شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 265042
تحميل: 11465

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265042 / تحميل: 11465
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يتقدّم القوم ليَرِد الماء ويَسقي لهم، قوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ ) أي ساقيهم من الماء المورود.

قال: ويقال لكلّ مَن يَرِد الماء وارد، وقوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا ) (1) ، ومنه: وَرَد ماءَ كذا أي حَضَره (2) .

وفي أمثال العرب: (أنْ تَرِد الماء بماءٍ أكيس) (3) ، أي من الكياسة والاحتياط أنْ يكون واردُ الماء مُستَصحِباً مع شيء من الماء، ولعلّه يَرِد الماء فلا يجده.

قال زهير - شاعر الجاهليّة -:

فلمـّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقاً جِمامُهُ

وَضَعنَ عِصِيَّ الحاضِر المـُتَخيّمِ (4)

أراد: فلمـّا بَلَغْنَ الماء أَقَمْنَ عليه.

قال الزّجاج: والحُجّة القاطعة على أنّهم لا يَدخلونها هي قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (5) .

وللطبرسي هنا كلام مُذيّل ونَقل آراء، اقتصرنا على الأرجح منها، فليراجع (6) .

ولابن شهر آشوب توجيهٌ لطيفٌ بإرجاع ضمير الخطاب إلى مُنكري الحشر على طريقة الالتفات (7) .

( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)

جاء التعبير بأنّه تعالى أحسنُ الخالقينَ في موضعَينِ من القرآن (8) ممّا يشير بأنّ هناك خالقينَ سوى اللّه ليكون هو أحسنهم!! في حين أنّه تعالى ينفي بكلّ شدّةٍ أن يكون خالقٌ غيره إطلاقاً وأنّه خالق كلّ شيء ولا خالق سواه، فما وجه التوفيق؟

____________________

(1) مريم 19: 71.

(2) المصدر.

(3) مجمع الأمثال للميداني، ج1، ص32، رقم 129.

(4) هذا البيت من معلّقته المشهورة، يقول: فلمـّا بلغتْ الضعائن الماءَ وقد اشتدّ صفاءُ ما جُمع منه في الآبار والحياض عَزَمْنَ على الإقامة، فَوَضَعْنَ العِصيّ وعَمَدن إلى نصبِ الخيام كما في المتحضّر، والزُرقة: شدّة الصفاء، والجِمام: جمع جَمَّ الماءَ، وجمّته، وَوَضعُ العِصيّ كناية عن الإقامة؛ لأنّ المسافر إذا عزم على الإقامة بمكانٍ وضع عَصاه، والتخيّم: نصب الخيام. (شرح المعلّقات السبع للزوزني، ص77).

(5) الأنبياء 21: 101 و102.

(6) مجمع البيان، ج6، ص525 - 526.

(7) متشابهات القرآن لابن شهر آشوب، ج2، ص107.

(8) المؤمنون 23: 14، والصّافات 37: 125.

٢٨١

غير أنّ الخَلق بمعنى الإبداع وإيجاد الصورة بالتركيب الصناعي أمرٌ يَعمّ، فقد حكى اللّه عن المسيح: ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ ) (1) ، وقوله: ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) (2) ، والخَلق - في كلام العرب - ابتداع الشيء، وإنّما يخصّه تعالى إذا كان إنشاءً لا على مِثال سَبَقَه، وكلّ شيءٍ خَلقه اللّه فهو مٌبتَدِؤه على غير مِثال سَبَق إليه، ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) (3) .

قال ابن الأنباري: الخَلق في كلام العرب على وجهَينِ: أحدهما الإنشاء على مِثال أَبدَعَه، والآخر التقدير، وقوله تعالى:) فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (4) معناه: أحسنُ المقدِّرينَ، وكذلك قوله تعالى: ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (5) أي تقدّرون كَذِباً.

قال ابن سيده: خَلَق اللّهُ الشيء يخلُقه خَلقاً: أحدثه بعد أنْ لم يكن.

قال ابن منظور: والخَلق التقدير، وخَلق الأَديمَ يَخلقه خَلقاً: قدّره لِما يُريد قبل القطع، وقاسَه ليَقطع منه مَزادةً أو قِربةً أو خفّاً، قال زهير بن أبي أسلمي يَمدح رجلاً:

ولأَنت تَفري ما خَلقتَ وبعـ

ـضُ القومِ يَخلقُ ثُمّ لا يفري

يعني: أنت إذا قدّرت أمراً قطعته وأَمضَيته، وغيرك يقدّر وليس بماضي العزم (6) .

( عَبَسَ وَتَوَلَّى)

وممّا جَعَلَه أهل التبشير المسيحي ذريعةً للحطّ من كرامة القرآن - بزعم وجود التناقض فيه - ما عاتبَ اللّه به نبيّه (صلّى اللّه عليه وآله) بشأن عُبوسه في وجه ابن أمّ مكتوم المـَكفوف، جاء ليتعلّم منه مُلِحّاً على مسألته، وهو لا يعلم أنّه منشغل بالكلام مع شرفاء قريش، فساء النبيَّ إلحاحُهُ ذلك فأعرض بوجهِهِ عنه كالحاً متكشّراً، الأمر الذي يتنافى وخُلُقه العظيم الذي وصفه اللّه به في وقتٍ مبكّر!

جاء قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) في سورة القلم، ثانية السور النازلة بمكّة.

____________________

(1) آل عمران 3: 49.

(2) المائدة 5: 110.

(3) الأعراف 7: 54.

(4) المؤمنون 23: 14.

(5) العنكبوت 29: 17.

(6) لسان العرب، مادّة (خلق).

٢٨٢

أمّا سورة عَبَس فهي الرابعة والعشرون.

جاء في أسباب النزول: أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) كان يُناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطّلب وأُبيّاً وأُميّة ابني خَلَف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم، وفي هذه الحال جاءه عبد الله ابن أمّ مكتوم (1) ونادى: يا رسول اللّه، أَقرِئني وعلّمني ممّا علّمك اللّه، فجَعل يُناديه ويُكرّر النداء، ولا يعلم أنّه مشتغلٌ ومُقبلٌ على غيره، حتّى ظهرت آثار الكراهة على وجه رسول اللّه؛ لقطعه كلامه!

