شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 265089
تحميل: 11465

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265089 / تحميل: 11465
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقال الزمخشري: (مِن) الأُولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للبيان، أو الأَوّليان للابتداء والآخرة للتبعيض (1) ، فالمعنى على الأَوّل: ونُنزّل مِن السماء شيئاً من الجِبال الكائنة مِن البَرد، وعلى الثاني: ونُنزّل مِن السماء من جبالٍ فيها شيئاً من البرد، فقَدّر المفعول به ولم يَجعل (مِن) زائدةً.

والذي ذَكَره الزمخشري أصحّ؛ لأنّ التقدير شائع في كلام العرب ولا سيّما مع معلوميّتِه كما هنا، قال ابن مالك: وحذف ما يُعلم جائز، أمّ زيادة (مِن) في الإيجاب، فعلى فرض ثبوته فهو أمرٌ شاذّ، ولا يجوز حَمل القرآن عليه.

ومعنى الآية على ذلك: أنّه تعالى يُنزّل من السّماء ماءً من جبالٍ فيها - هي السُحب الرُكاميّة، وهي النوع الأَهمّ من السُحب؛ لأنّها قد تمتدّ عموديّاً عِبر 15 أو 20 كيلومتراً، فتصل إلى طَبقات من الجوّ باردةٍ جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى 60 أو 70 درجة مئويّة تحت الصفر؛ وبذلك يتكوّن البَرَد (خيوط ثلجيّة) في أَعالي تلك السُحب -.

وقوله: (مِن بَرد) بيان لتكوّن تلك السُحب الجباليّة (الرُكاميّة) ولو باعتبار قِمَمها المتكوّن فيها الخيوط الثلجيّة (البرد).

والمعروف علميّاً أنّ نموّ البَرد في أعالي السُحب الرُكاميّة يُعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائيّة سالبة، وأنّه عندما يَتساقط داخل السَّحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يَذوب ذلك البَرد أو يتميّع ويُعطي انفصال شحنات كهربائيّة موجبة، وعندما لا يَقوى الهواء على عَزل الشُحنة السالبة العُليا عن الشُحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة بَرق، ويَنجم عن التسخين الشديد المـُفاجئ الذي يُحدثه البَرق أنْ يتمدّد الهواء فجأةً ويتمزّق مُحدثاً الرَعد. وما جَلجَلة الرَعد إلاّ عملية طبيعيّة بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث من قواعد السُحب لصوت الرَعد الأصلي (2) .

____________________

(1) الكشاف، ج 3، ص 246.

(2) راجع ما سجّلناه بهذا في حقل الإعجاز العلمي للقرآن في التمهيد، ج 6.

٣٤١

وبذلك يبدو وجهُ مناسبة التعقيب بقوله تعالى: ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) وكذا عند الحديث عن السَّحاب الثِقال (1) ، فإنّ البرق وليد هكذا سُحب رُكاميّة ثقيلة (جَبليّة).

قال سيّد قطب: إنّ يد الله تُزجي السَّحاب وتدفعه من مكانٍ إلى مكان، ثُمّ تؤلّف بينه وتجمعه، فإذا هو رُكام بعضه فوق بعض، فإذا ثَقُل خرج منه الماء والوَبْلُ الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قِطع البَرد الثلجيّة الصغيرة... ومَشهد السُحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السُحب أو تسير بينها، فإذا المـَشهد مشهد الجبال حقّاً بضخامتها ومَساقطها وارتفاعاتها وانخفاضاتها، وإنّه لتعبير مُصوّر للحقيقة التي لم يرَها الناس إلاّ بعد ما رَكِبوا الطائرات (2) ، بل ويُمكن مشاهدتها في الصحاري الواسعة عن بُعد.

7 - ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)

قال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) (3) .

ما تعني المثليّة؟ هل هي في الصُنع والإتقان؟ أم في العدد؟ وما هُنّ على هذا الفَرض؟

ولم تُذكر الأرض في القرآن إلاّ مفردةً سِوى في هذا الموضع، حيث شُبهة إرادة التعدّد إلى سبع أرضين، كما جاء في الحديث ودار على الألسن!

وفُسّر التعدّد من وجوه:

1 - سبع قطاع من الأرض على وجهها من أقاليم أو قارّات.

2 - سبع طِباق من الأرض في قِشرتها المتركّبة من طَبقات (4) .

____________________

(1) الرعد 13: 12، والجمع في (ثِقال) باعتبار كون (السَّحاب) اسم جنس يُفيد الجمع، واحدتها سَحابة.

(2) في ظِلال القرآن، ج18، ص109 - 110، المجلّد 6.

(3) الطلاق 65: 12.

(4) راجع: الميزان، ج19، ص378، وتفسير نمونه، ج24، ص261.

٣٤٢

3 - الكواكب السبع السيّارة، كلّ كوكبة - ومنها أرضنا - أرض، والغلاف الهوائي المحيط بها سماء (1) .

4 - فوق كلّ سماء بعد أرضنا أرض وفوقها سماء، فهناك سبع أرضين بعضها فوق بعض لسبع سماوات (2) .

تقاسيم الأرض

قَسّم الأقدمون البلادَ الآهِلة من الرُبع المعمور في القطاع الشمالي إلى سبع مناطق جغرافيّة طولاً، وجاء المتأخّرون ليُقسّموها تارةً على حسب المناخ الطبيعي إلى سبعة أقاليم: واحدة استوائيّة، واثنتان حارّتان حتّى درجة 5/23 عرضاً في جانبَي خطّ الاستواء شمالاً وجنوباً، واثنتان اعتداليتَان ما بعد خطّ الميل الأعظم فإلى مدارَي الخطّ القطبي، والأخيرتان منطقتا القُطبَين الشمالي والجنوبي.

وأُخرى إلى قارات مأَلوفة، خمسة منها ظاهرة: آسيا، أُوربا، أفريقيا، استراليا، أمريكا، واثنتان هما قُطبا الشمال والجنوب في غطاء من الثلوج.

