شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 265399
تحميل: 11468

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265399 / تحميل: 11468
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النهر بعيداً عن هذا الخليج (1) .

* * *

ثُمّ وبعد أنْ فَرَغ مِن أَمر آسيا الصُغرى - الواقعة في غربيّ البلاد - تَوجّه شمالاً وفي شرقيّ البلاد؛ لإخضاع أَقوام هناك كانوا قد تَعسَّفوا وأَفسدوا في الأرض، فحاربهم مُحاربةً عنيفةً طالت ثَماني سنوات، حتّى سادَ الأَمن على تلك البلاد.

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ (شرقيّ البلاد) وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ (وَحْش) لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْر اً)، عن الباقر (عليه السلام): (لم يَعلموا صَنعَة البُيوت) (2) فلم يَعرفوا بِناية السُقُوف والبُنيان، سِوى اللجوء إلى الأَسراب وغُدران المياه من حرارة الشمس (3) .

والمنطقة كانت صحراويّةً قاحِلةً مُمتدّةً من شماليّ بحر قزوين حتّى شواطئ المـُحيط الهندي وتشمل بلاد (مكران - سيستان و بلوخستان)، وظلّ كورش يُعالج إخضاع تلك الأقوام خِلال ثمانية أعوام (4) .

وقد دلّت الدِراسات التي أُجريت على قياس الجنس الإنساني سنة 1901 م بالهند قبل التقسيم وحين كانت صحراء غيدروسيا (مكران، بلوخستان، سيستان) تابعةً لها على حُدود إيران و أفغانستان، على أنّ السّكّان يَنتمون إلى الجنس التركي الإيراني الذي يَتّسم بقِصَر القامَة على العُموم، ومُعظمهم من ذَوي الرؤوس العريضة، ويَبلُغ قياس مخّهم (80 - 81) وأُنوفهم طويلة، وشَعر رأسهم ولحيتهم غَزيرٌ، ولونُ العيون والشعر أَسود غالباً، وبَشَرتهم بَيّنة فاتحة وهي تَميل إلى الدُكْنَة كلّما اقتربنا من الشاطئ...

وهذه سِمات بقايا قبائل بدائيّة شَرِسَة كانت تَعيش بالإقليم منذ (4000) سنة، ويمكن تقسيم سُلالاتهم إلى البلوش - البراهوئي - الهُنود والبَربر.

وقِسمٌ مِن البلوش يَعيش الآن في سَهلِ كججهر حتّى خطّ عرض (31) شمالاً، ويَقطن عدد كبير منهم السُهُول الجنوبيّة وشماليّ سندة وناحية يعقوب آباد.

أمّا البراهوئي

____________________

(1) مفاهيم جغرافيّة، ص 239 - 245.

(2) مجمع البيان، ج 6، ص 491.

(3) عن الحسن وقتادة وابن جريج، والسَّرَب: الحفير تحتَ الأرض، النَفق.

(4) راجع: تأريخ إيران، ص 68.

٤٨١

فيتجمَّعون حولَ (كلات) و (كوطة) وتَتَّسع رُقعَة تواجدهم لتَشمل منطقة (ليس بيله).

والراجح أنّ البلوش - كما يقول علماء الأَجناس البشريّة - دَخَلوا صحراء مركان عن طريق كرمان وسجستان وانتشروا سريعاً حتّى حُدود الهند... وإن كان ذلك لا يزيد على درجة التَكهُّن كما قيل، وقد يكون الأَقرب إلى الصواب أنّ مُعظمَهم كانوا من الجنس الهندي...

وأَقدم تَسمية لدينا لهذه المنطقة ما عَثَر عليه المؤرِّخون في نُقُوش بهستون (بيستون)... وهي لفظة مِكيا ( Mekia ) كما ذَكَر لنا هيرودوت... أو لفظة ( Mykians ) أي بلد الميكيان التي كانت ضِمْن ولايات الإمبراطوريّة الفارسيّة الرابعة عشرة.

ويَجمع هيرودوت في كلامه - في مواضع أُخرى - بين الميكيان واليوتيان ( Utians ) والباركانيان ( parikanians ) الذين كانوا مُقاتِلينَ كالباكتيان ( poktans )...

وعَيَّن بطليموس الحُدود بين الهند وفارس بحيث ترك الجزء الشرقي من (سيستان) في الهند... ويقول أرّيان ( Arrian ): إنّ الغيدروسيّينَ أو الكيدروسيّينَ (سُكّان غيدروسيا) كانوا يُقيمون في الوديان الداخليّة إلى الغرب من سيستان، وقد سُمّي الإقليم كلّه باسمهم كدروسيا (كدرسيا) (غدروسيا) ( cadrosia ) كما ذَكَر مولانا أبو الكلام آزاد نفس التَسمية للإقليم...

وتَتَفرّع من قبائل غيدروسيا جماعات بدائيّة تُسمّى (الأشيوفاكوي) كانت تَقطُن المناطق الصحراويّة المـُطلِّة على المـُحيط الهندي وهم مِن الصيّادينَ القُدامى... ويُمثِّلهم الآن قبائل (الميديّة) وبعض القبائل الأخرى...

وظلّ غيدروسيا (مكران، سيستان، بلوخستان) الاسم المـُعتَرف به - لتلك الصحاري غرب الهند - في الزمن القديم... ومِن النادر أنْ نَعثر على تَسمية هيرودوت (مِكيا) في الكتابات التأريخيّة منسوبة للإقليم...

غير أنّنا لا نَنْكُر بقاء استعمال هذه التَسمية طَوال القُرون السبع الميلاديّة الأَوائل حتّى جاء الفتح الإسلامي للإقليم في العام السابع عشر للهجرة المـُوافِق سنة 639 م، فقد

٤٨٢

ذَكَروا لنا أنّهم وَجَدوا الاسم (مكيان) (مكران)، وهو النطق الحالي عند البلوش.

وتقترب الصورة مِن الوُضوح حين فَسَّر (مولسويرث سيكس) ( sykes Moulesworth ) المـَقطع الأخير مِن الاسم مَنطوقاً بالسنسكريتيّة، على أنّه (عرانيا) ومعناها: الأرض القاحِلة.

ويُؤكِّد (هولدخ) أنّ اسم (غيدروسيوي) هو مكران، وهو اسم عشيرة مِن (لس بيلة)... وعشيرة كِدور أو (غيدور) الآن اسم عشيرة ضَئيلة الشأن مِن أَصل هندي لا يزيد عددُ مَن بقي منها حتّى الآن على (2000) نَسَمَة.

وكثيراً ما بَحَث العلماء في أصل اسم (بلوش) وأسماء القبائل والعشائر الرئيسيّة القديمة الجذور، وَيَرون - على الأرجح - أنّ جميع أَسماء القبائل والعشائر الحديثة (الموجودة الآن) ليست إلاّ منسوبةً إلى السَلف وليس الحال كذلك بالنسبة للأسماء الأقدم عهداً مِثل الغيدروسيّين، كما أنّ بعض الأسماء الرئيسيّة الموجودة الآن إمّا أن تكون ألقاباً أو ألفاظاً تَدلّ على المـَدح أو الذمّ.

