب ، عليه سمل قد تهلّل وأخلق (1) وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحثّه الخبر، فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني، وفقير فارشني (2) .

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أجد لك شيئاً، ولكنّ الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل مَن يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة.

وكان بيتها ملاصقاً بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يتفرّد به لنفسه من أزواجه، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة.

فانطلق الأعرابي مع بلال، فلمّا وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند ربّ العالمين.

فقالت فاطمة: وعليك السلام، فمَن أنت يا هذا؟

قال: شيخ من العرب، أقبلت على أبيك سيّد البشر مهاجراً من شقّة، وأنا - يا بنت محمد - عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله.

وكان لفاطمة وعلي - في تلك الحال - ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من شأنهما.

____________________

(1) السمل: الثوب الخلق. تهلّل الثوب: انخرق.

(2) ارشني: أحسن إليّ.

٢٠١

فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ (1) كان ينام عليه الحسن والحسين، فقالت: خذ هذا يا أيّها الطارق، فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه.

فقال الإعرابي: يا بنت محمد شكوت إليك الجوع، فناولتني جلد كبش؟ ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب؟ (2)

قال: فعمدت فاطمة - لما سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبد المطلب، فقطعته من عنقها، ونبذته إلى الأعرابي فقالت: خذه وبِعهُ، فعسى الله أن يعوِّضك به ما هو خير منه.

فأخذ الأعرابي العقد، وانطلق إلى مسجد رسول الله، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في أصحابه فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة بنت محمد هذا العقد فقالت: بِعه فعسى الله أن يصنع لك.

قال: فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: وكيف لا يصنع الله لك، وقد أعطته فاطمة بنت محمد سيّدة بنات آدم.

فقام عمار بن ياسر (رحمة الله عليه) فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ قال: اشتر يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبّهم الله بالنار، فقال عمار: بكَمْ العقد يا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز واللحم، وبردة يمانية استر بها عورتي وأصلّى فيها لربّي، ودينار يبلغني إلى أهلي.

وكان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خيبر ولم يبق منه شيئاً فقال: لك عشرون ديناراً ومائتا درهم

____________________

(1) القرظ: شيء يدبغ به الجلد.

(2) السغب: الجوع.

٢٠٢

هجرية، وبُردة يمانية، وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البر واللحم.

فقال الإعرابي: ما أسخاك بالمال أيّها الرجل؟ وانطلق عمار فوفّاه ما ضمن له.

وعاد الإعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له رسول الله: أشبعت واكتسيت! قال الأعرابي: نعم، واستغنيت بأبي أنت وأُمّي: قال: فأجزِ فاطمة بصنيعها؟ فقال الأعرابي: اللّهمّ أنت إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، فأنت رازقنا على كل الجهات، اللّهمّ أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت... وإلى أن قال: فعمد عمار إلى العقد فطيّبه بالمسك، ولفَّه في بردة يمانية، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك، وقال له: خذ هذا العقد فادفعه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنت له.

فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بقول عمار فقال النبي: انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها. فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذت فاطمة العقد، وأعتقت المملوك.

فضحك المملوك فقالت: ما يضحكك يا غلام؟ فقال: أضحكني عِظَم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً، وكسا عرياناً وأغنى فقيراً، وأعتق عبداً، ورجع إلى ربّه أي إلى صاحبه.

وفي كتاب البحار ج 43 عن تفسير فرات بن إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري قال:

٢٠٣

أصبح علي بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ساغباً(1) وقال: يا فاطمة هل عندك شيء تغذّينيه؟ قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوة، وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاَّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابني هذين: الحسن والحسين.

فقال علي: يا فاطمة؟ ألا كنتِ أعلَمتِني فأبغيكم شيئاً؟ فقالت: يا أبا الحسن إنّي لأستحيي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه.

فخرج علي بن أبي طالب من عند فاطمةعليهما‌السلام واثقاً بالله بحسن الظن، فاستقرض ديناراً، فبينما الدينار في يد علي بن أبي طالبعليه‌السلام يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرَّض له المقداد بن الأسود، في يوم شديد الحر، قد لوّحته الشمس من فوقه، وآذته من تحته فلمّا رآه علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنكر شأنه فقال: يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك؟ قال: يا أبا الحسن خلّ سبيلي ولا تسألني عمّا ورائي!!

فقال: يا أخي إنّه لا يسعني أن تتجاوزني حتى أعلم علمك. فقال: يا أبا الحسن رغبة إلى الله وإليك أن تخلّي سبيلي، ولا تكشفني عن حالي!!!

فقال له: يا أخي إنه لا يسعك أن تكتمني حالك.

فقال: يا أبا الحسن! أمَّا إذا أبيتَ! فو الذي أكرم محمد بالنبوّة، وأكرمك بالوصية ما أزعجني من رحلي إلاَّ الجهد وقد تركت عيالي

____________________

(1) أي: جائعاً.

٢٠٤

يتضاغون جوعاً، فلمّا سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً، راكب رأسي، هذه حالي وقصّتي!!

فانهملت عينا علي بالبكاء حتى بلّت دمعته لحيته فقال له: أحلفُ بالذي حلفتَ: ما أزعجني إلاَّ الذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضت ديناراً، فقد آثرتك على نفسي.

فدفع الدينار إليه ورجع حتى دخل مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فصلَّى فيه الظهر والعصر والمغرب، فلمّا قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المغرب مرَّ بعلي بن أبي طالب وهو في الصف الأوّل فغمزه برجله، فقام علي متعقباً خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلَّم عليه فردَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله السلام، فقال: يا أبا الحسن هل عندك شيء نتعشّاه فنميل معك؟

فمكث مطرقاً لا يحير جواباً، حياءً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان النبي يعلم ما كان من أمر الدينار، ومن أين أخذه وأين وجّهه، وقد كان أوحى الله تعالى إلى نبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتعشّى تلك الليلة عند علي بن أبي طالب.

فلمّا نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سكوته فقال: يا أبا الحسن ما لَك لا تقول: لا. فانصرف؟ أو تقول: نعم. فأمضي معك؟ فقال - حياءً وتكرّماً -: فاذهب بنا!!

فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يد علي بن أبي طالب فانطلقا حتى دخلا على فاطمةعليها‌السلام وهي في مصلاّها قد قضت صلاتها، وخلفها جفنة تفور دخاناً.

٢٠٥

فلمّا سمعت كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرجت من مصلاّها فسلّمت عليه وكانت أعزّ الناس عليه، فردّ عليها السلام، ومسح بيده على رأسها وقال لها: يا بنتاه كيف أمسيت؟

قالت: بخير.

قال: عشّينا، رحمك الله، وقد فعل.

فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي بن أبي طالب...

فقال علي لها: يا فاطمة أنّى لك هذا الطعام الذي لم أنظر إلى مثل لونه قط، ولم أشمّ ريحه قط، وما آكل أطيب منه؟؟

قال: فوضع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كفّه الطيّبة المباركة بين كتفي علي بن أبي طالبعليه‌السلام فغمزها، ثم قال: يا علي، هذا بدل دينارك، وهذا جزاء دينارك من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب.

ثم استعبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باكياً، ثم قال: الحمد لله الذي أبى لكم أن تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما ويجريك - يا علي - مجرى زكريا، ويجري فاطمة مجرى مريم بنت عمران:( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً ) .

٢٠٦

فاطمة الزهراءعليها‌السلام والعبادة

العبادة لها معنيان: معنى عام ومعنى خاص.

فالعبادة بمعناها العام هي: كل ما يتقرَّب الإنسان به إلى الله سبحانه، من النوايا الطيّبة والأقوال الحسنة والأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة وغيرها.