مُحتَملات ثلاثة

قال الحجّة البلاغي: يُحتَمل في قوله تعالى: ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) وجوه ثلاثة:

الأَوّل: أنْ يُراد مِثلهنّ في الطَبقات، باعتبار اختلاف طَبقات الأرض في البدائع والآثار.

الثاني: أنْ يُراد مِثلهنّ في عدد القِطع والمواضع المـُتعدّ بها كآسيا وأُوربا وأفريقيا وأمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة واستراليا، وأرض لم تُكشف بعد أو لاشتها الحوادث البحريّة وفتّتتها بالكلّية، أو بقي منها بصورة جُزُر متفرّقة صغيرة، أو هي تحتَ القُطب الجنوبي على ما يَظنّ البعض.

____________________

(1) راجع: تفسير الجواهر، ج1، ص49.

(2) راجع: الهيئة والإسلام، ص179، وتفسير الميزان، ج19، ص379 - 380.

٣٤٣

الثالث: أنْ يُراد بالمـُماثل للسماوات هو غير أرضنا بل ما هو من نوعها، فيُراد منه ذات السيّارات على الهيئة الجديدة، أو ما هو مسكون من الكواكب ولم يَظهر للاكتشاف (1) .

أَرضون لا تُحصى

قال الشيخ الطنطاوي في تفسير الآية: أي وخَلق مِثلهنّ في العدد من الأرض، وهذا العدد ليس يقتضي الحصر، فإذا قلت: عندي جوادَان تَركب عليهما أنت وأخوك، فليس يَمنع أنْ يكون عندك ألف جواد وجواد، هكذا هنا.

فقد قال علماء الفَلك: إنّ أقلّ عدد مُمكن من الأَرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نُسمّيها نُجوماً لا يقلّ عن ثلاثمِئة مليون أرض... هذا فيما يَعرفه الناس، وهذا القول مِن هؤلاء ظنّيٌّ، فلم يدّعِ أَحدٌ أنّه رأى وقَطع بشيءٍ من ذلك، اللّهمّ إلاّ علماء الأَرواح، فإنّهم لمـّا سأَلوها قالتْ: عندنا كواكب آهِلة بالسُكّان لا يُحصى عددها، وفيها سكّان أنتم بالنسبة إليهم كالنَّمل بالنسبة للإنسان، وأُيّد ذلك بما نُقل عن (غاليلو) عند ما أُحضرت روحه بعد الممات (2) .

وهكذا ذكر الشيخ المراغي وعقّبه بما رُوي عن ابن مسعود: أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (ما السماوات السبع وما فيهنّ وما بينهنّ والأرضونَ السبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلاّ كحَلقةٍ مُلقاة بأرضِ فلاةٍ) (3) .

وروى ابن كثير أحاديث تَنمّ عن أَرضينَ سبع آهِلة بالسُكّان، وقد بُعث إليهم أنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ومُحمّد (عليهم السلام)، زعموا صحّة أسانيدها (4) .

وهكذا رَوَوا روايات هي أشبه بروايات إسرائيليّة، وفيها الغثّ والسمين (5) .

وفي حديث زينب العطّارة عن رسول (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّ هذه الأرضينَ واقعة تحتَ الأرض التي نَعيش عليها واحدة تحت أُخرى كلّ واحدة بالنسبة إلى الأُخرى التي تحتها كحَلقةٍ مُلقاة في فلاة قفر، حتّى تنتهي إلى السابعة، والجميع على ظَهْر دِيك، له جناحَان إلى

____________________

(1) الهدى إلى دين المصطفى، ج2، ص7 - 8.

(2) تفسير الجواهر، ج24، ص195.

(3) تفسير المراغي، ج28، ص151.

(4) تفسير ابن كثير، ج4، ص385.

(5) راجع: الدرّ المنثور، ج8، ص210 - 212، وجامع البيان، ج28، ص99.

٣٤٤

المشرق والمغرب ورِجلاه في التُخوم! والدِّيك على صخرةٍ، والصخرةُ على ظَهر حوتٍ، والحوت على بحرٍ مُظلم، والبحر على الهواء، والهواء على الثرى...) (1) .

وفي حديث الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): (هذه أرضُ الدنيا، والسماء الدنيا فوقها قبّةٌ، والأرض الثانية فوق السماء الثانية فوقها قبّةٌ، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبّةٌ، حتّى الأرض السابعة فوق السماء السادسة. والسماء السابعة فوقها قبّةٌ، وعَرش الرحمان فوق السماء السابعة... ما تحتنا إلاّ أرض واحدة - هي الدنيا - وأنّ الستّ لهُنّ فَوقنا) (2) .

وَرَووا عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): أنّ لهذه النجوم التي في السماء مُدُناً مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ واحدة بالأُخرى بعمود من نور طوله مسيرة مِئتين وخمسين سنة، كما أنّ ما بين سماءٍ وأُخرى مسيرة خمسمِئة عام، وأنّ هناك بين النجوم وبين السماء الدنيا بِحاراً تَضرب الريحُ أمواجَها؛ ولذلك تستبين النجوم صِغاراً وكباراً، في حين أنّ جميعها في حجمٍ واحدٍ سواء (3) .

وغالب الظنّ أنّها - أو جُلّها - أساطير إسرائيليّة تَسرّبت إلى التفسير والحديث، مُضافاً إليها وضع الأسناد!

المـُختار في تفسير (مِثلهنّ)

ليس في القرآن تصريح بالأَرَضين السبع، ولا إشارة سِوى ما هنا من احتمال إرادة العدد في المِثليّة! لكن تكرّر ذِكر الأرض في القرآن مفردةً إلى جنب السماوات جمعاً ممّا يُوهن جانب هذا الاحتمال.

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (4) .

( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا... ) (5) .

____________________

(1) تفسير نور الثقلين للحويزي، ج5، ص364 - 365.

(2) تفسير البرهان، ج8، ص46.

(3) بحار الأنوار، ج55، ص 90 - 91.

(4) فاطر 35: 1.

(5) فاطر 35: 41.

٣٤٥

( لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (1) .

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... ) (2) .

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) (3) .

( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ... ) (4) .

( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (5) .

( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ... ) (6) .

( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ... ) (7) .

( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ... ) (8) .

( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ... ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا... ) (9) .