ومن الواضح أنّ الأرض القاحِلة (غيدروسيا) كانت مأوى لقبائل مُتأخِّرة، لا تَعِرف الزراعة ولا الاستقرار ولا بِناء البُيوت الثابتة حتّى ولا الخِيام، وأنّهم كانوا يعيشون على الجَمْعِ والالتقاط حتّى تحين فُرصة بين وقت وآخر فيُغيرون على حُدود الصحراء المـُتاخِمة للإمارات الفارسيّة في القَرن السادس قبل الميلاد.

والإقليم من الناحية الطبيعيّة جزء من الصحاري الحارّة المـُتاخِمة للمـَدارَينِ والتي يَقُلّ المـُعدّل السنوي للأمطار فيها عن (100 م. م) (1) ، وهذا لا يَسمح بنُموّ غطاء نباتي واضح، والإقليم مُصاب بالجَفاف مُنذ ما لا يقلّ عن خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو نوع الجَفاف المـُطلق، وربّما لم يَجد السُكّان القُدامى مِن قبائل غيدروسيا البدائيّين (زمن كورش في القَرن السادس قبل الميلاد) إلاّ جُذُور النباتات لالتهامها.

فالبيئة فعلاً تَخلو تماماً إلاّ مِن نباتات تلاءمَت للحياة في الأقاليم المناخيّة أو البيئات التي يَسودها الجَفاف، أو تلك التي لا تَتَمتّع إلاّ بقِسطٍ ضئيل من الرُطوبة مِثل صحراء سيستان ومكران، فهذه

____________________

(1) مفاهيم جغرافيّة، ص 269.

٤٨٣

النباتات - بما لها من تركيب خاصّ - تَتَحايل على الحصول على أكبر كميّة مُمكِنة من الماء والاحتفاظ به؛ ومِن ثَمّ كانت الجذور أطولَ وأَكثر تشعُّباً من السِيقان؛ ولذا فقد كانت هذه القبائل تَحفر في الأرض بَحثاً عن هذه الجُذُور لتَقتَاتَ بها.

وعندما كان العَطش يُهدِّد حياة هذه القبائل كانوا يَفتحون جُذُوع بعض النباتات الصحراويّة التي تَتَّصف بالانتفاخ ويَمتصّون ما فيها من ماء مَخزون.

والبيئة - والحال هذه - تَشبه تَماماً ما توحي به الآية الكريمة التي عَبَّرت عن نَمطِ حياة هؤلاء الأَقوام المعيشيّة حيث قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً ) ، فسبحان الله أصدق القائلين!

وما أَروع دِقّة القرآن وشموليّته ومُعالجته لهذه القضايا، في شكل إشارات عابرة تَترُك للعقل البشري على تَتابُعِ العصور مُهمّةَ الكشفِ والتنقيبِ عن تفصيلاتها واتّخاذ العِبرة والمـُوعِظة الحَسَنة منها!

(ثمّ أَتبع سبباً).

وهي رحلة ثالثة، كانت أُولاها إلى الغرب لإخضاع بلاد ليديا، والثانية نحو الشرق شماليّ بحر قزوين لإخضاع قبائل عُزَّل وَحش لم يَعرفوا حتّى الوِقاء من الشمس، وهذه هي الثالثة نحو الشرق أيضاً، ولكن حيث مُتّجه بلاد قوقاز بين بحر قزوين والبحر الأسود.

( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) بين الجبلَينِ من سِلسلة جبال قوقاز، والسدّ: الجبل الشامخ يَصعُب عبوره كأنّه سدّ حاجز.

( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا (وراءهما) (1) قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) لصُعوبة لُغتهم وَوعورة لَهجَتِهم بحيث لم يَكد يُمكن التفاهم معهم بسُهولة.

ينتهي هذا الطريق الذي سَلَكه كورش، إلى منطقة جبليّة وَعِرة مُتضرِّسة تُمثّل حائِطاً جبليّاً طبيعيّاً عرضيّاً شامخاً، يَحول دون هِجرات الشُعوب المـُتوحِّشة وإغارتها على مَن وراء الحائط الجبلي من شعوب بدائيّة مُستَضعَفة.

____________________

(1) حسبما ذكره الرازي في التفسير الكبير، ج 21، ص 170.

٤٨٤

ولكن الحائِط الجبلي كان مُنثَلِماً مِن وَسَطِه بثَغرة (مضيق جبلي) (1) مُخيفَة، اتّخذها الغُزاة المـُتوحِّشون مَعبَراً نحو الشُعوب المـُسالِمة في ظَهرانَيه، حيث كانت تَتَعرّض باستمرار لهجمات أُولئك البَرابِرة المـُتوحّشينَ.

كان قد قضى المـَلِك الهخامنشي العظيم (كورش) ثماني سنوات (2) في تأَديب وإخضاع قبائل غيدروسيا الهمجيّة في صحاري سيستان ومكران وبلوجستان، وزَحزَح حُدود الإمبراطوريّة حتّى حُدود نهر (سيحون) حيث بنى مدينةً باسمه على شاطئ هذا النهر، فكانت هذه المدينة تُسمّى إِبّان عصر الإسكندر (المدينة الأقصى الكورشي) ويعتقد أنّها مكان مدينة (أُوراتبّه) الحاليّة.

ووجد كورش أنّه آنَ الأَوان لتأديب الشعوب المـُتوحِّشة، التي كانت تغير عِبر مَضيق داريال في جبال قوقاز على شُعوب إماراته الطيّبة، في آذربيجان وجورجيا وأرمينيا جنوب الحائط الجبلي الرهيب، الذي يُسمّى جبال القوقاز التي تَمتدّ من بحر قزوين في الشرق عند مدينة (دربند) حتّى (سرخوم) على البحر الأسود.

فَتَوجّه إليها سنة 537 ق. م، وقضى بالإقليم حوالي تسع سنوات مُتوالية (3) ، مابين بِناء السدّ عِبر المـَضيق وتأَديب قبائل الأسكوذيّين أو (الماساجيت) أو (يأجوج ومأجوج) على حدِّ تعبير القرآن (4) .

وحيث إنّ كورش قد وَصَل إلى الحائط الجبلي العظيم (جبال قوقاز) فهذا معناه أنّه عَبَر كردستان وآذربيجان وأرمينيا وجورجيا، وَوَصل إلى أجزاء من داغستان، حتّى مدينة (دربند) وما حولها، وكذلك إقليم أُوسنينا الجنوبيّة، ويكون شمال هذا الحدّ حائط القوقاز الجبلي، ذو فَتحَة في مُنتَصَفه تُسمّى مَضيق (داريال) حيث تُقيم جَماعات يأجوج ومأجوج، وإلى الجنوب من هذا الخطّ الجبلي كانت تُقيم جَماعات مُجرّدة من الحضارة، وَصَفَهم القرآن بقوله: ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) أي يَعسُر التفاهم معهم، هذا إنْ

____________________

(1) سَنذكُر أنّه مَضيق داريال.

(2) حسبما ذَكَره حسن بيرنيا: أنّه قضى تَجوالَه العسكري في شرق وشمال إيران لمـُدّة 8 سنوات، تأريخ إيران، ص 68.

(3) حسبما ذَكَره الدكتور عبد العليم: أنّه قضى بالإقليم حوالي تسع سنوات، مفاهيم جغرافيّة، ص 273، هذا إنْ قُلنا بأنّها كانت بعد فتح بابل كما قيل، تأريخ إيران، ص 68.