قالوا: وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنّما أتباعه العُميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الّذين كان يُكلّمهم، فنزلت الآيات، وكان رسول اللّه بعد ذلك يُكرمه ويقول إذا رآه: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي، واستخلفه على المدينة مرّتين (2) .

قال الشريف المرتضى: ليس في ظاهر الآية دلالة على تَوجُّهِها إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) بل هو خبر محض لم يُصرّح بالمـُخبر عنه، وفيها ما يدلّ على أنّ المعنيّ بها غيره؛ لأنّ العُبوس ليس من صفات النبيّ مع الأعداء المنابذينَ فضلاً عن المؤمنين المـُسترشِدينَ، ثُمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء لا يُشبه أخلاقَه الكريمة، وقد قال تعالى في وصفه: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (3) ، وقال: ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (4) ، فالظاهر أنّ قوله ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) (5) المـُراد به غيره (6) .

وهكذا ورد قوله تعالى: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (7) ، وقوله: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ

____________________

(1) هو: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصمّ القرشي: قيل: إنّ اسمه الحُصَين، سمّاه النبيّ عبد الله، قال ابن حيان: كان أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله، وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو، قال ابن خالويه: كان أبوه يُكنّى أبا السرج (على ما ذَكَره الشيخ في تفسير التبيان، ج10، ص268)، وكان مؤذّناً للنبي (صلّى اللّه عليه وآله) بعد هجرته من مكّة، واسم أُمّه عاتكة بنت عبد اللّه بن عنكثة، وهو (ابن أُمّ مكتوم) ابن خال خديجة أُمّ المؤمنين (عليها السلام)، فإن أُمّ خديجة أُخت قيس بن زائدة واسمها فاطمة، أَسَلم في السابقينَ إلى الإسلام بمكّة وكان من المهاجرينَ الأَوّلينَ، قيل: قَدِم المدينة قبل النبيّ، وقيل: بعده بقليل ومات في أيّام عمر، وقيل: استُشهد بالقادسيّة، راجع: الإصابة لابن حجر، ج2، ص523.

(2) مجمع البيان، ج10، ص437.

(3) القلم 68: 4.

(4) آل عمران 3: 159.

(5) عبس 80: 1.

(6) تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى، ص118 - 119 بتلخيص يسير.

(7) الحجر 15: 88، مكّية، رقم نزولها: 54.

٢٨٣

اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، وغيرهما من آيات مكّية جاء الدُستور فيها بالخَفض واللين والرأفة مع المؤمنينَ، فكيف يا ترى يتغافل النبيّ عن خُلُقٍ كريم هي وظيفته بالذات؟! ولا سيّما مع السابقين الأوّلين من المؤمنين، وبالأخصّ مع مَن ينتمي إلى زوجه الوفيّة خديجة الكبرى أُمّ المؤمنينَ (2) .

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي: ما ذَكَروه سبباً لنزول الآيات إنّما هو قولُ لفيفٍ من المـُفسّرين وأهل الحشو في الحديث، وهو فاسد؛ لأنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) قد أَجلّ اللّهُ قَدْرَه عن هذه الصفات، وكيف يَصفه بالعُبُوس والتقطيب وقد وصفه بالخُلُق العظيم واللين وأنّه ليس بفظّ غليظ القلب؟! وكيف يُعرض النبيّ عن مُسلم ثابت على إيمانه جاء ليتعلّم منه، وقد قال تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) ؟! (3) ومَن عرف النبيّ وحُسنَ أخلاقه وما خصّه اللّه تعالى به من مكارم الأخلاق وحُسن الصُحبة، حتّى قيل: إنّه لم يكن يُصافح أحداً قطّ فينزع يده من يده حتّى يكون ذلك هو الذي ينزع يده.

فمَن هذه صفته كيف يقطب وجهَه في وجه أعمى جاء يَطلب زيادة الإيمان، على أنّ الأنبياء (عليهم السلام) منزّهون عن مثل هذه الأخلاق وعمّا دونها؛ لِما في ذلك من التنفير عن قبول دعوتهم والإصغاء إلى كلامهم، ولا يُجوّز مثل هذا على الأنبياء مَن عرف مِقدارهم وتبيّن نعتَهم.

نعم، قال قوم: إنّ هذه الآيات نزلت في رجلٍ من بني أُميّة كان واقفاً إلى جنب النبيّ، فلمـّا أقبل ابن أُمّ مكتوم تقذّر وجمع نفسَه وعَبَس وتولّى، فحكى اللّه ذلك وأنكره مُعاتِباً له (4) .

قال الطبرسي: وقد رُوي عن الصادق (عليه السلام): (أنّها نزلت في رجلٍ من بني أُميّة كان عند النبيّ، فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمـّا رآه تقذّر منه وجَمَع نفسَه وعَبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك وأنكره عليه).

قال: ولو صحّ الخبر الأَوّل لم يكن العُبُوس ذنباً؛ إذ العُبوس والانبساط مع الأعمى

____________________

(1) الشعراء 26: 215، مكّية، رقم نزولها: 47.

(2) تقدّم قريباً أنّه كان ابن خال خديجة رضوان اللّه عليها.

(3) الأنعام 6: 52.

(4) تفسير التبيان، ج10، ص268 - 269 بتصرّف يسير.

٢٨٤

سَواء إذ لا يَرى ذلك فلا يَشقّ عليه، فيكون قد عاتب اللّه سبحانه نبيّه بذلك؛ ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبّهه على عظيم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أَولى من تأليف المـُشرك طَمعاً في إيمانه.

قال: وقال الجبّائي: في هذا دلالة على أنّ الفعل إنّما يكون معصيةً فيما بعد لا في الماضي، فلا يَدلّ على أنّه كان معصيةً قبل النهي عنه، ولم ينهَه (صلّى اللّه عليه وآله) إلاّ في هذا الوقت.

وقيل: إنّ ما فعله الأعمى كان نوعاً مِن سوء الأدب، فحُسنَ تأديبه بالإعراض عنه، إلاّ أنّه كان يجوز أنْ يتوهّم أنّه أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرياستهم تعظيماً لهم، فعاتبه اللّه على ذلك.

قال: ورُوي عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (كان رسول (صلّى اللّه عليه وآله) إذا رأى عبد اللّه بن أُمّ مكتوم قال: مرحباً مرحباً، لا واللّه لا يُعاتبني اللّه فيك أبداً، وكان يََصنع به من اللّطف حتى كان (ابن أُمّ مكتوم) يكفّ عن النبيّ ممّا يفعل به) (1) ، أي كان يُمسك عن الحضور لديه استحياءً منه.