إلى ما يَقرب من مِئتي موضع في القرآن، جاء اقتران الأرض واحدة بالسماوات سبعاً...!

فيا تُرى كيف يَصحّ اقتران الفرد بالجمع - في هذا الحجم من التَّكرار - لو كانت الأرض مَثل السماء في العدد السبع؟! ولا سيّما في آيات التكوين، ما المـُبرّر لذِكر الأرض واحدة لو كانت سبعاً؟!

على أن اللام ( وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) للعهد، أي الأرض المعهودة لدى المخاطبينَ وهم العرب يومذاك، ولا يعرفون سِوى هذه الأرض التي نعيش عليها! (10)

____________________

(1) النمل 27: 25.

(2) لقمان 31: 20.

(3) الروم 30: 26.

(4) النمل 27: 87.

(5) الزمر 39: 63.

(6) الشورى 42: 29.

(7) الزخرف 43: 82.

(8) الإسراء 17: 44.

(9) فصّلت 41: 9 - 12.

(10) وحتّى البشريّة اليوم لا تعرف أَرضاً بهذا الاسم سِوى التي نعيش عليها، على أنّ الأرض اسمُ عَلَمٍ شخصي لهذه الكوكبة نظير أسامي الكواكب، وليست كالسماء اسم جنس عامّ؛ ومِن ثَمّ قالوا: كلّ ما عَلاكَ سماء وما تطؤه قدمك أرض! قال تعالى: ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) ، الرّحمان 55: 10.

٣٤٦

فلابدّ أنّ هذه الأرض خُلقت مثل السماوات السبع، مَثَلاً في الإبداع والتكوين.

هذا، بالإضافة إلى أنّ التعبير بـ ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) - لو أُريد العدد - ليستدعي أن يكون من هذه الأرض (نفس كرة الأرض التي نعيش عليها) جُعلت سبعاً، الأمر الذي يعني سبع قِطاع منها وهي المناطق الكبرى المعمورة منها، وهذا هو المـُراد بالأَرضينَ السبع الواردة في الأدعية المأثورة وفي الأحاديث، ودارت على أَلسُن العارفين.

وإطلاق الأرض على المعمورة منها شائع في اللغة، وجاء في القرآن أيضاً حيث قوله تعالى - بشأن المـُفسدين -: ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ) (1) أي من البلاد العامرة حسبما فَسّره الفقهاء.

وكذا إطلاقها على مطلق البِقاع، كقوله تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ) (2) ، والمـُراد البقعة المـَيتة منها.

وبعد، فإنّ قوله تعالى: ( اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ ) ظاهرٌ كلّ الظهور في إرادة سماوات سبع، وجاءت بلفظ تنكير، وأرضٍ واحدة جاءت بلفظ تعريف، وأنّ المِثليّة تعني جانب الإبداع والتكوين، وعلى فَرض إرادة العدد فهي البِقاع والمناطق المـَعمورة منها؛ وَمِن ثَمَّ جاء بلفظ (ومن الأرض...) أي وجعل من هذه الأرض أيضاً سبعاً حسب المناطق، وإلاّ فلو كان أراد سبع كُرات مِن مِثل كُرة الأرض، لكان الأَولى أنْ يُعبّر بسبع سماوات وسبع أرضينَ، وكان أخصر وأوفى بالمعنى.

8 - ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)

يقول تعالى عن القرنين: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (3) .

الحمأ: الطين النَّتِن الذي تَغيّر لونه إلى السواد، يَرسب تحت المياه الراكدة وعلى

____________________

(1) المائدة 5: 33.

(2) يس 36: 33.

(3) الكهف 18: 86.

٣٤٧

ضفافها... وحمإٍ مسنون: (1) مُنتَن، وقُرئَ: (عينٍ حامية) أي دافية (حارّة).

قال المفسّرون: أراد ذو القرنَين أن يَبلغ بلاد المغرب، فاتّبع طريقاً تُوصله إليها، حتّى إذا انتهى من جهة المغرب بحيث لم يستطع تجاوزه ووقف على حافّة البحر الأطلانطي (المحيط الأطلسي) وجد الشمس تغرب في بحر خِضَمٍّ يضرب ماؤه إلى سواد الخُضرة، وكان معروفاً عند العرب ببحر الظُلمات، فقد سار إلى بلاد تونس ثُمّ مراكش ووصل إلى البحر المحيط، فوجد الشمس كأنّها تغيب فيه وهو أزرق اللون يضرب إلى السواد، كأنّه حَمِئة (2) .

والمـُراد بالعين: لُجّة الماء، حيث البحر الواسع الأرجاء لا تُرى له نهاية.

قال سيّد قطب: والأرجح أنّه كان عند مصبّ أحد الأنهار (3) ، حيث تكثر الأعشاب ويتجمّع حولها طين لزج هو الحمأ، وتوجد البِرَك وكأنّها عيون الماء... فرأى الشمس تغرب هناك ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (4) .

قلت: وسوف يأتي عند الكلام عن ذي القرنَين - وأنّه كُورُش الهخامنشي على الأرجح - أنّه في فتوحاته غرباً في آسيا الصغرى توقّف على المنطقة التي تُسمّى باسم: إقليم أيونيّة، وهو الإقليم الغربي من قارّة آسيا الصغرى المـُطلّ على مَضيق الدردنيل وبحر إيجه وما يُلاصق الساحل من جُزر وأشباه جزر، حين توقّف كورش عند شواطئ بحر إيجه - وهي جزء من سواحل تركيا على البحر المتوسّط - وجد الشاطئ كثير التعاريج، حيث تتداخل أَلسنة البحر داخل اليابس، ومِن أمثلة هذه الألسنة البحريّة خليخ هرمس ومندريس الأكبر ومندريس الأصغر... ويتعمّق خليج (أزمير) إلى الداخل بمقدار 120 كم، تحيط به الجبال البلّوريّة من الغرب إلى الشرق على حافّتيه، بحيث يتّخذ شكل العين، ويَصبّ فيه نهر (غديس) المياه العَكِرة المـُحمّلة بالطين البُركاني والتراب الأحمر من فوق هضبة الأناضول... وحين توقّف كورش عند (سارد) قرب أزمير تأمّل قرص

____________________

(1) في قوله تعالى: ( إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ، الحجر 15: 28، وراجع الآية 26 و33 من نفس السورة.

