شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 265419
تحميل: 11468

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265419 / تحميل: 11468
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جيشاً قويّاً لا يُقهر، وأنّه استولى على سرديس (سارد) وبابل، وقضى على حكم الساميّين في غربيّ آسيا، فلم تَقُم له بعدئذٍ قائمة مدى ألف عام كاملة، وضمّ إلى الدولة الفارسيّة كلّ البلاد التي كانت من قبلُ تحت سلطة آشور وبابل وليديا وآسيا الصُغرى، حتى أصبحت تلك الإمبراطوريّة أوسع المـُنظّمات السياسيّة في العالَم القديم ومن أَحسنها حُكماً في جميع عصور التأريخ.

ويبدو - على ما نستطيع أن نتصوّره فيما يُحيط به من سُدُم الأساطير - أنّه (كورش) كان أَحبّ الفاتحينَ إلى النُفوس، وأنّه أقام دولته على قواعد من النُبل وكريم السجايا، وأنّ أعداءه كانوا يَعرفون عنه لين الجانب فلم يُحاربوه بتلك القوّة المـُستيئِسة، التي يُحارب بها الرجال حين لا يجدون بُدّاً من أنْ يَقْتُلوا أو يُقْتَلوا...

... وكانت أُولى القواعد السياسيّة التي تقوم عليها دولته: أنْ يَترك للشعوب المختلفة - التي تتألّف دولته منها - حرّيّة العبادة والعقيدة الدينيّة؛ لأنّه كان عَليماً كلّ العِلم بالمبدأ الأَوّل الذي يبني عليه حكم الشعوب، وهو: أنّ الدين أقوى من الدولة، ومن أجل ذلك لا نراه ينهب المـُدن أو يُخرّب المعابد، بل نراه يُبدي كثيراً من الإكبار والمـُجاملة لآلهة الشُعوب المـَغلوبة، ويُسهِم بما له في المحافظة على أَضرحتها... (1)

ويَزيدك نَباهةً بشأن هذا الرجل العظيم، تلك وثائقه بشأن حُقوق الأُمَم:

وثيقة إعلان حقوق الأُمَم

التي أَصدرها كورش الأكبر مُؤسّس الإمبراطوريّة الفارسيّة مُنذ سنة 2500 أي قبل الميلاد بـ 50 عام، وإليك نصّ المنشور الذي أَصدره كورش إثر فتح بابل سنة 539 ق. م، وقد نُقش على أُسطوانة من الطين المطبوخ (الفخار) وُجدت سنة 1679 م في منطقة (أُور) في مابين النهرين من سهل العراق، وقد كُتبت باللغة البابليّة، والأُسطوانة محفوظة في المتحف البريطاني بلندن:

____________________

(1) المصدر: ص 403 - 404.

٥٢١

أنا كورش

(أنا كورش مَلِك العالَم، المـَلِك الكبير، المـَلِك المـُقتدر، مَلِك بابل وسومر وأَكد، مَلِك الجوانب الأربعة للعالم، ابن قمبيز (كمبوجيه) المـَلِك الكبير، ملك أنشان (أنزان = خوزستان: عيلام) حفيد مَلِك أنشان الكبير، من أعقاب (جيش بيش) المـَلِك الكبير، مَلِك أنشان، دوحة السلطنة الأبديّة، مَوئل عناية (بعل ونبو) (1) ومَوضع رعايتهما، دخلتُ (تين تير = بابل) بلا حرب ولا مقاومة، فاستَبشَر الناس بي، وارتقيتُ على أَريكة البلاد بسلام، إذ ربط (مَرْدوك) الإله الكبير (2) قلوب الناس بي، حيث احترمتُ جانبه طيلةَ حياتي... دَخَل جيشي العظيم بابل بكلّ سُهولة، ولم أَسمح لأيّ شخص أنْ يُثير الخوف والرُعب في أَرض (سومر وأكد).

وتأَمّلت الأوضاع وآلمتني مشاهد وَهنِها في بابل، فبذلتُ جهدي في إحياء المـَعابد والهياكل وإصلاح عِمارتها، كما سَعيتُ في الترفيه على أهل بابل ورفع شقاء العيش عنهم، فأصبحوا في ظلّي مُرفَّهينَ ومُتحرِّرينَ من نَير الذلّ الذي كان وَضَعه عليهم سلاطينهم من قبل (يَقصد: نبوكد نصّر وأحفاده). فعَمرتُ البلاد وأصلحتُ شؤون العباد، ومِن ثَمّ ابتهج (مردوك) كبير آلهة بابل بأعمالي وقد أَثنيتُ عليه بكلّ سرور، فغمرني بعنايته الشاملة... أنا كورش الذي أَثنيتُ عليه وكذا ابني قمبيز وكلّ أفراد عسكري، فَشَملنا جميعاً ببركاته.