والعبادة بمعناها الخاص هي الصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها، ممّا هو واضح للجميع.

وقد تجلّت العبادة - بكل معانيها وأبعادها - في حياة السيدة الطاهرة فاطمةعليها‌السلام .

فحياتها كلّها عبادة، منذ البداية حتى النهاية، فمن حمل الماء إلى بيوت الفقراء والمساكين وإطعام الطعام والإيثار، وتعليم الأحكام الشرعيّة، وتحمّل متاعب الأعمال المنزليَّة، والزهد والحرمان والبساطة في العيش، وحُسن التبعّل، والدفاع عن الإمامة والولاية، وما أصابها من الآلام والمصائب بعد وفاة أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرها - ممّا قرأته وتقرأه في صفحات حياتها المشرقة - كلّها عبادة خالصة لوجه الله سبحانه.

بالإضافة إلى الصلاة والخشوع والمناجاة وغيرها.

وقد رُوي عن ابن عباس في قوله تعالى:( كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) ، قال:نزلت في علي بن أبي طالب

____________________

(1) الذاريات.

٢٠٧

وفاطمة والحسن والحسين (1) .

وفيما يلي نذكر بعض الأحاديث المرويَّة في هذا المجال:

1 - رُوي عن الإمام الحسنعليه‌السلام قال: رأيت أمِّي فاطمةعليها‌السلام قامت في محرابها ليلة جُمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتَّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء.

فقلت لها: يا أُمَّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟

فقالت: يا بُني، الجار ثم الدار (2) .

2 - وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: وأمَّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، وهي الحوراء الإنسية.

متى قامت في محرابها بين يدي ربّها (جلّ جلاله) زَهَر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله (عزّ وجل) لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أَمَتي فاطمة، سيّدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أنّي قد أمنت شيعتها من النار... إلى آخر الحديث(3) .

3 - وفي كتاب عدّة الداعي: وكانت فاطمةعليها‌السلام تنهج في الصلاة من خيفة الله. والنهج - بفتح النون والهاء -: تتابع النَفَس.

____________________

(1) شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 2 ص 194.

(2) بحار الأنوار ج 43.

(3) بحار الأنوار ج 43.

٢٠٨

4 - وروى الحسن البصري:ما كان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورَّمت قدماها (1) .

5 - وروي عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه قال: (مَن صلّى أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة(2) خمسين مرّة:( قل هو الله أحد ) كانت صلاة فاطمة، وهي صلاة الأوّابين)(3) .

6 - وعنهعليه‌السلام قال: كانت لأُمّي فاطمة ركعتان تصلّيهما، علَّمها جبرئيلعليه‌السلام فإذا سلّمت سبّحت التسبيح(4) ثم تقول:

(سبحان ذي العزّ الشامخ المنيف، سبحان ذي الجلال الباذخ العظيم، سبحان ذي المـُلك الفاخر القديم، سبحان مَن لبس البهجة والجمال، سبحان مَن تردّى بالنور والوقار، سبحان مَن يرى أثَر النمل على الصَفّا، سبحان مَن يرى وقع الطير في الهواء، سبحان مَن هو هكذا، لا هكذا غيره) (5) .

7 - ورُوي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأمير المؤمنين وابنته فاطمةعليهما‌السلام : إنّني أريد أن أخصّكما بشيءٍ من الخير ممّا علّمني الله (عزّ وجلّ)، وأطلعني الله عليه، فاحتفظا به.

قالا: نعم يا رسول الله فما هو؟

قال: يصلّي أحدكما ركعتين، يقرأ في كل ركعة: فاتحة الكتاب وآية الكرسي ثلاث مرّات، و( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ) ثلاث مرّات، وآخر الحشر ثلاث مرّات من قوله:( لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ... ) إلى آخره.

____________________

(1) ربيع الأبرار للزمخشري ص 195.

(2) بعد الحمد.

(3) مَن لا يحضره الفقيه ج 1 ص 564.

(4) أي: تسبيح الزهراءعليها‌السلام .

(5) بحار الأنوار ج 89، ورُويت الصلاة بصورة أُخرى أيضاً.

٢٠٩

فإذا جلس فليتشهد وليُثن على الله (عزّ وجلّ) وليصلّ على النبي وليدع للمؤمنين والمؤمنات، ثم يدعو على أثر ذلك، فيقول:

(اللّهمّ إنّي اسألك بحقّ كلّ اسم هو لك يحقّ عليك فيه إجابة الدعاء إذا دُعيت به، وأسألك بحقّ كلّ ذي حقٍّ عليك، وأسألك بحقّك على جميع ما هو دونك أن تفعل بي... كذا وكذا) (1) .

8 - وعن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قال: للأمر المخوف العظيم تصلّي ركعتين، وهي التي كانت الزهراءعليها‌السلام تصلّيها، تقرأ في الأُولى الحمد وقل هو الله أحد خمسين مرّةً، وفي الثانية مثل ذلك، فإذا سلّمت صلّيت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ ترفع يديك وتقول:

(اللهمّ أتوجّه إليك بهم، وأتوسّل إليك بحقّهم (بحقّك - خ ل) العظيم الّذي لا يعلم كنهه سواك، وبحقّ مَن حقّه عندك عظيم، وبأسمائك الحسنى وكلماتك التّامّات الَّتي أمرتني أن أدعوك بها، وأسألك باسمك العظيم الّذي أمرت إبراهيمعليه‌السلام أن يدعو به الطّير فأجابته، وباسمك العظيم الّذي قلت للنّار:( كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فكانت، وبأحبِّ أسمائك إليك وأشرفها عندك، وأعظمها لديك، وأسرعها إجابةً، وأنجحها طلبةً، وبما أنت أهله ومستحقّه ومستوجبه؛ وأتوسل إليك، وأرغب إليك، وأتصدّق منك، وأستغفرك، وأستمنحك، وأتضرّع إليك، وأخضع بين يديك، وأخشع لك، وأقرّ لك بسوء صنيعتي، وأتملّق وألحّ عليك، وأسألك بكتبك التي أنزلتها على أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم أجمعين من التّوراة والإنجيل والقرآن العظيم من أوّلها إلى آخرها، فإنّ فيها اسمك الأعظم، وبما فيها من أسمائك العظمى، أتقرّب إليك، وأسألك أن

____________________

(1) قوله: كذا وكذا. أي: تذكر حاجتك / الحديث في بحار الأنوار ج 89 ص 365.

٢١٠

تصلّي على محمّد واله، وأن تفرِّج عن محمّد وآله، وتجعل فرجي مقروناً بفرجهم، وتبدأ بهم فيه، وتفتح أبواب السّماء لدعائي في هذا اليوم، وتأذن في هذا اليوم وهذه اللَّيلة بفرجي وإعطاء سؤلي وأملي في الدّنيا والآخرة، فقد مسّني الفقر ونالني الضّرّ وشملتني الخصاصة، وألجأتني الحاجة، وتوسّمت بالذّلّة، وغلبتني المسكنة، وحقّت علي الكلمة، وأحاطت بي الخطيئة، وهذا الوقت الذي وعدت أولياءك فيه الإجابة.

فصلّ على محمّد وآله، وامسح ما بي بيمينك الشّافية، وانظر إليّ بعينك الرّاحمة، وأدخلني في رحمتك الواسعة، وأقبل إليّ بوجهك الّذي إذا أقبلت به على أسيرٍ فككته، وعلى ضالٍّ هديته، وعلى حائرٍ أذّيته، وعلى فقير أغنيته، وعلى ضعيف قوّيته، وعلى خائف آمنته؛ ولا تخلّني لقاً لعدوّك وعدوّي، يا ذا الجلال والإكرام.

