فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد3%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243938 / تحميل: 10721
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

الصلاة وغيرها، وهم الذين لم يظلموا فاطمة، ولم يسكتوا أمام تلك الأحداث، ولم يكن موقفهم موقف المتفرّج الذي لم يتأثّر بالحوادث.

لقد حضروا في تلك الساعة المتأخّرة من تلك الليلة خائفين مترقّبين، إذ قد تقرّر إجراء تلك المراسم ليلاً وسرّاً، واستغلال ظلمة الليل مع رعاية الهدوء والسكوت، كل ذلك لأجل تنفيذ وصايا السيدة فاطمة الحكيمة.

لقد حضروا، وهم: سلمان، عمّار بن ياسر، أبو ذر الغفاري، المقداد، حذيفة، عبد الله بن مسعود، العباس بن عبد المطّلب، الفضل بن العباس، عقيل، الزبير، بريدة، ونفر من بني هاشم، وشيّعوا جثمان فاطمة الزهراء البنت الوحيدة التي تركها الرسول الأقدس بين أُمّته، وكأنّها امرأة غريبة خاملة فقيرة في المدينة، لا يعرفها أحد، وكأنّها لم تكن لها تلك المنزلة الرفيعة والشخصية المثالية.

هؤلاء هم المشتركون في تشييع جنازة سيّدة نساء العالمين.

وتقدّم الإِمام عليعليه‌السلام وصلَّى بهم على حبيبة رسول الله، قائلاً: اللّهمّ إنّي راضٍ عن ابنة نبيّك، اللّهمّ إنّها قد أوحشت فآنسها، اللّهمّ إنّها قد هُجِرت فَصِلها، اللّهمّ إنّها قد ظُلِمت فاحكم لها وأنت خير الحاكمين(١) .

ثم صلَّى ركعتين ورفع يديه إلى السماء فنادى: هذه بنت نبيّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلى النور.

فأضاءت الأرض ميلاً في ميل.

صلّى الإِمام عليعليه‌السلام عليها، إذ إنّها كانت معصومة، فيجب أن يصلّي عليها المعصوم، فالصلاة على الميت دعاء له بالرحمة. وأمّا بالنسبة للمعصوم فالدعاء له أي الصلاة على جثمانه فهو من واجب المعصوم.

____________________

(١) الخصال للصدوق، عن الإمام الباقرعليه‌السلام .

٥٢١

هذا من الناحية الشرعية، وأمّا من ناحية العقل والحكمة فإنّ السيدة فاطمة الزهراء، مع جلالة قدرها وعظم شأْنها، ذهبت إلى دار رئيس الدولة يومذاك مطالبة بحقّها، فكان موقف الرئيس معها كما عرفت.

ثم حضرت في المسجد وخطبت تلك الخطبة فلم تجد الإِسعاف لا من الحاضرين في المسجد، ولا من رئيس الدولة، وقد مرّ عليك أنّ عليّاًعليه‌السلام كان يحملها إلى بيوت المهاجرين والأنصار يستنجدهم لنصرة الزهراء فلم يجد منهم إلاَّ الجفاء.

والكارثة التي حدثت عند باب بيتها تركت في جسمها آثاراً تدوم وتدوم ولا تزول.

ومواقف المسلمين اتجاه ابنة الرسول كان لها أثر عميق في نفس السيدة فاطمة لكونها إهانة صريحة لها، وظلماً مكشوفاً واعتداءً مقصوداً، وإهداراً لكرامتها، وتضييعاً لمقامها الأسمى.

وليست هذه الأمور من القضايا التي تنسى أو تضيع، فلا بدّ من تنبيه المعتدين على فظاعة عملهم وتسجيل ذلك في سجلّ التاريخ، وذلك عن طريق الاستنكار والتعبير عن الاستيلاء العميق عن تلك الأعمال.

وإنّ بنود الوصية ترمز إلى أنّ الزهراء عاشت بعد أبيها ناقمة وغاضبة على أولئك الأفراد، واستمرّت النقمة والغضب حتى الموت وبعد الموت وإلى يوم يبعثون.

فلا ترضى السيدة فاطمة أن يشيّعها تلك العصابة، ولا أن يصلُّوا على جنازتها ولا يشهدوا دفنها، ولا يعرفوا قبرها.

