فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد0%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 214594
تحميل: 8248

توضيحات:

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214594 / تحميل: 8248
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جاهلين.

ولماذا ما جاءنا عليٌّ ليذكِّرنا، ليخبرنا، ليعرّفنا الحق والحقيقة؟

ولهذا كان عليّعليه‌السلام يحمل السيدة فاطمة الزهراء على أتان(1) ، فيدور بها أربعين صباحاً على بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين معها، وهي تقول:

(يا معشر المهاجرين والأنصار، انصروا الله وابنة نبيّكم، وقد بايعتم رسول الله يوم بايعتموه أن تمنعوه وذرّيته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم.

فَفوا لرسول الله ببيعتكم!)

فما أعانها أحد، ولا أجابها ولا نصرها.

فانتهت إلى معاذ بن جبل فقالت: يا معاذ بن جبل! إنّي قد جئتك مستنصرة، وقد بايعتَ رسولَ الله على أن تنصره وذرّيّته، وتمنعه ممّا تمنع منه نفسك وذرّيّتك، وإنّ أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها.

قال: فَمعي غيري؟

قالت: لا، ما أجابني أحد.

قال: فأين أبلغ أنا مَن نصرك؟

خرجت السيدة من دار معاذ وهي تقول له: والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرِدَ على الرسول الله.

ودخل ابن معاذ فقال لأبيه: ما جاء بابنة محمد إليك؟

قال: جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر، فإنّه أخذ منها فدكاً.

قال: فما أجبتها؟

قال: قلت: وما يبلغ نصرتي أنا وحدي؟

قال: فأبيت أن تنصرها؟

____________________

(1) الأتان: الحمارة.

٤٨١

قال: نعم!

قال: فأيّ شيء قالت لك؟

قال: قالت لي: والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرِدَ على رسول الله.

فقال: أنا والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله.

وذكر ابن قتيبة الدينوري في (الإمامة والسياسة) ص19: قال: وخرج علي (كرّم الله وجهه) يحمل فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على دابّة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.

فيقول عليّ (كرّم الله وجهه) أفكنت أدَع رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته لم أدفنه، وأخرج أُنازع الناس سلطانه؟

فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

٤٨٢

فاطمة الزهراءعليها‌السلام في بيت الأحزان

لا أعلم ما كان تأثير بكاء السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام في النفوس المريضة حتى شعروا بالانزعاج؟!

وهل بكاء امرأة جالسة في بيتها يسلب الراحة من أُولئك الشخصيات الفذّة ‍‍؟!

لقد اجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالوا له: يا أبا الحسن إنّ فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منّا يهنأ بالنوم في الليل على فُرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً أو نهاراً.

فأقبل الإمام عليّ حتى دخل على فاطمة الزهراء وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء، فلمّا رأته سكنت هنيئة فقال لها: يا بنت رسول الله إنّ شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إمّا أن تبكي أباك ليلاً وإمّا نهاراً.

فقالت: يا أبا الحسن ما أقلّ مكثي بينهم! وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فو الله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو أُلحق بأبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقالعليه‌السلام : افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لكِ(1) .

نعم، إنّ شيوخ المدينة لا يعرفون حق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقدره ومنزلته، فلو كانوا يعرفون ذلك لكانوا يشاركون ابنته

____________________

(1) بحار الأنوار ج43.

٤٨٣

الوحيدة في البكاء ويساعدونها في ذرف الدموع على أشرف ميت وأعزّ فقيد.

ويا ليتهم حين لم يشاركوها ولم يساعدوها كانوا يسكتون ولا يمنعونها عن البكاء على مصائبها العظيمة.

ولكنّهم معذورون؛ لأنّ السياسة فرضت عليهم أن يمنعوا حبيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن البكاء على سيّد الأنبياء!

يحق للسيدة فاطمة أن لا تمتنع عن البكاء على تلك الفاجعة العظمى والكارثة الكبرى لأجل أُناس لهم غايات وأهداف يعلمها الله تعالى.