(2) راجع: تفسير المراغي، ج16، ص16.

(3) واحد معاني العين، مصبّ ماء القناة.

(4) في ظِلال القرآن، ج16، ص6، المجلّد 5، ص409.

٣٤٨

الشمس وهو يسقط عند الغروب في هذا الخليج الذي يُشبه العين تماماً... واختلطت حُمرة الغَسَق بالطين الأحمر والأسود الذي يَلفظه نهر غديس في خليج أزمير... ولعلّها هي العين الحَمِئة (الضاربة بالسواد) التي ذَكَرها القرآن (1) .

أخطاء تأريخيّة!

زعموا أنّ في القرآن أخطاءً تأريخيّة تَجعله بمعزلٍ عن الوحي الذي لا يَحتمل الخطأ! فحاولوا جهدهم أنْ يعثروا على بيّنة من ذلك، ولكنّهم تعثّروا وفشلوا وخاب ظنّهم.

إذ ما حسبوه شاهداً لا يَعدو أوهاماً تُنبؤكَ عن مَبلغ جهلهم بمفاهيم القرآن ومصطلحاته الخاصّة!

مشكلة هامان

فمن ذلك ما زَعَموه بشأن (هامان) الذي جاء رِدفاً لاسم فرعون في مواضع من القرآن باعتباره وزيراً له أو من كِبار المسؤولينَ في بلاطه، وقد أمره فرعون ببناء صرحٍ - حسبوه بُرج بابل - ليَطّلع إلى إله موسى!

وقد أثارت مسألة (هامان) جدلاً كبيراً مُنذ قُرون على يد أبناء إسرائيل، وأخيراً على يد كبار المـُستشرقين أمثال (نولدكه) ازدراءً بشأن القرآن العظيم.

جاء اسم (هامان) في القرآن في ستّ مواضع:

( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (2) .

( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) (3) .

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ... فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (4) .

____________________

(1) مفاهيم جغرافيّة، ص243 - 244.

(2) القصص 28: 6.

(3) القصص 28: 8.

(4) القصص 28: 38.

٣٤٩

( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ ) (1) .

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (2) .

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (3) .

يَبدو من هذه الآيات أنّ (هامان) هو على الغالِب وزير فرعون؛ ولهذا أكّد المفسّرون أنّ هامان هذا كان وزير فرعون مصر الّذي حكم في عهد موسى (عليه السلام) والمشكلة الّتي انصبّت حوله ما إذا كان هامان قد بنى فعلاً بُرج بابل عِبر مسافات شاسعة في أرض العراق ممّا يلي الجانب الشرقي للفرات، وقد بقيت آثاره لحدّ الآن على بُعد أميال من مدينة الحلّة الفيحاء.

والبعض يقول إنّه بناه فعلاً وسخّر لذلك خمسين ألف عامل عَكفوا على بنائه، وعندما شيّده صَعَد فرعون إلى أعلاه ورمى بنشّابة ناحية السماء، فأراد اللّه أنْ يَفتنهم فردّه إليهم مُلطّخاً بالدم، وعندها قال فرعون: لقد قتلتُ إله موسى! والقصّة طويلة سطّرها أصحاب الأساطير فيما لفّقوه عن قصص الأنبياء.

غير أنّ المؤكّد أنّ بُرْجاً لا يرتفع من الأرض سِوى عدة عشرات الأمتار، لا يمكن أنْ يَبلغ به فرعون أسباب السماوات حتّى ولو صعد على أعالي الجبال الشامخات التي يُعدّ برج بابل تجاهها تلاًّ صغيراً؛ ولهذا قال الفخر الرازي: لعلّ فرعون قد أوهم ببناء البُرج لكنّه لم يفعل، أو أنّه قال ذلك ساخراً وليبيّن أنّه لا يمكن إثبات إله في السماء إلاّ بالصعود إليه (4) .

وهكذا قال المراغي: وقال فرعون يا هامان ابن لي قصراً مُنيفاً عالي الذُّرا؛ علَّني

____________________

(1) العنكبوت 29: 39.

(2) غافر 40: 23 و24.

(3) غافر 40: 36 و37.

(4) التفسير الكبير، ج24، ص253.

٣٥٠

أَبلغ أبواب السماء وطُرقها، حتّى إذا وصلتُ إليها رأيتُ إله موسى! لا يريد بذلك سِوى الاستهزاء والتهكّم وتكذيب دعوى الرسالة (1) .

قال سيّد قطب: هكذا يُموّه فرعون الطاغية ويُحاور ويُداور؛ كي لا يواجه الحقّ جهرةً ولا يعترف بدعوة الوحدانيّة التي تهزّ عرشه وتُهدّد الأساطير التي قام عليها مُلكه، وبعيد عن الاحتمال أنْ يكون هذا فهم فرعون وإدراكه، وبعيد أن يكون جادّاً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادّي الساذج، إنّما هو الاستهتار والسخرية... وكلّ ذلك يدلّ على إصراره على ضلاله وتبجّحه في جحوده ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (ولكن) وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبَابٍ ) (2) صائر إلى الخيبة والدمار (3) .

وعلى أيّة حال، فليس في القرآن ما يشير بأنّه بنى الصَرح وصعده ورمى بسهمه حسبما سطّره أصحاب الأساطير، كلّ ذلك لم يَذكره القرآن ولا جاء في التوراة (4) ، ولم يُعرف المصدر الذي اعتمده هؤلاء القصّاصون ومهنتهم الاختلاق.

* * *

وأمّا مسألة هامان فهل كان لفرعون وزيرٌ بهذا الاسم؟

قال الإمام الرازي: قالت اليهود: أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أنّ هامان لم يكن على عهد فرعون وموسى وإنّما جاء بعدهما بزمانٍ مديدٍ ودهرٍ داهر، فالقول بأنّ هامان كان وزيراً لفرعون، خطأٌ في التأريخ، على أنّه لو كان لم يكن رجلاً خامل الذِكر لم يسجّله التأريخ ولا جاء ذِكره في تأريخ حياة بني إسرائيل (5) .

