فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد0%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 213005
تحميل: 8098

توضيحات:

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213005 / تحميل: 8098
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فالذي كان يستند ويعتمد على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يتمسّك به كيف تطيب نفسه أو يرضى ضميره أن يعترف بالقيادة الإسلامية لأفراد ليسوا في تلك المرتبة وتلك الدرجة.

تتعجّب السيدة فاطمةعليها‌السلام ويتعجّب معها عقلاء العالم وأصحاب الضمائر الحيّة والنفوس المعتدلة والقلوب السليمة من تلك الانتخابات المخالفة لجميع المقاييس والنواميس والموازين.

(وبأية عروة تمسّكوا) لقد ثبت عند المسلمين كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنكم لن تضلوا ما إن تمسّكتم بهما) ومعنى الحديث أنّ الرسول أمر المسلمين أن يتمسّكوا بالقرآن والعترة معاً، ولكن هؤلاء بأيّة عروة تمسّكوا وتعلّقوا واعتصموا.

(وعلى أيّة ذرّيّة أقدموا واحتنكوا؟) أيعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟ أيعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذرّية الطاهرة الشريفة الذين هم أشرف أُسرة على وجه الأرض؟

أيعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البيت؟

الذين أمرهم الله بمودّتهم بقوله:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) .

الذين فرض الله طاعتهم على كل مسلم بقوله:( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) ؟!

الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، مَن ركبها نجى، ومَن تخلّف عنها هوى وغوى وهلك؟!

الذين مَن أحبّهم فقد أحبّ الله، ومَن آذاهم فقد آذى الله، ومَن

٤٦١

أبغضهم فقد أبغض الله؟!

فو الله الذي لا إله إلاّ هو إنّهم آذوا ذرّيّة رسول الله وعترته وأهل بيته، وظلموهم وأغضبوهم واعتدوا عليهم، وهتكوا حرمتهم، وجرّئوا الناس على إيذائهم.

بأيّ دين؟!

وبأيّة شريعة؟!

وبأي مجوّز شرعي صنعوا ذلك الصنيع اتجاه آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

أنا لا أدري، ولعلّ القوم ينحتون الأعذار التي تبيح لهم هتك تلك الحرمات، وإهدار تلك الكرامات.

( لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) .

إقتبست السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام هذه الجملة من قوله تعالى( يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) (1) أي إنّ الذي اختاروه للولاية بئس المولى وبئس العشير، والعشير هو الصديق الذي ينتخب للمعاشرة.

( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الكهف 50:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (2) .

(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل).

إنّ من جملة العلوم التي لها الصدارة على بقيّة العلوم هو علم الاجتماع، وهو علم يبحث عن تقدّم الأُمم أو تأخّرها، وأسباب ضعفها أو

____________________

(1) الحج: 13.

(2) الكهف: 50.

٤٦٢

قوّتها، وصلاحها وفسادها، ونتائج الصلاح ومضاعفات الفساد.

ومن الوسائل التي كان لها التأثير في توعية المجتمع نحو الخير والشر، ونحو الصلاح أو الفساد، وتقرير مصير الشعوب: هو جهاز الدولة وجهاز الدين، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (طائفتان من أُمّتي إذا صلحتا صلح الناس، وإذا فسدتا فسد الناس: العلماء والأُمراء) وفي ذلك اليوم كان جهاز الدولة وجهاز الدين واحداً، فالخليفة يُعتبر رئيس الدولة ورئيس الدين، ويدير دفّة الحكم على الصعيدين: الدولي والديني.

وإنّنا نجد الشعوب المتحضّرة، المثقّفة المتقدّمة إنّما وصلوا إلى القمّة وحازوا التقدّم في كافّة المجالات بسبب الأُسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، وهيّأت لهم الوسائل وزوّدتهم بالتعليمات، وشجّعتهم على العمل.

وهكذا نجد الشعوب المتأخّرة والمتفسّخة التي استولى عليهم الجهل والفقر والمرض والذل والهوان والخلاعة والمجون هم ضحايا إهمال الحكّام وأصحاب القيادة، وقد قيل: (الناس على دين ملوكهم).