فبنى لها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بيتاً نازحاً عن المدينة سُمّي (بيت الأحزان )، وكانت إذا أصبحت قدّمت الحسن والحسين أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين إليها وساقها بين يديه إلى منزلها.

فليهنأ أُولئك المنزعجون عن بكاء فاطمة!! ولترتاح ضمائرهم، وليناموا على فُرشهم ليلاً نومة عميقة هنيئة بدون أن يشعروا بالأذى من بكاء فاطمة العزيزة.

ونرى - هنا - الشعراء يشيرون إلى هذه المأساة التي يظهر فيها الجفاء بأسوأ منظر:

يقول أحدهم:

منعوا البتول عن النياحة إذ

غدت تبكي أباها ليلها ونهارها

قالوا لها: قَرّي فقد آذيتنا

أنّى؟ وقد سلب المصاب قرارها

____________________

(1) قال السمهودي في تاريخ المدينة ج 2 ص 95: إنّ الغزالي ذكر استحباب الصلاة في مسجد فاطمةعليها‌السلام بالبقيع، وقال غيره: انه المعروف بـ (بيت الحزن) لأن فاطمةعليها‌السلام اقامت فيه أيام حزنها على أبيها.

٤٨٤

ويقول الآخر:

والقائلين لفاطمٍ: آذيتنا

من طول نَوحٍ دائمٍ وحنينِ

وقد رأى أحد علمائنا - وهو السيد باقر الهندي - في المنام الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام فقال له الإمام مشيراً إلى هذه المأساة:

أتراني اتخذتُ لا وعلاها

بعد بيت الأحزان بيت سرور؟

٤٨٥

فاطمة الزهراءعليها‌السلام طريحة الفراش

أسفي عليها.

أسفي على شبابها، أسفي على آلامها، أسفي على قلبها المتوقّد الملتهب.

أسفي على خاطرها المنكسر.

صارت طريحة الفراش، أخذ المرض والهزال منها كل مأْخذ.

واستولى الذبول على تلك الزهرة الزهراء.

إنّها لا ترجو العلاج والدواء، ولا تأمل في البقاء.

إنّها تنتظر الموت، تنتظر التخلّص من هذه الحياة.

تتمنّى أن تلتحق بأبيها الرسول.

لقد اقتربت شمسها نحو الغروب.

لقد كادت شمعة الرسول أن تنطفئ.

لقد ضاقت الدنيا وضُيّقت عليها.

تنظر إلى زوجها العظيم، جليس الدار، مسلوب الإمكانيات، مغصوباً حقّه وإلى أملاكها قد صودرت، وإلى أموالها قد غُصبت.

استغاثت فلم يغثها أحد، واستنصرت فلم ينصرها أحد.

منعوها عن البكاء على أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشرف الآباء.

٤٨٦

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه كان من دعائها في شكواها: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأغثني، اللّهمّ زحزحني عن النار وأدخلني الجنّة وألحقني بأبي محمّد.

فإذا قال لها أمير المؤمنين: عافاكِ الله وأبقاكِ. تقول: يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق برسول الله(1) .

وعن الإمام زين العابدين عن أبيه الحسينعليهما‌السلام قال: لما مرضت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصَّت إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أن يكتم أمرها ويخفي خبرها، ولا يؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلك، وكان يمرّضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس على استسرار بذلك... إلى آخر الحديث(2) .

يستفاد من هذا الحديث مدى تألُّم السيدة فاطمة الزهراء من ذلك المجتمع الذي عرفت موقفه اتجاه بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد يكون الاستياء عميقاً، في النفس كالجرح الغائر في البدن الذي يطول بُرؤُه أو لا يبرأ على مرّ الزمان.

وهكذا يزهد الإنسان المتألِّم في المجتمع، ويختار الاعتزال عنهم، وبعد أن كان يستأنس بهم صار لا يحب الالتقاء بهم والتحدّث معهم.

وإنّما يدرك هذه الحالة كل مَن رأى الجفاء والقسوة من أقاربه أو أصدقائه أو مجتمعه، فإنّه ينزعج حتى من رؤيتهم فكيف بالتحدّث والمجالسة معهم، وقد يبلغ الأمر بالإنسان أن يملّ الحياة ويفضّل الموت كي يستريح من الحياة التي يعيشها مع أهل الجفاء والقسوة.