يا مَن لا يعلم كيف هو، وحيث هو، وقدرته إلاّ هو، يا مَن سدّ الهواء بالسّماء، وكبس الأرض على الماء، واختار لنفسه أحسن الأسماء، يا مَن سمّى نفسه بالاسم الذي به يقضي حاجة كلّ طالب يدعوه به، أسألك بذلك الاسم، فلا شفيع أقوى لي منه، وبحقّ محمّد وآل محمّد أن تصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تقضي لي حوائجي، وتسمع محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين وعليّاً ومحمّداً وجعفراً وموسى وعليّاً ومحمّداً وعليّاً والحسن والحجّة - صلوات الله عليهم وبركاته ورحمته (1) - صوتي، فيشفعوا لي إليك، وتشفّعهم فيّ، ولا تردّني خائباً، بحقّ لا إله إلاّ أنت، وبحقّ محمّدٍ وآل محمّد، وافعل بي كذا وكذا يا كريم(2) .

____________________

(1) وفي نسخة: صلواتك عليهم وبركاتك ورحمتك.

(2) مصباح المتهجّد: ص 266.

٢١١

9 - وقال السيد ابن طاووس الحلّي: روى صفوان قال: دخل محمد بن علي الحلبي على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام في يوم الجمعة فقال له: تعلّمني أفضل ما أصنع في مثل هذا اليوم؟

فقالعليه‌السلام : يا محمّد ما أعلم أحداً كان أكبر عند رسول الله من فاطمة، ولا أفضل ممّا علّمها أبوها محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أصبح يوم الجمعة فاغتسل وصفَّ قدميه وصلّى أربع ركعات مثنى مثنى، يقرأ في أوّل ركعة الحمد والإخلاص خمسين مرّة، وفي الثانية فاتحة الكتاب والعاديات خمسين مرّةً، وفي الثالثة فاتحة الكتاب وإذا زلزلت الأرض خمسين مرّةً، وفي الرابعة فاتحة الكتاب وإذا جاء نصر الله والفتح خمسين مرّة - وهذه سورة النصر وهي آخر سورة نزلت - فإذا فرغ منها دعا، فقال (1) :

(إلهي وسيّدي، مَن تهيّأ أو تعبّأ أو أعدّ أو استعدّ لوفادة إلى مخلوق رجاء رفده وفوائده ونائله وفواضله وجوائزه، فإليك يا إلهي كانت تهيئتي وتعبيتي وإعدادي واستعدادي رجاء رفدك ومعروفك ونائلك وجوائزك، فلا تحرمني ذلك، يا مَن لا يخيب عليه مسألة السّائل، ولا تنقصه عطيّة نائل فإنّي لم آتك بعملٍ صالحٍ قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته، أتقرّب إليك بشفاعة محمّد وأهل بيته صلواتك عليهم أجمعين، أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به على الخاطئين عند عكوفهم على المحارم فلم يمنعك طول عكوفهم على المحارم أن عدت عليهم بالمغفرة، وأنت سيّدي العوّاد بالنّعماء، وأنا العواد بالخطاء، أسألك بمحمّد وآله الطّاهرين أن تغفر لي

____________________

(1) جزاء الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه.

٢١٢

الذنب العظيم، فإنّه لا يغفر ذنبي العظيم إلاّ العظيم، يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم (1) .

والأحاديث في عبادة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام كثيرة، خاصة الأدعية التي كانت تناجي بها ربّها، ولا أراني بحاجة إلى المزيد من التحدّث عن عبادتها، وكثرة شوقها ورغبتها إلى الصلاة، ومدى إقبال قلبها إلى المناجاة مع الله تعالى، فهي بنت أوّل العابدين، الذي كان يقف على قدميه للعبادة طيلة ساعات طوال حتى نزل عليه قوله تعالى:( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) .

وهي التي عرفت معنى العبادة وقيمة العبادة بمقدار معرفتها بعظمة الله تعالى؛ فلا عجب إذا كانت السيدة فاطمة تستلذ من العبادة، وترتاح نفسها حين الوقوف بين يدي الله عزّ وجل، والتذلّل والخضوع لربّها، وكأنّها لا تتعب من القيام والركوع والسجود.

____________________

(1) (جمال الأسبوع) ص 132 - 133.

٢١٣

تَسبيح فَاطِمَة الزهْرَاءعليها‌السلام

رُوي عن الإمام علي (صلوات الله عليه) أنّه قال لرجل من بني سعد: ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة؟ إنّها كانت عندي وكانت أحب أهله إليه (1) وإنّها استقت بالقربة حتى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت(2) يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت(3) ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيتِ أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرَّ ما أنتِ فيه من هذا العمل.

فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجدت عنده حُدّاثا ً(4) فاستحت فانصرفت

قال: فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّها جاءت لحاجة. قال: فغدا علينا ونحن في لفاعنا(5) فقال: السلام عليكم. فسكتنا(6) واستحيينا لمكاننا.

ثم قال: السلام عليكم. فسكتنا. ثم قال: السلام عليكم. فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك يسلّم ثلاثاً فإن أُذن له وإلاَّ انصرف. فقلت: وعليك السلام يا رسول الله أُدخل.

____________________

(1) أحبّ أهله أي أهل رسول الله بقرينة المقام.

(2) مجلت: ثخن جلدها.

(3) دكنت: اغبرت واتسخت.

(4) حُدّاث: جماعة يتحدثون.

(5) لفاع: لحاف.

(6) السلام إذا كان للاستئذان لا يجب ردّه، والله العالم.

٢١٤

فلم يعدُ أن جلس عند رؤوسنا فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟

قالعليه‌السلام : فخشيت إن لم تجبه أن يقوم فأخرجت رأسي فقلت: أنا - والله - أخبرك يا رسول الله! إنّها استقت بالقربة حتى أثَّرت في صدرها وجرّت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من العمل.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفلا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين. قال: فأخرجت عليها‌السلام رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله (1) .

وعن دعائم الإسلام عن عليعليه‌السلام قال: أهدى بعض ملوك الأعاجم رقيقاً(2) فقلت لفاطمة اذهبي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستخدميه خادماً، فأتته فسألته ذلك...

فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم ومن الدنيا بما فيها:

تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة، وتسبّحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، ثم تختمين ذلك بلا إله إلاّ الله، وذلك خير لك من الذي أَردت ومن الدنيا وما فيها.

____________________

(1) بحار الأنوار ج 43.

(2) الرقيق: العبيد والجواري يطلق على المفرد والجمع.

٢١٥

فلزمت (صلوات الله عليها) هذا التسبيح بعد كل صلاة، ونسب إليها هذا التسبيح، فيقال: تسبيح فاطمة(1) .

كما عن قرب الإسناد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: يا أبا هارون إنّا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمةعليها‌السلام كما نأمرهم بالصلاة فألزمه، فإنّه لم يلزمه عبد فشقي(2) .

وفي مكارم الأخلاق ص 328: أنّ فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت سُبحتها من خيط صوف مفتّل، معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت تديرها بيدها، تكبّر وتسبّح، إلى أن قُتل حمزة بن عبد المطلبرضي‌الله‌عنه سيّد الشهداء، فاستعملت تربته، وعملت التسابيح فاستعملها الناس، فلما قُتل الحسين (صلوات الله عليه) عُدل بالأمر إليه، فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية.

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : وتكون السبحة بخيوط زرق، أربعاً وثلاثين خرزة، وهي سبحة مولاتنا فاطمةعليها‌السلام لما قُتل حمزة عملت من طين قبره سبحة تسبّح بها بعد كل صلاة.

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : (ما عُبد الله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة، ولو كان شيء أفضل لنَحلَه رسول الله فاطمة)(3) .

وعن الإمام أبي عبد الله (الصادق)عليه‌السلام قال: من سبَّح تسبيح فاطمةعليها‌السلام فقد ذكر الله ذكراً كثيراً(4) .

