شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 265332
تحميل: 11468

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265332 / تحميل: 11468
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أساسيّين: ثابتة ومتغيّرة، أمّا الثابتة فهي التي شُرِّعت وِفق مصالح عامّة عُمُوماً يَشمل الأجيال والأزمان مدى الدهر، وهي الأصل في التشريع حسب ظاهره الأَوّلي، إلاّ إذا دلّت القرائن على أنّها مِن المـُتغيِّرات، وهي التي شُرّعت لمصالح وقتيّة تُناط ببقاء تلك المصالح وتَذهب بزوالها، وهذا في جانب الأحكام السياسيّة الصادرة مِن أُولي الأمر نَجده بكثير، وقد فصّلنا الكلام في ذلك وَذَكرنا المعايير التي يُمكن التمييز بين القسمين، والأصل المرجع عند الشكّ (1) .

أمّا القول بالتنازل والمـُداهنة أو المـُجاملة مع القومِ فهي عقيدة باطلة يَرفضُها أصالة التشريع الإسلامي المـُستَنِد إلى وحي السماء، ويأبى الله ورسوله ذلك، ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (2) .

* * *

وسؤال آخر: هل كان الطلاق والرجوع في العِدّة - بذلك الشكل الفظيع - عادةً جاهليّة ليَكون موضع الإسلام منها تعديلها إلى وجهٍ صحيح؟

قال الشيخ مُحمّد عَبده: كان للعرب في الجاهليّة طلاق ومُراجعة في العدّة، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدد... فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام.

في حين أنّ جواز الرجوع في العدّة - في الطلاق الرَّجعي - وكذا تشريع العدّة للطلاق أمرٌ لم يكن للعرب ولا لسائر الأُمَم عهدٌ بذلك مِن ذي قَبل؛ وإنّما هو مِن مُبدَعات الإسلام وتشريعاته التأسيسيّة الحكيمة، حتّى أنّ الإمام عَبده استشهد بقضيةٍ وقعت في عهدٍ متأخّر في المدينة، حيث جاءت المرأة وشكت عند عائشة لتَرفع أمرَها إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وَنَزلت آيات مِن أُخريات سورة البقرة، ولعلّها في العام السادس أو السابع للهجرة! وقد صرّح الطبري بأنّه كان على عهد النبيّ، وكان رجلٌ مِن الأنصار (3) .

____________________

(1) تجد جانباً من ذلك في رسالتنا (ولاية الفقيه) الفارسيّة ص 172 - 174.

(2) البقرة 2: 120، وفي آية أخرى: ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) ، البقرة 2: 145، وفي ثالثة: ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ، الأنعام 6: 116.

(3) جامع البيان، ج 2، ص 276.

١٤١

هذا، وقد أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سُنَنه عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة، قال: طُلِّقتُ على عهد رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) ولم يكن للمـُطَلَّقة عدّة، فأنزل الله - حين طُلِّقت - العدّة للطلاق ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (1) ، فكانت أَوّل مَن أُنزلت فيها العدّة للطلاق.

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: كان أهل الجاهليّة يُطلِّق أحدهم ليس لذلك عدّة (2) ، وأمّا الرواية الأُخرى عن قتادة بأنّ الطَّلاق لم يكن له في الجاهليّة عدد وكانوا يراجعون في العدّة (3) ، فلعلّ الذيل زيادةٌ مِن الراوي أو بيان للمـُراجعة بعد تشريع العدّة في الإسلام، إذ لا تُقاوِم هذه الرواية ما تقدّمها من روايات مستفيضة.

* * *

وسؤال ثالث: هل الطلاق بيد الرجل ورَهن إرادته على الإطلاق؟

ذهب المشهور إلى ذلك استناداً إلى قوله (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّما الطَّلاق لِمَن أَخَذ بالساقِ) (4) .

والحديث كما رواه ابن ماجة في السُنَن عن ابن عبّاس أنّ رجلاً أتى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إنّ سيّدي زوّجني أَمَته وهو يُريد أنْ يُفرّق بيني وبينها، فصعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المِنبر فقال: (أيّها الناس، ما بالُ أحدِكم يُزوّج عَبدَه أَمَته ثُمّ يُريد أنْ يُفرّق بينهما؟! إنّما الطلاق لمـَن أَخذ بالساق).

والحديث وإنْ كان بِمُختلف طُرقه ضعيف الإسناد إلاّ أنّ الفقهاء تَسالموا على الاستناد إليه، حتّى أنّ صاحب الجواهر عبّر عنه بالنبويّ المـَقبول وَذَكر أنّ الحكم إجماعي، وقد أَرسل المحقّق حُكَمَه باختصاص الطلاق بِمالِك البُضع إرسال المسلّمات (5) .

____________________

(1) البقرة 2: 228.

(2) الدرّ المنثور، ج 1، ص 656، وسنن أبي داود، ج 2، ص 285، رقم 2281، وسنن البيهقي، ج 7، ص 414 كتاب العدد.

(3) جامع البيان، ج 2، ص 276.

(4) سُنَن ابن ماجة، ج 1، ص 641، باب 667، طلاق العبد، رقم 2107، وفي كنز العمّال، ج 9، ص 640، رقم 27770 نقله عن الجامع الكبير للطبراني، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، ج 4، ص 334 وعن عصمة... الخ، وقال: فيه الفضل بن المختار وهو ضعيف. (هامش الكنز)، أمّا عن ابن عباس - كما في سُنَن ابن ماجة والطبراني - ففي طريقه ابن لهيعة، قال في الزوائد: وهو ضعيف. (هامش ابن ماجة).

(5) جواهر الكلام، ج 32، ص 5.

١٤٢

وعليه، فلا شأن للمرأة في أمر الطلاق والفِراق، وإنّما هو رَهنُ إرادة الرجل حسبَ مشيئته الخاصّة.

* * *

غير أنّ المسألة بحاجة إلى دقةٍ ونظرةٍ فاحصةٍ:

الطلاق - وهو الفِراق بين المـُتآلِفَين - لابدّ أن يكون عن كراهية مُعقَّدة لا يُمكن حلُّها إلاّ بالمـُفارقة، والكراهية إمّا من الزوج فالطلاق رجعي، إذا كان عن دخولٍ بها ولم تكنْ التطليقةُ الثالثة، ولم تكنْ المرأة يائسةً، وشرائط أُخَر مذكورة في محلّها.

وإمّا مِن الزوجة، فالطلاق خُلعي؛ لأنّها تَبذل مَهرها لتَنخلع أي تتخلّص بنفسها وتنفلت عن قيد الزوجيّة.

وإمّا مِن الطرفين، ويعبّر عن ذلك في مصطلحهم بالمـُباراة، مِن المـُبارَأَة وهي التخلّص والفصل بين الشريكَينِ أو المـُتزاوِجَين. يقال: بَارَأَ شريكَه: فاصَلَه وفارَقَه. وتَبارَأَ الزوجان: تَفارَقا.