____________________

(1) دلائل الإمامة لابن جرير ص 43، بحار الأنوار ج 43 ص 217.

(2) بحار الأنوار ج 43 عن مجالس المفيد.

٤٨٧

اختارت السيدة فاطمة زوجها العظيم ليقوم بتمريضها، ولا أعلم كيفيّة تمريض الإمام إيّاها، فهل كان الإمام يصنع لها طعاماً يليق بالمرضى، أو يتولّى هو أُمور بيته بنفسه؟

وعلى كل تقدير، فقد كانت أسماء بنت عميس لها شرف التعاون في تمريض السيدة فاطمة، ولعلّ السبب في انتخابها لهذه المهمّة هو أنّه كانت العلاقات بين السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام وبين أسماء بنت عميس وُديّة وطيّبة للغاية، إلى درجة أنّها كانت تعتبر نفسها من أُسرة بني هاشم، وخاصة وأنّها كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب.

وكانت هي بالذات امرأة عاطفية، تؤمن بالوفاء والإنسانية، وتقدّر الحقوق لأهلها. وتلتزم بالقيم والمفاهيم العليا.

ويستفاد من مطاوي التاريخ أنّها كانت - بالإضافة إلى ذكائها الوافر وعقلها الوقّاد - حسنة الأخلاق، طيّبة المعاشرة، وكانت السيدة فاطمة الزهراء تبادلها الحب والمودّة والشعور.

ولمّا قُتل جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة وبلغ رسول الله الخبر بكى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبكى الصحابة، ووصل الخبر إلى حجرات الرسول فبكت الهاشميات، وأقبل الرسول ودخل على أسماء فدعى بأولاد جعفر وجعل يمسح على رؤُوسهم، ويشمّهم ويضمّهم إلى صدره، فأحسّت أسماء بالشرّ، وقالت: يا رسول الله هل بلغك شيء عن جعفر؟

فبكى الرسول وقال لها: احتسبي جعفراً فقد قُتل. فبكت وصاحت.

وأقبل الرسول إلى دار ابنته فاطمة وقال لها: اصنعي طعاماً لآل جعفر فإنّهم مشغولون بالعزاء.

فعمدت السيدة فاطمة إلى الدقيق وعجنته وخبزت خبزاً كثيراً وعمدت

٤٨٨

إلى مقدار من التمر وأرسلت بالخبز والتمر إلى دار آل جعفر.

والعجيب أنّ الرسول لم يأمر إحدى زوجاته ولا سائر الهاشميّات بذلك، فلعلّ السبب في ذلك أنّ الرسول أراد أن يكون هذا الثواب الجزيل من نصيب ابنته فاطمة.

أو أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار لها هذا العمل نظراً للعلاقات الطيّبة والسوابق الحسنة والخدمات الجمّة التي أسدتها أسماء بنت عميس إلى أهل بيت الرسول.

فلقد مرّ عليك أنّ أسماء حضرت عند السيدة خديجة ساعة وفاتها، وأنّها ساهمت في التدابير التي اتخذت في زواج السيدة فاطمة الزهراء، بل وحضرت أسماء عند السيدة فاطمة ساعة ولادة الإمام الحسين، وقامت بدور المولِّدة وساعدْنها بعض النساء أيضاً.

وبالرغم من أنّها تزوّجت بأبي بكر بعد مقتل زوجها جعفر فإنّها استمرّت على ولائها، ولم تتغيّر قيد شعرة، وحتى بعد وفاة الرسول، وموقف أبي بكر اتجاه أهل البيت كان موقفاً معروفاً.

وبالرغم من الحرب الباردة بين أهل البيت وبين السلطة المتمثّلة في أبي بكر فإنّ أسماء بنت عميس لم تتأثّر بعواطف زوجها، وتحدّت السلطة تحدّياً لا تنقضي عجائبه.