نعم، جاء في العهد القديم سِفر (أستير) الإصحاح الثالث: أنّ هامان بن همداثا كان وزيراً للملك الفارسي (خشايارشا) الذي تصدّى للمـُلك بعد أبيه (داريوش الكبير) سنة (486 ق م) (6) أي بَعْدَ فرعون موسى بِعِدَّة قرون، وكان مقرّباً لديه، ثُمّ غَضب عليه وصَلَبه

____________________

(1) تفسير المراغي، ج24، ص71.

(2) غافر 40: 37.

(3) في ظِلال القرآن، المجلّد 7، ص183 - 184، ج24، ص71 - 72.

(4) قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجّار، ص186.

(5) التفسير الكبير، ج27، ص66.

(6) راجع: تأريخ إيران، ص92.

٣٥١

وجَعَل مكانه رجلاً من اليهود اسمه (مردخاي) وكان عمّ المـَلِكة أستير زوجة الملك (1) .

وهكذا زَعم المستشرق الألماني (تيودور نولدكه) ( Theodore Noldeke ) في مقالٍ نشره أَوّلاً حوالي عام 1887م في دائرة المعارف البريطانيّة (الطبعة9) (2) ، وأعاد نشره في كتابه تأريخ القرآن عام 1892م (3) .

غير أنّ المصادر التأريخيّة - الإيرانيّة وغيرها - خلوٌ عن ذِكر رجل بهذا الاسم استَوزَرَه المـَلِك (خشايارشا) ثُمّ عَزله وصَلبه وأقام مكانه رجلاً باسم (مَرْدُخاي) - كما تقوله التوراة الإسرائيليّة -! وغالب الظنّ أنّه من أساطيرهم هم البائدة ولا واقع لها أساساً.

على أنّ (هامان) الذي جاء ذِكره في القرآن - مُرْدَفاً باسم فرعون وقارون - اسم مُعرَّب قطعاً، كما هي العادة عند العرب عند التلهّج بألفاظ أجنبيّة حتّى العِبريّات حسب المعهود، فإبراهيم، مُعرّب أبراهام، أصله أب رام أي الجدّ الأعلى، وموسى، مُعرَّب مُوشِى أي المـُشال من الماء، وسامِري، معرّب شمروني حسبما نذكر وغير ذلك، وقد قيل: إنّ (هامان) معرّب (آمون) أو (أمانا) كان يُلقَّب به رؤساء كَهَنة مَعبد أمون كبير آلهة المصريّين في مدينة طيبة في أعالي النيل.

ولا غَرْوَ فإنّ المنسوب إلى مكان مقدّس يَحمل اسمه بالطبع، كما أنّ فرعون هو لقب سلاطين مصر كان بمعنى البيت الأعظم، نظير ما لُقّب الخلفاء العثمانيون بالباب العالي (4) .

وتُمثّل بعض النقوش القديمة (البيت الأعظم) الذي يَجلس فيه المـَلِك للحكم والذي تتجمّع فيه دواوين الحكومة، وقد اشتقّت من اسم هذا البيت الأعظم الذي كان المصريّون يُطلقون عليه لفظ (بيرو) والذي تَرجمه اليهود إلى (فرعوه) أو (فرعون)،

____________________

(1) العهد القديم، ص782، وراجع: قاموس الكتاب المقدّس ص918.

(2) راجع: Encyclopaedia pitanica ، 9 eme ed . tome XVI ، p 597 (دائرة المعارف البريطانيّة، ص597، الطبعة التاسعة).

(3) راجع: المقال في كتابه 58 - 21. The Sketches from Eastern History ، 1892، pp 21 - 58 (الدفاع عن القرآن ضدّ منتقديه، ص184).

(4) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص649، والموسوعة المصريّة، ص124؛ وفرهنك معين، قسم الأعلام، ج5، ص61.

٣٥٢

اشتُقّ مِن اسمه لقب المـَلِك نفسه (1) .

وهكذا عاد اسم (هامان) مُعرّب (آمون) أُطلق على كبير كَهَنة معبد (آمون) الذي حاز مُنذ الأُسرة التاسعة عشر مكانةً كبيرةً لدى فرعون لدرجةٍ أنّه استولى على إقليم أعالي النيل، وأصبح قائد كلّ الجيوش وكبير خِزانة الإمبراطوريّة، والمـُشرف الأعلى على معابد الآلهة (2) .

ولقد كان وزير فرعون يُراقب فعلاً كلّ أعمال البناء العموميّة والماليّة (3) ، وكان المـُشرف الأعلى على كلّ أعمال الملك، (4) وبالتالي كان كبير كَهَنة (آمون) يَشغل مَنصِب وزير فرعون.

فاسم (هامان) في القرآن يُمثّل اسم (آمون)، ويَسهل التقريب بين الاسمين عند ما نعرف أنّ (آمون) يُنطق كذلك (أمانا) ويُقصد منه بالاختصار (كَبير كَهَنة) مِثلما كان اسم فرعون - وهو اسم البيت الأعظم للحكومة - أصبح لقباً يُلقّب به مُلوك مصر الذين يحكمون البلاد، فهامان لقب كبير كَهَنة (آمون) الذي كان يَشغل منصِب وزارة فرعون في الشؤون الماليّة والعمرانيّة (5) .

____________________

(1) راجع: قصة الحضارة لول ديورانت، ج 2، ص93، وترجمته الفارسيّة (تأريخ تمدّن) ج1، ص195.

(2) راجع: تأريخ مصر لبرستيد، ص520.

(3) راجع: ثقافة فراعين مصر لدوماس، 1965م، ص158 (باريس).

(4) المصدر. وراجع: الدفاع عن القرآن ضدّ مُنتقديه لعبد الرحمان بدوي، ص186.

(5) انظر: Encyclopeadia pitanica , 1، p 321،col ، 1: coll .1: ed 1982 (دائرة المعارف البريطانيّة، ج1، ص 321، العامود الأَوّل، طبع 1982).