فالطلاق في الصورة الأُولى عن رغبةِ الزوج، وفي الصورة الثانية عن رغبة الزوجةِ، وفي الصورة الثالثة عن رغبتهما معاً.

فهل الطلاق في جميع هذه الصور بيد الرجل مَحضاً ورَهن إرادته، إن شاء فارَقَها وخلّى سبيلَها، وإن شاء أمسكَها إضراراً بها؟ ولا شأن للمرأة في ذلك ولا لوليّ الأمر إطلاقاً؟!.

وإليك بعض الكلام حول هذه المسألة الخطيرة الشأن:

جاء في الحديث النبويّ المـُستفيض: (أنّ امرأةً - ولعلّها جميلة بنت أُبيّ بن سلول - تزوّجها رجلٌ دَميمٌ (كريه المنظر) وأَصدَقها حديقة، فلمـّا رآها كَرِهتهُ كَرَاهةً شديدةً، فجاءت إلى رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) وأَبدت كَراهَتَها له وقالت: إنّي لأَكرَهَهُ لدَمامَته وقُبحِ مَنظره حينما رأيتُه، وزادت: إنّي لولا مخافة الله لبَصَقتُ في وجهِهِ، قالت: إنّي رفعتُ الخِباء فرأيته مُقبِلاً في عدّةٍ، فإذا هو أشدُّهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً، قالت: والله، لا يجمع

١٤٣

رأسي ورأسَه شيء. فقال لها رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (أَتَرُدّين عليه حديقتَه)؟ قالت: نعم، وأَزيدُه، قال لها النبيّ: (لا، حديقته فقط)، فردّت عليه حديقتَه، فَفَرّق بينهما رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله).

ويَبدو أنّ ذلك كان بمَغيبٍ عن الرجُل وذلك؛ لأنّ الرواية ذكرت أنّه لمـّا بَلَغه قضاء رسول اللّه وحكمُه بالفِراق بينهما قال: قد قَبِلتُ قضاء رسول اللّه، قال ابن عبّاس: وكان أَوّلُ خُلعٍ وَقَع في الإسلام (1) .

وظاهر الحديث: أنّه في صورة كَراهة الزوجة تَرفع أمرَها إلى وليّ الأمر (الحاكم الشرعي) وهو الذي يتولّى شأنَها ويقضي بفِراقها، وليس للزوج الامتناع، ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (2) .

والمـُراد بقضاء الله والرسول أنْ يكون قضاء النبيّ وِفق شريعة السماء، ولا يكون إلاّ كذلك، وعليه فقبول الرجُل كان فرضاً عليه ولم يكن له الردّ.

وهكذا جاء في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام):

روى الشيخ بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: (لا يكون الخُلع حتّى تقول: لا أُطيع لك أمراً ولا أَبرّ لك قَسَماً ولا أُقيم لك حدّاً فخذ منّي وطلّقني، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أنْ يَخلعها بما تراضيا عليه من قليلٍ أو كثيرٍ، ولا يكون ذلك إلاّ عند سلطان، فإذا فعلت ذلك فهي أَملك بنفسها من غير أنْ يُسمّى طلاقاً) (3) .

وروى بإسناده عن ابن بزيع قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن المرأة تُباري زوجَها أو تَختَلع منه بشهادة شاهِدَينِ على غير طُهرٍ مِن غير جُماع، هل تَبينُ منه بذلك؟ أو هي امرأته ما لم يُتبِعُها بطلاقٍ؟ فقال: (تَبينُ منه)، قال: إنّه رَُوي لنا أنّها لا تَبينُ منه حتّى يُتبِعُها بطلاقٍ! قال (عليه السلام): (ليس ذلك إذن خُلع)، فقال: تَبينُ منه؟ قال (عليه السلام): (نعم) (4) .

وقد أفتى بذلك الشيخ وجماعة مِن كِبار الفقهاء وأوجبوا على الزوج الإجابة على طلبِها مِن غير أنْ يكون له الامتناع.

____________________

(1) راجع: سُنَن البيهقي، ج7، ص314، وسُنَن ابن ماجة، ج1، ص633، باب 658، والدُرّ المنثور، ج1، ص 670 - 672 وقد نقلنا النصّ بصورة مُلفقة والأكثر للدرّ.

(2) الأحزاب 33: 36.

(3) تهذيب الأحكام، ج8، ص98 - 99، رقم 331.

(4) المصدر: رقم 332.

١٤٤

قال الشيخ في النهاية: وإنّما يَجب الخُلع إذا قالت المرأة لزوجها: إنّي لا أُطيع لك أَمراً ولا أُقيم لك حدّاً، فمتى سُمِع منها هذا القول أو عُلِم مِن حالِها عصيانَه في شيء مِن ذلك وإنْ لم تَنطق به وَجَب عليه خُلعُها (1) .

قال العلاّمة في المـُختَلف: وتَبِعَه أبو الصلاح الحلبي والقاضي ابن البرّاج في الكامل وعليّ بن زُهرة الحلّي (2) .

قال أبو الصلاح (ت 448): فإذا قالت ذلك فلا يَحِلّ له إذ ذاك إمساكُها (3) .

وقال ابن زُهرة (ت585): وأمّا الخُلع فيكون مع كَراهة الزوجة خاصّةً الرجلَ، وهو مُخيّر في فِراقها إذا دَعَته إليه حتّى تقول له: لئن لم تفعل لأَعصيَنَّ اللّه بِتَرك طاعتِك، أو يَعلم منها العِصيان في شيءٍ مِن ذلك، فيجب عليه والحال هذه طلاقُها (4) .

فإذا كان ذلك واجباً عليه ولم يكن له الامتناع عند ذلك لَزِمَهُ طلاقُها، أو يُلزِمُه السلطان (وليّ الأمر - الحاكم الشرعي) أو يتولّى الحاكم ذلك بنفسه حسبَما تقدّم في ظاهر الحديث النبوي.

على أنّ ذلك هو لازم اشتراط أنْ يكونَ بمَحضَر السلطان، كما اشترطه أبوعلي ابن جنيد الإسكافي؛ استناداً إلى حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) الآنِف، ولقوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (5) ، وهذا الخطاب للحاكم (6) .

فإنّ مُقتضى هذا الاشتراط أنْ يقوم الحاكم بتنفيذ الأمر حسبَما يَراه مِن مصلحتِهما، إمّا إلزاماً للزوج أو التولّي بنفسه.

وقد ناقش صاحب الجواهر القولَ بوجوب خُلعِها على الرجل بعدم الدليل على الوجوب؛ إذ ليس في شيءٍ من الروايات أَمرٌ بذلك وبعدم تماميّة كَونه رَدعاً عن المـُنكر، مُضافاً إلى كونه منافياً لأُصول المذهب! (7) .

____________________

(1) النهاية في مجرد الفقه والفتاوي للطوسي، ص529.

(2) المختلف، ج7، ص383.