فكيف كان أبو بكر يسمح لها بالذهاب إلى دار عليّ لخدمة الزهراء وخدمة أولادها؟

وكيف لم يأمرها بقطع علاقاتها مع أهل البيت في تلك الظروف الخاصة؟

وعلى كل حال، فقد كانت السيدة فاطمة الزهراء تستأنس بأسماء وتنسجم معها وتسكن إليها، وتبثُّ إليها آلامها، وكأنّها أُختها، وكأنّها

٤٨٩

أحبّ الناس إليها، وأقربهنّ إلى قلبها.

قالت لها السيدة فاطمة في أواخر أيام حياتها: كيف أصنع وقد صرت عظماً وقد يبس الجلد على العظم؟

وفي رواية التهذيب عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال... وقالت فاطمة لأسماء: إنّي نحلت وذهب لحمي، ألا تجعلين لي شيئاً يسترني؟

قالت أسماء: إنّي كنت بأرض الحبشة رأيتهم يصنعون شيئاً أفلا أصنع لكِ، فإن أعجبك أصنع لكِ؟

قالت: نعم.

فدعت (أسماء) بِسَرير فأكبّته لوجهه، ثم دعت بجرائد فشدّتها على قوائمه ثم جلَّلته ثوباً فقالت: هكذا رأيتهم يصنعون.

فقالت: اصنعي لي مثله، استريني سترك الله من النار.

وفي رواية الاستيعاب: فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله لا تعرف به المرأة من الرجل.

ورُوي أنّهاعليها‌السلام - لما رأت ما صوَّرته أسماء - تبسَّمت، وما رُؤيت مبتسمة - بعد أبيها - إلاّ يومئذٍ.

٤٩٠

أسْبَابُ انحراف صحّتِها

انتشر خبر مرض السيدة فاطمة الزهراء في المدينة، وسمع الناس بانحراف صحّتها.

ولم تكن تشكو السيدة فاطمة الزهراء من داء عضال، بل الهموم والمصائب والآلام هي التي ساعدت على استيلاء الهزال والذبول عليها.

وكثرة البكاء على أبيها وعلى حياتها ساعدت على زوال الطراوة والنضارة عن وجهها.

والجفاء والخشونة والمواقف غير المشرّفة التي شاهدتها من بعض المسلمين، وانقلاب الأمور، وتبدّل الأحوال وتغيّر الأوضاع السياسية والاجتماعية كان لها أكبر الأثر عليها.

ولقد حدث لها بين حائط دارها والباب حوادث أدّت إلى سقوط جنينها.

والسياط التي أدمت جسمها الطاهر، وتركت في بدنها آثاراً عميقة.

والضرب المبرّح الذي ألَّم جسمها ونفسها وروحها.

كل هذه الأمور ساهمت في انحراف صحّتها، وقعودها عن ممارسة أعمالها المنزلية.

٤٩١

عيادة الشيخين للسيّدة الزهراءعليها‌السلام

انتشر خبر استياء السيدة فاطمة من السلطة، ونقمتها على الذين آزروا تلك السلطة، ونبذوا وراءهم كل المفاهيم والقيم، وتناسوا كل آية من القرآن نزلت في آل الرسول.

وأعرضوا عن كل حديث سمعوه من شفتي الرسول في حق السيدة فاطمة الزهراء وزوجها وولديها.

وأخيراً تولَّد شيء من الوعي عند الناس، وعرفوا أنّهم مخطئون في تدعيم السلطة الحاكمة التي لا تعترف بها أُسرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

تلك السلطة التي كان موقفها تجاه بنت الرسول موقفاً غير حسن.

وأخيراً انتبه أفراد السلطة للاستياء العام المستولي على القلوب من سوء تصرّفاتهم.

فأرادوا تغطية أعمالهم واستدراك ما فات، فقرّروا أن يعودوا السيدة فاطمة الزهراء لاسترضائها، وعند ذلك ينتهي كل شيء، وتكون المأساة نسياً منسيّاً.

هكذا تفكّروا وتدبّروا.