قلت: الأمر كما ذَكَره هؤلاء الأعلام، مِن أنّها فِعلة لا تتناسب ومقام الأنبياء، فكيف بنبيّ الإسلام المنعوت بالخُلُق العظيم؟! فضلاً عن أنّ سياق السورة يأبى إرادة النبيّ في توجيه الملامة إليه؛ ذلك: أنّ التعابير الواردة في السورة ثلاثة (عبس)، (تولَّى)، (تلهّى)، الأَوّلان بصيغة الغياب والأخيرة خطاب، على أنّ الأَوّلين (عبس وتولّى) فعلانِ قصديّانِ (يصدران عن قصد وإرادة وعن توجّهٍ من النفس)، والأخير (تلهّى) فعل غير قصديّ (صادر لا عن إرادة ولا عن توجّهٍ من النفس)، فإنّ الإنسان إذا توجّه بكلّيّته إلى جانب فإنّه مُلتهٍ عن الجانب الآخر، على ما تقتضيه طبيعة النفس الإنسانيّة المحدودة، لا يُمكنه التوجّه إلى جوانب عديدة في لحظةٍ واحدة! إنّما هو اللّه، لا يشغله شأن عن شأن!

وهذا الفعل الأخير كان قد توجّه الخطاب - عتاباً - إلى النبيّ؛ لانشغاله بالنجوى مع القوم وقد ألهاه ذلك عن الإصغاء لمسألة هذا الوارد، من غير أنْ يَشعر به.

فهذا ممّا يُجوّز توجيه الملامة إليه (صلّى اللّه عليه وآله): كيف يَصرف بكلّ همّه نحو قومٍ هم ألدّاء،

____________________

(1) مجمع البيان، ج10، ص437.

٢٨٥

بحيث يصرفه عمّن يأتيه بين حينٍ وآخر، وهو نبيّ بُعث إلى كافّة الناس.

وهو عتابٌ رقيقٌ لطيفٌ يُناسب شأن نبيّ هو ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (1) .

أمّا الفعلان الأَوّلان فقد صَدَرا عن قصدٍ وإرادة، كانا قبيحَينِ إلى حدّ بعيد، الأمر الذي يتناسب مع ذلك الأَموي المترفّع بأنفه المعتزّ بثروته وترفه في الحياة، وكان معروفاً بذلك.

وعليه فلا يمكن أن يكون المـَعنيّ بالفعل الثالث (غير العمدي) هو المعنيّ بالفعلَين الأَوّلين (العمديّين).

أسئلة مع أجوبتها لابن قتيبة

لأبي مُحمّد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة (213 - 276) في كتابه (تأويل مشكل القرآن) عرضٌ عريض لأسئلة طرحها مِن أهل الشُبَه، وأجاد في أكثر أجوبته عليها بصورة فنيّةٍ دقيقة، رأينا إيرادها مع شيءٍ من التوضيح وربّما أضفنا من كلمات الآخرين لمزيد الفائدة.

عَقَد في كتابه باباً عنوانه (الحكاية عن الطاعنينَ) وجَعَله على ثلاثة فصول على حسب تنوّع الشُبَه، وهي:

1 - شُبهة وجوه القراءات هل توجب اختلافاً في القرآن؟

2 - دعوى وجود اللحن في القرآن.

3 - مُوهم التناقض والاختلاف في القرآن.

وجعل الشُبَه كلّها في مقدّمة الباب، ثُمّ عقّبها بالأجوبة والحلول على الترتيب، وقد رجّحنا تعقيبَ كلِّ نوعِ شُبهةٍ بحلّها الوافي مباشرةً؛ لئلاّ يطول على القارئ تلقّي الجواب عن شُبهة عُرضت عليه.

____________________

(1) التوبة 9: 128.

٢٨٦

اختلاف القراءة هل يُوجب اختلافاً في القرآن؟

قالوا: وجدنا الصحابة ومَن بعدهم يَختلفون في الحرف (أي القراءة):

فابن عبّاس يقرأ (وادّكر بعد أمهٍ)، وغيره يقرأ ( بَعْدَ أُمَّةٍ ) (1) .

وعائشة تقرأ: (إذ تَلِقُونه)، وغيرها يقرأ: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ) (2) .

وأبو بكر يقرأ: (وجاءت سَكْرَة الحقّ بالموتِ)، والناس يقرأون: ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) (3) .

وقرأ بعض القرّاء (هو الأعرج): (وأعتَدت لهنّ مَتكاً)، وقرأ الناس: ( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ) (4) .

وكان ابن مسعود يقرأ: (إن كانت إلا زقية واحدة) ويقرأ: (كالصوف المنفوش)، والناس يقرأَون: ( إِنْ كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ) (5) و ( كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) (6) ، مع أشباهٍ لهذا كثيرة يُخالف فيها مصحفُه المصاحفَ القديمة والحديثة، وكان يَحذف من مُصحفِه (أُمّ الكتاب) ويَمحو (المعوّذتين) ويقول: لِمَ تزيدون في كتاب اللّه ما ليس فيه؟!

وأُبيّ يقرأ: ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا (من نفسي فيكف أُظهِرُكم عليها)) (7) ، ويزيد في مُصحفِه افتتاح (دعاء القنوت) إلى قول الداعي: (إنّ عذابك بالكافرين ملحق) ويعدّه سورتَينِ من القرآن!

والقرّاء يختلفون، فهذا يَرفع ما يَنصبه ذاك، وذاك يَخفض ما يَرفعه هذا... وأنتم تَزعمون أنّ هذا كلّه كلام ربّ العالمين، فأيّ شيء بعد هذا الاختلاف تريدون؟! (8) .

وهذا الإشكال بعينه أورده المستشرق الألماني (إجنتس جولد تسيهر)، قال: (فلا

____________________

(1) يوسف 12: 45، انظر: شواذّ القراءات لابن خالويه، ص64.

(2) النور 24: 15، انظر: الشواذّ، ص100.

(3) ق 50: 19، انظر: الشواذّ، ص144.

(4) يوسف 12: 31، انظر: الشواذّ، ص63.

(5) يس 36: 29، انظر: الشواذّ، ص125.

(6) القارعة 100: 5، انظر: الشواذّ، ص178.