٥٢٢

فاطمة الزهراء في مثواها الأخير

لقد قرأت أنّ السيدة فاطمةعليها‌السلام أوصت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بأن يدفنها ليلاً، وأن لا يُعلم أحداً بموضع قبرها، بل يبقى قبرها مخفيّاً من يوم وفاتها إلى يوم الفصل الذي كان ميقاتاً، ليجلب هذا العمل إنتباه المسلمين، وعلى الأخصّ الحجّاج والمعتمرين الذين يزورون قبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة المنوّرة، ومراقد الأئمّة في البقيع، ويتساءلون عن قبرها فلا يجدون لذلك أثراً ولا خبراً.

فالقبر كان ولا زال مجهولاً عند المسلمين بسبب اختلاف المؤرّخين والمحدّثين فهناك أحاديث تصرّح بدفنها في البقيع، وهناك روايات أنّها دُفنت في حجرتها وعند توسيع المسجد النبوي الشريف صار قبرها في المسجد.

فإن صحّ هذا القول فإنّ صُوَر القبور التي صوَّرها الإِمام في البقيع كان لغرض المغالطة، وصرف الأنظار عن مدفنها الحقيقي.

وإن كان الإِمام قد دفنها في البقيع فالقبر كان ولا يزال مجهولاً.

وعلى كل تقدير: لقد حفروا القبر للسيدة فاطمة، حفروا مرقداً لتلك الزهرة الزهراء، واللؤلؤة النوراء، وتقدّم أربعة رجال وهم علي والعباس والفضل بن العباس ورابع(١) - يحملون ذلك الجسد النحيف(٢) .

____________________

(١ و ٢) مستدرك الوسائل باب الدفن.

٥٢٣

ونزل عليعليه‌السلام إلى القبر لأنّه وليّ أمرها، وأولى الناس بأُمورها، واستلم بضعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأضجعها في لحدها، ووضع ذلك الخد الذي طالما تعفَّر بين يدي الله تعالى في حال السجود، ذلك الخد الذي كان يقبّله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كل ليلة قبل أن ينام.

وضع ذلك الخد على تراب القبر وقال: يا أرض أستودعكِ وديعتي، هذه بنت رسول الله.

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما وضع فاطمة بنت رسول الله في القبر قال: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

سلَّمتك أيّتها الصّدّيقة إلى مَن هو أولى بك منّي، ورضيت لك بما رضي الله تعالى لك.

ثم قرأ:( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏ ) (١) .

لا يستطيع العقل أن يدرك، ولا يستطيع القلم أن يصف الحالة التي كان عليعليه‌السلام يعيشها تلك اللحظات، ومدى تأثير الأحزان على قلبه.

ثم خرج من القبر، بعد أن أشرج اللِّبن، وتقدّم الحاضرون ليهيلوا التراب على تلك الدرّة النبويّة.

دفنوها، ودفنوا أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(١) مصباح الأنوار / بيت الأحزان ص ١٥٦.

٥٢٤

دفنوا أوّل شهيدة من آل محمد.

لقد دفنوا كتلة من المواهب والفضائل.

لقد أخفوا في بطون التراب الحوراء الإِنسيّة.

وسوّى عليعليه‌السلام قبرها، وكأنّه في تلك المراحل كان جرحه حارّاً، فلا يشعر بالألم، والإنسان قد يصاب بجراح أو كسر فلا يشعر بالألم في وقته، وبعد مضي لحظات يشتد به الوجع، ويتركه يصرخ ويصيح.

كان جثمان السيدة فاطمة نصب عين علي في تغسيلها وتكفينها والصلاة عليها ودفنها، والآن قد غابت الزهراء عن الأبصار، واختفت عن الأعين.

لقد حان أن يشعر الإمام علي بألم المصاب، ويشتد به الوجع أشد ما يمكن.

كانت تلك اللحظات الحرجة من تلك الليلة مؤلمة ومشجية؛ فلقد كان قلب الإِمام مضغوطاً عليه بسبب المصيبة.

لقد ماتت فاطمة الزهراء شهيدة الاضطهاد، قتيلة الظلم والاعتداء.

وفَقَدَ الإِمام بفقدها شريكة حياته، وأحبّ الناس إليه وإلى رسول الله.

فَقَدَ سيدةً في ريعان شبابها، ومقتبل عمرها، ونضارة حياتها.