(3) الكافي في الفقه للحلبي، ص307.

(4) غنية النزوع لابن زُهرة، ج1، ص374 - 375.

(5) البقرة 2: 229.

(6) المختلف، ج7، ص388.

(7) جواهر الكلام، ج33، ص3 - 4.

١٤٥

لكن جانب الإضرار بالمرأة - إذا لم تُطِق الصبرَ معه - يَرفع سُلطة الرجل على الطَّلاق حتّى في هذه الصورة؛ إذ (لا ضَرر ولا ضِرار في الإسلام) (1) ، بمعنى: أنّه لم يُشرَّع في الإسلام أيّ تشريع - سواء أكان تكليفاً أم وضعاً - إذا كان موردُه ضَرريّاً، وهذه القاعدة حاكمة على جميع الأحكام الأَوّليّة في الشريعة المقدّسة ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) ، ولا شكّ في أنّ الحكم باختيار الرجل بشأن الطلاق - حتّى في صورة كون الزوجيّة أو تَداومِها حَرَجاً على المرأة وضارّاً بها - حُكمٌ ضَرريٌّ، فهو مرفوع، فعُموم سُلطة الرجل على أَمر الطلاق مُخَصَّصٌ بغير هذه الصورة.

وهكذا ورد صحيحاً عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فيمَن كانت عنده امرأة ولا يقوم بنَفقتِها... قال: (كان حقّاً على الإمام أنْ يُفرّق بينهما) (3) .

على أنّ دليل عموم سُلطة الرجل على الطلاق ضعيف، بعد كون مُستَنده الحديث النبويّ المعروف (إنّما الطلاق لمن أَخذ بالساق)، وهذا الحديث بِمُختَلف طُرقه ضعيف الإسناد على ما تقدّم عن الهيثمي في مجمع الزوائد (4) .

وعُمدة ما استَدَلّ به صاحب الجواهر على ذلك هو الإجماع (5) ، ولم يكنْ دليلاً لفظياً ليكون له إطلاقٌ أو عموم، إذن، فمُستند العُموم ضعيف الشمول.

وبعد، فإذا لم يكن لعُمومِ سُلطة الرجل على الطَّلاق دليل قاطع وشامل وكان أمر الخُلع مَنوطاً بالتَرافع لدى السلطان، كان مُقتضى ذلك هو إمكانُ إلزامِ الزوج بالطلاق إذا كانت المـَصلحة قاضية بذلك، ومُدعَمَاً بحديث (لا ضَرَر ولا ضِرار في الإسلام).

وهناك بعض الشواهد عليه في بعض النصوص، كما في حديث حمران عن الصادق (عليه السلام) وفي آخره: (والطلاق والتخيير مِن قِبل الرجل، والخُلع والمـُباراة يكون مِن قِبل المرأة) (6) .

____________________

(1) وسائل الشيعة، باب 1 من أبواب موانع الإرث، حديث 10، ج17، ص118.

(2) الحجّ 22: 78.

(3) وسائل الشيعة: باب 1 من أبواب النفقات، ج21، ص509، رقم 2 و6 و12.

(4) راجع: هامش كنز العمّال، ج9، ص640، وهامش ابن ماجة، ج1، ص641، ومجمع الزوائد، ج4، ص334.

(5) جواهر الكلام، ج32، ص5.

(6) وسائل الشيعة، ج22، ص292، رقم 4، باب 6 من كتاب الخُلع.

١٤٦

وهذا يعني: أنّ أمر الخُلع مَنوطٌ بِمَصلحة المرأة واختيارها، ولا خِيار للزوج فيه، مضافاً إلى ما فعله النبي (صلّى اللّه عليه وآله) بشأن المـُختَلَعة..

إذن فطريق الخَلاص للمرأة - إذا لم تُطِق الصبر مع زوجها - مُنفَتِح، وليست أسيرةً رَهن إرادة الرجُل مَحضاً.

بقي هنا شيءٌ وهو كلام صاحب الجواهر بالمـُنافاة مع أصول المذهب! ولم نتحقَّقه، كيف وقاعدة لا ضَرر ولا حَرج هُما اللذان يُشكِّلان قواعد المذهب، والعمل عند اللّه.

والسؤال الأخير: ما هو سبب الفَرق بين الرجل والمرأة، حيث كان الرجل مُطلَق السَّراح بشأن طلاق زوجته، وأمّا المرأة فبعد مُراجعة الحاكم الشرعي ورَهن تَصميمِهِ في الأمر؟!

وهذا يعود إلى ما بين الرجل والمرأة مِن فَرق في طبيعتِهما؛ حيث هي مُرهَفَة الطبع، رقيقة النفس، ذات عواطف جيّاشة، تُثار لأيّ مؤشِّر وتنبري لأيّ وَخزَة، وكلّ أمر إذا أُنيط بجانب العاطفة السريعة التأثُّر ربّما أوجد مشاكل ومضاعفات لا يُحمد عُقباها، أمّا الرجل فبطبيعته الهادئة المتريّثة، وهو الذي تحمّل تكاليف هذا الازدِواج، ولا يمكن أنْ يتغافل عن عواقب سُوءٍ سوف تترتّب على الفِراق أحياناً، ويكون أعباء ثقلها على عاتقه في الأغلب؛ فإنّه بذلك ولغيره مِن الجهات لا يتسّرع في الأمر مهما بلغ به الغضب أو ثارت ثائِرتُه في حينه، مادام لم ينظر في عاقبة الأمر وما يترتّب عليه مِن أثر!

ومع ذلك، فإنّ القوانين المدنيّة الحاكمة اليوم في البلاد الإسلاميّة تَفرض على الرجل تريّثَه المـُضاعف ومُراجعة المـَحاكم الصالحة، مِن غير أنْ يكون مُطلق السَّراح.

ونحن الآن - في ظلّ ولاية الفقيه - نرى مشروعيّة هذه القوانين المـُحدِّدَة مِن تَصرّفات الرجل العابثة، وهذا مِن الآثار الإيجابيّة لسيطرة ولاية الفقيه على القوانين الحاكمة في البلاد.

* * *

ونجد هناك بعض المحاولات لسدّ هذه الثغرة عن طريق الاشتراط على الزوج - في عَقد النِّكاح أو ضِمن عقدٍ آخر لازم - بأنْ يُوكِّل الزوج زوجتَه في طَلاق نفسِها متى

١٤٧

شاءت أو مَشروطاً بعدم إمكان المـُؤالَفَة ونحو ذلك، فتقوم المرأة بتطليق نفسِها وَكالةً عن زوجِها.

وبهذا النحو مِن العِلاج أفتى سيّدنا الأستاذ الإمام الخميني - طاب ثراه - إجابةً على استفتاءٍ قدّمته إليه جَماعةُ النِسوَة المـُناضِلة في إيران عام 1358 هـ.ش (1) .