وقد رأينا في زماننا هذا الكثير من المجرمين الذين يعتدون على الأبرياء بالإهانة والتحقير والاستخفاف وأنواع الظلم والتعذيب، ثم يأتون إلى المظلوم ويعتذرون منه سرّاً، وهم يحسبون أنّهم يغسلون أعمالهم بالاعتذار.

٤٩٢

ولكنّ السيدة الزهراء كانت تعرف هذه الأساليب وتعلم كل هذه الأمور.

وإليك الواقعة - كما ذكرها ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة ج1 ص4) وعمر كحالة في (أعلام النساء) 3 ص314:

إنّ عمر قال لأبي بكررضي‌الله‌عنه : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلَّماه فأدخلهما عليها فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط فسلَّما عليها، فلم ترد - عليهما - السلام.

فتكلّم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله!! والله إنّ قرابة رسول الله أحبُّ إليَّ من قرابتي وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوَددت يوم مات أبوكِ أنّي متُّ ولا أبقى بعده، أتراني أعرفكِ وأعرف فضلك وشرفك، وأمنعك حقّك وميراثك من رسول الله؟

إلاّ أنّي سمعت أباك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لا نورّث، ما تركناه فهو صدقة.

فقالت: أرأيتكما أن حدّثكتما حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعرفانه وتفعلان به؟

فقالا: نعم.

فقالت: نشدتكما الله: ألم تسمعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمَن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومَن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومَن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟

قالا: نعم، سمعناه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

قالت: فإني أُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني،

٤٩٣

ولئن لقيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأشكونّكما إليه.

فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه ومن سخطك يا فاطمة. ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي (فاطمة) تقول: والله لأدعونَّ عليك في كل صلاة أُصلّيها. ثم خرج باكياً، فاجتمع الناس إليه فقال لهم: يبيت كل رجل معانقاً حليلته، مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي.

العيادة بصورة أُخرى

في علل الشرائع: لما مرضت فاطمةعليها‌السلام مرضها الذي ماتت فيه أتاها أبو بكر وعمر عائدين، واستأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما، فلمّا رأى ذلك أبو بكر أعطى الله عهداً أن لا يظلّه سقف بيت حتى يدخل على فاطمة ويترضّاها، فبات في الصقيع، ما أظلّه شيء، ثم إنّ عمر أتى عليّاًعليه‌السلام فقال له: قد أتيناها (فاطمة) غير هذه المرّة مراراً نريد الإذن عليها وهي تأبى أن تأذن لنا حتى ندخل عليها فنترضّى، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل.

قال: نعم، فدخل عليّ على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت، وقد تردّدا مراراً كثيرة ورددتهما ولم تأذني لهما، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك؛ فقالت: والله لا أأذن لهما، ولا أُكلّمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه منّي.

قال علي: فإنّي ضمنت لهما ذلك. قالت: إن كنت ضمنت لهما شيئاً فالبيت بيتك، والنساء تتبع

٤٩٤

الرجال، لا أُخالف عليك بشيء فأْذن لمـَن أحببت.

فخرج عليّ فأذن لهما، فلمّا وقع بصرهما على فاطمة سلّما عليها، فلم تردّ عليهما، وحوَّلت وجهها عنهما، فتحوّلا واستقبلا وجهها حتى فعلت مراراً وقالت: يا عليّ جافِ الثوب وقالت - لنسوة حولها -: حوّلن وجهي!! فلمّا حوّلن وجهها حوّلا إليها فقال أبو بكر: يا بنت رسول الله إنّما آتيناك ابتغاء مرضاتك واجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا وتصفحي عمّا كان منّا إليك.

قالت: لا أُكلّمكما من رأسي كلمة واحدة حتى ألقى أبي وأشكوكما إليه، وأشكو صنيعكما وفعالكما وما ارتكبتما منّي.

ثم التفتت إلى عليّ وقالت: إنّي لا أُكلّمهما من رأسي حتى أسألهما عن شيءٍ سمعاه من رسول الله، فإن صدقا رأيت رأيي.

قالا: اللّهمّ ذلك لها، وإنّا لا نقول إلاَّ حقّاً ولا نشهد إلاَّ صدقاً.