(4) مفاهيم جغرافيّة، ص 273.

٤٨٥

فَسَّرنا ( مِنْ دُونِهِمَا ) بما قَبل السّدَّينِ لا الوراء كما سَبَق.

وقد اتّخَذَ كورش طريقَه إليهم مُتوجِّهاً شمالاً عِبر إقليم كردستان الجبلي الوعِر، الذي يَعتلي ظهر المـُرتفعات الآسيويّة وسَلاسل الجبال على مَحاورها المـُنتشِرة في موقع يَضمّ بعضاً من شمال العراق وشرق أو جنوب شرق تركيا وبعضاً من غرب إيران، ويَسكنُه الأَكراد مُنذ سنة (2400 ق. م).

والإقليم به مَعابر مشهورة لمـُرور التجارة بقوافلها وفَيالق الحروب بجحافلِها، وهي مَعابر تَتَّجه على مُحور عام يخدم الصِّلات والعلاقات فيما بين قلب آسيا وشرقها الأقصى وآسيا الصُغرى والشام.

وقد احتَرَف الأَكراد - عَلاوةً على تَمرير التجارة - حِرفَة الرَعي واقتَنَوا قُطعاناً مِن الأَغنام والماعز، وعاشوا عِيشَةَ البَداوة والحركة في حركات فصليّة شِبه مُنتَظَمة سعياً وراء المرعى وتأمين العُشب لقُطعان أَغنامهم.

وعلى ذلك فقد عَبَر كورش إقليماً مُتضرِّعاً وَعِراً غَنيّاً بالموارد الاقتصاديّة المـُتاحة تَكفُل تأَمين إطعام الجيوش الفارسيّة، وانحرف شمالاً بشَرقٍ حتّى بلغَ بُحَيرةَ أَروميّة التي يَصبّ فيها نهر طلخة وهي أَكبر بُحَيرات فارس، وتقع في الشمال الغربي من فارس في إقليم آذربيجان ويبلغ طُولها 130 كم وأقصى عَرضها بلغ 50 كم، وهي بُحَيرة ضَحْلة قليلة الغَوْر لا يزيد عُمقُها على 21 متراً، وعلى صخرة (كورجين) تقع قَلعة قديمة تُشرِف على البُحَيرة قُبالَة شاطئ (سلماس)، ووُجِد فيها نَقشٌ يُشير إلى عَراقتها في القِدَم.

ويَبدو أنّ كورش آثَرَ مُحاذاةَ شواطئ بحر قزوين (خزر) بحيث يكون البحر عن يَمينه وهو مُتَّجه نحو الشمال إلى جبال قوقاز، ومعنى ذلك أنّه سَلَك ضِفاف نهر طلخة نحو الإقليم الساحلي لبحر قزوين.

والإقليم: عبارة عن سُهُول ضَيّقة تَتَّسم بالدِفء؛ لأنّ ارتفاعها قليل وقد يَنخفض دونَ سطح البحر، ويَندُر أنْ يحدث الصَّقيع (الجليد) هناك في الشتاء، كما يَندُر أنْ تَرتفع درجة الحرارة في الصيف عن 32، ولكنْ الرطوبة شديدة، وتَكثُر الأَمطار وتَتَوزَّع على مَدار السَّنة، وبسبب هذه الأَمطار الغزيرة تَنمو الغابات النفضيَّة مثل البَلوط والدردار، وهي التي تَنفُض أي تَسقط أَوراقُها في فصل الشتاء.

٤٨٦

وظلّ كورش مُحاذياً شاطئ بحر قزوين حتّى وصلَ إلى نهر أَطلق عليه اسمَه (كورش) أي سائرس (سيروس) (1) ، والإقليم جُزء من آذربيجان الشرقيّة التي تقع في الجنوب الشرقي من قفقاسيا وتشمل سُهُول نهر (كورا) المـُنخَفِضة والتي تُحيط بها الجبال مِن كلِّ الجهات، فلا تَنفتح إلاّ من جهة الشرق حيث بحر قزوين.

وهذه الجبال هي القفقاز من الشمال، وأرمينيا من الغرب، وجبال آذربيجان الشرقيّة من الجنوب، وتجري المياه نحو هذه السُهُول من جميع الأطراف من الجبال المـُحيطة بها، وتكون شَديدةَ الانحِدار، لقِصر المـَسافة التي تَقطعها، فتَحفر أَوديةً واسعةً سَحيقةً، تُعتَبر من مراكز الزراعة في الإقليم، وأَمطار هذه السُهُول نادرة لانحصارها بين المـُرتفعات التي تَحجُب الأَمطارَ عنها مِمّا يَجعلها جافّةً، ولكن هذا الجَفاف يُعوَّض بالمياه المـُتدفِّقة التي تجري مِن المـُرتفعات.

وأَشهر هذه المجاري وأَطولها نهر (كورا) الذي يجري من جورجيا (كرجستان) ويَمرّ من عاصمتها تَفليس، ثُمّ يدخل أَراضي آذربيجان حيث يَرفِدُه نهر (أيورا) المـُنساب أيضاً من جورجيا، ويَتّجه النهر نحو الجنوب الشرقي حتّى يَصبّ في البحر.

وعليه فكان العائِشونَ في المـَنطقة في رفاهيّة من العيش، حيث خُصُوبة الأرض ووِفْرَة المياه، آمِنينَ مُطمئنّينَ سِوى ما كان يُهدِّدهم أَقواهم وحشيّةً كانوا يَسكُنون وراء الجبال فربّما أَغاروا عليهم بين حين وآخر، ولم يكن التهديد لسُكّان تلك المناطق الشاطئيّة وحدها من القبائل الوحشيّة، بل كان يَشمل سُكّان أرمينيا وجورجيا أيضاً.

من هم يأجوج ومأجوج؟

عنوان أَطلقه القرآن الكريم على السُلالات البشريّة المـُتوحِّشة في عصر ذي القَرنَينِ.

( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ

____________________

(1) والآن يُسمّى نهر كورا، كما يأتي.

٤٨٧

أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً... ) (1) .

والجغرافيّة البشريّة تُحاول وضع تصوّر مُحدَّد لأنماط الاستيطان البشري لتلك الجماعات وتدرس تسلسلهم في قائمة الأجناس البشريّة، وتُحدّد الحقبة الحضاريّة - من عُمر البشريّة - التي كانوا يعيشون أًثناءها.

تَذكر بعض الدراسات أنّ أصل يأجوج ومأجوج من أولاد يافث بن نوح، وأنّ التَسمية مأخوذة من أَجيج النار وهو: ضَوءها وشَرَرها، عنوان مُستعار يُشير إلى كثرتهم وشدّتهم.

وذَكَر بعض المـُدقّقينَ في البحث عن تأصيلهم: أنّ أصلَ المـُغول والتَّتَر من رجل واحد يقال له: (ترك)، وهو نفس الذي سَمّاه أبو الفِداء باسم (مأجوج)، فيظهر من هذا القول أنّ المـُغول والتَّتَر هم المـَقصودونَ بيأجوج ومأجوج، وهم كانوا يَشغلون الجزء الشمالي من آسيا، تمتدّ بلادهم من (التبّت والصين) إلى المحيط المـُنجمد الشمالي، وتنتهي غرباً بما يلي بلاد (التركستان) (2) .