وهنا تنتقل السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إلى حديثها عن علم الاجتماع، فتقول:

(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم)

إنّ التشبيه في الكلام له تأثير عجيب في النفس، وتقريب المعنى إلى الذهن بصورة واضحة.

لقد شبّهت السيدة فاطمةعليها‌السلام الأمّة الإسلامية بالطائر، وشبهت القائد أو القيادة بأجنحة الطائر؛ لأنّ الطائر لا يستطيع أن يطير إلاّ بجناحيه، والجناح مركّب من عشر ريشات كبار، ويُقال لها (القوادم) وتحت تلك الريشات الكبار عشر ريشات صغار يقال لها (الخوافي) وعلى موضع

٤٦٣

ذنب الطائر ريشات يقال لها: (الذنابا).

فالقوادم هي قوام الطيران، ولا يمكن الطيران بغير القوادم، لأنّها بمنزلة المحرّكات القويّة في جناح الطائرة التي بإمكانها أن تقلع الطائرة وترتفع بها عن الأرض وتسير في الفضاء.

فالطائر إذا قطعت قوادمه لا يستطيع الطيران بالخوافي وهي الريشات الصغار، ولا بالذنابا، لأنّ الذنابا لا تستطيع حمل جسد الطائر وإقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا وضعفها.

(والعجز بالكاهل) العجز - بفتح العين وضم الجيم -: من كل شيء مؤخّره، ومن الإنسان ما بين الوركين، والكاهل ما بين الكتفين، والكاهل أقوى موضع في البدن لحمل الأثقال، وبالعكس: العجز لا يليق ولا يستطيع حمل الأثقال.

والمقصود من هذين المثالين أو التشبيهين هو: أنّ القوم سلّموا الأمور العظيمة، والمناصب الخطيرة وهي القيادة إلى مَن لا يليق بها، ولا يستطيع القيام بأُمورها لعدم توفّر الإمكانيات فيه، وعجزه عمّا يتطلّبه الأمر من العلم والعقل والتدبير، وذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانيات من أصحابها الأكفّاء ذوي اللياقة والخبرة والبصيرة.

إنّهم باعوا عليّاًعليه‌السلام يوم الغدير بأمر من الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وباختيار منهما، ولكنّهم نكثوا عهدهم، ونقضوا ببيعتهم، وبايعوا غيره الذي لا يُقاس بعليّعليه‌السلام علماً وشرفاً وفضلاً وسابقة وغير ذلك من المرجِّحات.

(فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً)

إنّ الزهراءعليها‌السلام تدعو على هؤلاء بالذلّ والهوان، وهو

٤٦٤

إرغام أنوفهم، وهم الذين يظنّون أنّهم مهتدون في أعمالهم، ومصلحون في تصرّفاتهم.

والحال:( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) وهل يشعر المنحرف أنّه منحرف وشاذ؟ بل بالعكس، يتصوّر أنّه هو المهتدي المعتدل المستقيم، وأنّه على الحق وأنّ غيره على الباطل، ولا يؤثّر فيه المنطق ولا ينفع فيه الدليل والبرهان.

وهاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالى:

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (1)

ومن قوله تعالى:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) (2) .

ثم أدمجت آية أُخرى في كلامها بالمناسبة فقالت:

ويحهم!( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (3) .

هذه الآية الشريفة تشير إلى بحث الهداية، والمقارنة بين الذي يهدي إلى الحق، ويرشد الناس إلى الطريق وبين الذي لا يهتدي ولا يعرف الطريق إلاَّ أن يُهدى أي يهديه غيره، أيهم أحق بالإتّباع؟ وأيّهما يستحق أن يكون قائداً للأمّة؟

وهنا تقصد فاطمة الزهراءعليها‌السلام من هذه المقارنة أنّ عليّاً هو الرجل الكامل علماً وفضلاً وعقلاً، ومواهباً، فهو أولى بالقيادة، وأحرى بالاتباع من أفراد ليسوا في المستوى المطلوب في

____________________

(1) الكهف: 104.

(2) البقرة: 11، 12.

(3) يونس: 35.

٤٦٥

العلم والعقل والتدبير وما شابه ذلك من لوازم القيادة.