فملوك العالم، المـُتكّئون على أرائكهم في القصور، كلّهم من البحر الأعلى حتّى البحر الأسفل، ومُلوك المـَغرب الذين يعيشون في الخيام، قَدّموا لي الخَراج والهدايا الكثيرة ولمسوا قَدَميّ وقبّلوهما بكلّ خضوع...

وجَمعتُ شمل الناس وأَحيَيتُ بلادهم وشيّدتُ معابدهم على ما راموا، وأَرجعتُ إليها كلّ ما نُهب منها من مُجوهرات وصور آلهة وأموال، والتي كان (نبونيد) (آخر ملوك بابل، حفيد نبوكد نصّر) قد استلبها ونهبها،

____________________

(1) بعل: اسم للبارئ المـُتعالي عند البابليّين. ونبو: اسم للمـُدبّر الذي يقوم بتدبير العالم عن أمره تعالى.

(2) اسم لكبير الآلهة في معبد بابل، كان يُمثّل الإله ربّ العالمين.

٥٢٢

فأَعدتُها في أماكنها الآمِنة بكلّ صفاء وخلوص، وبذلك كنتُ قد أرضيتُ خاطر الإله الكبير (مردوك) والذي كان قد غَضَب من أعمال الجبابرة من قبلُ، وأرجو أنْ تبتهل الآلهة التي أرجعتُها إلى أماكنها، إلى الله وملائكته (بعل ونبو) كلّ صباح، ليَدوم عُمُري في عافية. وليقولوا: إنّ كورش ووَلَده قمبيز يُكرِمان من شأن الإله في إكبار وإعظام...) (1) .

وثيقة إعلام تحرير اليهود

التي أَصدرها كورش بشأن بِناء القدس الشريف وإعادة مجدِه وتحرير بني إسرائيل من الأَسر البابلي وتزويدهم بالعدّة والمال، والوثيقة مُسجّلة في سِفر عَزرا، الذي تَزَعَّم اليهود في عودتهم إلى أورشليم وإحياء ما دُرس من آثار الديانة اليهوديّة وصحائفها وكُتبها...

جاء فيه:

(نبّه الربّ روحَ كورش مَلِك فارس، فأَطلق نداءً في كلّ أرجاء مَملكته الواسعة، وكَتَب دستوره العامّ إلى كافّة الشعوب التي تحت حكمه). وهذا هو نصّ المنشور:

(أنا كورش مَلِك فارس، أَرفع ندائي بأنّ الربّ إله السماء، هو الذي مَنحني السلطة على جميع مَمالك الأرض، وأمرني أن أُعيد بِناء بيته في أُورشليم التي في يهوذا، وعليه فأُوجّه ندائي إلى جميع شعوب اليهود الذين يعيشون في ظلّ حكومتي، مَن كان منهم يُريد الهجرة إلى أُورشليم - موطنه الأصل - ويَعمر بيت الإله إله إسرائيل، فالله معه وتحت رعايته، وعلى أولئك الذين يُجاورون أبناء اليهود في أيّ البلاد، عليهم أن يُساعدوا هؤلاء بالزاد والمال وحَمولة الركوب، وهدايا يُقدّمونها إلى بيت الربّ في أُورشليم.

____________________

(1) راجع: الصفحة الأُولى من كتاب (تونس وإيران - قرون من التلاقح الحضاري) تأَليف عدّة أساتذة تونسيّينَ، الدار التونسيّة للنشر، عام 1971 م (ذو القَرنَينِ القائد الفاتح والحاكم الصالح، ص 236 - 237)، و (كورش الكبير) (ذو القَرنَينِ)، ص 54 - 55.

٥٢٣

ويقول الأستاذ أبو الكلام آزاد: إنّ أَهمّ شيء في وَصْف ذي القَرنَينِ - حسبما جاء في القرآن الكريم - هو: خُلوص نيّته وطهارة إيمانه بالله، وتمجيده لساحة قُدسه تعالى، وعقيدته بالحياة الأُخرى... فهل هذه الصفات تَتَصادق مع سِمات كورش؟

ولعلّ القرائن والشواهد الراهنة في حياة كورش، تؤيّد جانب الإثبات، وأنّ سِماته نفس السِمات والصفات المذكورة في وصف ذي القَرنَينِ...