وكلمة (تَتَر) تُكتب تاتار وتُكتب تتار، وهي اسم لشعب يختلف مدلوله باختلاف العصور، وقد ورد في الكتابات الاُورخونيّة التركيّة التي يرجع تأريخها إلى القَرن الثامن، ذَكَر طائفتَينِ من القبائل التَّتَريّة، وهما (التتر الثلاثون) و(التتر التسعة)، ولكن (طومسون) ( Thomson ) يَرى أنّ التتار اسم يُطلق حتى في ذلك العصر على المـُغول أو فريق منهم، وليس الشعب التركي!

ويقول: إنّ هؤلاء التتار كانوا يَعيشون على وجه التقريب في الجنوب الغربي من بُحيرة بيكال حتى كرولين (3) ، ويقول: إنّ التُرك أُخرجوا مِن منغوليا ليَحلّ محلّهم المـَغول، حينما قامت إمبراطوريّة قره خِطائي (4) ، وقد صَحبت بعض العشائر التَتَريّة قبائل التُرك حين خرجت من منغوليا وسارت معها مُتّجهة من أواسط آسيا

____________________

(1) الكهف 18: 94.

(2) انظُر: الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره، ج9، ص203 - 204.

(3) نهر كورا ( Koura ) في قفقاسيا يَصبّ في غرب بحر قزوين.

(4) اسم أَطلقته المصادر الإسلاميّة مُنذ القرن 11م على بعض شُعوب الصين المغول، أَسّس زعيمهم (آبااُوكي) سُلالة (لياد) الصينيّة، أُجبروا على مغادرة الصين 1125م فاصطدموا بالدول الإسلاميّة المجاورة، صَدّهم الإيلخانيّون.

٤٨٨

صوبَ الغرب.

وجاء في أخبار الغزوات المغوليّة التي تمّتْ في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) أنّ الغُزاة كانوا يُعرفون (في الصين - والعالم الإسلامي - والروسيا - وغرب أُوربا) باسم التتر وهي بالصينيّة: تاتا.

وقد أَطلق ابن الأثير (ت 630هـ) هذا الاسم (التتر) على أَسلاف (جنكيزخان) وأنّهم نوع كثير من التُرك، وكانت مساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين (1) .

وقد قُسِّمت عدّة شعوب باسم التتر في خطاي والهندوستان وجين ماجين، وبين القرقيز وفي كلارا (بولندا) وباشقرد (المجر) وفي سهوب (دشت) قفجاق، وفي البلاد الشماليّة بين البدو، ولا يزال يُطلق على جميع الشعوب التركيّة حتّى اليوم اسم التتار.

ويظهر أنّ الشُعوب التي انحدرت من أصل مغولي وتتحدُّث بالمغوليّة كانت تُسمّى نفسها باسم التتر، ولكن حلّ محلّ هذا الاسم بعد عهد جنكيزخان في منغوليا وآسيا الوسطى اسم (مَغُول) وهو الاسم الذي استعمله رسميّاً جنكيزخان.

وقد ورد هذا الاسم في المصادر الإسلاميّة (مُغُل) و(مَغُول)، وكذلك يُنطق سلالة المـُغول في أفغانستان الذين احتفظوا بلغتهم حتى اليوم بهذا الاسم (مُغُل).

وكان هؤلاء التتر أثناء غزو تيمور يعيشون عِيشة البدو الرُحَّل فيما بين أماسيّة وقيساريّة، ويتراوح عددهم بين ثلاثين ألفاً وأربعين ألف أُسرة (2) .

وقد اتّسع مدلول كلمة (تتر) باعتباره اسم شعب يتكلّم التركيّة في حوض نهر (ثولغا) من قازان (3) حتّى آستراخان (4) وشبه جزيرة القرم وجزء من سيبريا، أي في المكان الذي حَدّده القرآن خَلف السدَّينِ أي وراء حاجز جبال القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.

____________________

(1) راجع: الكامل في التأريخ، ج12، ص361 (أحداث سنة 617).

(2) اُنظر: ظفرنامه - الطبعة الهنديّة - كلكتا، سنة 1888، ج2، ص502 وما بعدها، وكذلك أبن عربشاه، طبعة مانجر، ج2، ص338 وما بعدها (مفاهيم جغرافية، ص285 - 286).

(3) هي عاصمة جمهورية التتر المستقلّة شرقي مسكو.

(4) مدينة ومرفأ على مَصبّ نهر ثولغا في بحر قزوين، أسّسها المـَغول.

٤٨٩

وهم الذين سَكنوا هذه المناطق قبل الميلاد وعُرفوا بالوحشيّة والإغارة على المـُسالِمينَ، وكلّ الأبحاث العلميّة الحديثة تؤكّد على أنّ الشعب الذي يتحدّث بالتركيّة في آستراخان على بحر قزوين شمال جبال القوقاز، من سُلالات التَتَر القُدامى الذين كانوا يَغيرون عِبر مَضيق داريال الجبلي في جبال القوقاز، على شعوب جورجيا وأرمينيّة وآذربيجان، وهم يُقيمون الآن في السُفوح الشماليّة لجبال القوقاز، ويُطلق عليهم (ششن أنفوشيا)، وينتمي سُكّان كبرداي أو قبرطاي أَيضاً إلى الجنس التَتَري وهم مُبالِغون في عصبيّتهم ويَتفاخرون بها أَشدّ المـُفاخرة وينظرون إلى جميع العناصر المجاروة لهم من شركسيّة وغيرها نظرةً فيها شيء من الاحتقار، وجميع هذه القبائل تُسمّى تَتَر في آسيا.

ويرى أبو الكلام آزاد أنّ كلمتَي يأجوج ومأجوج تَبدوان كأنّهما عِبريّتان، ولكنّهما في الأصل والواقع أجنبيّتان اتَّخذتا الصورة العِبريّة، فهما تُنطَقان باليونانيّة كوك ( Gog ) وماكوك ( Magog )، (1 ) ويبدو أنّ فِرعاً منهم سكن ما وراء القوقاز في القرن السابع قبل الميلاد وعاصر، كورشُ غارةً من غاراتهم (2) ، وسنذكره.

وقد حدَّد مولانا أبو الكلام، الأدوار السبعة لخروج يأجوج ومأجوج كالتالي:

الدور الأَوّل منها كان قبل 5000 سنة وقد اندفعت هذه القبائل نحو الجنوب الغربي من سيبريا إلى هِضاب وسط آسيا (منغوليا).

الدور الثاني ويبدأ ما بين 1500 - 1000ق. م، وفيه كانت تَتَابع مَوجات المغوليّة من أقصى الشمال الشرقي نحو سُهول الصين وهِضاب وسط آسيا ومنغوليا والتركستان الغربيّة وزونغاريا.

الدور الثالث وصلت جحافل المـَغول حوالي 1000 ق. م، إلى منطقة بحر قزوين والبحر الأسود وشمال القوقاز وحوض نهر الدانوب والفلجا. وظهرت قبائل (سي تهين) على مسرح التأريخ سنة 700 ق. م، وهاجمت مناطق آسيا الغربيّة.