(7) طه 20: 15، انظر: الشواذّ، ص87.

(8) راجع: تأويل مشكل القرآن لابن قيبة، ص24 - 25.

٢٨٧

يوجد كتاب تشريعي اعترف به طائفة دينيّة اعترافاً عقدياً على أنّه نصٌّ منزلٌ أو مُوحى به يُقدم نصّه في أقدم عصور تَداوله مِثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نَجد في نصّ القرآن) (1) .

القرآن شيءٌ والقراءات شيءٌ آخر

هناك فَرقٌ فارق بين القرآن والقراءات؛ حيث القرآن هو النصّ المـُوحى به من عند ربّ العالمين نَزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلينَ، وهو الذي تَعاهده المسلمون جيلاً بعد جيل، تلقّوه من الرسول تلقّياً مباشراً، وتداولوه يداً بيد حتّى حدّ التواتر المستفيض، لا اختلاف فيه ولا اضطراب مُنذ يومه الأَوّل فإلى مدى العصور وتعاقب الدهور، وهم على قراءةٍ واحدة كان يَقرأها النبيّ الكريم(صلّى اللّه عليه وآله) تَداوله الأصحاب والتابعون لهم بإحسان وعلى أثرهم سائر الناس أجمعون.

أمّا القراءات فهي اجتهادات مِن القرّاء للوصول إلى ذلك النصّ المـُوحّد، ولكن طرائقهم هدتهم إلى مُختلف السبل فضلاً على تنوّع سلائقهم في سلوك المنهج القويم، فذهبوا ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، كلٌّ يضربُ على وِترَه (2) .

قال الإمام أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): (القرآن واحد، نزل مِن عند واحد، ولكنّ الاختلافَ يجيء مِن قِبَل الرواة) (3) يعني: أنّ الاختلاف حادث على أثر اختلاف نَقَلَة النصّ وَهم القُرّاء.

ومِن ثَمّ قال الإمام بدر الدِّين الزركشي: القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المـُنزل على مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور،

____________________

(1) راجع: مذاهب التفسير الإسلامي لجولد تسيهر تعريب عبد الحليم النجّار، ص4.

(2) عدلنا عمّا ذكره ابن قتيبة بهذا الشأن؛ لذهابه إلى جواز القراءة بكلّ هذه الوجوه، استناداًَ إلى حديث الأحرف السبعة، وقد نبّهنا على أنّ الحديث إنّما يعني اللهجات دون القراءات السبع التي هي اجتهادات مِن القرّاء والتي توسّمت برسميّتها بعد ثلاثة قرون، راجع: التمهيد، ج2.

(3) الكافي، ج2، ص630، رقم 12.

٢٨٨

في كِتبَة الحروف أو كيفيّتها (1) أي الاختلاف الحاصل فيما بعد، في كيفية كتابته أو كيفية قراءته.

* * *

على أنّ هذه الآثار إنّما نُقلت نقلاً بالإرسال، وعلى فرض الإسناد وصحة السند فهي أخبار آحاد لا يثبت به القرآن، المعتبر فيه النقل المتواتر القطعي نقلاً على سعة الآفاق، وليس في سِوى قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ملأت الخافقَينِ.

أمّا المنقول عن ابن عبّاس فلم يَثبت وحاشاه أن يَتعدّى قراءة شيخه ومولاه إمام المتّقين.

والمنقول عن عائشة لا اعتبار به، وهكذا جاءت قراءة أبي بكر قُبيل وفاته في سَكرة الموت، روى القرطبي بإسناده إلى مسروق، قال: لمـّا احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة، فلمـّا دخلتْ عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:

لَعَمرُك ما يُغني الثراءُ ولا الغِنى

إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ

فقال أبو بكر: هلاّ قلتِ كما قال اللّه: (وجاءت سكرة الحقّ بالموت ذلك ما كنت منه تحيد).

قال القرطبي: هذه الرواية مرفوضة تجري مَجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط مِن بعض مَن نقل الحديث (2) .

وقراءة الأعرج شاذّة لا اعتداد بها.

وكان ابن مسعود يَرى جواز تبديل النصّ بالأجلي من غير أنْ يجعله قرآناً أو يعتقده نصّاً مُوحى به، وكان عمله هذا مرفوضاً لدى المحقّقين.

والمنقول عن أُبيّ ومِثله عن ابن مسعود أيضاً هي زيادات تفسيريّة لغرض الإيضاح من غير أن يكون زيادةً في النصّ أو تغييراً في لفظ القرآن.

____________________

(1) البرهان، ج1، ص318.

(2) راجع: تفسير القرطبي، ج17، ص12 - 13.

٢٨٩

على أنّه لا حجّية في مزاعم أُناس - مهما كانوا - ما لم تقع موضع قبول عامّة المسلمين فضلاً عن رفضهم إيّاها، كما وقع بالفعل.

قال ابن قتيبة: وأمّا نقصان مُصحف عبد اللّه بحذفه (أُمّ الكتاب) و(المعوّذتين)، وزيادة (أُبيّ) بسورتي القنوت، فإنّا لا نقول: إنّ عبد اللّه وأُبَيّاً أصابا، وأخطأ المهاجرون والأنصار، ولكن عبد اللّه ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أنّ المعوّذتين كانتا كالعوذة والرُقْيَة وغيرهما، وكان رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) يُعوِّذ بهما الحسن والحسين (1) ، كما كان يعوذ بـ (أعوذ بكلمات اللّه التامّة) (2) ، فظَنّ أنّهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه وعلى مخالفة الصحابة جميعاً، كما في مواضع أُخر خالف فيها جميع الأصحاب.

وإلى نحو هذا ذهب أُبيّ في دعاء القنوت؛ لأنّه رأى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) يدعو به في الصلاة دعاءً دائماً، فظنّ أنّه من القرآن، وأقام على ظنّه وعلى مخالفة الصحابة.

قال: وأمّا (فاتحة الكتاب) فإنّي أشكّ فيما رُوي عن عبد اللّه مِن تركه إثباتِها في مُصحفه، فإنْ كان هذا محفوظاً فليس يجوز لمسلم أنْ يَظنّ به الجهل بأنّها من القرآن، وكيف يُظنّ به ذلك وهو من أشدّ الصحابة عنايةً بالقرآن؟!