جاء فيه: (مَملَكة مصر كانت في ذلك العهد (عهد الأسرتَين التاسعة عشر والعشرين) تُدار أُمورها على كاهل الديانة. وكانت تحكم البلاد آلهة على وِفق العقائد الرسميّة السائدة، وهؤلاء الآلهة مثل: أمان تهى بز باى ميليوبولس، كانوا يحكمون البلاد، ويرسمون خُطط الحكم لملوك مصر، وكانت السياسة الحاكمة هي التي تُمليها ممثّلو كَهَنة معبد، وإدارة البلاد إلى هؤلاء الكهنة، ومِن ثَمَّ حصل هؤلاء - إلى جنب القداسة - على ثروات طائلة...) واليك نصّ العبارة بالإنجليزيّة:

The religion of ancient Egypt was static and traditional, urging that the gods had given a good order and that IT was necessary for man to hold firmly to the order. When changes did occur, religion tried to incorporate them into the system as though they came from the

٣٥٣

فأَوقِد لي يا هامان على الطين!

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى... ) (1) .

أي فاصنع لي آجرّاً، واجعل لي منه قصراً شامخاً وبناءً عالياً؛ كي أصعد وأرتقي إلى السماء فأَطّلع إلى إله موسى؟

هذا... وقد لَهَج بعض مَن لا خُبرة له: أنّ البناء بالآجرّ والجصّ لم يُعهد ذلك الحين، وإنّما كانت البنايات بالأحجار والصخور كالأهرام والهيكل الكبير ببعلبك والمسرح الروماني ببُصرى وغيرها.

لكن ذهب عنه: أنّ صناعة الآجرّ واستخدامه في البنايات - وحتّى الرفيعة - قد تَقادم عهدها مُنذ بداية حياة الإنسان الحضاريّة بما يَقرب من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وحتّى في مصر القديمة عثروا على طوابيق (جمع طابوق معرّب تاوه: الآجرّ الكبير) في حَفريّات في قاع النيل يعود تأريخها إلى (5000 ق م). وهكذا وَجَدوا مقابر على ساحل النيل مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب ممّا يعود تأريخها إلى (3000 ق م).

هذا فضلاً عن بنايات آجرّيّة في بلاد مُجاورة كبُرجِ بابل وكذا مَعابد آشور والسومريّين (2500 ق م)، وأخيراً فطاقُ كسرى من بنايات شاهبور الأَوّل (241م).

____________________

creation. By the time Akhenaton took the thronze as fourth pharaoh named Amenhotep, the 18th dynasty (1539 J 1292Bc) had run for nearly 200years, and there had been a century of imperial conquest and control of foreig lands. Egypt dominated palestine, phoenicia, and Nubia. The nation was powerful, rich, and courted by lesser princes. To maintain these gains, a military and political group controlled the cuntrolled the culture. Since the Egyptian state had always been thocratic, ruled by a god or god or gods, according to traditional beliefs, this group interlicked with the priesthood. The richest and most powerful of the gods, such as Amon lf Htebes or Re of Heliopolis, it wsa held, dictated the purpose of the state. the king had to apply to the gods for oracles direccting his major activities. In return for wealith, elegance, and the role of the Ieading actor in a drama of imperial success, the pharaoh had reliquished his religious (and military) authority to athers . ( see also lndex: New Kinqdom ).

(1) القصص 28: 38.

٣٥٤

وغير ذلك كثير وكان معروفاً ذلك العهد، بل وقَبْله بكثير، وإليك بعض الحديث عن ذلك:

صناعة الآجُرّ واستخدامه مُنذ عهد قديم!

لعلّ مِن أقدم صنائع الإنسان هي صَنعة الآجُرّ من الطين المشويّ بالنار، ابتدعها الإنسان مُنذ أنْ اكتشف النار وعرف مفعولها في التأثير على الطين اللازب في صنعة الخَزَف والآجُرّ والفخّار، واستخدم الآجرّ في بنايات ضخمة مُنذ عهد قديم، قد يرجع إلى عهد الحَجر منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

فقد عَثَروا في حفريّات مِن قاع النيل بمصر على قطعات مِن الآجُرّ المصنوع مِن وَحَلِ النيل ممزوجاً مع بَعَرات الإبل، يعود تأريخها إلى أبعد من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهكذا وُجِدَت على ساحل النيل آثار مقابر سُقوفها مبنيّة بالآجرّ ومغلّفة بالأخشاب، ويعود عهدها إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.

وقد استعمل الآشوريّون الآجُرّ والجصّ في بِناياتهم التقليديّة والأقواس الهلاليّة على الدروب والمحاريب في شماليّ العراق، ويعود تأريخها إلى حدود ألفي عام قبل الميلاد.

يقول (ديورانت): هناك حوالي مدينة (أُور) عاصمة مُلك السومريّين، في سُهول بين النهرَين وعلى ضِفاف مَصبّ دجلة والفرات وشواطئ خليج فارس، وُجِدَت الكثير من آثار بنايات ضخمة مبنيّة بالآجُرّ والجصّ، وفي حجم وعلى أشكال مُربّعة مُسطّحة نظير ما يُستعمل اليوم لكنّه أفخم وأَمتن، ويعود تأريخها إلى أكثر من ألفين وخمسمِئة عام قبل الميلاد.

ومدينة (بابل) وهي أقدم وأشهر وأكبر مُدن الشرق القديم، قُرب الحلّة وعلى مسافة 80 كم من بغداد - العراق اليوم، كانت بِناياتها الفخمة والقصور وبيوت الأشراف مبنيّة بالآجرّ، وكذا المعابد والأبراج العالية، ومنها بُرج بابل المعروف مبنيّ بالآجرّ، وقد استوعبت بناية البرج أكثر من خمسة وثمانين مليون آجُرّة، منها البقايا المـُبعثرة هناك،

٣٥٥

وهي على شَكل مُربّع مُسطّح متين جدّاً، كأنّه مصنوع اليوم، ويُقال لها: الطابَق - والمعروف بالعراق: الطابوق - ويعني الآجرّ الكبير، مُعرّب (تاوه) الفارسيّة.