____________________

(1) وإذا كان حرف ( g ) ينطق بـ (جي)، فلفط القرآن أقرب تعبيراً بالكلمة: جاج وماجاج!

(2) كورش الكبير لأبي الكلام آزاد، ترجمة باستاني باريزي، ص271.

٤٩٠

الدور الرابع - جعله أبو الكلام سنة 500 ق. م، حيث برز كورش كأَعظم مُلوك العالَم قاطبةً، فقد أخضع ميديا وليديا وبابل والشام وجميع المـَمالك الشرقيّة حتّى نهر السند وسيحون.

وبذلك توقّف سيلُ قبائل (سي تهين) وخصوصاً بعد أنْ أَقام كورش سدّ داريال في جبال القوقاز.

الدور الخامس تزعزع أَمن الصين بجحافل جديدة من قبائل المـَغول الهمجيّة ويَطلق الصينيّون على هؤلاء المـُتوحّشين اسم (هيونغ نو) وقد تَحوَّر فيما بعد وصار (هون)، ولم يجد إمبراطور الصين بُدّاً من تشييد سور الصين الحجري العظيم، لصدّ هجمات هذه القبائل.

وبذلك توقّف غزو قبائل (هون) لسُهول الصين بعد بناء السور، ولكن ذلك جعلهم يتوجّهون نحو أواسط آسيا من جديد.

وفي الدور السادس تَجمَّع شَمل هذه القبائل في أُوربا تحت قيادة (آتيلا) وقَضَوا على الإمبراطوريّة الرومانيّة في القَرن الرابع الميلادي.

وكان الدور الأخير هو هجوم جنكيزخان على الحضارة الإسلاميّة من منغوليا في القَرن الثاني عشر للميلاد وخرَّبت بغداد (1) .

ويَذكر المؤرّخون أنّ هذه القبائل كثيراً ما أَفسدت في الأرض وبَطشت بالآمِنينَ، وهدّمت حضارات وأَراقت دماءً وحرّقت زروعاً ومُدناً، وكم أهلكوا الحَرث والنسل؟! فهم إذن مُفسِدون في الأرض بنصّ القرآن - أَصدق الحديث - وشهادة التأريخ.

* * *

إنّ منطقة بحر قزوين والبحر الأسود وجبال القوقاز كانت مستقرّاً لجماعات من المـَغول والتُرك من فجر التأريخ، وتتار شبه جزيرة القرم حول البحر الأسود، والأتراك والمـَجريونَ والفنلنديون، هم المـُتخلِّفون من ذرّيتهم في المنطقة، ولم يكن هؤلاء يَقنعون

____________________

(1) كورش كبير، ص274 - 276.

٤٩١

بالموارد الطبيعيّة المـُتاحة لهم في الأرض التي احتلّوها، وإنّما كان مَضيق داريال مَعبَراً لهم إلى حضارات العالم القديم في غرب آسيا، وما زالت سُلالاتهم حتّى اليوم تُقيم في المنطقة، وإن اتّخذوا أَسماء جديدة، فالجركس مثلاً اسم عام يُطلق على هؤلاء الأقوام.

وكانت هذه القبائل المـُتوحّشة زَمن كورش تسكن المـُنحدَرات الشماليّة والجنوبيّة لسلاسل جبال قوقاز ولكن في أقصى الغرب، أي الضِفة اليسرى لنهر قوبان وروافده وشاطئ البحر الأسود حتّى نهر شخة، وما تزال البقية منهم في القوقاز وما والاها.

* * *

وهناك للشيخ طنطاوي حديث مع عالِم من أُمّة يأجوج ومأجوج، يقول: كان أَوّل ما ألّفتُ كتاباً من كُتبي، كان انتشاره وترجمته في بلاد (روسيا) بناحية (قازان) وما والاها، حيث تُرجِمت تلك الكُتب باللغة القازانية، وكانت مقالة (يأجوج ومأجوج) نَشَرتها في أواخر القرن التاسع عشر بمجلّة (الهلال)، ثمّ أُعيد نشرها بزيادة تحقيق في جريدة (المؤيّد) المـُنتشِرة إذ ذاك في أقطار العالم الإسلامي في نحو العشر سنين الأُولى من القرن العشرين.

يقول: بينما أنا بالمدرسة الخديويّة أُدرِّس اللغة العربيّة، إذ قابلني تلميذ فقال: قد قابلني الأُستاذ عبد اللّه بوبي من مدينة (أوفا) ببلاد روسيا ويُريد مَوعداً للمـُقابلة بالمـَنزل، فعيّنتُ له مَوعداً ليلاً، فلمـّا حضر خاطبني باللغة العربيّة الفُصحى، وأَوّل ما بادرَني به أنْ قال: عرفتُك من مؤلّفاتك وقرأتُ في (المؤيّد) أنّك تقول: إنّنا من (يأجوج ومأجوج)، وهذه المـَقالة ترجمتُها بلُغتنا ولم أُطلِع عليه الشيوخ الكِبار؛ لظنّهم أنّ هذا كُفرٌ، وقد جهلوا أَصلنا، وإنّنا نحن المـَغول (يأجوج ومأجوج) والتتر فريق من تلك الأُمَم، فأنا والشبّان جميعاً فَهِمنا مقالك... (1)

* * *

ومن الغريب وليس بعجيب تصريح (جنكيزخان) بأنّ قومه المـُغُل والتُرك (التتار)

____________________

(1) تفسير الشيخ طنطاوي، ج9، ص208 - 209.

٤٩٢

هم قوم (يأجوج ومأجوج) الذين حدَّثَ عنهم القرآن وحذَّر بطشَهم.

جاء في كتاب بَعَثه إلى محمّد خوارزم شاه يُؤنبِّه على تَعسُّفه في سياسته الغاشمة وقتله الوُدَعاء من أصحابه (التجّار المغل) ونَهب أَموالهم زوراً (1) ، مُتوعّداً له شرّ الانتقام إن هو لم يَتَلافَ الخَرق قبل تَوسُّعها.

جاء في الكتاب: (... كيف تجرّأتم على أصحابي ورجالي وأَخذتهم تجارتي ومالي، وهل وَرَد في دينكم أو جازَ في اعتقادكم ويقينكم أنْ تُريقوا دّم الأبرياء أو تَستحلّوا أموال الأتقياء أو تُعادوا مَن لا عاداكم وتُكدِّروا صفوَ عيش مَن صادقكم وصافاكم، أَتُحرّكون الفتنة الخامدة وتُنبّهون الشُرور الكامنة! أَوَ ما جاءكم عن نبيّكم... أنْ تمنعوا عن السفاهة غوّيَكم وعن ظلم الضعيف قويَّكم؟! أَوَ ما أَخبركم مُرشدوكم ومُحدّثوكم عنه قوله: اُتركوا التُرك ما تَركوكم؟! وكيف تُؤذون الجار وتُسيئون الجِوار ونبيّكم قد أَوصى بهم... فَتلافوا هذا التَلف قبل أنْ ينهض داعي الانتقام وتقوم سوق الفتنة ويظهر مِن الشرّ ما بَطَنَ ويَروج بحر البلاء ويَموج، وينفتح عليكم سدّ (يأجوج ومأجوج) وسينصر اللّه المظلوم، والانتقام من الظالم أمر معلوم، ولابدّ أنّ الخالق القديم والحاكم الحكيم يُظهر سرّ ربوبيّته وآثار عدله في بريّته، فإنّ به الحَول والقوّة ومنه النُصرة مرجوّة، فلتَروُنّ من جزاء أفعالكم العَجَب، وليَنسلُنّ عليكم يأجوج ومأجوج من كلّ حَدب... (2)

____________________

(1) ذَكَر ابن الأثير أنّ جنكيزخان المعروف بتموجين كان قد فارق بلاده، وسار إلى نواحي تركستان، وسيّر جماعةً مِن التُجّار والأتراك ومعهم شيء كثير من النُّقرة والقندر (حيوان بحري يُصنع من جلده الفرو) وغيرهما، إلى بلاد ما وراء النهر (سمرقند وبخارا) ليشتروا به ثياباً للكسوة.