فَقَدَ سيدةً انسجمت معه ديناً ودنيا وآخرة.

فَقَدَ زوجةً شاركته في مصائب حياته ومرارتها بكل صير.

فَقَدَ حوراء ليست من مستويات نساء الدنيا.

سوف لا يجد الإِمام على وجه الأرض مثلها عصمة ونزاهة وتقوى وعلماً وكمالاًَ وشرفاً، وفضائل ومكارم وغيرها.

فلا يمكن له أن يتسلّى بامرأة أُخرى.

٥٢٥

وممّا زاد في المصيبة، وضاعف في أبعاد الكارثة أنّ السيدة أوصت إلى زوجها أن يكون تشييع جثمانها ليلاً وسرّاً، وبإخفاء قبرها بحيث لا يكون لقبرها أثر ولا علامة.

شكوى إلى رسول الله

ولهذا هاجت به الأحزان لما نفض يده من تراب القبر فأرسل دموعه على خديه وحوّل وجهه إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال:

السلام عليك يا رسول الله عنّي (١) .

السلام عليك عن ابنتك وزائرتك (٢) .

والبائتة في الثرى ببقعتك.

والمختار الله لها سرعة اللحاق بك.

قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري.

وعفى عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي (٣) .

إلاَّ أنّ في التأسّي لي بسُنَّتك في فرقتك موضع تعزّ (٤).

فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك.

بعد أن فاضت نفسك (٥) بين نحري وصدري.

وغمّضتك بيدي.

____________________

(١) وفي نسخة: السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك.

(٢) وفي نسخة: السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك.

(٣) وفي نسخة: وضعف عن سيّدة النساء.

(٤) وفي نسخة: بسنّتك، والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزّي.

(٥) وفي نسخة: على صدري.

٥٢٦

وتولَّيت أمرك بنفسي.

بلى (١) وفي كتاب الله لي أنعم القبول.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

قد استُرجعتِ الوديعة.

وأخُذت الرهينة.

واختلست الزهراء (٢) .

فما أقبح الخضراء والغبراء.

يا رسول الله!!

أمّا حزني فَسَرمد.

وأمّا ليلي فمسهَّد.

وهمٌّ لا يبرح من قلبي (٣) .

أو (٤) يختار الله لي دارك التي أنت فيها (٥) مقيم.

كمدٌ مقيّح، وهمٌّ مهيّج.

سرعان ما فَرَّق الله بيننا.

وإلى الله أشكو.

وستنبئك ابنتك بتضافر (٦) أُمّتك عليَّ.

وعلى هضمها حقّها.

فأحفها السؤال.

____________________

(١) وفي نسخة: نعم.

(٢) وفي نسخة: اختلصت واختلست.

(٣) وفي نسخة: لا يبرح الحزن من قلبي.

(٤) وفي نسخة: إلى أن يختار.

(٥) وفي نسخة: بها.

(٦) وفي نسخة: بتظاهر.

٥٢٧

واستخبرها الحال.

فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً.

وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين.

والسلام عليكما (١) يا رسول الله.

سلام مودّع.

لا سئم ولا قالٍ (٢) .

فإن أنصرف فلا عن ملالة.

وإن أُقم فلا عن سوء ظن (٣) لما وعد الله الصابرين.

واهاً واها!!

والصبر أيمن وأجمل.

ولولا غلبة المستولين علينا.

لجعلتُ المقام عند قبرك لزاماً.

والتلبث عنده عكوفاً (٤) .

ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزيّة.

فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً؟!!

ويهتضم حقّها قهراً؟!!

ويُمنع إرثها جهراً؟!!

ولم يَطُل منك العهد (٥) .

____________________

(١) وفي نسخة: سلام عليك.

(٢) وفي نسخة: لا قالٍ ولا سئم.

(٣) وفي نسخة: ظنّي.

(٤) وفي نسخة: لجعلت المقام واللبث لزاماً معكوفاً.

(٥) وفي نسخة: ولم يتباعد العهد.

٥٢٨

ولم يخلِق منك الذكر.

فإلى الله - يا رسول الله - المشتكى.

وفيك - يا رسول الله - أجمل العزاء.

فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته (١) .