وأَولى هذه الشواهد، هي عقيدة اليهود بشأنه، حتّى جَعلوه المـُنجي المنتظر من قِبَل الله، ورفعوه إلى منزلة المسيح، أي الصفوة من أوليائه المـُخلصينَ.

ولا شكّ أنّ اليهود يَصعب عليهم الإيمان برجل هو خارج مَذهبهم في الإيمان بالله تعالى فضلاً عن عابد وَثَن أو ساجد نار...

وأيضاً فمن المقطوع به أنّ كورش كان على دين (زردشت) وهو دين التوحيد والعقيدة بوحي السماء ويوم الجزاء والدعوة إلى الطهارة والقداسة في الحياة... وكان لابدّ أنّ كورش كان يستقي في أخلاقه الكريمة من هذا المـَعين الصافي والضافي بمكارم الأخلاق، والتي منها الدعوة إلى رؤوس الأخلاق الثلاثة:

1 - (هو مت (بندار نيك)): صدق النيّة.

2 - (هو خت (كفتار نيك)): صدق القول.

3 - (هو ورشت (كردار نيك)): صدق العمل.

هذا هو أَساس تعاليم زردشت الدينيّة، ومِن مِثل هذه الأخلاق يمكن أن يَتكوّن مَزاج كورش الملكي الفخيم!

قال: فإن كان ذو القَرنَينِ يَدين بدينٍ (مزديسنا) أي بالدِين الزردشتي، ويُثبت له القرآنُ الإيمانَ بالله واليوم الآخر، ليس هذا فحسب، بل يَجعله من المـُلهمين من عند الله، أَفَلا يلزم من هذا أنّ دين زردشت كان ديناً صحيحاً إلهيّاً؟ أجل، يلزم هذا، وليس هنالك ما يحملنا على رفض هذا اللزوم؛ لأنّه قد ثَبت الآن نهائيّاً أنّ دِين وزردشت كان دين

٥٢٤

التوحيد والأخلاق الفاضلة، وأنّ عبادة النار (1) والعقيدة الثنويّة (2) ليسَتا منه، بل من بقايا مجوسيّة (3) (مادا) التي اختلطت بالزردشتيّة في العصور التالية (4) .

ثُمّ يأخذ مولانا أبو الكلام آزاد في الكلام عن ديانة زردشت وأنّها كانت دين توحيد خالص، وكانت دعوتها قائمة على أساس فضيلة الأخلاق والإيمان بيوم الحساب، وكان ازدهار هذه الديانة على عهد الهخامنشيّين كما يبدو من وثائق نَحتها ملوكهم العِظام على صخور الجبال.

تلك وثائق داريوش - الذي تَسنّم الحكم بعد كورش بثمان سنوات - تتجلّى على صفاح الجبال الشامخة قبل ألفين وخمسمِئة عام، جاء في إحداها:

(هو الله العظيم)، (آهورا مزدا)، (5) خالق السماوات والأرض وخالق الإنسان ومنحه لَذّات الحياة، والذي أكرم داريوش بكرامة المـُلك والسلطنة على مَملكة واسعة الأرجاء، ومَنحه برجال أكفاء وأفراس جياد...).

وجاء في أخرى:

____________________

(1) لم تكن هناك عبادة نار بمعنى قداستها، بل جُعل حريم لها حفاظاً على الإبقاء لإشعالها لغرض استفادة العموم منها في حوائجها اليوميّة، حيث كان إيقاد النار على العامّة صعباً، فجعلوا مكاناً خاصاً لإشعالها ليل نهار في خِدمة الناس؛ ولئلاّ يتعرّض السَفَلة لإطفائها فرضوا لها حريماً وفرضوا حرمتها لذلك محضاً، بلا أن يكون ذلك قداسة أو عبادة.

فلم يكن المجوس يوماً ما يُقدّسون أو يعبدون النار، نعم كانوا يأخذون بجانب حرمتها لغرض الخدمات العامّة تسهيلاً على الناس في حوائجهم... وقد ظلّت هذه العادّة مستمرّة حتى الأيّام التي لم تَعد حاجة إلى ذلك؛ تقليداً لسُنّة السَلف محضاً.