فوصلوا إلى مدينة مِن بلاد التُرك تُسمّى (اُوترار) وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب هناك، فلمـّا ورد عليه هذه الطائفة من التتر أَرسلَ إلى خوارزم شاه يُعلِمه بوصولهم ويَذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمرهم بقتلهم وأَخْذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه، فقتلهم وسيَّر ما معهم وكان شيئاً كثيراً، فلمـّا وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تُجّار بُخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم.

وسُرعان ما نَدم خوارزم شاه على صنيعه هذا وأَشغل فكره فَهَمَّ بمهاجمة جنكيزخان قبل أنْ يُهاجمه في جُموعه وعساكره التي أَخبر جواسيسه عنها بأنّها لا تُحصى، فاستشار أُمراءه في ذلك، وبينما هم كذلك إذ ورد رسول جنكيزخان ومعه جماعة يُهدّد خوارزم شاه ويقول: تقتلون أصحابي وتُجّاري وتأخذون مالي منهم! استعدّوا للحرب فإنّي واصل إليكم بجمع لا قِبَلَ لكم به، لكن خوارزم شاه بدل أنْ يَستميل جنكيزخان من صنيعه هذا القبيح، أَمر بقتل الرسول وحَلق لُحى الجماعة الذين كانوا معه وأَعادهم إلى صاحبهم جنكيزخان يُخبرونه بما فَعل ويقولون له: إنّ خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنّك في آخر الدنيا حتّى أفعل بك كما فعلتُ بأصحابك... الكامل في التأريخ، ج12، ص361 - 364.

(2) تفسير الشيخ طنطاوي، ج9، ص204.

٤٩٣

وأيضاً كان بين مَمالك مُغُل ومَمالك خوارزم منطقة وسيعة يَحكمها أُمراء (قراختائيان) وكان ما وراء النهر (سمرقند وبخارا) تحت سُلطتهم وكانت الفاصل الحاجز بين المـُغُل والخوارزميّة، فعَمَد المـَلِك مُحمّد خوارزم شاه إلى فَتحِها وإلحاقِها بممالكه الوسيعة الأمر الذي تحقّق سنة 607هـ.

وفي سنة 612هـ زَحَف خوارزم شاه من مدينة (جند) نحو مساكن قبائل (قبجاق) فَواجَه أفواجَ (جوجي) ابن جنكيزخان، وهذا وإنْ سامَحَه وأَخبره أنّه لم يأتِ للحرب سِوى إخماد نائرة بعض البُغاة، لكن المـَلِك مُحمّد خوارزم شاه لغروره عَزَم على مُقاتلتهم، سِوى أنّ (جوجي) غادَرَ المحلّ ليلاً وأخبر أَباه بمُفاجئة المـَلِك الخوارزمي وأنّه عازم على مُقاتلتهم بالذات، فكان أَوّل بادرة حدثت بين الدولتَينِ (1) .

ويُضيف الشيخ طنطاوي هنا: أنّ المـَلِك الخوارزمي لمـّا غزا بلاد ما وراء النهر، سُرت السرائر، وابتهجت القلوب بهذا الفتح، وكان إذ ذاك في (نيسابور) عالِمان فاضلان فأقاما العزاء على الإسلام وبَكيا، فَسُئلا عن ذلك فقالا: وأَنتم تَعدّون هذا الثَلم فَتحاً وتَتَصوّرون هذا الفساد صُلحاً، وإنّما هو مبدأ الخروج وتسليط العلوج وفتح سدّ يأجوج ومأجوج، ونحن نُقيم العزاء على الإسلام والمسلمين وما سيحدث من هذا الفتح من الحَيف على قواعد الدين ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) (2) .

قال الطنطاوي: فهذا تصريح من هذَينِ العالِمَينِ بما أوردناه بشأن يأجوج ومأجوج وأنّهم من أقوام التتر، وانظر كيف ظهر صِدق كلامهما في حينه وظهر التتر وأَفنَوا المسلمينَ وماجَ الناس بعضهم في بعض (3) ، ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) (4) .

____________________

(1) راجع: تأريخ إيران، ص 404 - 405.

(2) ص 38: 88.

(3) تفسير الشيخ طنطاوي، ج9، ص205.

(4) الأنبياء 21: 96.

٤٩٤

يأجوج ومأجوج في التأريخ

وهكذ جاء لفظ يأجوج ومأجوج في الأَسفار القديمة وفي التأريخ، تعبيراً عن أُمّة مُتوحِّشة يَموج بعضهم في بعض، ويكونون خطراً بين حين وآخر يُهدّد الأُمَم المـُتحضِّرة المـُجاورة لها وحتّى غير المـُجاورة إلى حدّ بعيد.

جاء في سِفر التكوين عند ذِكر وُلد نوح وأحفاده: (بنو يافث: جومر وماجوج وماداي) (1) .

وفي سِفر حزقيال، يَتحدّث عن جوج، أرض ماجوج، وأنّهم يُفسدون في الأرض وأنْ سَوف يَذلّ بهم جبابرة الأرض (2) .

وذكر جيمس هاكس: أنّ السوريّين - في القُرون الوسطى - سَمّوا قبائل التتر بمأجوج، وكانت العرب تعتبر السُهول الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين ببلاد يأجوج ومأجوج، وفي أيام حزقيال كانت الأقوام السكيتيّة في الشمال الغربي من آسيا وراء جبال قوقاز معروفين بأقوام مأجوج، وفي عام (629 ق.م) انسالوا بجُموعهم نحو مدينة (ساردس) عاصمة ليديا، وتَغلّبوا عليها، واستولوا عام (624 ق.م) على مُلك ماديا (سياكرس)، وأَخذوا بالهُجوم نحو مصر، لولا أنْ واجَهَهم المـَلِك (بساميتخس) بالهدايا الكثيرة ليُقنعهم بالرجوع إلى أوطانهم.

وحزقيال يَصفهم بالفروسيّة والقدرة على ضَرْب الكتائب بما يَفوقون سائر الأُمّم، وهكذا وَصَفهم مؤرّخو يونان القُدامى (3) .

وليهرودوت حديث عن هذه الأقوام يَتوافق مع حديث حزقيال (4) .