والتاريخ يثبت كلا الجانبين: جانب الكمال في عليّ، وجانب النقص في غيره.

(أما لعمري! لقد لقحتْ) إنّ الميكروبات التي تتكوّن في البدن، وتنتج أمراضاً صعبة العلاج إنّما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، وهناك تتلاقح، وبمرور الزمان تنتشر الميكروبات في الدم، وتؤثّر على الكريّات البيض والحمر، وهناك الويلات، وهناك، الملاريا والكوليرا، وهناك السرطان، وهناك المرض الذي يعمّ البدن ويشمل الجسد كلّه.

تقول السيدة فاطمة الزهراء: (أما لعمري! لقد لقحت) لقحت جرثومة الفتنة في الأمّة الإسلامية، والفتنة في طريقها إلى التوسّع والانتشار.

(فنظرة ريثما تنتج) أي انتظروا حتى تنتشر الميكروبات في هيكل المجتمع الإسلامي، فبعد أن كانت القيادة الصالحة اللائقة تقود المسلمين، وإذا بقيادة معاكسة ومغايرة لها تماماً تزاحمها وتحل محلّها.

وبعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطرية المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي وإذا بأحكام منبعثة عن الهوى وعن آراء شخصيّة متطرّفة تقوم مقام تلك الأحكام.

وهكذا تتبدّل المفاهيم، وتتغيّر المقاييس.

(ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً).

إنّ الناقة إذا ولدت يُحلب منها اللبن، ولكنّ الفتنة إذا لقحت وأنتجت يحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكوّن المجازر والمذابح، فبعد أن كان الدين الإسلامي دين الأمن والحياة والسلام في الواقع، وإذا به ينقلب مفهومه لدى هؤلاء فيصبح دين الإبادة والهلاك، والدمار والفناء.

انظر إلى التاريخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء

٤٦٦

تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمين.

وتجد التلال التي تكوّنت من جثثهم.

فمثلاً: ذكر المؤرّخون أنّ عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن والسنّة، فعاتبه المسلمون على ذلك، ولكنّه لم يرتدع بل استعمل العنف والقوّة معهم ضرباً وسبّاً وتبعيداً وتهديداً.

وأخيراً أثارت أعماله في المسلمين هياجاً عامّاً، وكانت عائشة تهيّج الناس ضدّه وتقول: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، اقتلوا نعثلاً قتله الله. ونعثل اسم يهودي كانت عائشة تشبّه عثمان به. وهكذا طلحة وابن العاص.

وأخيراً قتلوا عثمان.

وإذا بالذين كانوا يحرّضون الناس ضدّه خرجوا يطلبون بدمه، وقد قُتل عثمان في المدينة، وذهب هؤلاء إلى البصرة يطلبون بدمه، وبين المدينة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، فأجّجوا نيران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة وعشرون ألف إنسان!.

ثم نهض معاوية زاعماً أنّه يطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سورية بالقرب من مدينة حلب يقال لها (صِفّين) وهدأ القتال وعلى الأرض تسعون ألف قتيل!.

ثم حدثت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان.

ثم خرج بسر بن أرطاة من الشام وقصد المدينة ومكّة واليمن وفي طريقه كان يقتل الناس، حتى قتل من شيعة علي في اليمن وغيره ثلاثين ألف قتيل!.

خذ القلم بيدك واحسب مجموع القتلى:

25000 + 90000 + 4000 + 30000 = 149000

هؤلاء القتلى، ولا تسأل عن الجرحى، ولا تسأل عن أرامل هؤلاء،

٤٦٧

وأيتامهم، ومضاعفات تلك المآسي، ولا تسأل عن الدموع الجارية، والعيون الباكية، والقلوب الملتهبة، والآهات والأحزان التي جعلت تلك الحياة جحيماً على ذلك المجتمع بكافّة جوانبه ونواحيه، كل ذلك في خلال أربع سنوات!!

وهل انتهت المأساة هنا؟

لا، بل هناك مآسي ومجازر ومذابح تقشعرّ منها الجلود، وسوف نذكر بعضها في هذا الكتاب.