ولكنّه ذهب فيما يَظنّ أهل النظر إلى أنّ القرآن إنّما كُتب وجُمِع بين اللوحين؛ مَخافةَ الشكّ والنسيان والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد؛ لقِصَرِها ولأنّها تُثنّى في كلّ صلاة، ولا يجوز لأحدٍ من المسلمين ترك تعلّمِها وحفظها (3) .

قال سيّدنا الأُستاذ طاب ثراه: إنّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات؛ لأنّ الاختلاف في خصوصيات حادثة تأريخيّة - كالهجرة مثلاً - لا ينافي تواتر نفس الحادثة، على أنّ الواصل إلينا بتوسّط القرّاء إنّما هو خصوصيات قراءاتهم، وأمّا أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين وبنقل الخَلف عن السَلف وتحفّظهم عليه في الصدور

____________________

(1) أخرجه أحمد في مسنده، ج5، ص130، من حديث زر بن حبيش.

(2) أخرجه البخاري، ج4، ص179، في كتاب الأنبياء من حديث ابن عباس، وراجع: صحيح مسلم، ج4، 2080 - 2081 في كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، باب التعوّذ من سوء القضاء ودرك الشقاء، وسُنَن الدارمي، ج2، ص 289 في الاستئذان، وسنن الترمذي، ج4، ص396، في الطبّ، وسنن ابن ماجة، ج2، ص359، باب 1289، رقم 3586. ومسند أحمد، ج1، ص236.

(3) تأويل مشكل القرآن، ص42 - 49.

٢٩٠

وفي الكتابات، ولا دَخل للقرّاء بخصوصهم في ذلك أصلاً؛ ولذلك فإنّ القرآن ثابت بالتواتر، حتّى لو فرضنا أنّ هؤلاء القرّاء لم يكونوا في عالم الوجود، إنّ عظمةَ القرآن ورِفعةَ مقامِه أعلى من أنْ تتوقّف على نقل أولئك النفر المحصورين (1) .

موهم الاختلاف والتناقض زيادةً على ما سبق

أورد ابن قتيبة قِسماً من آيات نَحَلُوا فيها التناقض والاختلاف، ممّا قدّمنا الكلام فيها والإجابة عليها، وأضاف:

قوله تعالى: ( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ ) (2) ، وهو يقول في موضعٍ آخر: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ ) (3) .

وأجاب: إنّ في النار دَرَكات، والجنّة دَرَجات، وعلى قَدَرِ الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمـَثوبات، فمِن أهل النار مَن طعامه الزقّوم، ومِنهم مَن طعامه غِسلِين، ومنهم مَن شرابه الحميم، ومِنهم مَن شرابه الصديد.

والضَريع: نَبْتٌ يكون بالحجاز، يقال لرُطَبه: الشِبْرِق، لا يُسمن ولا يُشبع. قال امرؤ القيس:

فأَتبَعتُهم طَرفي وقَد حالَ دُونَهم

غَوارِبُ رَملٍ ذي أَلاءٍ وشِبْرِقِ (4)

والعرب تَصِفُه بذلك.

وغِسلِين: فِعلِين مِن غسلتُ، كأنّه الغُسالة، قال بعض المفسّرين: هو ما يسيل من أجساد المـُعذَّبينَ (كالقيح).

وهذا نحو قوله: ( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ) (5) ، وقرأ عيسى: ( سرابيلهم مِن قِطْرٍ آنٍ ) (6) ، والقِطر: النُحاس، والآن: الذي بَلَغَ مُنتهى حرّه، (وقيل المـُذاب)، كأنّ قوماً يُسربَلونَ هذا،

____________________

(1) البيان في تفسير القرآن للإمام الخوئي، ص174.

(2) الغاشية 88: 6.

(3) الحاقّة 69: 35 و36.

(4) ألاء - بوزن علاء -: شجر حَسَن المـَنظر، مُرّ الطعم دائم الاخضرار، يَنبت في الرمل والأودية، ورقه وحِملَه دباغ.

(5) إبراهيم 14: 50، والقِطران: سيّال دهني يتقاطر من بعض الأشجار كالصنوبر.

(6) شواذ ابن خالويه، ص 70.

٢٩١

وقوماً يُسربَلونَ هذا، ويَلبسون هذا تارةً، وهذا تارةً (1) .

وأمّا قولهم: (كيف يكون في النار نبت وشجر والنار تأكلهما؟!) فإنّه لم يَرِد فيما يَرى أهل النظر - واللّه أعلم - أنّ الضَريع بعينه يَنبت في النار، ولا أنّهم يأكلونه، والضَريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع وهلكت هُزْلاً، قال الهذلي - يَذكر إبلاً لم تَشبع وهلكت هُزْلاً -:

وحُبِسنَ في هَزمِ الضَريع فكلّها

حَدباءُ داميةُ اليدين حَرودُ (2)

فأراد تعالى أنّ هؤلاء قوم يَقتاتون ما لا يُشبعهم، وضَرَب الضريع مثلاً، أو يُعذّبون بالجُوع كما يُعذَّب مَن قوته الضَّريع.

وقد يكون الضَّريع وشجرة الزقّوم نبتَين مِن النار، أو من جوهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحيّاتها، لو كانت كما نعلم لم تبقَ على النار، وإنّما دلّنا اللّه سبحانه على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متّفقة للدلالة، والمعاني مختلفة.

وما في الجنّة من شجرها وثمرها وفُرُشها وجميع آلاتها على مِثل ذلك.

* * *

وقولهم: وأين قوله: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ) من قوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) ؟ (3) أيّ رابطة بين الصبور الشكور وجريان الفلك في البحور؟

لكن لم يُرِد اللّه في هذا الموضع معنى الصبر والشكر خاصّةً، وإنّما أراد: إنّ في ذلك لآيات لكلّ مؤمن، والصبر والشكر أفضل ما في المؤمن من خلال الخير، فذَكره اللّه عزّ وجلّ في هذا الموضع بأفضل صفاته، وقال في موضعٍ آخر: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً

____________________

(1) هذا بناءً على مذهبه في حجّية مختلف القراءات استناداً إلى حديث الأَحرف السبع.

(2) وفي اللسان: (حدباء بادية الضلوع حَرودُ)، هزم الضريع: ما تكسّر منه. والحَرود: التي لا تكاد تدر لبناً. وفي مقاييس اللغة مادة (ضرع): (وتركن في هزم الضريع...).