وله أيضاً حديث عن أقوام وَحْش كان مسكنهم وراء جبال قوقاز، سَمّاهم (ما ساكت) (ما ساجيت = massagetes ) = (ماجوج) وقال عنهم: أنّهم أصحاب فروسيّة وشجاعة فائقة، ويَعتبرهم البعض أنّهم من أفخاذ الأقوام السكائيّة (الكسكيتيّة) (5) حسبما

____________________

(1) سِفر التكوين 10: 3، أخبار الأيّام الأُوَل 1: 5.

(2) سِفر حزقيال، إصحاح 38.

(3) قاموس الكتاب المقدس، حرف م، ص775.

(4) تأريخ هيرودوت، ص62.

(5) المصدر: ص98.

٤٩٥

جاء في كلام حزقيال.

ومِن ثَمّ جاء قول المـُؤرّخين بأنّ هذه القبائل التي سُمّيت (ميكاك) عند اليونان و(منكوك) عند الصينيّين هي (يأجوج ومأجوج) التي ذُكرت في القرآن (1) .

ذكر الأُستاذ أبو الكلام آزاد: أنّ لفظتَي يأجوج ومأجوج، يبدو في صِيغتهما أنّهما عِبريّتان، في حين أنّها أَعرق وذواتا أَصل غير عِبراني. وقد عَبَّر اليونان عنهما (كوك) ( Gog ) و(ماكوك) ( Magog )، وهكذا جاءَتا في التَرجمة السبعينيّة للتوراة، ومنها تَسرَّب إلى اللغات الأُوربيّة.

وقد أُطلق على أقوام وَحْش كانوا يسكنون مُنذ (600 ق.م) ما وراء جبال قوقاز، عُرفوا باسم (التَتَر) وبلادهم حسب تعبير الصينيّين معروف باسم (منغوليا)، وهذه القبائل قد أُطلق عليهم (المنغول) (المغول)، والمصادر الصينيّة تُعطينا أنّ أصل هذه الكلمة هي: (منكوك) أو (منجوك)! وهذا قريب من الكلمة في صيغتها العِبريّة (مأجوج) وعند اليونان (ميكاك).

وفي تأريخ الصين نجد الحديث عن قبيلة أُخرى باسم (يوشي) ( Yuechi )، والظاهر أنّ الكلمة حُرّفت فيما بعد في صورة (يأجوج) العِبريّة، وجاءت في تعبير الإفرنج: (يوئه جي) (2) .

إذن فالتعابير الواردة في التأريخ القديم (تأريخ هيرودوت): (ماساكيت) (ماساجيت)، وعند اليونان: (كوك) و(ماكوك)، وطِبقاً للتوراة: (جوج) و(ماجوج)، وعند الصينيّين: (منكوك) أو (منجوك)، و(يوشي) (ياجوج)، وعند الإفرنج: (يوئه جي)... كلّها تَنمّ عن أصل هذه الكلمة تَعبيراً عن أقوام وَحش هَمَج كانوا خَطراً على البلاد، وجاء التعبير عنهم في القرآن بـ (يأجوج ومأجوج) وأنّهم مُفسدون في الأرض.

وقد التَمَس أهل البلاد الخِصبة من كورش (ذي القرنين) أنْ يَجعل لهم سدّاً يَمنعهم عن هَجمات تلك الأقوام.

____________________

(1) مفاهيم جغرافيّة، ص313.

(2) كورش الكبير، ص271 - 273.

٤٩٦

أين السدّ وأين موضعه الآن؟

سَبق أنْ دلّت الشواهد على أنّ موضعه هي الثَغرة في ثنايا جبال قوقاز، كانت تَعبُرها أقوام وَحْش للإغارة على المـُسالمينَ في الأرض. وعُرِفت الثغرة باسم مضيق (داريال) حسبما مرَّ، وهي بالقُرب من مدينة (تفليس) عاصمة (كرجستان).

لَمَسنا من المفاهيم القرآنيّة المـُفسَّرة أن لم يكن من سبيل - في القَرن السادس قبل الميلاد - إلى الأمان للشُعوب المـُسالِمة البدائيّة الضعيفة جنوب جبال القوقاز (في آذربيجان وجورجيا وأرمينيّة وسواحل جنوب بحر قزوين) إلاّ بتشييد سدّ منيع يَحكم إغلاق الثغرة بين شطرَي جبال قوقاز، ويَحول دونَ عبور القبائل المغوليّة (القديمة المـُتوحِّشة) للمسلك الجغرافي الوحيد نحو تلِكُم الشُعوب المـُستضعَفَة.

ويبدو أنّ الحائط الجبلي المذكور في القرآن كان مُمتدّاً امتداداً عَرضيّاً كبيراً يُفضي من جانبَيه إلى بحرَينِ لا يُمكن عُبورهما (بحر قزوين في الشرق والبحر الأسود في الغرب)؛ لذلك عَرَض القوم البدائيّون الضُعفاء في جنوب جبال قوقاز على ذي القَرنَينِ (كورش) بناء سدٍّ يُوقف زَحف المـُتوحّشين تماماً.

وقبل أنْ نتحدّث عن سدّ ذي القَرنَينِ وأنّه هل هو سدّ كورش الذي بناه على أقوم استحكام، ممّا يتطّلب تقدُّماً حضارياً من حيث الإمكانيّات التي قدّمها كورش لانجاز هذا المشروع الجَلَل والذي يُعدّ آية في تأريخ البشريّة الصناعيّة والهندسيّة والعلميّة... لابدّ أنْ نُلقي ضوءً على المـَقدِرات الفنيّة يومذاك ولا سيّما في بلاد فارس على عهد كورش أي قبل الميلاد ببِضع قُرون.

التحضّر البشري في عهد ذي القَرنَينِ

يقول الدكتور عبد العليم - أُستاذ الجغرافيا المـُساعِد في جامعة ابن سعود ويحمل شهادة زَمالة الجغرافيّين الملكيّة - لندن -: دراسة جغرافيّة منطقة السّدّ، دراسة جيولوجيّة واقتصاديّة لمعرفة إمكانيّاتها الطبيعيّة والإمكانات البشريّة التي كان من المفروض

٤٩٧

تَوفُّرها للوفاء باحتياجات السّدّ التي طلبها ذو القَرنَينِ، ودراسة مدى التَحضّر البشري حينذاك.

بالنظر إلى الآية الكريمة ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) (1) نرى أنّ الإمكانيّات التي قدّمها كورش لإتمام السّدّ هي: الخُبرَة والمـُهندسينَ والإشراف، وأمّا الإمكانيّات التي طلبها من سُكّان المنطقة فكانت تنحصر في:

1 - القوّة البشريّة (العَمّالة).

2 - خامات الحديد.

3 - الفحم أو الخشب لصَهر الحديد.

4 - خامات النُحاس.

5 - عددٍ مّا من حيوانات الجرّ والحَمل.

6 - استهلاك العُمّال والمـُهندسينَ من طعام وشراب ومأوى.

ولنا أنْ نتساءل: هل كانت (فارس) على درجة من التحضّر والتقدّم بما يُوفّر الخُبرَة الهندسيّة لتشييد السُدود والأعمال العُمرانيّة الضَخمة؟

لفارس، حضارتها الخاصّة بها بلا شكّ، ولكن مصر الفرعونيّة - بشهادة التأريخ - قَدَّمت لها أعظم مدرسة في التشييد والبِناء والصناعة. لقد قدّمت مصر - وكانت على اتّصال وثيق ببلاد الشرق الأدنى منذ 4000 سنة - للحضارة الفارسيّة العلوم الرياضيّة والهندسيّة والطبّ والفَلَك وتعبيد الطُرُق والكتابة والتقويم والساعات والورق وفنّ المكتبات وحفظ الوثائق، والأثاث الدقيق والمصقول، وفنّ التلوين.