نعم، لا تزال السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تخبر عن الفجائع والفظائع التي هي في طريق الأمّة الإسلامية، وكامنة لها بالمرصاد.

ليس هذا التنبّؤ إخباراً عن الغيب، بل إخبار عن نتائج الأعمال ومضاعفاتها، فالطبيب الحاذق إذا نظر إلى إنسان لا يراعي أُصول الصحّة في مأكله ومشربه وتنفسّه ويستعمل الأشياء الضارّة، فإنّ الطبيب يخبره بمصيره المظلم، والأمراض الفتّاكة التي تقضي على حياته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأُصول الصحّة العامّة.

وكذلك السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تنظر إلى ذلك المجتمع وسوء اختيار الأمّة للقيادة غير الصالحة، فتنكشف لها العواقب السيّئة التي يؤول إليها أمر الأمّة الإسلامية ببركات تلك القيادة!!.

تقول: (ثمّ احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً) وفي نسخة: (طلاع القعب) أي القدح الكبير الضخم الذي يتفايض بالدم حتى يسيل منه، والمقصود كثرة الدماء التي تُراق.

(وذعافاً ممقراً مبيداً) أي احتلبوا الدم، واحتلبوا السمّ المرّ المهلك، والمقصود منها: النتائج السيئة التي عمَّ شؤمها الإسلام والمسلمين من الويلات والمصائب التي انصبّت على المسلمين.

٤٦٨

(هنالك يخسر المبطلون) أي عند ذلك يظهر خسران المبطلين.

(ويعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأوّلون) يعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون.

(ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً) يُقال: طب نفساً: أي أسكن واهدأ عن القلق وهذا كما يُقال للظالم: قرَّت عينك، أو بشراك، وأمثالها من الكلمات التي يُراد بها العكس في الكلام لا الحقيقة.

(واطمأنّوا للفتنة جاشاً) أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، وهذا أيضاً يُراد به العكس، فإنّ القلب لا يسكن للفتنة وإنّما يسكن للأمان والسلامة.

(وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم) هذه الكلمة على غرار قوله تعالى:( فَبـَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) وهذه الكلمة أو الجملة أيضاً على العكس.

(وهرج شامل) وفي نسخة: (وهرج دائم شامل) الهرج: الفتنة والفوضى واختلال الأمور.

(واستبداد من الظالمين) الاستبداد: الدكتاتورية، والعمل على خلاف المقاييس والموازين، لا تحت أي نظام أو قانون أو شريعة أو دين.

(يَدَع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً) أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جميع ما تقدّم من قولها: سيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج واستبداد ومجموع هذه الأشياء يدع فيئكم زهيداً أي يجعل الغنائم والخراج وحقوقكم المالية زهيداً قليلاً (وجمعكم حصيداً) وفي نسخة: (وزرعكم حصيداً) أي محصوداً، والمقصود أنّ السلطة التي تحكم عليكم يتصرّفون في غنائمكم حسب مشتهياتهم ويجرّونها إلى أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القليل، ويحصدون جمعكم أي جماعتكم بسيوفهم.

٤٦٩

وكلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمين، والمآسي والكوارث التي تنزل بهم، والويلات التي تنصبّ عليهم!.

ولقد تحقّق كل هذا، وهذا كلّه، لقد ابتلي المسلمون بفجائع ومذابح ومآسي لا يستطيع أحد أن يتصوّرها، فو الله إنّهم سوّدوا تاريخ الإسلام، وشوّهوا سمعة هذا الدين، وإليك بعض تلك الحوادث شاهداً على ما نقول:

لقد ذكرنا - فيما مضى - بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج وبعض عملاء معاوية، والآن استمع إلى غيرها:

لو أردنا أن نذكر - هنا - ما جرى على الأمّة الإسلامية من الظلم والجور والضغط والكبت والعنف والقسوة، والاستبداد بالأموال وإراقة الدماء البريئة على أيدي حكّام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإنّ التحدّث عن هذه المصائب والفجائع يحتاج إلى موسوعة وموسوعة.

ولكنّنا رعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة التحدّث عمّا أخبرت به السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام من الويلات التي كانت بالمرصاد على طريق المسلمين، الذين اختاروا تلك القيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبذوا وراءهم ولاية آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلبوهم القدرة والإمكانية.