____________________

(1) كتاب دعائم الإسلام، وفي البحار ج 43.

(2) كتاب قرب الإسناد وفي البحار ج 43.

(3) بحار الأنوار ج 43 ص 64.

(4) تفسير مجمع البيان ج 8 في تفسير قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ) . وذكره العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ج 43.

٢١٦

هذا... والروايات في فضل تسبيح فاطمةعليها‌السلام كثيرة ومختلفة في كيفيتها، وفي بعض الروايات: التكبير ثم التسبيح ثم التحميد، وهذا هو الأشهر والأقوى عند فقهائنا.

وقد ذكر شيخنا المجلسي أقوال الفقهاء وآرائهم حول الترتيب والتقديم والتأخير بصورة مفصّلة(1) .

لقد اتضح لنا من هذه الأحاديث أنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام مع جلالة قدرها وعظم شأنها وشرف نسبها كانت تقوم بأعمال البيت، وتدير أمور البيت بنفسها، وكان عليعليه‌السلام يعينها ويتعاون معها، كما في البحار، عن جامع الأخبار، عن عليعليه‌السلام قال: دخل علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة جالسة عند القدر وأنا أنقّي العدس.

قال: يا أبا الحسن.

قلت: لبّيك يا رسول الله.

قال: اسمع منّي، وما أقول إلاّ من أمر ربّي: ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلاّ كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة، صيام نهارها، وقيام ليلها... إلى آخر الحديث(2) .

____________________

(1) بحار الأنوار ج 85.

(2) جامع الأخبار، وفي البحار ج 43.

٢١٧

فاطمة الزهراءعليها‌السلام والعِلم

لقد عرفت - من مجموع هذه الأحاديث الماضية - أنّ السيدة الزهراءعليها‌السلام كانت أقرب إنسانة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتصالها وارتباطها بالنبي هو اتصال وارتباط الجزء بالكل، وارتباط بعض الشيء بالبعض الآخر، فالحب والعطف والانسجام والعلاقات الودّية قد بلغت إلى أقصى درجة...

فلا عجب إذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلّم ابنته أفضل الأعمال، ويرشدها إلى أحسن الأخلاق، ويفيض عليها أحسن المعارف وأرقاها.

والزهراءعليها‌السلام تلتهم العلوم الربّانية من ذلك النبع العذب الزلال، وتمتص رحيق الحقيقة من مهبط الوحي، فيمتلئ قلبها الواعي الواسع بأنواع الحكمة، ويساعدها عقلها الوقّاد، وذكاؤها المفرط على فهم المعاني ودرك المفاهيم، وحفظ المطالب على أتمّ وجه وأكمل صورة.

لقد سمعتْ من أبيها الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثير الكثير من العلوم، وتعلّمت منه القدر الغزير من الأحكام والأدعية والأخلاق والحِكَم.

هذا كلّه... بالإضافة إلى ما ألهمها الله تعالى من العلم والمعرفة.

وقد مرَّ عليك بعض التفصيل عند التحدّث عن اسمها: (المحدّثة) .

وروى جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صلّى الله عليه

٢١٨

وآله وسلّم) أنّه قال: (إنّ الله جعل عليّاً وزوجته وأبناءه حجج الله على خلقه، وهم أبواب العِلم في أُمّتي، مَن اهتدى بهم هُدي إلى صراط مستقيم)(1) .

ولكنّ المؤسف حقّاً أنّه قد رُوي عنها القليل، حسَب ظروفها الخاصة، ولما ستعرفه قريباً.

ولو كانت الزهراءعليها‌السلام تعيش أكثر ممّا عاشت - مع فسح المجال أمامها - لملأت الدنيا علماً وثقافة ومعرفة.

وليس هذا ادّعاءاً فارغاً، بل هو الواقع الذي لا شكّ فيه.

فقد وجدت السيدة الزهراء المجال في حياتها ساعتين فقط: ساعةً خطبت فيها في مسجد أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وساعةً خطبت في بيتها في جمع النساء اللاّتي حضرن لعيادتها.

وستعرف قريباً مدى مواهبها وسعة اطّلاعها، وكثرة معلوماتها، ومقدار قدرتها على الأداء والشرح والبيان.

ولكنّها - أسَفي عليها - ما عاشت إلاّ يسيراً، وقد عرفت تاريخ ميلادها وستعرف تاريخ وفاتها، وستعرف أنّها ماتت ولم تبلغ العشرين من العمر!!

فما تقول لو كانت الزهراء تعيش حتى تبلغ الخمسين والستين من العمر مع فسح المجال؟!

لكانت تترك للأُمّة الإسلامية أعظم ثروة فكريَّة وعلمية في شتّى المواضيع والفنون!!

ولكن...؟!

____________________

(1) شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1 ص 58.

٢١٩

أيّها القارئ الكريم: إليك الآن بعض ما رُوي عنها من الأحاديث الشريفة:

1 - عن تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام قال: حضرت امرأة عند الصدِّيقة فاطمة الزهراءعليها‌السلام فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس - أي: اشتبه - عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألكِ، فأجابتها فاطمةعليها‌السلام عن ذلك، فثنّت(1) فأجابت(الزهراء) ، ثم ثلّثت إلى أن عشّرت(2) فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشقّ عليكِ يا ابنة رسول الله.

قالت فاطمة: هاتي وسلي عمّا بدا لكِ، أرأيت من أكتُرِيَ (أي استؤجِر) يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه (أي أجرته) مائة ألف دينار يثقل عليه؟

فقالت: لا.

فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليَّ؛ سمعت أبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّ علماء شيعتنا يُحشرون، فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدّهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور، ثم ينادي منادي ربّنا عزّ وجل: أيّها الكافلون لأيتام محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمّتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا

____________________

(1) أي: جاءت المرأة مرَّة ثانية أو سألت مرّة أخرى.

(2) أي: جاءت مرة عاشرة، أو: سألت عشر مرات.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فالذي كان يستند ويعتمد على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يتمسّك به كيف تطيب نفسه أو يرضى ضميره أن يعترف بالقيادة الإسلامية لأفراد ليسوا في تلك المرتبة وتلك الدرجة.

تتعجّب السيدة فاطمةعليها‌السلام ويتعجّب معها عقلاء العالم وأصحاب الضمائر الحيّة والنفوس المعتدلة والقلوب السليمة من تلك الانتخابات المخالفة لجميع المقاييس والنواميس والموازين.

(وبأية عروة تمسّكوا) لقد ثبت عند المسلمين كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنكم لن تضلوا ما إن تمسّكتم بهما) ومعنى الحديث أنّ الرسول أمر المسلمين أن يتمسّكوا بالقرآن والعترة معاً، ولكن هؤلاء بأيّة عروة تمسّكوا وتعلّقوا واعتصموا.

(وعلى أيّة ذرّيّة أقدموا واحتنكوا؟) أيعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟ أيعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذرّية الطاهرة الشريفة الذين هم أشرف أُسرة على وجه الأرض؟

أيعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البيت؟

الذين أمرهم الله بمودّتهم بقوله:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) .

الذين فرض الله طاعتهم على كل مسلم بقوله:( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) ؟!

الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، مَن ركبها نجى، ومَن تخلّف عنها هوى وغوى وهلك؟!

الذين مَن أحبّهم فقد أحبّ الله، ومَن آذاهم فقد آذى الله، ومَن

٤٦١

أبغضهم فقد أبغض الله؟!

فو الله الذي لا إله إلاّ هو إنّهم آذوا ذرّيّة رسول الله وعترته وأهل بيته، وظلموهم وأغضبوهم واعتدوا عليهم، وهتكوا حرمتهم، وجرّئوا الناس على إيذائهم.