يقول الفردوسي في ذلك:

مكوئي كه آتش برستان بُدَنْد

برستنده نيك يزدان بُدَنْد

(لا تقل إنّهم عَبَدة النار

إنّما هم عَبَدةٌ صالحون لله تعالى)

(2) لا أساس للعقيدة الثنويّة في مبدء الوجود، وإنّما هو إله واحد (آهورا مزدا) هو خالق كلّ شيء، وبما أنّه خير محض، فكلّ مخلوقاته خير، نعم كانت الشرور بفعل (أهرِيمن) (الشيطان) الذي هو فاعل الشرور بتسويلاته، لا أنّه خالقها.

وقد صرّح زردشت بأن ليس هناك إلهاً هو خالق الشرور، بل هناك مَظهرٌ للشرور سَمّاه (انكره مي نيوش) وتحوّل إلى (آنرومين) وأخيرا إلى (أهرِمَن)، هو الشيطان الرجيم عند المسلمين، ذو القَرنَينِ، ص 257 - 260.

(3) مجوس، لفظة عِبرية عربيّة، مُعرّب (موغوش) (موكوش - بالكاف الفارسيّة) أي (مغ) و (موبدان) يُطلق على سَدَنة المعابد وبيوت النار عند المجوس، وراج استعماله على كلّ مَن اعتنق المجوسيّة.

(4) كورش الكبير (ذو القَرنَينِ)، ص 246 - 254.

(5) يعني: الإله الحكيم. راجع: تأريخ جامع أديان، جان بي ناس، ترجمة علي أصغر حكمت، ص 456.

٥٢٥

(يقول الملك داريوش: (آهورا مزدا) هو الذي مَنحني بفضله المـُلك وغمرني بتوفيقه لإشادة مَباني العدل وسيادة الصُلح والأَمن في كلّ البلاد وفي كلّ أصقاع الأرض... فيا آهورا مَزدا! أَعنّي وأَهلي وكلّ أهل الأرض الذين جَعلتَهم تحت سلطاني؛ لنكون في حمايتك وحراستك، ربّ كما دعوتك فاستجب لي دعائي...).

وفي ثالثة:

(أيّها الإنسان، أقول لك ما أمرني الإله (آهورا مزدا): كُن على الصراط المستقيم ولا تَحِد عنه شيئاً، ولا تظنّ بأحد ظنَّ سوء، ومِن الأجرام والآثام فاحترز وكُن على حذر...).

يقول الأستاذ آزاد: ولا تنسَ أنّ داريوش هو من بني أعمام كورش، وتَسنّمَ الحكم بعده بثماني سنوات، ومِن ثَمّ فما يقوله داريوش، هو في الحقيقة لسان حال سَلفه كورش، وكلّ ما ذَكره داريوش وتَضرّع إلى الله مُبتهلاً: أنّ توفيقاته على القيام بمهامّ الأمور إنّما هي بفضله ورحمته تعالى... أَفهل لا يكون ذلك مُتصادقاً مع ما ذَكره القرآن الكريم عن لسان ذي القَرنَينِ: ( هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي! ) (1) .

وقد مرّ عليك منشور كورش بشأن الأَسرى اليهود وإعادة بناء الهيكل في أُورشليم: (هكذا قال كورش مَلِك فارس: جميع مَمالك الأرض دفعها لي الربّ إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتاً في أورشليم التي في يهوذا...) (2) .

هنا ملحوظة

إنّ كارثة الإسكندر المقدوني الفظيعة، والتي أُصيبت بها إمبراطوريّة فارس ذاك العهد، هي بعينها ككارثة بخت نصّر الفجيعة، والتي أُصيب بها القدس وجامعة اليهود في حينها... فقد أبادت وكسحت كلّ معالم الحضارة في المنطقة، ومزّقتها شرَّ مُمَزَّق، فلم تبقَ

____________________

(1) الكهف 18: 98. راجع: كورش الكبير (ذو القَرنَينِ)، ص 262 - 263.

(2) سِفر عَزرا - الإصحاح الأَوّل.

٥٢٦

لها أثراً يُذكر، ليس في المدنيّة فحسب بل وحتّى وثائق الديانة السائدة هناك ذهبت أدراج الرّياح.