نختار من بين المئات من الفجائع التي انصبّت على أهل المدينة فجيعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، وتشمئزّ منها النفوس.

وقبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدّمة تمهيدية كي تظهر نتائج تغيير القيادة الإسلامية عن مجراها وأُسُسها:

من الصحيح أن نقول: إنّ حكّام الجور الذين جلسوا على كراسي الحكم، وقبضوا بأيديهم أزمّة الأمور، واستولوا على رقاب البشر عن طريق السيف، قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٤٧٠

فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكريم، ولا السنّة النبوية، ولا منطق العقل ولا قانون الإنسانية، ولا نظام العدل، ولا تعاليم الإسلام.

بل كانوا يحكمون على أموال الناس ودمائهم حسب رغباتهم الشخصية وشهواتهم النفسية، وإجابة للحرص والجشع، وإطاعة لأهوائهم.

فالناس لا كرامة لهم ولا قيمة لحياتهم عند هؤلاء، وليس المهم عند أولئك الحكّام أن يعيش الناس برخاء ورفاه أو يموتوا جوعاً وفقراً وإنّما المهم المحافظة على عرش الحاكم وإبقاء جبروته وإشباع شهواته ورغباته وترفه وبذخه، ولو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البريء المسكين، وما قيمة المسلم وما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان يؤمن بالله واليوم الآخر لكان سلوكه على خلاف تلك الأعمال المناقضة للدين الإسلامي.

ولعلّك - أيها القارئ - تتصوّر وتظن أنّ في كلامي هذا شيئاً من المبالغة والإسراف، ولكنّك لو اطلعت على تاريخ الأمويين والعبّاسيين والمجازر والمذابح الجماعية التي قاموا بها لصدّقت كلامي، بل واعتبرت كلامي هذا أقلّ من القليل عن الواقع الذي مرّت به الأمّة الإسلامية عبر القرون!.

إنّهم جعلوا الحياة جحيماً وعذاباً أليماً على المجتمع الإسلامي الذي كان يعيش تحت سياطهم وسيوفهم!.

وهاك مثالاً واحداً على بعض ما نقول:

وَاقِعَةُ الحرّة

بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة، وكان أحد جبابرة العرب

٤٧١

وشياطينهم بعثه إلى المدينة ومعه ثلاثون ألف رجل(1) ، وأوصى يزيدُ بن معاوية مسلم بن عقبة فقال: إذا ظهرتَ على أهل المدينة فأبحْها ثلاثاً، وكل ما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند.

خرج الجيش نحو مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج أهل المدينة لمقابلة الجيش خارج المدينة، والتقى العسكران خارج البلدة في منطقة يقال لها: (الحَرّة) وهناك وقعت الحرب، وقُتل من أهل المدينة المئات من أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل المدينة، وانهزم الباقون متجهين نحو المدينة، وكان جيش الشام يطاردهم حتى وصلوا المدينة ولاذ المسلمون بالحرم النبوي فجعل جيش الشام يقتل أهل المدينة عند قبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ساوى الدم قبر رسول الله!!.

وبعد ذلك نادى المنادي في جيش الشام بأمر قائدهم مسلم بن عقبة: هذه المدينة قد أبحتُها لكم!!.

فما تظن بالجيش الفاتح الذي تُعطى له الحرية الكاملة، وتُرفع عنه كل مسؤولية؟؟

فعمد الجيش إلى نهب الأموال وهتك الأعراض، وافتضّوا أكثر من ثلاثمائة عذراء، ووُلد في تلك السنة ألف مولود لم يُعرف لهم أب.

وأستأذن القارئ لأقول له: حتى أنّ الرجل منهم كان يزني بالمرأة المسلمة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

وكان أفراد الجيش يدخلون بيوت أهل المدينة وينهبون كل ما وجدوا فيها، وهجم أفراد منهم على دار أبي سعيد الخدري الذي كان من مشاهير أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان شيخاً كبيراً

____________________

(1) الإمامة والسياسة ج 2 ص 7.