فقالت: أنشدكما بالله: أتذكران أنّ رسول الله استخرجكما في جوف الليل بشيءٍ كان حدث من أمر عليّ؟

فقالا: اللّهمّ نعم.

فقالت: أُنشدكما بالله هل سمعتما النبي يقول: فاطمة بضعة منّي وأنا منها، مَن آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله، ومَن آذاها بعد موتي كان كمَن آذاها في حياتي، ومَن آذاها في حياتي كان كمَن آذاها بعد موتي؟

قالا: اللّهمّ نعم.

فقالت: الحمد لله. ثم قالت:

اللّهمّ إنّي أُشهدك فاشهدوا يا مَن حضرني: أنّهما قد آذياني في حياتي وعند موتي. والله لا أُكلِّمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربّي فأشكوكما

٤٩٥

إليه بما صنعتما به وبي، وارتكبتما منّي.

فدعا أبو بكر بالويل والثبور وقال: ليت أمي لم تلدني!!

فقال: عمر: عجباً للناس كيف ولّوك أُمورهم وأنت شيخ قد خرفت!!

تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها؟

وما لمـَن أغضب امرأة؟ وقاما وخرجا.

وفي كتاب بيت الأحزان: فلمّا خرجا قالت فاطمة لأمير المؤمنين (عليهما السّلام): قد صنعتُ ما اردتَ؟

قال: نعم.

قالت: فهل أنت صانع ما آمرك؟

قال: نعم.

قالت: فإنّي أُنشدك الله أن لا يصلّيا عليَّ ولا يقوما على قبري(1) .

أقول: لا حاجة إلى هذا البكاء المرّ الذي أوشك على إزهاق الروح - على حدّ تعبير رواية ابن قتيبة - ولا حاجة إلى الاستقالة ما دام العلاج مقدوراً للخليفة، ولا داعي بأن ينادي أبو بكر بالويل والثبور وبإمكانه أن يُرضي السيدة فاطمة بأن يردّ إليها حقوقها، ويرفع يده عن أراضيها، ويعتذر عن أعماله.

ولكنّ الرجل يريد أن يبقى على اعتدائه وعلى موقفه - الذي عرفته - بدون أي تنازل، وفي نفس الوقت يريد أن ترضى عنه فاطمة الزهراء!؟

لا أظن أنّ أيَّ إنسان أو مسلم أو قانون أو شعب يرضى بهذا، ولا أظن أنّ شريعةً أو ديناً أو ضميراً أو وجداناً أو منطقاً يقول بهذا سوى منطق العنف والضغط، ومنطق القوّة والقدرة.

ولكنّ السيدة فاطمة أقوى نفساً وروحاً من أن تخضع لهذا المنطق، أو بالأحرى: أن تنخدع بهذه المظاهر!

____________________

(1) بيت الأحزان ص 145.

٤٩٦

وهنا سؤال قد يتبادر إلى ذهن القارئ وهو: ما الذي دعا أبا بكر أن يلين ويخضع هكذا؟

وما الذي دعا الزهراء أن تثبت على رأيها، ولا تتضعضع عن موقفها؟

لقد أجاب الجاحظ على هذا السؤال، وكفانا مؤونة الجواب قال في رسائله ص300 (... فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدّي عليها، وكلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها ليناً ورقّة حيث تقول له: والله لا أُكلمك أبداً، فيقول: والله لا أهجرك أبداً، ثم يتحمّل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه، وما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك عن أن قال معتذراً متقرّباً كلام المعظّم لحقّها، المكبِّر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنِّن عليها: ما أحد أعزّ عليَّ منك فقراً ولا أحب إليّ منك غنى، ولكن سمعت رسول الله يقول: إنّا معاشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركناه صدقة؟؟

قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور.

وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم وذلَّة المنتصف، وحدب الوامق ومقت المحقّ... إلى آخر كلامه).