يقول الأُستاذ آزاد: في الحقيقة يجب أن لا ننسى الغزو الإسكندري لم يكن ليُبيد دولة الفُرس وحدها، بل وشمل المـُقدّسات الدينيّة فمَزّقها... وفي رواية قديمة جاء: أنّ كتاب زردشت كان يحوي على اثني عشر ألف ورقة مَكتوباً عليها بالذهب (1) ، وهذا وإن كان مُبالغاً فيه، غير أنّ هذا الكتاب بجملته قد احترق حين هجم الإسكندر في ضمن سائر الكُتب والصحائف... على غِرار ما أُصيبت التوراة بحملة بخت نصّر!

ومِن ثمَّ عاملهم نبيّ الإسلام (صلّى اللّه عليه وآله) معاملة أهل الكتاب، وقال: (سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب) (2) ، وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّي أعلم ما عليه المـَجوس، عندهم شريعة يَعملون بها، وكتاب يُؤمنون به، فعامِلوهم مُعاملة أَهل الكتاب...) (3) .

* * *

بقي هنا سؤال: كيف يُثني رجل التوحيد على آلهة عُبّاد الوثن - كما عرفت في منشور بابل - لو كان كورش ذلك العبد الصالح (ذا القَرنَينِ) الذي يصفه القرآن؟!

لكن يجب أن لا ننسى أنّ رجال الحِكمة يرون الإنسان - على مُختلف شُعوبه - إنّما يَرنو بفطرته الذاتيّة إلى خالقه المـُتعالي، هادفاً ذلك الجمال الأوفى، حتّى ولو اختلفت التعابير وتنوّعت الأساليب:

عباراتُنا شتّى وحُسنك واحد

فكلٌّ إلى ذاك الجمال يُشير

وحتّى الوثني إنّما يهدف الزُلفى إلى الله تعالى، وقد جَعل الوثن رمزاً يهديه إلى ذلك

____________________

(1) جاءت هذه الرواية في (دين كُرْت)، كورش الكبير، ص 264، وفي مروج الذهب، ج 1، ص 229، أنّ هذا الكتاب في اثني عشر ألف مجلّد بالذهب، فيه وَعد ووعيد وأمر ونهي وغير ذلك من الشرائع والعبادات فلم تَزل المـُلوك تعمل بما في هذا الكتاب إلى عهد الإسكندر فأَحرق بعض هذا الكتاب.

وهكذا ورد في كتاب النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) إلى مشركي قريش بشأن المجوس، راجع: الكافي، ج 3، ص 568، رقم 4.

(2) رواه البيهقي في السُنن الكبرى، ج 9، ص 189 - 190.

(3) روى البيهقي قريباً منه، ج 9، ص 188 - 189، وراجع: كتاب الخراج لأبي يوسف، ص 129.

٥٢٧

المقصد الأعلى والمطلوب الأوفى، قالوا: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ! (1)

ومِن ثَمّ نرى كورش عند ما يتكلّم مع بني جِلدَته وفي أوساط توحيدية خالصة، يَذكر الإله تعالى ويَصفه بأَسمى تمجيد: (آهورا مَزدا) يعني الخالق الحكيم، ربّ العالمين، ربّ السماوات والأرض ومدبّرهما (2) .

وهو عند ما يَعلن بمشروعه الفخيم بشأن إطلاق سَراح بني إسرائيل والتعبئة، لإعادة بناء القدس الشريف وإحياء معالم دين اليهود المـُتمزّق، نراه يُعبّر عنه سبحانه بـ (يَهُوَه) على حدّ تعبير اليهود أنفسهم، يُريدون ذاته المقدّسة، خالق السماوات والأرض ومدبّرهما (3) .

وهو كذلك عندما يَصف الإله المـُتعالي بلسان البابليينَ، لكنّه يَصفه وصفاً لا ينطبق إلاّ على اللّه سبحانه، وإن كان التعبير مُنساقاً حسب مصطلح المنطقة، فهو يُعبّر بـ (مردوك) - وِفق تعبير أهل بابل - ولكن يَصفه بعظمة ربّ الأرباب وإله العالمينَ، وهكذا عَبَّر عنه بـ (بَعْل) بمعنى الربّ الأعلى والسيّد المالك إله السماوات.

وقد كان البابليّون يَرون من (مردوك) مُمثّل الإله رب العالمين (4) .

هذا، مضافاً إلى ما يراه المؤرّخون من أنّ هذا المنشور المـَلكي كان قد نُظّم بمعونة كِبار الكَهَنة وعلى وِفق آداب ومراسيمهم الدينيّة، والذي جاء تعقيباً على منشور سابق كَتبه الكَهَنة أنفسهم ترحيباً بجانب المـَلِك الفاتح النبيل (5) .