بأيّ دين؟!

وبأيّة شريعة؟!

وبأي مجوّز شرعي صنعوا ذلك الصنيع اتجاه آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

أنا لا أدري، ولعلّ القوم ينحتون الأعذار التي تبيح لهم هتك تلك الحرمات، وإهدار تلك الكرامات.

( لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) .

إقتبست السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام هذه الجملة من قوله تعالى( يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) (١) أي إنّ الذي اختاروه للولاية بئس المولى وبئس العشير، والعشير هو الصديق الذي ينتخب للمعاشرة.

( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الكهف ٥٠:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (٢) .

(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل).

إنّ من جملة العلوم التي لها الصدارة على بقيّة العلوم هو علم الاجتماع، وهو علم يبحث عن تقدّم الأُمم أو تأخّرها، وأسباب ضعفها أو

____________________

(١) الحج: ١٣.

(٢) الكهف: ٥٠.

٤٦٢

قوّتها، وصلاحها وفسادها، ونتائج الصلاح ومضاعفات الفساد.

ومن الوسائل التي كان لها التأثير في توعية المجتمع نحو الخير والشر، ونحو الصلاح أو الفساد، وتقرير مصير الشعوب: هو جهاز الدولة وجهاز الدين، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (طائفتان من أُمّتي إذا صلحتا صلح الناس، وإذا فسدتا فسد الناس: العلماء والأُمراء) وفي ذلك اليوم كان جهاز الدولة وجهاز الدين واحداً، فالخليفة يُعتبر رئيس الدولة ورئيس الدين، ويدير دفّة الحكم على الصعيدين: الدولي والديني.

وإنّنا نجد الشعوب المتحضّرة، المثقّفة المتقدّمة إنّما وصلوا إلى القمّة وحازوا التقدّم في كافّة المجالات بسبب الأُسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، وهيّأت لهم الوسائل وزوّدتهم بالتعليمات، وشجّعتهم على العمل.

وهكذا نجد الشعوب المتأخّرة والمتفسّخة التي استولى عليهم الجهل والفقر والمرض والذل والهوان والخلاعة والمجون هم ضحايا إهمال الحكّام وأصحاب القيادة، وقد قيل: (الناس على دين ملوكهم).

وهنا تنتقل السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إلى حديثها عن علم الاجتماع، فتقول:

(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم)

إنّ التشبيه في الكلام له تأثير عجيب في النفس، وتقريب المعنى إلى الذهن بصورة واضحة.

لقد شبّهت السيدة فاطمةعليها‌السلام الأمّة الإسلامية بالطائر، وشبهت القائد أو القيادة بأجنحة الطائر؛ لأنّ الطائر لا يستطيع أن يطير إلاّ بجناحيه، والجناح مركّب من عشر ريشات كبار، ويُقال لها (القوادم) وتحت تلك الريشات الكبار عشر ريشات صغار يقال لها (الخوافي) وعلى موضع

٤٦٣

ذنب الطائر ريشات يقال لها: (الذنابا).

فالقوادم هي قوام الطيران، ولا يمكن الطيران بغير القوادم، لأنّها بمنزلة المحرّكات القويّة في جناح الطائرة التي بإمكانها أن تقلع الطائرة وترتفع بها عن الأرض وتسير في الفضاء.

فالطائر إذا قطعت قوادمه لا يستطيع الطيران بالخوافي وهي الريشات الصغار، ولا بالذنابا، لأنّ الذنابا لا تستطيع حمل جسد الطائر وإقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا وضعفها.

(والعجز بالكاهل) العجز - بفتح العين وضم الجيم -: من كل شيء مؤخّره، ومن الإنسان ما بين الوركين، والكاهل ما بين الكتفين، والكاهل أقوى موضع في البدن لحمل الأثقال، وبالعكس: العجز لا يليق ولا يستطيع حمل الأثقال.

والمقصود من هذين المثالين أو التشبيهين هو: أنّ القوم سلّموا الأمور العظيمة، والمناصب الخطيرة وهي القيادة إلى مَن لا يليق بها، ولا يستطيع القيام بأُمورها لعدم توفّر الإمكانيات فيه، وعجزه عمّا يتطلّبه الأمر من العلم والعقل والتدبير، وذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانيات من أصحابها الأكفّاء ذوي اللياقة والخبرة والبصيرة.

إنّهم باعوا عليّاًعليه‌السلام يوم الغدير بأمر من الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وباختيار منهما، ولكنّهم نكثوا عهدهم، ونقضوا ببيعتهم، وبايعوا غيره الذي لا يُقاس بعليّعليه‌السلام علماً وشرفاً وفضلاً وسابقة وغير ذلك من المرجِّحات.

(فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً)

إنّ الزهراءعليها‌السلام تدعو على هؤلاء بالذلّ والهوان، وهو

٤٦٤

إرغام أنوفهم، وهم الذين يظنّون أنّهم مهتدون في أعمالهم، ومصلحون في تصرّفاتهم.

والحال:( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) وهل يشعر المنحرف أنّه منحرف وشاذ؟ بل بالعكس، يتصوّر أنّه هو المهتدي المعتدل المستقيم، وأنّه على الحق وأنّ غيره على الباطل، ولا يؤثّر فيه المنطق ولا ينفع فيه الدليل والبرهان.

وهاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالى:

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (١)

ومن قوله تعالى:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) (٢) .

ثم أدمجت آية أُخرى في كلامها بالمناسبة فقالت:

ويحهم!( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٣) .

هذه الآية الشريفة تشير إلى بحث الهداية، والمقارنة بين الذي يهدي إلى الحق، ويرشد الناس إلى الطريق وبين الذي لا يهتدي ولا يعرف الطريق إلاَّ أن يُهدى أي يهديه غيره، أيهم أحق بالإتّباع؟ وأيّهما يستحق أن يكون قائداً للأمّة؟

وهنا تقصد فاطمة الزهراءعليها‌السلام من هذه المقارنة أنّ عليّاً هو الرجل الكامل علماً وفضلاً وعقلاً، ومواهباً، فهو أولى بالقيادة، وأحرى بالاتباع من أفراد ليسوا في المستوى المطلوب في

____________________

(١) الكهف: ١٠٤.

(٢) البقرة: ١١، ١٢.

(٣) يونس: ٣٥.

٤٦٥

العلم والعقل والتدبير وما شابه ذلك من لوازم القيادة.

والتاريخ يثبت كلا الجانبين: جانب الكمال في عليّ، وجانب النقص في غيره.

(أما لعمري! لقد لقحتْ) إنّ الميكروبات التي تتكوّن في البدن، وتنتج أمراضاً صعبة العلاج إنّما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، وهناك تتلاقح، وبمرور الزمان تنتشر الميكروبات في الدم، وتؤثّر على الكريّات البيض والحمر، وهناك الويلات، وهناك، الملاريا والكوليرا، وهناك السرطان، وهناك المرض الذي يعمّ البدن ويشمل الجسد كلّه.

تقول السيدة فاطمة الزهراء: (أما لعمري! لقد لقحت) لقحت جرثومة الفتنة في الأمّة الإسلامية، والفتنة في طريقها إلى التوسّع والانتشار.

(فنظرة ريثما تنتج) أي انتظروا حتى تنتشر الميكروبات في هيكل المجتمع الإسلامي، فبعد أن كانت القيادة الصالحة اللائقة تقود المسلمين، وإذا بقيادة معاكسة ومغايرة لها تماماً تزاحمها وتحل محلّها.

وبعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطرية المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي وإذا بأحكام منبعثة عن الهوى وعن آراء شخصيّة متطرّفة تقوم مقام تلك الأحكام.

وهكذا تتبدّل المفاهيم، وتتغيّر المقاييس.

(ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً).