(2) كتاب تتمّة المنتهى للقمّي.

٤٧٢

قد كفّ بصره، فوجدوه جالساً على التراب؛ لأنّ طائفة من الجيش كانت قد نهبت داره قبل ذاك، ولمّا فتّش الأفراد داره ولم يجدوا شيئاً ما أحبّوا أن يخرجوا من داره بلا فائدة فعمدوا إلى الشيخ الأعمى المسكين ونتفوا لحيته وشعر حاجبيه وهو يصرح ويقول لهم: أنا أبو سعيد الخدري!! أنا صاحب رسول الله.

ولكنّهم لم يعبأوا بهذه الأسماء، ووجدوا في بيته عدداً من الحمام فذبحوها وطرحوها في البئر وخرجوا من داره.

ودخل أحدهم دار امرأة قد نُهب كلّ ما فيها، فوجد الرجل تلك المرأة جالسة على الأرض وفي حجرها طفلها يرتضع، فمدّ الرجل يده وأخذ برجل الطفل وجذبه من حجر أمه والثدي في فمه وضرب برأس الطفل فسال دماغه على الأرض وأُمّه تنظر إليه.

ثم جمع مسلم بن عقبة أهل المدينة وأخذ منهم الإقرار والاعتراف بأنّهم عبيد مملوكون ليزيد بن معاوية.

وبعد ذلك خرج الجيش من المدينة تاركاً وراءه الجثث وآلاف اليتامى والأرامل، طعامهم البكاء وشرابهم الدموع، وفراشهم التراب، ومتاعهم الآلام والآهات والذعر والعويل.

وخرج الجيش نحو مكّة ليحرقوا الكعبة ويقتلوا الناس في المسجد الحرام لأجل القضاء على عبد الله بن الزبير المتحصّن في المسجد الحرام الذي مَن دخله كان آمناً.

ولا تسأل عن الفجائع التي انصبّت على أهل المدينة، فجيعة بعد فجيعة ومصيبة تلو الأخرى.

وأمّا ما قام به الحجّاج بن يوسف الثقفي في العراق فإنّه يشيب الطفل وهو في المهد، ويورث الدهشة والذعر في القارئ الذي يقرأ تلك

٤٧٣

الإضبارة السوداء الشوهاء، وتستولي عليه حالة التهوّع والتقيّؤ.

حتى قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمّة بخبيثها وجئنا بالحجّاج لغلبناهم.

وقال عاصم: ما بقيتْ لله (عزّ وجلّ) حُرمة إلاّ وقد ارتكبها الحجاج!

تَطبيق الخَبَر مَعَ الوَاقِع

هذه نماذج قليلة وضئيلة بالنسبة لما جرى وحدث، وبعد استعراض تلك الفجائع التي يملّ الإنسان الحياة حين قراءتها، عند ذلك تتضح لنا صحّة ما أنذرت به السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام الجماعة التي استبدلت تلك القيادة بقيادة آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويظهر لنا صدق كلامها حين المطابقة والمقارنة بين كلامها: (وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتدٍ غاشم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يَدَع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً) وبين الحوادث والمآسي التي مرّت بها الأمّة الإسلامية.

وأخيراً ختمت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام خطابها للنساء بهذه الجملات: (فيا حسرة لكم) هذه الكلمة مأخوذة من قوله تعالى:( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) فالمعنى: يا لكم من حسرة وندامة على ما فاتكم من الخير والهداية، والأمن والأمان، والأجر والثواب في الدنيا وفي الآخرة.

(وأنّى لكم؟) أي ما أدري إلى ما يصير أمركم وقد سلكتم عن طريق الهداية، ووقعتم في موارد الهلكة والخسران.

(وقد عميت عليكم) خفيت عليكم الحقائق بسبب قلّة تدبّركم فيها.

٤٧٤

( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) هذه الجملة من قوله تعالى:( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ من ربِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) أي أتريدون منّي أن أُكرهكم على المعرفة وأُلجأكم إليها على كرهٍ منكم؟

هذا غير مقدور لي وإنّما الواجب عليّ أن أدلّكم بالبيّنة والطريق وليس عليّ أن أضطرّكم على معرفتها.