(3) لقمان 31: 31.

٢٩٢

لِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، وفي موضع آخر: ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (2) ، و ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (3) ، و ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَاب ) (3) ، يعني المؤمنين.

(فالمعنّي بهذه الآيات وبهذه التعابير هم المؤمنون محضاً، وإنّما جاءت الأوصاف الخاصّة بهم عناوين مُشيرة إلى ذاك المعنون بالذات، من غير خصوصية لذات الأوصاف).

ومِثله قوله تعالى في قصّة سبأ: ( وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (5) ، وهذا كما تقول: إنّ في ذلك لآية لكلّ موحّدٍ مُصلٍّ، ولكلّ فاضلٍ تقيّ، وإنّما تُريد المسلمين حقّاً (6) .

والخلاصة: أنّ هناك فرقاً بين أَخذ الأوصاف عناوين مشيرة إلى الموضوع الأصل فلا رابط بينها وبين الحكم المترتّب عليها في القضيّة، وبين أَخذها مواضيع هي علل وأسباب لثبوت تلك الأحكام المترتّبة، والآيات المـُنوّه عنها هي من قبيل النوع الأَوّل؛ لتكون الأوصاف خواصّ لازمة للموضوع من غير أن يكون لها دخل في موضوعيّة الموضوع، الأمر الذي حقّقه علماء الأُصول.

* * *

وقوله: ( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) (7) ، فإنّما يريد بالكفّار هاهنا الزُرّاع، واحدهم كافر، وإنّما سُمّي كافراً؛ لأنّه إذا ألقى البَذر في الأرض كَفََره، أي غطّاه وسَتَره، وكلّ شيءٍ غَطّيته فقد كَفَرَته (8) ، ومنه قيل: تَكفّر فلان في السلاح: إذا تغطّى، ومنه قيل للّيل: كافر: لأنّه يَستر بظُلمته كلّ شيء، ومنه قول الشاعر (هو لبيد بن ربيعة):

يعلُو طَريقَةَ مَتنِها متواتراً

في ليلةٍ كَفَرَ النُجومَ غَمامُها (9)

____________________

(1) الحجر 15: 77.

(2) النحل 16: 69.

(3) النحل 16: 67.

(4) الرعد 13: 19.

(5) سبأ 34: 19، وانظر: إبراهيم 14: 5 والشورى 42: 33.

(6) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص75.

(7) الحديد 57: 20.

(8) وإنّما يقال للمـُلحِد (كافر)؛ لأنه غطّى فَطَرته وسَتَر نداء ذاته بالوحدانيّة.

(9) أي يعلو طَريقَة مَتنِ هذه البقرة مطرٌ مُتتابع في ليلةٍ ظَلماء على أثر تراكم السُحب التي غطّت وجه النجوم، والطريقة: خطّة مخالفة للون البقرة، والمتنان: مكتنفا الظهر، وقد استشهد بهذا البيت الطبري في التفسير، ج1، ص86، وابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن، ص76.

٢٩٣

وقالوا في قوله تعالى: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) : (1) استثناؤه المشيئة من الخلود يدلّ على الزوال، وإلاّ فلا معنى للاستثناء، ثُمّ قال: أي غير مقطوع!

وقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (2) أي غير مقطوع ومن غير أذى، فكيف التوفيق؟!

قال ابن قتيبة في الإجابة على ذلك: إنّ للعرب في معنى (الأبد) ألفاظاً يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طمى البحر أي ارتفع ماؤه وامتلأ، وما أقام الجبل، وما دامت السماوات والأرض، في أشباه لهذا كثيرة، يُريدون: لا أفعله أبداً؛ لأنّ هذه المعاني عندهم لا تتغيّر عن أحوالها أبداً، فخاطبهم اللّه بما يستعملونه، فقال: أي مِقدار دوامهما، وذلك مدّة العالم.

وللسماء والأرض وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما، يقول اللّه تعالى: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ) (3) ، ويقول: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) (4) .

أراد أنّهم خالدون فيها مدّة العالم، سوى ما شاء اللّه أنْ يزيدهم من الخلود على مدّة العالم، و(إلاّ) في هذا الموضع بمعنى (سوى). ومِثله في الكلام: لأَسكُننّ في هذه الدار حولاً إلاّ ما شئت، تريد: سوى ما شئت أن أزيد على الحَول.

قال: هذا وجه، ووجه آخر، وهو: أنْ يُجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وإنْ كانتا قد تتغيّران، وتُستثنى المشيئة من دوامهما؛ لأنّ أهل الجنّة وأهل النار قد كانوا في وقتٍ من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا، لا في الجنّة، فكأنّه قال: خالدينَ في الجنّة وخالدينَ في النار دوام السماء والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.

____________________

(1) هود 11: 108.

(2) فصّلت 41: 8.

(3) إبراهيم 14: 48.

(4) الأنبياء 21: 104.

٢٩٤

وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون الاستثناء من الخلود مَكث أهل الذنوب من المسلمين في النار، حتّى تَلحقهم رحمة اللّه وشفاعة رسوله، فيخرجوا منها إلى الجنّة، فكأنّه قال سبحانه: خالدينَ في النار مادامت السماوات والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من إخراج المذنبينَ من المسلمين إلى الجنّة، وخالدين في الجنّة مادامت السماوات والأرض، إلاّ ما شاء ربّك من إدخال المذنبين النار مدّةً من المدد ثُمّ يصيرون إلى الجنّة (1) .

هذا ما ذَكَره ابن قتيبة بهذا الشأن، والآيتان من مشكل القرآن، على حدّ تعبير المـُفسّر الكبير أبي عليّ الطبرسي، وأفاد هو هنا وجوهاً لحلّ الإشكال نَذكرها بالتالي، ولنبدأ بالآيتين، بكاملتهما:

* * *

قال تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (2) .

فقد وقع الاستثناء بشأن كلّ من الأشقياء والسُعداء، أمّا الاستثناء بشأن الأشقياء فلا موضع للكلام فيه؛ نظراً لأمرين:

أحدهما: أنّ هذا الاستثناء لم يقع بشأن المجموع من حيث المجموع، بل بشأن الجميع حسب الأفراد، فالجميع محكومون بالخلود في جهنّم إلاّ ما شاء ربّك بشأن بعضهم، ولعلّهم الأكثر حسب مقتضى الذنوب التي ارتكبوها، ولعلّها تقع موضع عفو ربّهم الكريم.