وقد كان هذا الاشتراط على الزوج في صالح الزوجة رائجاً في أوساطنا منذ القديم، لكن على النحو المـَشروط، أمّا بصورة الإطلاق ومتى شاءت اختصّ الإمام الراحل (قدس سرّه) بالإفتاء به.

وإليك نصّ العبارة - مُترجمةً - بعد البَسمَلة.

قد سهّل الشارع المقدّس طريقةً معيَّنةً للنساء، كي يَستطعنَ تولّي الطَّلاق بأنفسِهنّ، وذلك بأن تَشترط المرأة في ضِمن عَقد النِّكاح أنْ تكونَ وكيلةً عن الزوج في الطلاق بصورة مُطلقة، أي متى شاءت أنْ تُطلّق نفسَها فَعَلت حَسَب مشيئتِها، أو بصورة مَشروطةٍ ما إذا تخلّف الزوج عن بعض وظائفه الزوجيّة، أو أراد أن يتزوّج امرأةً أُخرى، ونحو ذلك، فهي مُختارة - حسب وكالتِها عن الزوج - في تطليقِ نفسِها، قال: وبهذا النحو مِن العِلاج تنحّل مُشكلة أَمر الطَّلاق، (روح اللّه الموسويّ الخمينيّ)

لكن الظاهر أنّ هذا ليس بالعلاج الحاسم، والمـُشاهَد أنّ الأزواج لا يُوافقون على هذا النحو من الاشتراط ولا سيّما صورة إطلاقه، وليس الرجل - مهما كانت المرأة بالمـُفتَن بها - بهذا النحو مِن الرضوخ لإرادتها الخاصّة - طُول حياتها الزوجيّة - لاسيّما وتضخّم عدد النساء الطالبات للزواج بلا شرط ولا قيد!

إنّ للرجل - في طبيعته الرجوليّة - أَنفَةً وشموخاً لا يستسلم لقيادة المرأة مهما كانت فائقةً، إلاّ إذا بلغ به الذُّلّ والهوان ما يَجعله خاضِعاً لهذا الرضوخ.

على أنّ هنا حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) في رَجُلٍ جَعَل أمرَ امرأته بيدها! قال:

____________________

(1) راجع: صحيفة النور، ج10، ص78، ومجلّة (نامه مفيد)، العدد 21 ص168.

١٤٨

(وَلّى الأمرَ مَن ليس أهله، وخالف السنّة، ولم يَجز النِّكاح) (1) .

وفي رواية أُخرى في رجُلٍ لامرأته: أَمرُكِ بيدِكِ! قال: (أَنّى يكون هذا، واللّه يقول ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ) ؟! (2) ليس هذا بشيء) (3) .

وأيضاً هنا كلام عن هذه الوَكالة - وهي عَقد جائز، متى شاء المـُوكِّل عَزلَ الوكيل - هل تُصبح لازِمةً باشتراطه في ضِمن عقد النِّكاح أو أيّ عقد لازم؟ وهل الشرط ضِمن عَقدٍ لازم يُغيّر مِن ماهيّة المشروط؟

وأخيراً، فإنّ الشيخ ذَكَر في كتابه (المبسوط) قال: وإن أَراد [ الرجل ] أن يجعلَ الأمر إليها فعندنا لا يجوز على الصحيح مِن المذهب. وفي أصحابنا مَن أجازه (4) .

ومِن ثَمّ فإنّ المسألة ليست بهيّنة، لا سيّما وخُطورة أمر البُضع المقتضية للاحتياط فيه، كما وقد رجّح صاحب الجواهر جانب الاحتياط، قال: وعلى كلّ حالٍ فالاحتياط لا ينبغي تركه (5) .

واضربوهنّ!

قال تعالى: ( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ) (6) .

قالوا: في هذه الآية أيضاً مَهانة بشأن المرأة، ممّا يتناسب وذلك العهد الجاهلي الذي كان موضع المرأة فيه موضع الضِّعة والصَّغار!

لكن بأدنى مراجعة لكُتُب التفسير والسِيَر وكلمات الفقهاء في ذلك يتّضح أنّ الأمر ليس بتلك الحدّة التي كانت تُتُصوّر عن العصر الجاهلي المـُظلم وإمكان تأثيره على التشريعات الإسلاميّة الناصعة البيضاء والسهلة السمحاء.

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج8، ص88، والاستبصار، ج3، ص313، والكافي، ج6، ص137، رقم 4.

(2) النساء 4: 34.

(3) وسائل الشيعة، ج22 ص 93 - 94، رقم 5 و6، باب 41 من أبواب مقدّمات الطلاق.

(4) المبسوط للطوسي، ج5، ص29.

(5) جواهر الكلام، ج32، ص25.

(6) النساء 4: 34.

١٤٩

كانت المرأة في العصر الجاهلي في مُستوى هابط جدّاً، وجاء الإسلام ليأخذ بيدها ويَرفَعَها إلى حيث مستواها الإنساني الرفيع، ولكنّ هذا التحوّل الجذري بشأنها هل أمكن حصوله بصورة فجائيّة وبِلا تمهيدِ مُقدّمات؟ أم كان بحاجة إلى مَهَلٍ وبصورة تدريجيّة لِقلب تلك الغِلظة المـُتوهِّجة إلى رقّةٍ ورأفةٍ هادئة؟ الأمر الذي يستدعي المـُسايرة مع القوم بعض الشيء في هذا الطريق الوَعْر؛ ليمكن إيقافهم أو تمهيد أسباب هذا الإيقاف فيمكن إرجاعهم إلى حيث فطرتهم الإنسانيّة الأصيلة!

وهكذا جارى الإسلام العرب في بادئ الأمر في قِسم مِن عاداتهم - كانت متحكِّمة عليهم تَحكّماً وثيقاً - وفي أثناء هذه المـُجاراة والمـُسايرة، أخذ ينفثُ في رَوعِهم رُوح المـُلائَمة، وإبعاد الخشونة لتلين قلوبهم ويَهتدوا إلى وجه الصواب، فيَرتَدِعوا بأنفسهم شيئاً فشيئاً عن الأخطاء التي كانت تَجذبُهم بقوّة ذلك العهد.

وهذا النحو مِن سياسة التدبير نرى الإسلام قد اتّخذها بشأنِ لفيفٍ مِن عاداتٍ جاهليّة لم تكن متحكِّمة على العرب وحدهم، بل على سائر الأُمم على وجه العُموم؛ ومِن ثَمّ كان قَلعُ جذورها بحاجة إلى مُهلة وفرصة زمنيّة، قصيرة أو طويلة، وتمهيد مقدّمات أصوليّة تُمهِّد هذا السبيل.