وهذه المدنية عريقة في القِدَم، على ما جاء في وصف التوراة، باعتبارها كتاب تأريخ، ومِن آثارها المتبقّية: باب عشتار وبَلاط نبوخذ نصّر والطريق المـُلوكي، المفروش بالآجرّ الضخمة ومِلاطها القار، حسب وصف التوراة، وقد شاهدتُه بعين الوصف حينما زُرتُ البُرج بالعراق.

جاء في سِفر التكوين: أنّ الذُرّية مِن وُلد نوح ارتحلوا شرقيّ الأرض حتّى أَتَوا أرض شنعار (سهول بين النهرين - العراق) وسكنوا هناك وبَنَوا مدينةً فخمةً بلِبناتٍ مشويّةٍ على النار شيّاً، قالوا: هلمـّ نَبنِ لأنفسنا مدينةً وبُرجاً رأسه بالسماء، فجعلوا مكان اللِبن الآجرّ وبَدل الجصّ القار (1) ، وهكذا بَنَوا القصور والأبراج العالية يومذاك، ويعود تأريخ أكثر البنايات المتبقّية حتّى اليوم إلى أكثر من ألفين وخمسمِئة عام قبل الميلاد (2) .

قولة اليهود: يد اللّه مغلولة!

قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (3) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده: وقد جَعل بعضُ أهل الجَدل الآية من المـُشكلات؛ لأنّ يهود عصره يُنكرون صدور هذا القول عنهم، ولأنّه يُخالف عقائدهم ومقتضى دينهم، وممّا قالوه في حلّ الإشكال: إنّهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام، فإنّهم لمـّا سمعوا قوله تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ ) (4) قالوا: من احتاج إلى القَرض كان فقيراً عاجزاً مغلولَ اليدَين، بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخَرْص في بيان مرادهم منه،

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 11/2 - 4.

(2) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى، ج1، ص37 - 38، وقصّة الحضارة: الجزء الأَوّل من المجلّد الأَوّل، ص26، ولغت نامه دهخدا، وفرهنك معين، وتأريخ مصر القديمة (الموسوعة المصريّة): الجزء الأَوّل، المجلّد الأَوّل: وتأريخ إيران، ص182 - 184.

(3) المائدة 5: 64.

(4) البقرة 2: 245، الحديد 57: 11.

٣٥٦

وما هو إلاّ غفلة عن جرأة أمثالهم في كلّ عصرٍ على مِثل هذا القول البعيد عن الأدب بُعدَ صاحبه عن حقيقة الإيمان، ممّن ليس لهم من الدِّين إلاّ العصبيّة الجنسيّة والتقاليد القشريّة، فلا إشكال في صدوره عن بعض المـُجازفين مِن اليهود في عصر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وقد كان أكثرهم فاسقينَ فاسدينَ.

وطالما سَمِعنا ممّن يُعدَّونَ من المسلمينَ في عصرنا مِثله في الشكوى مِن اللّه عزّ وجلّ، والاعتراض عليه عند الضيق وفي إبّان المصائب.

وعبارة الآية لا تدلّ على أنّ هذا القول يقوله جميع اليهود في كلّ عصر حتّى يُجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجهاً للإشكال في الآية، وإنّما عَزَاه إلى جنسهم - في حين أنّه قول بعضهم وهو (فنحاص) رأس يهود بني قينقاع وفي روايةٍ: النباش بن قيس أحد رجالهم، وفي أُخرى: أنّه حُيَي بن أخطب - لأنّه أثرُ ما فشا فيهم من الجُرأة على اللّه وتركِ إنكار المـُنكر، والمـُقرّ للمـُنكر شريك الفاعل له.

على أنّ الناس في كلّ زمان يَعزون إلى الأُمّة ما يَسمعونه مِن بعض أفرادها - ولا سيّما إذا كان من أكابر القوم - إذا كان مِثله لا يُنكر فيهم، والقرآن يُسند إلى المتأخّرين ما قَاَله وفَعَله سلفُهم مُنذ قُرون، بِناءً على قاعدة تكافل الأُمّة وكونها كالشخص الواحد، ومِثل هذا الأُسلوب مألوفٌ في كلام الناس أيضاً (1) .

مقصوده من بعض أهل الجدل هو الإمام الرازي في تفسير الكبير (2) ، لكن ليس يهود عصره هم الذين أنكروا صدور مثل هذا القول عن سَلفهم، بل حتّى في زماننا هذا اعترضت الجالية اليهوديّة القاطنة في إيران وقدّمت اعتراضها إلى المجمع الإسلامي مُستعلمةً منشأ انتساب هذا القول إليهم.

كما أنّ ظاهر القرآن أنّ هذا هو عقيدة أسلافهم باعتبارهم أُمّة، لا بالنظر إلى آحادٍ عاصروا عهد الرسالة قالوها عن جهالةٍ أو مجازفةٍ عابرة، الأمر الذي لا يستدعي نزول قرآنٍ بشأنه!

____________________

(1) تفسير المنار، ج6، ص453.

(2) راجع: ج12، ص40.

٣٥٧

فلابدّ هناك من منشأ يمسّ عقيدتهم بالذات عقيدةً إسرائيليّةً عتيدة استدعت هذا الذمّ الشامل.

وأكثر المفسّرين على أنّ هذا القول صَدر عنهم على سبيل الإلزام (أي على طريقة الاستلزام) وهي طريقة جدليّة يُحاوَلُ فيها تبكيتُ الخصم بالأخذ عليه بما يستلزمه مذهبُه، أي لازمُ رأيه بالذات وإن لم يكن من عقيدة صاحب الحجّة، قالوا: لمـّا كثر الحثّ والترغيب على إقراض اللّه بالإنفاق في سبيله وبذل الصدقات - وجاء ذلك في كثيرٍ من الآيات - فعند ذلك جَعلت اليهود تستهزئ بعقيدة المسلمين في ربّهم؛ حيث فرضوه فقيراً مُحتاجاً إلى الاستقراض، وقالوا تهكّماً وسُخراً: ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) (1) ، فمَن كان فقيراً كان عاجزاً مكتوف اليدَين (2) .

ويرى العلاّمة الطباطبائي أنّ هذا الوجه أقرب إلى النظر (3) .