وروي أنّ عليّاًعليه‌السلام - لما ماتت فاطمةعليها‌السلام وفرغ من جهازها ودفنها - رجع إلى البيت فاستوحش فيه وجزع جزعاً شديداً، ثم انشأ يقول:

أرى عِلل الدنيا عليَّ كثيرةً

وصاحبها حتى الممات عليلُ

لكلّ اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ

وكلّ الذي دون الفراق قليلُ

وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ

دليلٌ على أن لا يدوم خليلُ (٢)

وروي عن الإمام جعفر بن محمدعليهما‌السلام قال: لما ماتت فاطمة كان علي يزور قبرها كلَّ يوم، واقبل ذات يوم فانكبّ على القبر وانشأ يقول:

مالي مررتُ على القبور مسلّماً

قبر الحبيب فلم يردَّ جوابي (٣)

____________________

(١) الكافي للكليني، والمجالس للمفيد، والأمالي للشيخ، ونهج البلاغة للرضي.

(٢ و ٣) الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي ص ١٤٨.

٥٢٩

مُحاوَلاَت فَاشِلَة

وأصبح الصباح من تلك الليلة فأقبل الناس ليشيّعوا جنازة السيدة فاطمة فبلغهم الخير أنّ عزيزة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد دُفنت ليلاً وسرّاً.

وكان عليعليه‌السلام قد سوّى في البقيع صُوَر قبور سبعة أو أكثر، وحيث إنّ البقيع كان في ذلك اليوم وإلى يومنا هذا مقبرة أهل المدينة، ولهذا أقبل الناس إلى البقيع يبحثون عن قبر السيدة فاطمة، فأشكل عليهم الأمر، ولم يعرفوا القبر الحقيقي لسيّدة نساء العالمين، فضجّ الناس، ولام بعضهم بعضاً، وقالوا: لن يخلف نبيّكم إلاَّ بنتاً واحدة، تموت وتُدفن ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها، ولا تعرفوا قبرها؟!!

فلقي المقداد أبا بكر وقال له: إنّا قد دفنّا فاطمة البارحة.

فقال عمر: يا أبا بكر ألم أقل لك إنّهم يريدون دفنها سرّاً؟

فقال المقداد: إنّ فاطمة أوصت هكذا، حتى لا تصلَّيا عليها(١) .

فجعل عمر يضرب المقداد على رأسه ووجهه، واجتمع الناس وأنقذوه منه.

فوقف المقداد أمامهم وقال:

(إنّ ابنة رسول الله ماتت والدم يجري من ضلعها وظهرها، بسبب الضرب والسوط الذي ضربتموها، وقد رأيت ما صنعتم بعلي، فلا عجب

____________________

(١) بحار الأنوار ج٤٣ ص١٩٩.

٥٣٠

إذا ضربتموني)(١) .

فقال العباس: إنّها أوصت أن لا تصلَّيا عليها.

فقال عمر: لا تتركون - يا بني هاشم - حسدكم القديم علينا أبداً!!

فقال عقيل: وأنتم - واللهِ - لأشدّ الناس حسداً، وأقدم عداوة لرسول الله وأهل بيته.

ضربتموها بالأمس، وفارقت الدنيا، وظهرها بدم، وهي غير راضية عنكما(٢) .

ثم قال رجال السلطة: هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نجدها فنصلّي عليها، ونزور قبرها.

أرادوا تنفيذ هذه الخطّة كي يزيّفوا الخطّة التي خططتها السيدة فاطمة في وصاياها، وأن يحبطوا المساعي التي بذلها الإمام عليعليه‌السلام في إخفاء القبر، وحرمان بعض الناس عن درك ثواب الصلاة على جنازة السيدة فاطمة.

وإلاَّ فما معنى نبش القبر لأجل الصلاة على الميت؟

أكانوا يظنّون أنّ عليّاً دفن فاطمة بلا صلاة؟

هل من المعقول أن يظن أحد ذلك؟

وأيّ إسلامٍ وأيّ دين وشريعة يبيح نبش قبر ميت قد صلّى عليه وليّه بأحسن وجه وأكمل صورة، صلَّى عليه بتصريح ووصيّة منه؟!

إنّني أعتقد أنّ الذي جرّأهم على هذه المجازفة وخرق الآداب وتحطيم المعنويات هو استضعافهم لأمير المؤمنينعليه‌السلام فكأنّهم قد نسوا أو

____________________

(١) كامل البهائي لعماد الدين الطبري ج ١ ص ٣١٢.