قطعت السيدة فاطمة شريط كلامها مع النساء - هنا - وقامت النساء وخرجن.

قال سويد بن غفلة: (فأعادت النساء قولها على رجالهنّ، فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين).

من المؤسف أنّ القضية مجملة مبهمة، فليس هنا تصريح بأسماء النساء ولا بأسماء الرجال الذين هم من وجوه المهاجرين والأنصار.

وإنّما المستفاد من مجموع الأحداث أنّ النساء ما كنّ يعرفن الألعاب السياسية، وما كنّ يعرفن اتجاه رجالهن في تلك الفترة العاصفة، فحضرن عند السيدة فاطمة الزهراء لعيادتها، فخطبت فيهنّ السيدة الزهراء الخطبة التي مرّت عليك، وصبّت جام غضبها على رجالهن، وبعد انتهاء الخطبة قامت كل امرأة وكأنّها نائمة فاستيقظت، أو كانت غافلة فانتبهت وحصل عندهنّ شيء من الوعي والانتباه.

ويعلم الله ما جرى بين تلك النساء وبين رجالهنّ من الصياح والنزاع بعد رجوعهن من عيادة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام بحيث جاء رجالهن إلى دار فاطمة معتذرين.

معتذرين عن أيّ شيء؟

٤٧٥

معتذرين عن تخاذلهم عن نصرة آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

كأنّهم لا يعلمون شيئاً، كأنّهم لا يعرفون عن الأحداث شيئاً.

كأنّهم لم يبايعوا عليّاًعليه‌السلام يوم الغدير، وذلك قبل وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين يوماً.

كأنّهم لم يسمعوا خطبة الزهراء في المسجد واحتجاجها مع رئيس الدولة ومع المهاجرين والأنصار!

كأنّهم لم يسمعوا صرختها عند باب البيت.

وكأنّهم ما كانوا بالمدينة ولم يعلموا شيئاً أبداً.

وكأنّهم الآن عرفوا الحق فجاءوا معتذرين بأعذار تافهة تائهة باردة:

(وقالوا: يا سيّدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نُبرم العهد، ونُحكم العقد، لما عدلنا عنه إلى غيره)

استمع إلى هذا الاعتذار البعيد عن المنطق، البعيد عن كل مقياس.

ما أدري أيّ شيء كان مفروضاً على أبي الحسن أن يذكره لهؤلاء؟

أما ذكر لهم الله تعالى قوله:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ؟

أما سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رافعاً صوته يوم الغدير: (مَن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذلْ مَن خذله).

إلى غيرها من الآيات نزلت في حق عليّعليه‌السلام وكلمات الثناء والنصوص الصريحة التي سمعوها من فم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الدالة على خلافة عليّ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٧٦

أي شيء يذكره عليّ لهم؟

فهل كان هناك شيء مستور أو غير معلوم عند أولئك الشخصيات فيحتاجوا إلى مَنْ يذكر لهم ذلك؟ أو يخبرهم به؟

وبعد هذا كلّه، أما احتجّ الإمام أمير المؤمنين بأنواع الاحتجاج يوم أخذوه من بيته إلى المسجد ليبايع أبا بكر؟

أما سمعوا؟

أما علموا؟

أما فهموا؟

ثم انظر إلى كيفيّة الاعتذار وسخافة القول: (لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره).

سبحان الله! أما أبرمتم العهد؟

أما أحكمتم العقد يوم الغدير؟ وبايعتم عليّاً بالخلافة بأمر الله وأمر رسوله؟

فهل كنتم تلعبون يومذاك تستهزئون بالله ورسوله؟

فالعجب أنّه جاز لكم أن تنقضوا ذلك العهد وتنكثوا ذلك العقد، ولكن اليوم لا يجوز لكم النكث والنقض لتلك البيعة، التي كانت هي نقضاً ونكثاً للبيعة السابقة التي بايعتم عليّاً يوم الغدير!!.

نعم، هكذا اعتذروا، اعتذروا بهذه الأعذار المزيّفة، ولهذا طردتهم السيدة فاطمة من بيتها، وقالت لهم:

(إليكم عنّي) تباعدوا عنّي، أمسكوا كلامكم عنّي.