لكن في التفسير الوارد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): أنّ قولتهم هذه تعني عقيدتهم بأنّ اللّه قد فَرغ من الأمر فلا يُحدث شيئاً بعد الّذي قدّره اللّه في الأَزل، (جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) (4) فلا تغيير بعد ذلك التقدير، تلك كانت عقيدة اليهود السائدة، وتسرّبت ضمن الإسرائيليّات إلى أحاديث العامّة، فردّ اللّه عليهم بأنّ يديه مبسوطتان يتصرّف حيث يريد، ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (5) ، ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (6) ، ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) (7) ، ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (8) .

روى الشيخ بإسناده إلى هشام بن سالم عن الإمام جعفر بن مُحمّد الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (9) قال: كانوا يقولون: قد فَرغ من الأمر (10) .

وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) لسليمان بن حفص المروزي، مُتكلّم خراسان - وقد استعظم مسألة البداء في التكوين -: (أَحسبُك ضاهيتَ اليهودَ في هذا

____________________

(1) آل عمران 3: 181.

(2) مجمع البيان، ج2، ص547.

(3) تفسير الميزان، ج6، ص32.

(4) راجع: صحيح البخاري، باب القدر، ج8، ص152.

(5) الرعد 13: 39.

(6) الرحمان 55: 29.

(7) هود 11: 107، البروج 85: 16.

(8) فاطر 35: 1.

(9) المائدة 5: 64.

(10) بحار الأنوار، ج4، ص113، رقم 35.

٣٥٨

الباب! قال: أعوذ باللّه من ذلك، وما قالت اليهود؟ قال: قالت اليهود: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) يَعنون أنّ اللّه قد فَرغ مِن الأمر فليس يُحدث شيئاً) (1) .

وروى الصدوق بإسناده إلى إسحاق بن عمّار عمّن سمعه عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال في الآية الشريفة: (لم يَعنوا أنّه هكذا (أي مكتوف اليد) ولكنّهم قالوا: قد فَرغ من الأمر فلا يَزيد ولا ينقص، فقال اللّه جلّ جلاله تكذيباً لقولهم: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (2) ، ألم تسمع اللّه عزّ وجلّ يقول: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (3) .

قال عليّ بن إبراهيم - في تفسير الآية -: قالوا: قد فَرغ من الأمر لا يُحدث اللّه غير ما قدّره في التقدير الأَوّل، بل يداه مبسوطتان يُنفق كيف يشاء، أي يُقدّم ويُؤخّر ويزيد وينقص وله البَداء والمشيئة (4) .

وهكذا روى العيّاشي في تفسيره عن حمّاد عن الصادق (عليه السلام) (5) .

ورواياتنا بهذا المعنى متضافرة.

وقد تعرّض الراغب الأصفهاني لذلك أيضاً قال: قيل: إنّهم لمـّا سمعوا أنّ اللّه قد قضى كلّ شيء قالوا: إذن يد اللّه مغلولة أي في حكم المقيّد لكونها فارغة (6) .

ويبدو من كثير من الآيات القرآنيّة التي واجهت اليهود بالذات دفعاً لمزعومتهم أنْ لا تبديل بعد تقرير، أنّ هناك عقيدةً كانت تسود اليهود في عدم إمكان التغيير عمّا كان عليه الأَزل، الأمر الذي يشير بجانب من قضية الجبر في الخَلق والتدبير ممّا كانت عليه الأُمَم الجاهلة، ومنهم بنو إسرائيل، فهناك في حادث تَحول القبلة اعترضت اليهود على هذا التحويل، فنزلت الآية ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (7) .

قال ابن عبّاس: إنّ اليهود استنكروا تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة.

____________________

(1) المصدر: ص96، رقم 2، وراجع: عيون أخبار الرضا، ج1، ص145، باب 13، رقم 1.

(2) المائدة 5: 64.

(3) الرعد 13: 39، راجع: كتاب التوحيد للصدوق، ص167، باب 25، رقم 1.

(4) تفسير القمي، ج1، ص171.

(5) تفسير العيّاشي، ج1، ص330، رقم 147.

(6) المفردات، ص363.

(7) البقرة 2: 115

٣٥٩

واختاره الجبّائي أيضاً (1) .

وبهذا الشأن أيضاً نزلت الآية ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) (2) .

قال العلاّمة الطباطبائي: النسخ في الآية يعمّ التبديل في التشريع وفي التكوين معاً وذلك؛ نظراً لعموم التعليل في ذيل الآية، حيث عُلّل إمكان النسخ - وهو مطلق إزالة الشيء عمّا كان عليه وتبديله إلى غيره - بعموم القُدرة أَوّلاً، وبشمول مُلكه للكائنات السماويّة والأرضيّة جميعاً.

قال: وذلك أنّ الإنكار المـُتوهّم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود - على ما نُقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ - يتعلّق من وجهين:

الأَوّل: أن الكائن - سواء في التشريع أم في التكوين - إذا كان ذا مصلحة، فزواله يُوجب فَوات المصلحة التي كان يحتويها.

الثاني: أنّ الإيجاد إذا تحقّق أصبح الموجود ضرورةً لا يتغيّر عمّا وقع عليه، فهو قبل الوجود كان أمراً اختيارياً ولكنّه بعد الوجود خرج عن الاختيار وأصبح ضرورةً غير اختياريّة.

قال: ومِرجع ذلك إلى نفي إطلاق قُدرته تعالى، فلا تعمّ الكائن الحادث بعد حدوثه، وإنّما القُدرة خاصّة بحال الحدوث ولا تَشمل حالة البقاء، وهو كما قالت اليهود: (يد الله مغلولة).

قال: وقد أَلمـَح سبحانه وتعالى إلى الردّ على الوجه الأَوّل بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )، فلا موضع لتوهّم فوات المصلحة القديمة بعد إمكان التعويض عنها بمصلحةٍ مِثلها أو خيرٍ منها، وعن الوجه الثاني بقوله: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي له التصرّف في مُلكه حيثما يشاء، وهو دالّ على عموم القُدرة، في بدء

____________________

(1) مجمع البيان، ج1، ص191.

(2) البقرة 2: 106 و107.

٣٦٠