ثانيهما: أنّ الشقاء إنّما هو في مرتبة الاقتضاء للخلود، وليس علّةً تامّة؛ ومِن ثَمّ صحّ الاستثناء حسب مشيئة الربّ إذا تحقّقت أسبابه في حين.

هذا فضلاً عن أنّ مخالفة الوعيد لا ضَير فيه ولا حَزازة فيه على الكريم.

____________________

(1) تأويل مشكل القرآن، ص76 - 78.

(2) هود 11: 105 - 108.

٢٩٥

إنّما الكلام والإشكال وقوع الاستثناء بشأن السُعداء حيث وَعَدَهم بالخلود، والكريم لا يُخلف الميعاد.

قال الطبرسي: اختلف العلماء في تأويل هذا في الآيتَين، وهما من المواضع المشكلة في القرآن، والإشكال فيه من وجهَين: أحدهما: تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات والأرض، والآخر: معنى الاستثناء بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) .

فالأَوّل فيه أقوال:

أحدها: أنّ المراد ما دامت السماواتُ والأرضُ مبدّلتَين، أي مادامت سماء الآخرة وأرضها، وهما لا يفنيان إذا أُعيدا بعد الإفناء، عن الضحّاك والجبّائي.

وثانيها: أنّ المراد ما دامت سماوات الجنّة والنار وأرضهما، وكلّ ما علاك سماء وكلّ ما استقرّ عليه قدمُك أرض، وهو قريبٌ من الأَوّل.

وثالثها: أنّ المراد ما دامت الآخرة، وهي دائمة أبداً، كما أنّ دوام السماء والأرض في الدنيا قَدَر مدّة بقائها، عن الحسن.

ورابعها: أنّه لا يُراد به السماء والأرض بعينهما، بل المراد التبعيد، فإنّ للعرب ألفاظاً للتبعيد في معنى التأبيد، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السماء والأرض، وما نَبتَ النَبتُ، وما أَطّت الإبل، وما اختلف الجرّة والدرّة، وما ذرّ شارق، وفي أشباه ذلك كثرة، ظنّاً منهم أنّ هذه الأشياء لا تتغيّر، ويَرون بذلك التأبيد لا التوقيت، فخاطبهم اللّه سبحانه بالمتعارف مِن كلامهم على قَدَر عقولهم وما يعرفون.

قال عمرو بن معدي كرب:

وكلُّ أَخٍ مُفارِقُه أخوهُ

لَعَمرُ أَبيكَ إلاّ الفَرقَدانِ

وقال زهير:

أَلا لا أَرى على الحَوادث باقياً

ولا خالِداً إلاّ الجبالَ الرواسيا

وإلاّ السماءَ والنجومَ وربَّنا

وأيّامَنا مَعدودةً والليالِيا

لأنّه توهّم أنّ هذه الأشياء لا تفنى، وتَخلد.

قلت: وهذا الوجه الرابع هو الرأي السديد حسب الظاهر.

٢٩٦

وأمّا الكلام في الاستثناء فقد اختلف فيه أقوال العلماء على وجوه:

أحدها: أنّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار، والزيادة من النعيم لأهل الجنّة، والتقدير: إلاّ ما شاء ربُّك من الزيادة على هذا المقدار (أي المـُضاعفة في العقوبة والمثوبة، إضافةً إلى جانب الخلود، من أنواع العقوبة والنعيم).

وهذا كما يقول الرجل لصاحبه: لي عليك ألف دينار إلاّ الألفَين اللذَين أقرضتكهما وقت كذا، فالأَلفان زيادة على الألف بغير شكّ؛ لأنّ الكثير لا يُستثنى من القليل، عن الزجّاج والفرّاء وعليّ بن عيسى وجماعة.

وعلى هذا فيكون (إلاّ) بمعنى (سوى)، أي سوى ما شاء ربُّك، كما يقال: ما كان معنا رجل إلاّ زيد، أي سوى زيد.

وثانيها: أنّ الاستثناء واقع على مقامهم في المـَحشر والحساب؛ لأنّهم حينئذٍ ليسوا في جنّة ولا نار، ومدّة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة؛ لأنّه تعالى لو قال (خالدينَ فيها أبداً) ولم يستثنِ لظنّ الظانّ أنّهم في النار والجنّة من لَدُن نزول الآية أو من انقطاع التكليف، فحصل للاستثناء فائدة، عن المازني وغيره، واختاره البلخي.

فإن قيل: كيف يُستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب: أنّ ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل دخولهم فيها.

وثالثها: أنّ الاستثناء الأَوّل يتصل بقوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، وتقديره: إلاّ ما شاء ربّك من [ سائر ] أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربَين، ولا يتعلّق الاستثناء بالخلود، وفي أهل الجنّة يتّصل بما دلّ عليه الكلام، فكأنّه قال: لهم فيها نعيم إلاّ ما شاء ربّك من أنواع النعيم، وإنّما دلّ عليه قوله: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، عن الزجّاج.

ورابعها: أنْ يكون (إلاّ) بمعنى الواو، أي: وما شاء ربّك من الزيادة، عن الفرّاء. واستشهد على ذلك بقول الشاعر:

وأرى لها داراً بأَغدَرَةِ السي

دان لم يَدرس لها رسمُ

إلاّ رماداً هامِداً رفعتْ

عنه الرّياحَ خوالدٌ سُحمُ (1)

____________________

(1) أغدرة السيدان: موضع، والخوالد: الأثافي، وهي الأحجار الثلاثة التي يوضع عليها القدر، والسُحمُ: السود.

٢٩٧

قال: والمراد بـ (إلاّ) هاهنا (الواو)؛ وإلاّ كان الكلام متناقضاً، وهذا الوجه قد ضعّفه المحقّقون من النحاة.

وخامسها: أنّ المراد بـ ( الَّذِينَ شَقُوا ) من أُدخل في النار من أهل التوحيد، الّذين ضمّوا إلى إيمانهم وطاعاتهم ارتكاب المعاصي، فقال سبحانه: إنّهم معاقبون في النار إلاّ ما شاء ربّك من إخراجهم إلى الجنّة وإثابتهم على الطاعات، ويجوز أنْ يُريد بـ ( الَّذِينَ شَقُوا ) جميع الداخلينَ إلى جهنّم، ثُمّ استثنى بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) أهل الطاعات، وقد يكون (ما) بمعنى (مَن) أي: إلاّ مَن شاء ربّك.