إنّ الناقة إذا ولدت يُحلب منها اللبن، ولكنّ الفتنة إذا لقحت وأنتجت يحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكوّن المجازر والمذابح، فبعد أن كان الدين الإسلامي دين الأمن والحياة والسلام في الواقع، وإذا به ينقلب مفهومه لدى هؤلاء فيصبح دين الإبادة والهلاك، والدمار والفناء.

انظر إلى التاريخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء

٤٦٦

تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمين.

وتجد التلال التي تكوّنت من جثثهم.

فمثلاً: ذكر المؤرّخون أنّ عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن والسنّة، فعاتبه المسلمون على ذلك، ولكنّه لم يرتدع بل استعمل العنف والقوّة معهم ضرباً وسبّاً وتبعيداً وتهديداً.

وأخيراً أثارت أعماله في المسلمين هياجاً عامّاً، وكانت عائشة تهيّج الناس ضدّه وتقول: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، اقتلوا نعثلاً قتله الله. ونعثل اسم يهودي كانت عائشة تشبّه عثمان به. وهكذا طلحة وابن العاص.

وأخيراً قتلوا عثمان.

وإذا بالذين كانوا يحرّضون الناس ضدّه خرجوا يطلبون بدمه، وقد قُتل عثمان في المدينة، وذهب هؤلاء إلى البصرة يطلبون بدمه، وبين المدينة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، فأجّجوا نيران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة وعشرون ألف إنسان!.

ثم نهض معاوية زاعماً أنّه يطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سورية بالقرب من مدينة حلب يقال لها (صِفّين) وهدأ القتال وعلى الأرض تسعون ألف قتيل!.

ثم حدثت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان.

ثم خرج بسر بن أرطاة من الشام وقصد المدينة ومكّة واليمن وفي طريقه كان يقتل الناس، حتى قتل من شيعة علي في اليمن وغيره ثلاثين ألف قتيل!.

خذ القلم بيدك واحسب مجموع القتلى:

٢٥٠٠٠ + ٩٠٠٠٠ + ٤٠٠٠ + ٣٠٠٠٠ = ١٤٩٠٠٠

هؤلاء القتلى، ولا تسأل عن الجرحى، ولا تسأل عن أرامل هؤلاء،

٤٦٧

وأيتامهم، ومضاعفات تلك المآسي، ولا تسأل عن الدموع الجارية، والعيون الباكية، والقلوب الملتهبة، والآهات والأحزان التي جعلت تلك الحياة جحيماً على ذلك المجتمع بكافّة جوانبه ونواحيه، كل ذلك في خلال أربع سنوات!!

وهل انتهت المأساة هنا؟

لا، بل هناك مآسي ومجازر ومذابح تقشعرّ منها الجلود، وسوف نذكر بعضها في هذا الكتاب.

نعم، لا تزال السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تخبر عن الفجائع والفظائع التي هي في طريق الأمّة الإسلامية، وكامنة لها بالمرصاد.

ليس هذا التنبّؤ إخباراً عن الغيب، بل إخبار عن نتائج الأعمال ومضاعفاتها، فالطبيب الحاذق إذا نظر إلى إنسان لا يراعي أُصول الصحّة في مأكله ومشربه وتنفسّه ويستعمل الأشياء الضارّة، فإنّ الطبيب يخبره بمصيره المظلم، والأمراض الفتّاكة التي تقضي على حياته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأُصول الصحّة العامّة.

وكذلك السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تنظر إلى ذلك المجتمع وسوء اختيار الأمّة للقيادة غير الصالحة، فتنكشف لها العواقب السيّئة التي يؤول إليها أمر الأمّة الإسلامية ببركات تلك القيادة!!.

تقول: (ثمّ احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً) وفي نسخة: (طلاع القعب) أي القدح الكبير الضخم الذي يتفايض بالدم حتى يسيل منه، والمقصود كثرة الدماء التي تُراق.

(وذعافاً ممقراً مبيداً) أي احتلبوا الدم، واحتلبوا السمّ المرّ المهلك، والمقصود منها: النتائج السيئة التي عمَّ شؤمها الإسلام والمسلمين من الويلات والمصائب التي انصبّت على المسلمين.

٤٦٨

(هنالك يخسر المبطلون) أي عند ذلك يظهر خسران المبطلين.

(ويعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأوّلون) يعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون.

(ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً) يُقال: طب نفساً: أي أسكن واهدأ عن القلق وهذا كما يُقال للظالم: قرَّت عينك، أو بشراك، وأمثالها من الكلمات التي يُراد بها العكس في الكلام لا الحقيقة.

(واطمأنّوا للفتنة جاشاً) أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، وهذا أيضاً يُراد به العكس، فإنّ القلب لا يسكن للفتنة وإنّما يسكن للأمان والسلامة.

(وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم) هذه الكلمة على غرار قوله تعالى:( فَبـَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) وهذه الكلمة أو الجملة أيضاً على العكس.

(وهرج شامل) وفي نسخة: (وهرج دائم شامل) الهرج: الفتنة والفوضى واختلال الأمور.

(واستبداد من الظالمين) الاستبداد: الدكتاتورية، والعمل على خلاف المقاييس والموازين، لا تحت أي نظام أو قانون أو شريعة أو دين.

(يَدَع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً) أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جميع ما تقدّم من قولها: سيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج واستبداد ومجموع هذه الأشياء يدع فيئكم زهيداً أي يجعل الغنائم والخراج وحقوقكم المالية زهيداً قليلاً (وجمعكم حصيداً) وفي نسخة: (وزرعكم حصيداً) أي محصوداً، والمقصود أنّ السلطة التي تحكم عليكم يتصرّفون في غنائمكم حسب مشتهياتهم ويجرّونها إلى أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القليل، ويحصدون جمعكم أي جماعتكم بسيوفهم.

٤٦٩

وكلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمين، والمآسي والكوارث التي تنزل بهم، والويلات التي تنصبّ عليهم!.

ولقد تحقّق كل هذا، وهذا كلّه، لقد ابتلي المسلمون بفجائع ومذابح ومآسي لا يستطيع أحد أن يتصوّرها، فو الله إنّهم سوّدوا تاريخ الإسلام، وشوّهوا سمعة هذا الدين، وإليك بعض تلك الحوادث شاهداً على ما نقول:

لقد ذكرنا - فيما مضى - بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج وبعض عملاء معاوية، والآن استمع إلى غيرها:

لو أردنا أن نذكر - هنا - ما جرى على الأمّة الإسلامية من الظلم والجور والضغط والكبت والعنف والقسوة، والاستبداد بالأموال وإراقة الدماء البريئة على أيدي حكّام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإنّ التحدّث عن هذه المصائب والفجائع يحتاج إلى موسوعة وموسوعة.

ولكنّنا رعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة التحدّث عمّا أخبرت به السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام من الويلات التي كانت بالمرصاد على طريق المسلمين، الذين اختاروا تلك القيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبذوا وراءهم ولاية آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلبوهم القدرة والإمكانية.

نختار من بين المئات من الفجائع التي انصبّت على أهل المدينة فجيعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، وتشمئزّ منها النفوس.

وقبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدّمة تمهيدية كي تظهر نتائج تغيير القيادة الإسلامية عن مجراها وأُسُسها:

من الصحيح أن نقول: إنّ حكّام الجور الذين جلسوا على كراسي الحكم، وقبضوا بأيديهم أزمّة الأمور، واستولوا على رقاب البشر عن طريق السيف، قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٤٧٠

فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكريم، ولا السنّة النبوية، ولا منطق العقل ولا قانون الإنسانية، ولا نظام العدل، ولا تعاليم الإسلام.