(فلا عذر بعد تعذيركم) التعذير: التقصير في الاعتذار، والمعذّر: المقصّر الذي يريك أنّه معذور ولا عذر له، قال تعالى:( وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ

٤٧٧

الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ) (1) .

لعلّ المقصود ليس لكم عذر صحيح بعد تعذيركم وتقصيركم.

(ولا أمر بعد تقصيركم) أي ليس لنا أمر معكم بعد هذه المواقف التي كانت لكم.

وهكذا طردتهم السيدة فاطمة من بيتها بعد أن زيّفت أعذارهم.

٤٧٨

مَصَادِرُ الخطْبَة في النِّساء

أيّها القارئ الكريم، لقد قضينا معك برهة من الزمان في رحاب كلمات السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام التي خطبت بها في المسجد وفي بيتها وفي فراش العلّة والمرض، وقد تبيّن لك الكثير الكثير من الحقائق التي اشتملت عليها خُطب السيدة الزهراء.

وقد ذكرنا لك بعض المصادر لخطبتها التي خطبت بها في المسجد، ولا بأس أن نذكر - هنا - بعض مصادر خطبتها التي خطبت بها للنساء:

1 - معاني الأخبار للشيخ ابن بابوية المتوفّي سنة (381) ينتهي سند الخطبة إلى فاطمة بنت الحسينعليهما‌السلام .

2 - ويروي أيضاً بإسناده عن عمر بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام يروي عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليهما‌السلام .

3 - الطبرسي في الاحتجاج، عن سويد بن غفلة كما تقدّم الكلام في أوّل الخطبة.

4 - أمالي الشيخ الطوسي، يروي بإسناده عن ابن عباس.

5 - دلائل الإمامة للطبري، يروي بإسناده عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليهما‌السلام .

6 - بلاغات النساء لأبي الفضل بن أبي طاهر، يروي بإسناده عن عطية العوفي.

7 - كشف الغمّة للإربلي ص147 يروي عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري.

8 - ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة يروي أيضاً عن الجوهري.

9 - أعلام النساء تأليف عمر رضا كحّالة ج4 ص123.

10 - الشيخ المجلسي في العاشر من كتابه بحار الأنوار.

٤٧٩

إتمَامُ الحجّةِ عَلَى المـُهاجرين وَالأنصَار

كان الأنسب أن يكون هذا البحث قبل خطبتها التي خطبت بها للنساء، ولكن رعايةً لتوالي خُطَبها ذكرنا كما سلف.

كان الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يسير على خطّة حكيمة تتفقْ مع العقل والمنطق والدين، وينتهز الفرص لإحقاق حقّه وإثبات مظلوميته وإتمام الحجّة على ذلك المجتمع، بل وتسجيلها في سجلّ التاريخ؛ كي يعلم ذلك الشعوب التي جاءت بعد ذلك اليوم وإلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله.

من الصحيح أن نقول: إنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام كان يرى لزاماً عليه أن يتمّ الحجّة على الناس، ويبيّن لهم أنّ الخلافة من حقّه الذي جعله الله ورسوله له، وحتى إذا كان عالماً أنّ الناس لا يتجاوبون معه، وهكذا يبيّن لهم أنّ فدك من حق السيدة فاطمة الزهراء.

فهو - شرعاً - خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سواءً أذعن له الناس أو لم يذعنوا، وسواء خضع له المجتمع أو لم يخضع، وهكذا إنّ فدك مِلكٌ للسيدة فاطمة الزهراء سواءً أعطوها حقّها أو لا.

والسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام لها المكانة المرموقة والشخصية المشهورة في ذلك المجتمع، فلا بأس لو أنّ السيدة الزهراء تتكلّف وتتجشّم تأييد زوجها في إثبات الحق والحقيقة والمطالبة بحقّها، فلا عجب إذا كانت ترافق زوجها العظيم، وولديها سيّدي شباب أهل الجنّة، وتستنجد بالصحابة لئلاّ يكون للناس على الله حجّة، لئلا يقولوا: كنّا غافلين ناسين أو

٤٨٠