(٢) المصدر السابق ص ٣١٣.

٥٣١

تناسوا سيف الإِمام علي وبطولاته في جبهات القتال، وشجاعته التي شهد بها أهل السماء والأرض.

إن كان الإِمام أمير المؤمنين لم يجرّد سيفه في تلك الأحداث والمآسي التي حدثت من بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل توحيد كلمة المسلمين، وعدم تفرّقهم عن الدين، فليس معنى ذلك أن يسكت عن كل شيء وأن يصبر على كل عظيمة ورزية.

وبعبارة أُخرى: إن كان عليعليه‌السلام مأْموراً بالصبر في موارد معيّنة ومواطن محدودة فلا يعني ذلك أن يتحمّل كل إهانة ويسكت عليها.

وصل إلى الإِمام خبر المؤامرة التي يوشك أن تُنفّذ، وكان للإمامعليه‌السلام قباء أصفر يلبسه في الحروب؛ لأنّ الملابس الفضفاضة الطويلة العريضة لا تناسب القتال وإنّما تتطلّب الحرب ملابس تساعد على سرعة الحركة والأعمال الحربية، وكان ذلك القباء من ملابس عليعليه‌السلام الخاصة للحروب.

لبس الإِمام القباء الأصفر، وحمل سيفه ذا الفقار وقد احمرّت عيناه ودرّت أوداجه من شدّة الغضب، وقصد نحو البقيع.

سبقت الأخبار عليّاً إلى البقيع، ونادى مناديهم: هذا علي بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه، يقسم بالله: لئن حُوِّل من هذه القبور حجر ليضعن السيف على غابر الآخر.

تلقّى الناس هذا التهديد بالقبول والتصديق؛ لأنّهم عرفوا أن عليّاً صادق القول، قادر على ما يقول.

ولكنّ عمر استخفّ بهذا التهديد والإِنذار وقال: ما لك يا أبا الحسن! والله لننبشنّ قبرها ولنصلِّين عليها!!

٥٣٢

فضرب الإمام بيده إلى جوامع ثوب الرجل وهزّه، ثم ضرب به الأرض، وقال له: يا بن السوداء! أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم، وأما قبر فاطمة فوالذي نفس علي بيده: لئن رُمتَ وأصحابك شيئاً من ذلك لأسقينّ الأرض من دمائكم!!

فقال أبو بكر: يا أبا الحسن بحق رسول الله وبحق مَن فوق العرش إلاَّ خلَّيت عنه، فإنّا غير فاعلين شيئاً تكرهه.

فخلّى عنه وتفرّق الناس، ولم يعودوا إلى ذلك(١) .

وبقيت وصايا السيدة فاطمة باقية ونافذة المفعول حتى اليوم وبعد اليوم.

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٣. باب ما وقع عليها من الظلم.

٥٣٣

الإمام علي في تأبين السيّدة الزهراء

إن كانت العادة والإنسانية قد قضت برثاء الميت، فإنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تستحق الرثاء بعد وفاتها كما تستحق الثناء في حياتها وبعد مماتها.

والرثاء تعبير عن الشعور، وإظهار التوجُّع والتأسُّف على الفقيد، وبيان تأثير مصيبة فقده على الراثي.

وانطلاقاً من هذا المفهوم فإنّه يجدر بالإمام عليّعليه‌السلام أن يرثي السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ويبثّ آلامه النفسية من تلك الفاجعة المؤلمة، فالإمام يشعر بألم المصائب أكثر من غيره؛ لأنّه يقدّر فقيدته حق قدرها، وتأثير الصدمة في نفسه أقوى وأكثر، فلا عجب إذا هاجت أحزانه فقال مخاطباً لسيّدة النساء فاطمة العزيزة بعد وفاتها قائلاً:

نفسي على زفراتها محبوسة

يا ليتها خرجت مع الزفراتِ

لا خير بعدكِ في الحياة وإنّما

أبكي مخافة أن تطول حياتي

وقوله:

أرى علل الدنيا عليَّ كثيرة

وصاحبها حتى الممات عليلُ

ذكرت أبا ودِّي فبتُّ كأنّني

بردِّ الهموم الماضيات وكيلُ

لكل اجتماعٍ من خليلين فرقة

وكلُّ الذي دون الفراق قليلُ

وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ

دليلٌ على أن لا يدوم خليلُ

وقوله:

فراقكِ أعظم الأشياء عندي

وفقدك فاطم أدهى الثكولِ

٥٣٤

سأبكي حسرة وأنوح شجواً

على خِلِّ مضى أسنى سبيلِ

ألا يا عين جودي وأسعديني

فحزني دائم أبكي خليلي

وقال:

حبيب ليس يعدله حبيبُ

وما لسواه في قلبي نصيبُ

حبيب غاب عن عيني وجسمي

وعن قلبي حبيبي لا يغيبُ

وقوله مخاطباً للسيدة فاطمة بعد وفاتها:

مالي وقفت على القبور مسلِّماً

... قبر الحبيب فلم يردّ جوابي

أحبيب ما لك لا تردّ جوابنا

أنسيت بعدي خلَّة الأحبابِ (١)

وفي كتاب الأنوار العلوية(٢) ما ملخّصه:

لما ماتت فاطمةعليها‌السلام احتجب الإمام أمير المؤمينعليه‌السلام في منزله عن الناس، وصار لا يخرج إلاّ للصلاة وزيارة قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال عمار: فمضيتُ إلى دار سيدي ومولاي أمير المؤمنين، فاستأذنت عليه، فاذن لي، فلمّا دخلت عليه وجدته جالساً جلسة الحزين الكئيب والحسن عن يمينه، والحسين عن شماله، وهو ينظر إلى الحسين ويبكي.

فلم أملك نفسي دون أن أخذتني العبرة، وبكيت بكاءً شديداً، فلمّا سكن نشيجي قلت:

سيّدي أتأذن لي بالكلام؟

قال: تكلَّم يا أبا اليقظان.

قلت: سيّدي أنتم تأمرون الناس بالصبر على المصيبة، فما هذا الحزن الطويل...؟

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٣ ص ٢١٦.

(٢) للعلاّمة البحّاثة الشيخ جعفر النقدي ص ٣٠٦.

٥٣٥

فالتفت إليَّ وقال: (يا عمّار إنّ العزاء عن مثل مَن فقدته لعزيز، إنّي فقدتُ رسولَ الله بفقد فاطمة.

إنّها كانت لي عزاء وسلوة.

كانت إذا نطقت ملأت مسامعي بصوت رسول الله.

وإذا مشت لم تخرم مشيته.

وإنّي ما أحسستُ بفراق رسول الله إلاّ بفراقها.

وإنّ أعظم ما لقيتُ من مصيبتها: أنّي لما وضعتُها على المغتسل وجدتُ ضلعاً من أضلاعها مكسوراً، وجنبها قد اسودَّ من ضرب السياط، وكانت تخفي ذلك عليَّ مخافة أن يشتدّ حزني، وما نظرت عيناي إلى الحسن والحسين إلاّ وخنقتني العبرة، وما نظرت إلى زينب باكية إلاّ وأخذتني الرقَّة عليها...).

٥٣٦

تاريخ وفاتهاعليها‌السلام

ليس من العجيب أن يختلف المؤرِّخون في تاريخ وفاتها ومقدار عمرها كما اختلفوا في تاريخ ولادتها قبل البعثة أو بعدها، وهكذا الاختلاف في مقدار مكثها في الحياة بعد وفاة أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فاليعقوبي يروي أنّها عاشت بعد أبيها ثلاثين أو خمسة وثلاثين يوماً، وهذا أقلّ ما قيل في مدّة بقائها بعد الرسول.

وقول آخر: أربعون يوماً.

وقول ثالث: خمسة وسبعون وهو الأشهر.

ورابع: خمسة وتسعون يوماً وهو الأقوى وهناك أقوال لا يعبأ بها كالقول بأنّها عاشت بعد أبيها ستّة أشهر أو ثمانية أشهر وهذا أكثر ما قيل في مكثها بعد أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهناك أحاديث واردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كانت ولا تزال مورد الاعتبار والاعتماد.

ففي كتاب (دلائل الإمامة) للطبري الإمامي بإسناده عن الأمام الصادقعليه‌السلام : أنّها قُبضت في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه، سنة إحدى عشرة من الهجرة.