بل كانوا يحكمون على أموال الناس ودمائهم حسب رغباتهم الشخصية وشهواتهم النفسية، وإجابة للحرص والجشع، وإطاعة لأهوائهم.

فالناس لا كرامة لهم ولا قيمة لحياتهم عند هؤلاء، وليس المهم عند أولئك الحكّام أن يعيش الناس برخاء ورفاه أو يموتوا جوعاً وفقراً وإنّما المهم المحافظة على عرش الحاكم وإبقاء جبروته وإشباع شهواته ورغباته وترفه وبذخه، ولو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البريء المسكين، وما قيمة المسلم وما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان يؤمن بالله واليوم الآخر لكان سلوكه على خلاف تلك الأعمال المناقضة للدين الإسلامي.

ولعلّك - أيها القارئ - تتصوّر وتظن أنّ في كلامي هذا شيئاً من المبالغة والإسراف، ولكنّك لو اطلعت على تاريخ الأمويين والعبّاسيين والمجازر والمذابح الجماعية التي قاموا بها لصدّقت كلامي، بل واعتبرت كلامي هذا أقلّ من القليل عن الواقع الذي مرّت به الأمّة الإسلامية عبر القرون!.

إنّهم جعلوا الحياة جحيماً وعذاباً أليماً على المجتمع الإسلامي الذي كان يعيش تحت سياطهم وسيوفهم!.

وهاك مثالاً واحداً على بعض ما نقول:

وَاقِعَةُ الحرّة

بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة، وكان أحد جبابرة العرب

٤٧١

وشياطينهم بعثه إلى المدينة ومعه ثلاثون ألف رجل(١) ، وأوصى يزيدُ بن معاوية مسلم بن عقبة فقال: إذا ظهرتَ على أهل المدينة فأبحْها ثلاثاً، وكل ما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند.

خرج الجيش نحو مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج أهل المدينة لمقابلة الجيش خارج المدينة، والتقى العسكران خارج البلدة في منطقة يقال لها: (الحَرّة) وهناك وقعت الحرب، وقُتل من أهل المدينة المئات من أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل المدينة، وانهزم الباقون متجهين نحو المدينة، وكان جيش الشام يطاردهم حتى وصلوا المدينة ولاذ المسلمون بالحرم النبوي فجعل جيش الشام يقتل أهل المدينة عند قبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ساوى الدم قبر رسول الله!!.

وبعد ذلك نادى المنادي في جيش الشام بأمر قائدهم مسلم بن عقبة: هذه المدينة قد أبحتُها لكم!!.

فما تظن بالجيش الفاتح الذي تُعطى له الحرية الكاملة، وتُرفع عنه كل مسؤولية؟؟

فعمد الجيش إلى نهب الأموال وهتك الأعراض، وافتضّوا أكثر من ثلاثمائة عذراء، ووُلد في تلك السنة ألف مولود لم يُعرف لهم أب.

وأستأذن القارئ لأقول له: حتى أنّ الرجل منهم كان يزني بالمرأة المسلمة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

وكان أفراد الجيش يدخلون بيوت أهل المدينة وينهبون كل ما وجدوا فيها، وهجم أفراد منهم على دار أبي سعيد الخدري الذي كان من مشاهير أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان شيخاً كبيراً

____________________

(١) الإمامة والسياسة ج ٢ ص ٧.

(٢) كتاب تتمّة المنتهى للقمّي.

٤٧٢

قد كفّ بصره، فوجدوه جالساً على التراب؛ لأنّ طائفة من الجيش كانت قد نهبت داره قبل ذاك، ولمّا فتّش الأفراد داره ولم يجدوا شيئاً ما أحبّوا أن يخرجوا من داره بلا فائدة فعمدوا إلى الشيخ الأعمى المسكين ونتفوا لحيته وشعر حاجبيه وهو يصرح ويقول لهم: أنا أبو سعيد الخدري!! أنا صاحب رسول الله.

ولكنّهم لم يعبأوا بهذه الأسماء، ووجدوا في بيته عدداً من الحمام فذبحوها وطرحوها في البئر وخرجوا من داره.

ودخل أحدهم دار امرأة قد نُهب كلّ ما فيها، فوجد الرجل تلك المرأة جالسة على الأرض وفي حجرها طفلها يرتضع، فمدّ الرجل يده وأخذ برجل الطفل وجذبه من حجر أمه والثدي في فمه وضرب برأس الطفل فسال دماغه على الأرض وأُمّه تنظر إليه.

ثم جمع مسلم بن عقبة أهل المدينة وأخذ منهم الإقرار والاعتراف بأنّهم عبيد مملوكون ليزيد بن معاوية.

وبعد ذلك خرج الجيش من المدينة تاركاً وراءه الجثث وآلاف اليتامى والأرامل، طعامهم البكاء وشرابهم الدموع، وفراشهم التراب، ومتاعهم الآلام والآهات والذعر والعويل.

وخرج الجيش نحو مكّة ليحرقوا الكعبة ويقتلوا الناس في المسجد الحرام لأجل القضاء على عبد الله بن الزبير المتحصّن في المسجد الحرام الذي مَن دخله كان آمناً.

ولا تسأل عن الفجائع التي انصبّت على أهل المدينة، فجيعة بعد فجيعة ومصيبة تلو الأخرى.

وأمّا ما قام به الحجّاج بن يوسف الثقفي في العراق فإنّه يشيب الطفل وهو في المهد، ويورث الدهشة والذعر في القارئ الذي يقرأ تلك

٤٧٣

الإضبارة السوداء الشوهاء، وتستولي عليه حالة التهوّع والتقيّؤ.

حتى قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمّة بخبيثها وجئنا بالحجّاج لغلبناهم.

وقال عاصم: ما بقيتْ لله (عزّ وجلّ) حُرمة إلاّ وقد ارتكبها الحجاج!

تَطبيق الخَبَر مَعَ الوَاقِع

هذه نماذج قليلة وضئيلة بالنسبة لما جرى وحدث، وبعد استعراض تلك الفجائع التي يملّ الإنسان الحياة حين قراءتها، عند ذلك تتضح لنا صحّة ما أنذرت به السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام الجماعة التي استبدلت تلك القيادة بقيادة آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويظهر لنا صدق كلامها حين المطابقة والمقارنة بين كلامها: (وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتدٍ غاشم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يَدَع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً) وبين الحوادث والمآسي التي مرّت بها الأمّة الإسلامية.

وأخيراً ختمت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام خطابها للنساء بهذه الجملات: (فيا حسرة لكم) هذه الكلمة مأخوذة من قوله تعالى:( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) فالمعنى: يا لكم من حسرة وندامة على ما فاتكم من الخير والهداية، والأمن والأمان، والأجر والثواب في الدنيا وفي الآخرة.

(وأنّى لكم؟) أي ما أدري إلى ما يصير أمركم وقد سلكتم عن طريق الهداية، ووقعتم في موارد الهلكة والخسران.

(وقد عميت عليكم) خفيت عليكم الحقائق بسبب قلّة تدبّركم فيها.

٤٧٤

( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) هذه الجملة من قوله تعالى:( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ من ربِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) أي أتريدون منّي أن أُكرهكم على المعرفة وأُلجأكم إليها على كرهٍ منكم؟

هذا غير مقدور لي وإنّما الواجب عليّ أن أدلّكم بالبيّنة والطريق وليس عليّ أن أضطرّكم على معرفتها.

قطعت السيدة فاطمة شريط كلامها مع النساء - هنا - وقامت النساء وخرجن.

قال سويد بن غفلة: (فأعادت النساء قولها على رجالهنّ، فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين).

من المؤسف أنّ القضية مجملة مبهمة، فليس هنا تصريح بأسماء النساء ولا بأسماء الرجال الذين هم من وجوه المهاجرين والأنصار.