ويُمكننا التمثيل لذلك بمسألة الرقّية التي جارَاها الإسلام، حيث تَحَكّمُها على العالم كلّه يومذاك، وكانت سلعةً تجاريّة ضَخمة، لا يمكن مُجابَهتُها بِلا تمهيد مقدّمات، فقد قام الإسلام في وجهها، لكن لا بشكلٍ علنيٍّ صريح، ولكن أعلن مخالفته لمنشأ الاسترقاق الذي كان عليه جمهور الأُمَم ذلك العصر، وسدّ طريقه - شرعيّاً - ما عدا حالة الاستيلاء على المـُحاربين في ميدان القتال، الأمر الذي كان يَخصّ الرجال المـُحاربين ضدّ الإسلام دون غيرهم، ولا النساء ولا الأطفال والشيوخ، ورفض رفضاً باتّاً إمكان الاسترقاق بأيّ وجهٍ كان.

ثمّ إنّه مع ذلك جعل الطريق لتَحرُّرِهم فسيحاً وفي أنحاء وأشكال، حسبَما نَذكره.

واتخاذ مثل هذه الإجراءات لقطع جذور عادةٍ جاهليّةٍ ساطية، قد اصطلحنا عليه

١٥٠

بالنَسخ التدريجي المـُسيَّر مع الزمان، ممّا قد مُهدِّت أسبابه مُنذ البدء وعلى عهد صاحب الشريعة.

* * *

ومِن هذا القَبيل مسألة قِوامة الرجل على المرأة بشكلها العامّ، بحيث تَشمل ضربَها ضرباً مُبرِّحاً مُوجِعاً! فلو كان قد نَزَل به الوحي، ولكن جاء تفسيره على لسان صاحب الشريعة بما يَجعله هيّناً في وقته، وتمهيداً لقلع جذوره على مدى الأيّام:

أَوّلاً: جاء تفسير الضَرب بكونه غير مُبرّح، أي غير شديد ولا مُؤلِم، فيكون ضَرباً خفيفاً لا يُؤلم، والضَرب إذا لم يكن مُؤلماً لا يكون ضَرباً في الحقيقة، وإنّما هو مَسحٌ باليد مَسحاً في ظرافة! ومِن ثَمّ جاء تقييده بأن لا يكون بسوطٍ ولا خشبٍ أو آلةٍ غيرهما، ما عدا عُودَة السِّواك التي يستاك بها الرجل!

الأمر الذي يجعل مِن ظاهر دلالة الآية عقيمة، ويَرفض سُلطة الرجل على إيلام زوجته بالضَرب والأذى على كلّ حال.

أخرج ابن جرير عن عكرمة - في الآية - قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (اضربوهنّ إذا عصينَكم في المعروف، ضرباً غير مُبرِّح)، ورواه أيضاً بإسناده عن حجّاج مُضيفاً إليه تفسيره (غير مبرّح) بغير مؤثِّر، يعني: لا يؤثِّر في تغيير لون البَشَرة، حتّى الحُمرة.

وعن عطاء قال: قلت لابن عبّاس: ما الضرب غير المبرِّح؟ قال: بالسِّواك ونحوه.

وعن قتادة: ضرباً غير مبرّح أي غير شائن (1) .

والشَين: العيب، أي لا يُوجب عيباً.

ومِن ثَمّ قال الشيخ أبو جعفر الطوسي (قدس سرّه): وأمّا الضرب فإنّه غير مبرّح، بلا خلاف (2) ، قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (هو بالسِّواك) (3) .

قال القاضي ابن البرّاج الطرابلسي (قدس سرّه): وأمّا الضَرب فهو ضربُ تأديبٍ، كما يُضرب

____________________

(1) جامع البيان، ج5، ص44، والدرّ المنثور، ج2، ص522 - 523.

(2) وهذا يعني أنّ هذا التفسير (ضرباً غير مبرّح) مُجمَع عليه عند الفقهاء.

(3) تفسير التبيان، ج3، ص191.

١٥١

الصبيان على الذَّنب، ولا يَضربُها ضَرباً مُبرّحاً ولا مُزمِناً ولا مُدمِياً ويُفرّقه على بَدنِها ويَتقي وجهَها، وإذا ضربها كذلك فليكن بالمِسواك. وَذَكَر بعض الناس (مِن فقهاء العامّة) أنّه يكون بمِنديل مَلفوف أو دِرّة، ولا يكون بخشبٍ ولا سوطٍ (1) .

المبرِّح: الشديد المـُوجِع. والمـُزمِن: مِن الزَّمانَة، وهي العاهة، أي العيب والنقص، والمـُدمِي: المؤثِّر في ظهور الدمِ على البَشَرة ولو بالخِراش.

والدِرّة: نوع مِن السياط، لا تُوجِع ولا تُؤلم. وتُصنع مِن الخِرَق، وهي تشبه المِنديل المـَلفوف.

وقال في موضع آخر: وإذا نَشَزت المرأة على زوجها، جاز له أنْ يَهجُرَها في المـَضاجع وفي الكلام، ويَضربَها ولا يبلغ بضربها حدّاً ولا يكون ضَرباً مُبرِّحاً، ويتوقّى وجهها، ولا يَهجرها بترك الكلام أكثر مِن ثلاثة أيّام (2) .

جاء في فقه الرضا: (والضرب بالسواك وشبهه ضرباً رفيقاً) (3) أي برِفق.

وفي جامع الأخبار للصدوق عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّي أتعجّب مِمّن يَضرب امرأتَه وهو بالضرب أَولى، لا تضربوا نساءكم بالخَشب فإنّ فيه القِصاص، ولكن اضربوهنّ بالجُوع والعُرْيُ، حتّى تريحوا في الدنيا والآخرة)، وجاء في آخر الحديث: (احفظوا وصيّتي في أمر نسائكم حتّى تنجوا مِن شدّة الحساب، ومَن لم يحفظ وصيّتي فما أسوء حاله بين يدي اللّه) (4) .

وفي هذا الحديث صراحة بأنّ المـُراد مِن الضَرب في الآية هو التأديب، ولكن لا بالعصا والسوط - كما يُفعل مع البهائم - ولكن بالتضييق في المـَطعم والمـَلبس ونحوهما، وهذا أوفق بتعديل المعيشة معها.

وثانياً: النهي عن ضربهنّ، والتشديد على المنع، منعاً يجعل المـُتخلِّف مِن شِرار الأُمّة وليس مِن خِيارِهم!

____________________

(1) المهذّب، ج2، ص264.

(2) المصدر: ص231.

(3) بحار الأنوار، ج101، ص58، رقم 7، باب النشوز والشقاق.

(4) المصدر: ج100، ص249، رقم 38 عن جامع الأخبار، ص157 - 158، طبع النجف.

١٥٢

جاء في الحديث: إنّ نساءً كثيراً مِن أزواج أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أطافَن بِبُيوت آل الرسول يَشكينَ أزواجَهنّ - حيث رأَوا إباحة ضربِهنّ - فقال رسول اللّه: (ليس أولئك خِياركم) (1) .

وأخرج ابن سعد والبيهقي بالإسناد إلى أُمّ كلثوم بنت أبي بكر قالت: كان الرجال نُهوا عن ضرب النساء، ثُمّ شَكوهنّ إلى رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) فأجاز لهم ضربَهنّ، ولكنّه (صلّى اللّه عليه وآله) أضاف قائلاً: (ولن يَضرب خِيارُكم) (2) .