ولم تقتبس فارس من حضارة مصر فقط، وإنّما نَقلت أيضاً - زَمن الهخامنشيّين - من بابل كثيراً من العلوم والفنون والصناعات، وهكذا من اليونان استخدموا مهندسينَ كِباراً لفنّ النحت وبِناء القُصور الشامخات والأَعمدة الرفيعة والأقواس من الرُخام

____________________

(1) الكهف 18: 95 - 96.

٤٩٨

والأحجار الثمينة (1) ، ولا نَنكُر أنّهم - أي الفُرس - أَضافوا إلى ما أَخذوه وخَلَّفوا لنا حضارةً راقيةً، هي مَزيج من حضارات العالَم القديم مصر - بابل - يونان.

وإجابة على السؤال، يُمكن القول: إنّ الفُرس - في عصر الهخامنشيّين - امتازوا بمهارتهم في فنّ العِمارة والبِناء، يشهد بذلك كلّ ما اكتشفه علماء الآثار هناك من أَبنية تَدلّ على عَظَمة التصميم الهندسي، ودقّة اختيار الموادّ الخام، وتطويعها للغرض الإنشائي المـَنشود، فقد أَخذ البنّاءون الفُرس يَتعلّمون فنّ المِعمار من الشُعوب التي خَضَعت لهم (سومر - آشور - كلدان - يونان) وسُرعان ما استوعبوا أَسراره.

ومَن ينظر إلى مقبرة وقُصور كورش، ودارا الأَوّل، وخِشَيارْشا الأَوّل، يُدرك عُمق تأثّر المِعمار الفارسي بما يُحيط به من أَنماط في مصر ويونان وبابل وميديا وليديا... ونُدرك نحن ذلك إذا فَحصنا جيّداً ما شيّده كورش في (باساركاد) (2) رُغم تَهدُّمها، فالواقع أنّها صور من الرَوعة والجمال ترسم ملامح الفنّ الفارسي الهخامنشي مُنذ أربعة وعشرين قَرناً، وتزداد صورُ الرَوعة إشراقاً إذا فحصنا (نقش رستم) بالقُرب من (برسبوليس) (3) والآثار الموجودة في هذه المدينة.

بالإضافة إلى ذلك تُوجد أَبنية فارسيّة قُدّر لها أنْ تَفلت مِن مَخالب الحروب والدمار والغارات والسَرِقات وتقلّبات الأجواء، وهي تتمثّل في مجموعة من حُطام القُصور، وبقاياها موجودة حتى الآن في العواصم الفارسيّة القديمة مثل (بارساركاد) و(برس بوليس) و(اكبتانا - همدان).

وهي جميعها تُفيد في دراسة مراحل تَطوّر فنّ التشييد والبِناء في تلك المـَرحلة من حكم الهخامنشيّين لفارس، وتؤكّد أنّ الهخامنشيّين تَتَلمذوا على حضارات أُمَم مُجاورة وأحسنوا التَلمـَذة وأجادوها في كلّ الحقول، سواء أكانت الصناعات المختلفة أو التكنيك

____________________

(1) تأريخ إيران، ص125.

(2) جاء تعريبه: (بازارجاد)، هي مدينة ضخمة بقيت آثارها الفخيمة في مشهد مرغاب، عاصمة الهخامنشيّين القديمة، واقعة على بُعد 18 فرسخاً في الشمال الشرقي من شيراز، وبها مقبرة كورش الكبير قائمة إلى اليوم وفيها عُثِر على تمثال كورش الحجري الشهير.

(3) تخت جمشيد. وتُسمّيه اليونان: (برس بليس).

٤٩٩

أو تعبيد الطُرُق أو الإنشاءات المِعماريّة والفنّية والجسور والسدود.

وكلّها اتّسمت بطابع الأصالة في التخطيط وحُسن التنفيذ بما يُمكن أنْ يجعلنا نقول: إنّ الفُرس صَنعوا ممّا نقلوه رمزاً شاهداً على اتّجاههم الخاصّ وأُسلوبهم المـُتطوِّر.

ويبدو ممّا بقي من آثار حجريّة ودَرَج وأعمدة وأقواس، وتماثيل الحيوانات المـُجسّمة، وبقايا البِناء الذي خَلّد فيه كورش ذِكرى انتصاره على الميديّين، درجة كفاءة التَحضّر الفارسيّ آنذاك، ويبدو أيضاً ممّا بقي من آثار أنّ صوراً قد نُحتت مِن الحجر في هذا المكان من (مشهد مرغاب) ولكنّها خَرُبت، وأنّ نقشاً يُظنّ أنّه لكورش قد دُرِس، وعلى مَقربة من هذا البِناء بِناء عظيم من الحَجَر يقع في ستّ مُدرجات وقد عُرف هذا البِناء اليوم باسم قبر أُمّ سُليمان، ويعتقد المحقّقون أنّه قبر كورش، كما عُثِر على مَقربة منه نقش ترجمته: (أنا كورش المـَلِك الهخامنشي...).

وفي باساركاد تِمثال بارز مَنحوت من الحَجَر يُصوّر شخصاً واقفاً مادّاً يده إلى الأَمام وله جناحان وأجنحة شبيهة بتماثيل الآشوريّين، إلاّ أنّ لِحيته فارسيّة وتاجه مصري وثيابه عيلاميّة (- وهو تِمثال كورش، حسبما استقرّ عليه الرأي أخيراً - ويَنطبق على ذي القَرنَينِ الذي جاء وَصْفه في القرآن وفي العهد القديم، باعتبار أنّ لتاجه قَرنَينِ، أحدهما إلى الأَمام والآخر إلى الخلف) (1) ، هذا عَلاوة على الكثير مِن الحَفريّات التي تَدلّ على أنّ الخرائب هي آثار مدينة عامِرة وعريقة مُوغِلة في القِدَم، لم يبقَ منها سِوى خرائب وآثار قُصور وأَبنية كثيرة فَخمة بقيت الأجزاء الحجريّة منها، يَدلّك على فَخَامتها تلك الدَرَج وهي مِئة وست درجات في عَرض سبعة أَذرع تتصاعد إلى قاعة فسيحة عليها مِئة عمود من الرُخام وبعضها قائمة حتّى اليوم.

وعلى أجنحة الدَرَج تماثيل وتصاوير رجال مَنحوتة على الحَجَر وكان سرير المـَلِك يَحمله 28 مُجسّمة حجريّة، رمزاً إلى مُمَثّلي المـَمالك التي سخَّرها داريوش، وهو جالس على السرير ويرى مِن خَلفه رجل يُظنّ أنّه خشيارشا، كما عَثَر المنقّبون في

____________________

(1) ولعلّه صُنع بأَمره، تَيمّناً بما فاتَحَه دانيال من الرؤيا التي كان قد رآها وهو في أَسر البابليّين، لغت نامه دهخدا، حرف الذال، ص 11569، ذو القَرنَينِ الثاني.

٥٠٠