وإنّما المستفاد من مجموع الأحداث أنّ النساء ما كنّ يعرفن الألعاب السياسية، وما كنّ يعرفن اتجاه رجالهن في تلك الفترة العاصفة، فحضرن عند السيدة فاطمة الزهراء لعيادتها، فخطبت فيهنّ السيدة الزهراء الخطبة التي مرّت عليك، وصبّت جام غضبها على رجالهن، وبعد انتهاء الخطبة قامت كل امرأة وكأنّها نائمة فاستيقظت، أو كانت غافلة فانتبهت وحصل عندهنّ شيء من الوعي والانتباه.

ويعلم الله ما جرى بين تلك النساء وبين رجالهنّ من الصياح والنزاع بعد رجوعهن من عيادة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام بحيث جاء رجالهن إلى دار فاطمة معتذرين.

معتذرين عن أيّ شيء؟

٤٧٥

معتذرين عن تخاذلهم عن نصرة آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

كأنّهم لا يعلمون شيئاً، كأنّهم لا يعرفون عن الأحداث شيئاً.

كأنّهم لم يبايعوا عليّاًعليه‌السلام يوم الغدير، وذلك قبل وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين يوماً.

كأنّهم لم يسمعوا خطبة الزهراء في المسجد واحتجاجها مع رئيس الدولة ومع المهاجرين والأنصار!

كأنّهم لم يسمعوا صرختها عند باب البيت.

وكأنّهم ما كانوا بالمدينة ولم يعلموا شيئاً أبداً.

وكأنّهم الآن عرفوا الحق فجاءوا معتذرين بأعذار تافهة تائهة باردة:

(وقالوا: يا سيّدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نُبرم العهد، ونُحكم العقد، لما عدلنا عنه إلى غيره)

استمع إلى هذا الاعتذار البعيد عن المنطق، البعيد عن كل مقياس.

ما أدري أيّ شيء كان مفروضاً على أبي الحسن أن يذكره لهؤلاء؟

أما ذكر لهم الله تعالى قوله:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ؟

أما سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رافعاً صوته يوم الغدير: (مَن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذلْ مَن خذله).

إلى غيرها من الآيات نزلت في حق عليّعليه‌السلام وكلمات الثناء والنصوص الصريحة التي سمعوها من فم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الدالة على خلافة عليّ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٧٦

أي شيء يذكره عليّ لهم؟

فهل كان هناك شيء مستور أو غير معلوم عند أولئك الشخصيات فيحتاجوا إلى مَنْ يذكر لهم ذلك؟ أو يخبرهم به؟

وبعد هذا كلّه، أما احتجّ الإمام أمير المؤمنين بأنواع الاحتجاج يوم أخذوه من بيته إلى المسجد ليبايع أبا بكر؟

أما سمعوا؟

أما علموا؟

أما فهموا؟

ثم انظر إلى كيفيّة الاعتذار وسخافة القول: (لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره).

سبحان الله! أما أبرمتم العهد؟

أما أحكمتم العقد يوم الغدير؟ وبايعتم عليّاً بالخلافة بأمر الله وأمر رسوله؟

فهل كنتم تلعبون يومذاك تستهزئون بالله ورسوله؟

فالعجب أنّه جاز لكم أن تنقضوا ذلك العهد وتنكثوا ذلك العقد، ولكن اليوم لا يجوز لكم النكث والنقض لتلك البيعة، التي كانت هي نقضاً ونكثاً للبيعة السابقة التي بايعتم عليّاً يوم الغدير!!.

نعم، هكذا اعتذروا، اعتذروا بهذه الأعذار المزيّفة، ولهذا طردتهم السيدة فاطمة من بيتها، وقالت لهم:

(إليكم عنّي) تباعدوا عنّي، أمسكوا كلامكم عنّي.

(فلا عذر بعد تعذيركم) التعذير: التقصير في الاعتذار، والمعذّر: المقصّر الذي يريك أنّه معذور ولا عذر له، قال تعالى:( وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ

٤٧٧

الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ) (١) .

لعلّ المقصود ليس لكم عذر صحيح بعد تعذيركم وتقصيركم.

(ولا أمر بعد تقصيركم) أي ليس لنا أمر معكم بعد هذه المواقف التي كانت لكم.

وهكذا طردتهم السيدة فاطمة من بيتها بعد أن زيّفت أعذارهم.

٤٧٨

مَصَادِرُ الخطْبَة في النِّساء

أيّها القارئ الكريم، لقد قضينا معك برهة من الزمان في رحاب كلمات السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام التي خطبت بها في المسجد وفي بيتها وفي فراش العلّة والمرض، وقد تبيّن لك الكثير الكثير من الحقائق التي اشتملت عليها خُطب السيدة الزهراء.

وقد ذكرنا لك بعض المصادر لخطبتها التي خطبت بها في المسجد، ولا بأس أن نذكر - هنا - بعض مصادر خطبتها التي خطبت بها للنساء:

١ - معاني الأخبار للشيخ ابن بابوية المتوفّي سنة (٣٨١) ينتهي سند الخطبة إلى فاطمة بنت الحسينعليهما‌السلام .

٢ - ويروي أيضاً بإسناده عن عمر بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام يروي عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليهما‌السلام .

٣ - الطبرسي في الاحتجاج، عن سويد بن غفلة كما تقدّم الكلام في أوّل الخطبة.

٤ - أمالي الشيخ الطوسي، يروي بإسناده عن ابن عباس.

٥ - دلائل الإمامة للطبري، يروي بإسناده عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليهما‌السلام .

٦ - بلاغات النساء لأبي الفضل بن أبي طاهر، يروي بإسناده عن عطية العوفي.

٧ - كشف الغمّة للإربلي ص١٤٧ يروي عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري.

٨ - ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة يروي أيضاً عن الجوهري.

٩ - أعلام النساء تأليف عمر رضا كحّالة ج٤ ص١٢٣.

١٠ - الشيخ المجلسي في العاشر من كتابه بحار الأنوار.

٤٧٩

إتمَامُ الحجّةِ عَلَى المـُهاجرين وَالأنصَار

كان الأنسب أن يكون هذا البحث قبل خطبتها التي خطبت بها للنساء، ولكن رعايةً لتوالي خُطَبها ذكرنا كما سلف.

كان الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يسير على خطّة حكيمة تتفقْ مع العقل والمنطق والدين، وينتهز الفرص لإحقاق حقّه وإثبات مظلوميته وإتمام الحجّة على ذلك المجتمع، بل وتسجيلها في سجلّ التاريخ؛ كي يعلم ذلك الشعوب التي جاءت بعد ذلك اليوم وإلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله.

من الصحيح أن نقول: إنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام كان يرى لزاماً عليه أن يتمّ الحجّة على الناس، ويبيّن لهم أنّ الخلافة من حقّه الذي جعله الله ورسوله له، وحتى إذا كان عالماً أنّ الناس لا يتجاوبون معه، وهكذا يبيّن لهم أنّ فدك من حق السيدة فاطمة الزهراء.

فهو - شرعاً - خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سواءً أذعن له الناس أو لم يذعنوا، وسواء خضع له المجتمع أو لم يخضع، وهكذا إنّ فدك مِلكٌ للسيدة فاطمة الزهراء سواءً أعطوها حقّها أو لا.

والسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام لها المكانة المرموقة والشخصية المشهورة في ذلك المجتمع، فلا بأس لو أنّ السيدة الزهراء تتكلّف وتتجشّم تأييد زوجها في إثبات الحق والحقيقة والمطالبة بحقّها، فلا عجب إذا كانت ترافق زوجها العظيم، وولديها سيّدي شباب أهل الجنّة، وتستنجد بالصحابة لئلاّ يكون للناس على الله حجّة، لئلا يقولوا: كنّا غافلين ناسين أو

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568