وفي رواية ابن ماجة:... فلمـّا أصبح رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (لقد طافَ بآل مُحمّد سبعون امرأة، كلّ امرأة تشتكي زوجها! فلا تجدون أولئك خياركم) (3) .

وأخرج عبد الرزّاق عن عائشة عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (أَما يستحي أحدكم أنْ يضرب امرأته كما يَضرب العبد، يضربها أَوّل النهار ثم يُضاجعها آخره) (4) .

قالت عائشة: ما ضرب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) خادماً له ولا امرأةً ولا ضرب بيده شيئاً (5) .

ولم يُؤثَر عن أحد مِن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الأطهار ولا مِن الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار أنْ واجهوا نساءهم بغَضَاضَة فضلاً عن الضَرب واللطم، بل كانت شيمتُهم العفو والغفران، كما مرّ في حديث الإمام الصادق عن أبيه الإمام الباقر (عليهما السلام) (6) .

وثالثاً: التوصيات الأكيدة بشأن المرأة والتحفّظ على كرامتها والأخذ بجانبها في عطفٍ وحنانٍ ورأفةٍ ورحمة، بعيداً عن الغِلظة والشدّة، بل حتّى مؤاخذتها على ما فَرَطَ منها ما سِوى العفو والغفران.

جاء في رسالة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام): (... فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، ولا تَعْدُ بكرامتها نفسَها...) (7) ، أي خُذ بكرامتها، ولا تَجعلها بحيث تضطرّ إلى أن تستشفع بآخر، فلتكنْ كرامةُ نفسها لديك هي الشفيعة لها دون غيرها، وجاء في

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج2، ص523.                        (2) المصدر.

(3) سنن ابن ماجة، ج1، ص612، باب 625، رقم 2010.

(4) الدرّ المنثور، ج2، ص523.                        (5) أخرجه ابن ماجة، ج1، ص612، رقم 2009.

(6) الكافي، ج5، ص510، رقم 1.                   (7) نهج البلاغة، باب الكتب، رقم 31، ص405.

١٥٣

رواية الكليني: (واغضض بصرَها بسترك، واكفُفها بحجابِك، ولا تُطمِعُها أنْ تشفعَ بغيرها...) (1) .

وروى الكليني بإسناده إلى الإمام أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) فيما ذَكَر مِن حُقوق المرأة على زوجها قال: (وإنْ جِهلت غَفَر لها) وزاد: (كانت امرأة عند أبي (الإمام الباقر(عليه السلام) تؤذيه فيغفر لها) (2) .

وفي وصيّة الإمام لابنه مُحمّد ابن الحنفيّة ما يشبه وصيّته لابنه الحسن، وزاد: (فدارِها على كلّ حال وأَحسِن الصُحبة لها ليصفوا عيشُك) (3) .

وأوصى الإمام الصادق (عليه السلام) يونس بن عمّار بالإحسان إلى زوجته، فسأله: وما الإحسان؟ قال: (... واغفر ذنبَها...) (4) ، وفي حديث: (داووا عيَّهن بالسكوت) (5) ، وفي لفظٍ آخر: (استروا العيّ بالسكوت) (6) .

وقال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (ما زال جبرائيل يُوصيني بالمرأة، حتّى ظَننتُ أنّه لا يَنبغي طلاقُها إلاّ مِن فاحشة مبيِّنة) (7) .

وروى الصدوق بإسناده إلى الصادق (عليه السلام) قال: (رحم اللّه عبداً أَحسَن فيما بينه وبين زوجته، فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد ملَّكه ناصيتَها وجَعَله القيّم عليها) (8) ، وجاء في الحديث السابق تفسير الإحسان بالغض ّعنها والسَّتر عليها.

وقد فسّر القاضي ابن البرّاج القَيمُومَة هنا بالقيام بحقوقها التي فَرَض اللّه لها على الزوج، قال: وقال تعالى ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ) (9) ، يعني: أنّهم قوّامون بحقوق النساء التي لهُنّ على الأزواج (10) .

____________________

(1) الكافي، ج5، ص510، رقم 3 وصحّحناه على النهج.

(2) المصدر: رقم 1.

(3) مَن لا يحضره الفقيه، ج3، ص362، رقم 13/1724، باب 178 (النوادر).

(4) الكافي، ج5، ص511، رقم 4.

(5) بحار الأنوار، ج100، ص251، رقم 48 عن أمالي الشيخ الطوسي، ج2، ص197.

(6) المصدر: ص252، رقم 50 عن الأمالي للطوسي، ج2، ص276.

(7) المصدر: ص253، رقم 58.

(8) مَن لا يحضره الفقيه، ج3، ص281، رقم 1338.

(9) النساء 4: 34.

(10) المـُهذّب، ج2، ص225.

١٥٤

وهذا هو معنى قوله تعالى: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (1) ، ويتأكّد بقوله تعالى: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) ، قال ابن البرّاج: يعني أنّ لكلّ واحدٍ منهما ما عليه لصاحبه، يُجمع بينهما من حيث الوجوب (3) .

وقد لَعَن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) مَن ضيّع حقوق امرأته ولمْ يراعِ جانبها، قال: (ملعون ملعون مَن يضيّع مَن يعول) (4) ، وفي حديث آخر: (كفى بالمـَرء هلاكاً أنْ يُضيِّع مَن يَعول) (5) ، وقال (صلّى اللّه عليه وآله) (خَيّرُكم خيّرُكم لأهله، وأنا خيّركم لأهلي) (6) .

وقال: (خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي) (7) .

وأخرج الترمذي وصَحّحه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص، أنّه شِهد حِجّة الوداع مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قام وخَطب، وفيما قال في خطبته: (أَلا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنّما هُنّ عَوان عندكم، ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك إلاّ أنْ يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنة، فإنْ فَعَلنَ فاهجروهنّ في المـَضاجع واضربوهنّ ضَرباً غير مبرّح) (8) .

قوله: (عَوان عندكم) يعني: أنهنّ قد قَضَين عندكم عُمُراً وفَقَدنَ رَيعَان شبابِهنّ عندكم.

قال رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (خِياركم خِياركم لأهله) (9) ، وقال: (ومَن اتّخذ زوجةً فليُكرمها) (10) .

وفي رواية أبي القاسم بن قولويه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: (مَن اشتدّ لنا حبّاً اشتدّ للنساء حبّاً) (11) .

____________________

(1) النساء 4: 19.

(2) البقرة 2: 228.

(3) المـُهذّب، ج2، ص225.

(4) مَن لا يحضره الفقيه، ج3، ص103، رقم 417.

(5) دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري، ج2، ص193، رقم 699.

(6) مَن لا يحضره الفقيه، ج3، ص362، رقم 1721.

(7) المصدر: ص281، رقم 1339، ووسائل الشيعة، ج20، ص167 - 171، باب 86 و87 و88 من أبواب مقدّمات النكاح.