وفي البحار ج٤٣ عن جابر بن عبد الله: وقُبض النبي ولها يومئذٍ ثماني عشرة سنة وسبعة أشهر.

٥٣٧

أيضاً عن الإمام محمد بن عليّ الباقرعليه‌السلام : وتوفيت ولها ثمانية عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً.

وروى الكليني هذا القول في الكافي.

وعلى كل تقدير فإنّ عشرات الآلاف من المجالس والمآتم تقام في البلاد الشيعية بمناسبة وفاة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام في المساجد والبيوت والمجامع، ويطعمون الطعام في يوم وفاتها بكل سخاء، وتسمّى تلك الأيام بـ (الفاطميّة ) فيرقى الخطباء المنابر ويتحدّثون عن السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام وعن حياتها الزاخرة بالفضائل والمناقب والمواقف المشرِّفة، ويختمون كلامهم بذكر بعض مصائبها وآلامها.

٥٣٨

أوْقَافُهَا وَصَداقَاتُهاعليها‌السلام

كان لها سبعة بساتين وقفتها على بني هاشم وبني المطلب، وجعلت النظر فيها والولاية لعليّعليه‌السلام مدة حياته، وبعده للحسن وبعده للحسينعليهما‌السلام وبعده للأكبر من ولدها، وكان كتاب الوقف موجوداً عند الإمام الباقرعليه‌السلام كما في كتاب الكافي للكليني، صورة الكتاب هكذا:

(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحوائطها السبعة: العواف، والذلال، والبرقة، والمبيت، والحسنى، والصافية، وما لأُمّ إبراهيم إلى عليّ بن أبي طالب، فإن مضى فإلى الحسن، فإن مضى فإلى الحسين، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من وُلدي.

شهد الله على ذلك والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام وكتب عليّ بن أبي طالب).

وتسأل: كيف وصلت هذه البساتين السبع إلى السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ؟

لقد ذكر السمهودي(١) أنّ مخيرق اليهودي - كان من أحبار يهود بني النضير - أسلم وقُتل يوم أحد، وأوصى ببساتينه السبع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأوقفها النبي سنة سبع من الهجرة على خصوص فاطمةعليها‌السلام وكان يأخذ منها لأضيافه وحوائجه.

وأوصت لأزواج النبي لكل واحدة منهن اثنتا عشر أوقية، ولنساء بني هاشم مثل ذلك، ولأُمامة بنت أبي العاص بشيء(٢) .

____________________

(١) تاريخ المدينة ج٢ ص١٥٢.

(٢) دلائل الإمامة.

٥٣٩

فاطمة الزهراءعليها‌السلام يومَ المحشر

إن كان بعض المسلمين لم يراعوا حرمة سيّدة نساء العالمين في حياتها، وأذاقوها أنواع الذل والهوان، وقابلوها بالاعتداء والكبت، ولم يرقبوا فيها كرامتها ولا كرامة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).

ولم يحفظوا فيها كلام الله تعالى حيث أنزل آيات بيّنات في حقّها وحق زوجها وولديها سيّدي شباب أهل الجنّة، كآيات التطهير والمباهلة وسورة هل أتى وآية المودّة في القربى.

وكأنَّهم لم يسمعوا وصيّة أبيها في حقّها حيث قال: (المرء يُحفظ في وُلده) وقوله: (فاطمة بضعة منّي، مَن آذاها فقد آذاني) وأمثال ذلك من الكلمات التي أوصى بها الرسول أُمَّته بحق ابنته الوحيدة فاطمة الزهراء.

ولم ينصروها حينما استنجدت بهم واستنصرتهم فلم يسعفوها، ولم يتكلّم منهم متكلّم.

فإنّ الله تعالى قد حفظ لفاطمة الزهراءعليها‌السلام مقامها، ولم يبخس من حقّها شيئاً، فلقد ذكرها في كتابه المجيد، وأحلَّها محلاًّ لم تدركه أيّة أُنثى في العالم، وقد جعلها الله سيّدة نساء العالمين.

وبعد هذا كلّه فإنّ الله تعالى سيُظهر عظمتها لأهل العالم كلّهم في يوم القيامة.

في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الظالمون ووجوههم مسودّة.

في ذلك اليوم الذي يعضّ الظالم على يديه.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568