٤٩٧

عيادة أُم سلمة للسيّدة فاطمة الزهراء

تُعتبر السيدة أُمّ سلمة من خيرة زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد مماته... فلم تؤذ النبي بكلامها أو تصرّفاتها، ولم تتآمر عليه مع ضرّاتها، كما حدث من بعضهنّ في قصّة المغافير ونزول قوله تعالى:( يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) .

بل أحسنت صحبته ومعاشرته في حياته.

وبعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت لها مواقف مشرّفة ومشكورة تجاه آل رسول الله، ولم تنحرف عنهم في خضمّ الأحداث التي عصفت بهذه الذريّة الطاهرة، بل وقفت موقف المدافع والمحامي والناصر، وشاركتهم في الآلام والأحزان.

ولمّا مرضت السيدة فاطمةعليها‌السلام دخلت عليها أُمّ سلمة عائدةً لها فقالت: كيف أصبحتِ عن ليلتك(1) يا بنت رسول الله؟

قالتعليها‌السلام : أصبحت بين كَمد وكرب، فُقد النبي وظُلم الوصي.

هُتك - واللهِ - حجاب مَن أصبحت إمامته مقتضية، على غير ما شَرَع الله في التنزيل، وسنّها النبي في التأويل، ولكنّها أحقاد بدريَّة، وترات أُحُدية(2) كانت عليها قلوب النفاق متمكّنة...) إلى آخر كلامهاعليها‌السلام (3) .

____________________

(1) وفي نسخة: علَّتك.

(2) ترات: جمع ترة - كعِدة -: الانتقام.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 205.

٤٩٨

والجدير بالذكر: أنّ السيدة أُمّ سلمة هي الوحيدة - من بين زوجات النبي - التي جاءت لزيارة فاطمة الزهراءعليها‌السلام وعيادتها والسؤال عن صحّتها.

فأين كانت غيرها من الزَوجات؟!

ولماذا لم يشاركنَها في الآلام، وهي البنت الوحيدة لرسول الله؟!

هذا... وسوف تقرأ أنّ السيدة فاطمة أوصت إلى أمير المؤمنين (عليهما السّلام) أن يخبر أُمّ سلمة بوفاتها.

٤٩٩

عيادة عائشة بنت طلحة

للسيّدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام

ودخلت عليها عائشة بنت طلحة فقالت: بأبي أنتِ وأُميّ: ما الذي يبكيك؟

فقالتعليها‌السلام لها: أسائلتي عن هنة حلّق بها الطائر وحفى بها السائر، ورَفع إلى السماء أمراً، ورُزئتُ في الأرض خبراً؟!

إن قُحيف تيم، وأُحيول عدى(1) جازيا أبا الحسن في السباق، حتى إذا تفرّيا بالخناق اسرّا له الشنان(2) وطوياه الاعلان.

فلمّا خبا نور الدين، وقُبض النبي الأمين، نَطقا بِفَورهما، ونفثا بسَورهما(3) وإدالاً بفدك(4) فيا لها لمن ملك.

إنّها عطيّة الربّ الأعلى للنجيّ الأوفى، ولقد نَحَلنيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله للصبيّة السواغب من نجله ونسلي، وإنّها لبعلم الله وشهادة أمينه.

فان انتزعا مني البُلغة، ومنعاني اللمظة، احتسبتُها يوم الحشر زلفة، وليجدنّها آكلوها ساعرةَ حميم في لظى جحيم(5) .

____________________

(1) قحيف تصغير قحف، باعتبار أنّ أبا بكر هو ابن قحافة، وقحافة مشتق من القحف وهو جرف ما في الإناء من ثريد وغيره، فهو كناية عن الجشع والأكل والشرب بنَهَم شديد / لسان العرب - حرف الفاء.

أحَيول: تصغير أحول، وهو الذي في عينه حَوَل أي: تغيير.

(2) الشنآن: البغضاء.

(3) الفَور: الغليان والاضطراب. نفث: تكلَّم، ومنه: نفث الشيطان على لسانه. السَور - بفتح السين والواو -: حدّة الشيء وشدَّتُه.

(4) إدالاً: غَلباً.

(5) كتاب الأمالي للشيخ الطوسي ج 1 ص 207.

٥٠٠