(8) الدرّ المنثور، ج2، ص523.

(9) بحار الأنوار، ج100، ص226، رقم 15 عن كتاب الأمالي للطوسي، ج2، ص6.

(10) مستدرك الوسائل، ج14، ص250، رقم 2، باب66 من أبواب مقدمات النكاح.

(11) السرائر لابن إدريس، ج3، ص636، وراجع: البحار، ج100، ص227، رقم 20.

١٥٥

وفي كتاب النوادر للرواندي: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (أُعطِينا أهل البيت سبعة لم يُعطَهنّ أحدٌ كان قبلنا - وعدّ منها -: والمحبّة للنساء).

وفيه أيضاً: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (كلّما ازداد العبد إيماناً ازداد حبّاً للنساء) (1) .

والمـُراد بالحبّ في مثل هذه الأحاديث: الإشفاق والإرفاق والموادّة والتحفّظ على كرامة المرأة على مستواها الإنساني الرفيع، وليس النظر إلى جانب الشهوة، كلاّ وحاشا.

وفي حديث الحولاء جاءت إلى النبي (صلّى اللّه عليه وآله) تسأله عن حقّ الرجل على المرأة، وعن حقّ المرأة على الرجل - إلى أنْ قالت: - فما للنساء على الرجال؟ قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (أخبرني أخي جبرائيل، ولم يَزل يُوصيني بالنساء حتّى ظَننتُ أنْ لا يَحلّ لزوجها أنْ يقول لها: أفٍّ! يا مُحمّد، اتّقوا اللّه عزّ وجلّ في النساء، فإنّهنّ عَوان بين أيديكم، أخذتموهنّ على أمانات اللّه - إلى أنْ قال - فأشفِقوا عليهنّ وطيّبوا قلوبهنّ حتّى يَقفنَ معكم، ولا تُكرِهوا النساء ولا تُسخِطوا بهنّ) (2) .

وروى الصدوق في كتابه (علل الشرائع) و(الأمالي) بالإسناد إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: (فداروهنّ على كلّ حال، وأَحسِنوا لهنّ المقال، لعلّهنّ يحسنّ الفعال) (3) .

وعن الصادق عن أبيه (عليهما السلام): (مَن اتّخذ امرأةً فليُكرِمها، فإنّما امرأةُ أحدكم لُعبة، فمَن اتّخذها فلا يُضيِّعُها) (4) .

* * *

وبعد، فإنّ المتحصَّل مِن تلكمُ الأحاديث المتوفّرة أنّ للمرأة كرامتها الإنسانيّة الرفيعة، وعلى المـَرء أنْ يحافظ على كرامتها ولا يُشينها ولا يُهينها، ويُحسن المعاشرة معها، ويَجعل نفسه ونفسها شَريكَينِ مُتوازِيَين في إدارة شؤون الحياة العائليّة، بتوزيع

____________________

(1) نوادر الراوندي، ص114.

(2) مستدرك الوسائل، ج14، ص252، رقم 2، باب 68 من أبواب مقدّمات النكاح.

(3) بحار الأنوار، ج100، ص223، رقم 1. عن علل الشرائع، ص513، والأمالي للصدوق، ص206.

(4) المصدر: ص224، رقم 5.

١٥٦

المسؤوليات توزيعاً عادلاً، ولا يُكرِهُها على شيء، بل يستميل خاطرَها ويستميح جانبها، ويُعاشرها برِفقٍ ومُداراة، فإنّها ريحانة وليست بقهرَمانة، وإذا رأى منها زلّة غضَّ بصرَه عنها، وإذا أحسّ الشِّقاق واللَّجاج أَحسَنَ المـُداراة معها ليَستميح خاطرَها المـُرهف الرقيق، فلا يَغلظ ولا يَحتدّ معها، فإنّهنّ عَوان (خاضعات) لكم، فأشفِقوا عليهنّ وطيّبوا قلوبَهنّ، حتّى يَقفنَ معكم، ولا تُكرِهوهُنّ ولا تُسخطوا بهنّ - كما مرّ في الحديث النبوي - (فداروهُنّ على كلّ حال، وأحسنوا لهُنّ المـَقال، لعلّهنّ يُحسِنّ الفِعال) - كما مرّ في كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) (فمَن اتّخذ زوجةً فليُكرمها، فإنّما هي لُعبة، فيمَن اتّخذها فلا يُضيّعها) كما قال الإمام الصادق (عليه السلام).

وأمّا الضرب، فقد مُنع منه مَنعاً باتّاً، إلاّ إذا كان غير مبرّح ولا شائن، والأَولى أنْ يكون تأديباً عن طريق التضييق عليها في الإنفاق، لا الضرب باليد ولا بالعصا.

والأَولى مِن ذلك ترك الضرب البتة اقتداءً بالنبيّ الأكرم والأَئمة المعصومين عليهم صلوات المصلّين، ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) (1) .

ومن ترك هذه الأُسوة الحَسنة لم يكنْ متّبِعاً لنبيّ الإسلام.) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (2) .

وخِياركم خِياركم لنسائهم، والنبيّ خيرُ الناس لنسائه أَلا ومَن ضرب امرأته أو لَطَمها فهو أحقّ بالضرب واللطم، ولم يكن مِن خِيار. الأُمّة، ولعلّه مِن شرارهم، والعياذ باللّه.

ذلك أنّها إذا فعلت أمراً فلعلّها مِن جانب غَلَبة العاطفة عليها، وهي جيّاشة، أمّا الرجل فلِماذا يسترسل قيادته لأَحاسيس عابِرة، ولا يستسلم للعقل الرشيد، فهو أَولى بالضرب والتأديب، وعلى أي حال فهو ليس مِن خِيار الأُمّة، ممّن تربّوا على منهج التربيّة الإسلاميّة الرفيعة.

ونتيجة على ذلك: كانت الآية بظاهرها المطلق مَنسوخة نسخاً تمهيديّاً، كان

____________________

(1) الأحزاب 33: 21.

(2) آل عمران 3: 31.

١٥٧

الناسخ لها تلك التوصيات الأكيدة بشأن المرأة، والأخذ بجانبها والحِفاظ على كرامتها، وكذا المنع عن ضربها على أيّ نحوٍ كان إلاّ مالا يُعدّ ضرباً، وهو بالعطف والحنان أَشبه منه إلى الإيلام، وهكذا عَمِلَ الرسولُ وكبراءُ الأُمّة، ممّن أُمِرنا بإتّباعهم على كلّ حال.

إذن، فالأخذ بظاهر إطلاق الآية أخذٌ بظاهر مَنسوخ، ومُخالفة صريحة لمنع الرسول وتوصياته البالغة، وكذا الأَئمة الطاهرين مِن بعده.

وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ (1)

لِحجاب المرأة - في الإسلام - مكانة رفيعة، تَصونُها عن الابتذال وتَحفظ على كرامتها دون الانحطاط، إنّها مُحترَمةٌ احترامَ إنسان كريم، لها عزّها وشرفُها التليد وليس بطارف، ولم يكنْ فَرضُ الحجاب عليها إلاّ صيانةً لهذا الشرف وحِفاظاً على ذاك العزّ، (2) فلا تسترسل حيث ساقَها أهلُ الاستهواء.

هذا فضلاً عن أنّ الإسلام يَهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تُهاج فيه الشهوات في كلّ لحظة ولا تُستثار فيه دفعات البدن في كلّ حين، فعمليّات الاستثارة المـُستمِرّة تنتهي إلى سُعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرّجة، والجسم العاري... كلّها لا تَصنع شيئاً إلاّ أنْ تُهيّج ذلك السُعار الحيواني المجنون، وإلاّ أنْ يَفلت زِمام الأعصاب والإرادة، فإمّا الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيّد بقيد، وإمّا الأمراض العصبيّة والعُقد النفسيّة الناشئة مِن الكَبح بعد الإثارة! وهي تكاد أنْ تكونَ عملية تعذيب.

وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً وبقوّته الطبيعيّة، دون استثارةٍ مُصطَنَعة، وإنّما تصريفه في موضعه المأمون النظيف.

____________________

(1) النور 24: 31.

(2) كما يبدو من أحاديث جواز النظر إلى شُعور نساء أهل الذمّة لعدم حرمتهنّ، وسائل الشيعة، ج 20، ص 205، باب 112 من أبواب مقدّمات النكاح.

١٥٨

ففي الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) فيما كَتَبه جواباً عن مسائل مُحمّد بن سنان: (وحرّم النظرَ إلى شُعورِ النساء المـَحجوبات بالأزواج وإلى غيرهنّ مِن النساءِ لِما فيه مِن تَهييج الرجال وما يَدعو إليه التهييج مِن الفَساد والدخول فيما لا يحلّ ولا يَجمُل...) (1) .

قال سيّد قطب: ولقد شَاع: أنّ النظرة المـُباحة، والحديث الطليق، والاختلاط المـَيسور، والدُّعابة المـَرِحة بين الجنسين والاطّلاع على مواضع الفتنة المخبوءة... شاع أنّ كلّ هذا تنفيسٌ وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية مِن الكَبت، ومِن العُقد النفسيّة، وتخفيف مِن حدّة الضغط الجنسي، وما وراءه مِن اندفاعٍ غير مأمون... إلخ.

شاع هذا على أَثر انتشار بعض النظريّات الماديّة القائمة على تَجريد الإنسان مِن خصائصه التي تُفرِّقه مِن الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانيّة الغارقة في الطين... ولكن هذا لم يكن سِوى فروض نظريّة، رأيتُ بعيني في أشدّ البلاد إباحيةً وتفلّتاً مِن جميع القيود الاجتماعيّة والأخلاقيّة والدينيّة والإنسانيّة، ما يُكَذِّبها ويَنقضها مِن الأساس.

نعم، شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي بكلّ صوره وأشكاله أنّ هذا كلّه لم ينتِه بتهذيب الدوافع الجنسيّة وترويضها، إنّما انتهى إلى سُعارٍ مجنونٍ لا يرتوي ولا يهدأ إلاّ ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع. وشاهدت الأمراض النفسيّة والعُقد التي كان مفهومها أنّها لا تنشأ إلاّ مِن الحِرمان وإلاّ مِن التلهّف على الجنس الآخر المحجوب. شاهدتُها بوفرةٍ ومعها الشذوذ الجنسي بكلّ أنواعه، ثمرةً مُباشِرة للاختلاط الكامل الذي لا يُقيّده قيد ولا يقفُ عند حدّ، وللصَدَاقات بين الجنسين تلك التي يُباح معها كلّ شيء، وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المـُثيرة والنظرات الجاهرة، واللَفَتات المـُوقِظة... (2) كلّ ذلك لَممّا يَدلّ بوضوح

____________________

(1) وسائل الشيعة، ج 20، ص 193 - 194، رقم 12، باب 104 من أبواب مقدّمات النكاح.

(2) راجع كتابه (أمريكا التي رأيت) وفيه التفصيل وعرض الحوادث والشواهد، وراجع أيضاً كتاب (الإنسان بين الماديّة والإسلام) لمـُحمّد قطب، فصل (المشكلة - الجنسيّة) فقد توسّع في هذا المجال.

١٥٩

على ضَرورة إعادة النظر في تلك النظريّات التي كَذَّبها الواقع المشهود (1) .

إنّ المـَيل الفطري بين الرجل والمرأة ميلٌ عميق في التكوين الحيوي؛ لأنّ الله قد ناط به امتداد الحياة في هذه الأرض، وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها، فهو ميلٌ دائمٌ يَسكن فترة ثمّ يعود، وإثارته في كلّ حين تَزيد مِن عَرَامَته، وتَدفع به إلى الإفضاء المادّي للحصول على الراحة، فإذا لم يَتمّ هذا انهارت الأعصاب المـُستَثارة، وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مُستمرّة!...

والنظرة تثير! والحركة تثير! والضحكة تثير! والدعابة تثير! والنَبرة المـُعبِّرة عن هذا الميل تُثير!... والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعيّة، ثُمّ يُلبى تَلبيةً طبيعيّة، وهذا هو المـَنهج الذي يَختاره الإسلام، مع تهذيب الطبع، وشَغلِ الطاقة البشريّة بهُموم أُخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المـَنفذ الوحيد.

وفي القرآن إشارة إلى نماذج مِن تقليل فُرَص الاستثارة والغَوَاية والفتنة مِن الجانبَين الرجل والمرأة: قال تعالى: ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (2) .

قال سيّد قطب: وغَضُّ البَصر مِن جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطّلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، كما أنّ فيه إغلاقاً للنافذة الأُولى مِن نوافذ الفتنة والغَوَاية، ومُحاولة عمليّة للحيلولة دون وصول السهم المسموم!

قال الإمام جعفر بن مُحمّد الصادق (عليه السلام): (النظرة سَهمٌ مِن سِهام إبليس مسموم، وكم مِن نظرةٍ أَورَثتْ حسرةً طويلةً)، قال: (مَن تَركها لله عزّ وجلّ لا لغيره أَعقَبَه الله أَمناً وإيماناً يَجدُ طعمَه)، وقال: (النَظرة بعد النَظرة تَزرع في القلبِ الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة) (3) .

وأمّا حِفظُ الفَرج فهو الثَمرة الطبيعيّة لغضّ البصر، أو هو الخُطوة التالية لتحكيم

____________________

(1) راجع: في ظِلال القرآن، تفسير سورة النور، ج 18، ص 93، المجلّد السادس.

(2) النور 24: 30.

(3) وسائل الشيعة، ج 20، ص 191 - 192، رقم 1 و 5 و 6، باب 104 من أبواب مقدّمات النكاح.

١٦٠