وأمّا في أهل الجنّة فهو استثناء بحسب ما تقدّموه في النّار، وتكون (ما) بمعناها ويكون الاستثناء من الزمان، بخلاف الأَوّل الذي كان استثناء مِن الأعيان، ويكون ( الَّذِينَ شَقُوا ) - بناءاً على هذا القول - هم الذي سَعِدوا بأعيانهم، وإنّما أجرى عليهم كلّ لفظ في الحال التي تَليق به، فإذا أُدخلوا في النار وعُوقبوا فيها فهم أهل الشقاء، وإذا نُقلوا منها إلى الجنّة فهم أهل السعادة، وهذا قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وقتادة والسدّي والضحّاك وجماعة من المفسّرين.

وروى أبو روق عن الضحّاك عن ابن عباس قال: ( الَّذِينَ شَقُوا ) ليس فيهم كافر، وإنّما هم قوم من أهل التوحيد يَدخلون النار بذنوبهم ثُمّ يتفضّل الله عليهم فيُخرجهم من النار إلى الجنّة، فيكونون أشقياء في حال، سعداء في حالٍ أخرى.

قال الطبرسي: وهذا القول هو المختار المـُعوّل عليه.

وسادسها: أنّ تعليق ذلك بالمشيئة، على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج؛ لأنّ الله تعالى لا يشاء إلاّ تخليدهم على ما حَكَم به، فكأنّه تعليق لِما لا يكون بما لا يكون؛ لأنّه لا يشاء أنْ يخرجهم منها.

وسابعها: أنّ الله سبحانه استثنى ثم عزم بقوله: ( رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) أنّه أراد أنْ يُخلّدهم، قاله الحسن.

٢٩٨

وقريب منه ما قاله الزجّاج وغيره: إنّه استثناء تستثنيه العرب وتفعله، كما تقول: والله لأَضربَنّ زيداً إلاّ أنْ أرى غير ذلك، وأنت عازم على ضربه، والمعنى في الاستثناء على هذا: أنّي لو شئت أنْ لا أضربه لفعلت.

وثامنها: أنّه يعني بقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقَين، قاله يحيى بن سلام البصري، واحتجّ بقوله تعالى: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ) (1) ، ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) (2) ، قال: إنّ الزُمرة تدخل بعد الزُمرة، فلابدّ أن يقع بينهما تفاوت في الدخول، والاستثناءان على هذا من الزمان.

وتاسعها: أنّ المعنى: خالدون في النار، دائمون فيها مدّة كونهم في القبور، مادامت السماوات والأرض في الدنيا، وإذا فُنيتا وعُدِمَتا انقطع عقابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، وقوله: ( إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) استثناء وقع على ما يكون في الآخرة. أورده الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه وقال: ذَكَره قوم من أصحابنا في التفسير.

وعاشرها: أنّ المراد: إلاّ ما شاء ربّك أن يتجاوز عنهم، والاستثناء يكون على هذا من الأعيان.

وقال في الذين سَعِدوا: يتأتّى فيهم جميع الوجوه التي ذُكرت في أهل الشقاء، إلاّ ما ذكروه من جواز إخراج بعض الأشقياء من تناول الوعيد لهم وإخراجهم من النار، فإنّ ذلك لا يتأتّى هنا؛ لإجماع الأُمّة على أنّ مَن استحقّ الثواب فلابدّ أن يَدخل الجنّة ولا يخرج منها بعد الدخول، لقوله تعالى: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) أي غير مقطوع (3) .

* * *

قلت: والذي يترجّح في النظر أنّ مثل هذا التعليق على المشيئة في كلامه تعالى أمر عاديّ، إذا ما لاحظنا شيمة الأكابر حيث لا يُحتّمون على أنفسهم أمراً ليكونَ لِزاماً عليهم فيطالبوا بإنجازه، وإن كانوا يُوفون بما وعَدوا كرامةً وفضلاً لا تكليفاً وإلزاماً، ومِن ثَمّ ترى

____________________

(1) الزُمر 39: 71.

(2) الزمر 39: 73.

(3) مجمع البيان، ج 5، ص 194 - 196 مع تصرّف يسير.

٢٩٩

أنّ أكثر وعوده تعالى - التي جاءت في القرآن كانت بصورة خلق الرجاء في نُفوس الموعود لهم - مبدوءة بلفظة (لعلّ) و (عسى) ونحوهما، ممّا يجعل الإنجاز مُعلّقاً على مشيئته واقتضاء حِكمته وليس حتماً عليه في ظاهر الوعد، وإن كان الله يفي بما وَعَد فضلاً ومنّةً، ولا يُخلف الميعاد.

يقول تعالى مخاطباً لنبيّه: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ ) (1) ، فقد تلقّاه النبيّ وعداً حتماً وإن كان بصورة التعليق على المشيئة.

وقال: ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (2) ، فهو وعدٌ بمقام الشفاعة، ولسوف يعطيه ربّه فيرضى (3) ، وإن كان الوعد وقع ظاهراً بصورة خَلق الرجاء.

وقال بشأن المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً: ( فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) (4) ، فأولئك معفوّ عنهم لا محالة؛ ومِن ثَمّ جاء التعقيب بأنّه تعالى عفوّ غفور، غير أنّ الوعد وقع ظاهراً بصورة خَلق الرجاء دون الحتم الإلزامي.

وقال: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (5) ، لا شكّ أنّه تعالى سَيرحم أولئك الذين اتّبعوا الكتاب واتّقوا، لكنّ الوعد وقع بغير صورة الحتم عليه تعالى، والآيات من هذا القبيل كثيرة.

* * *

والتعليق على المشيئة بشأن خلود الأشقياء في النار والسعداء في نعيم الجنان من هذا القبيل، حتّى لا يكون لِزاماً عليه تعالى فيما أَوعَد أو وَعَد، ومِن ثَمّ عقّب المشيئة بشأن الأشقياء بقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) ، يعني: وإن كان الإيعاد بالخلود وقع بشأنهم حسب

____________________

(1) الأعلى 87: 6 و 7.

(2) الإسراء 17: 79.

(3) ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) الضحى 93: 5.

(4) النساء 4: 99.

(5) الأنعام 6: 155.

٣٠٠