فلا غَرْو أن نجد فيه تعابير تتّفق مع رسوم البابليّينَ محضاً... أمّا المعنى والمـُحتوى فمُحتمل التأويل.

* * *

والسؤال الأخير: حتّى ولو كانت الشواهد وَفيرة على أنّ كورش هو ذو القَرنَينِ

____________________

(1) الزمر 39: 3.

(2) تأريخ جامع أديان، ص456 - 457.

(3) إيران باستان، كتاب 2، كورش، لحسن بيرنيا، ج2، ص401.

(4) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة، ج3، مادة بعل، وإيران باستان، ج1، ص114 و119 وج2، ص386 - 387.

(5) راجع: إيران باستان، ج2، ص391.

٥٢٨

المذكور في القرآن، وأنّه هو الذي بنى السدّ الحديدي العظيم... فمِثل هذا المشروع الجَلل، والذي كان - على الفرض - من أَكبر مفاخر الأُسرة الهخامنشيّة ولا سيّما كورش رأس السلسلة... فلما لم يذكره المؤرّخونَ، ولم يَلهج به أبناء الفُرس المـُتعصّبينَ على مفاخرهم في التأريخ، وهلاّ ذَكره كورش في مفاخره ضِمن سائر مفاخره والذي هو أعظمها وأجلّها... ولِمَ لمْ يعرفه العرب عنه ذلك وكانوا مُولعينَ بذِكر تأريخ الفرس وبطولاتهم، ولا ننسى أنّ قَصص الفرس كانت منتشرةً بين العرب، وكان لهم أنصار بينهم، وقد تأثّروا بأدبهم ورواياتهم وقَصصهم الشعبيّة...؟! (1) .

والإجابة على ذلك واضحة لمـَن سَبر تأريخ ذلك العهد وما اعتورته من خُطوب وأحداث كادت تكسح بكلّ آثاره وتذروها ذروَ الريح العقيم. إنّ ما حدث بعد عهد الهخامنشيينَ من هجمات الإسكندر المقدوني العَمياء، لم يدعِ شيئاً من معالم الحضارة قبلها إلاّ طَمسته وعملت في إمحائها عن صفحة الوجود، عملاً مستمّراً طول أَحقاب، بحيث أنست كلّ معالم التأريخ وآثار المدنيّة العظيمة والتي شيّدتها الحُكماء والنُبلاء من ذي قَبل.

وفي العهد الساساني قامت حركة لإحياء التراث القديم، ولكن من غير جدوى وبعد عهد طويل، وإنّما هي مقتطفات من أفواه الرجال وفيها الكثير من التحريف والتحوير، فهي بأن تكون صورة ممسوخة، أشبه منها أن تكون حقائق ناصعة.

تلك كانت مَغبّة أجرام قام بها الإسكندر وأخلافه (السلوكيّون) حوالي قرن، ومِن بعدهم (الأشكانيّون) طيلة خمسة قرون، حتّى جاء دور الساسانيّينَ؛ ليقوموا بإحياء التراث القديم من جديد.

الأمر الذي جعل صفحة التأريخ خِلواً من ذِكر تلكم الآثار الجليلة والتي كان من حقّها الخلود مع الأبد.

وحتى أنّ أبناء الفُرس لم يَكد يعرف منهم شيئاً من جلائل آثار كورش وأعقابه،

____________________

(1) ذو القَرنَينِ القائد الفاتح والحاكم الصالح، ص243 - 244.

٥٢٩

فضلاً عن غيرهم من عرب الجزيرة.

وأمّا أنّ كورش نفسه، لِمَ لمْ يَذكر ضِمن مفاخره بناء ذلك السدّ العظيم، فالأمر أيضاً واضح، بعد أن عَلِمنا أنّ بناء السّدّ كان من أُخريات أَعماله الضخمة، والذي كان حتفه فيه ولم يُمهله الأَجل لتسجيله، كما سَجّل غيره من أعمال...

والعُمدة في التدليل على عمليّة السدّ على يد كورش، ما ذكره الأُستاذ خضر بهذا الشأن، قال:

(وقد رأينا خلال السرد التأريخي أنّ القبائل المغوليّة كانت لا تَتَكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد، وكلّ صفحات التأريخ تذكر لنا أنّ ثَمّة تَوقّف مفاجئ حدث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المتوحّشة، وتُشير أصابع الدقّة التأريخيّة نحو الحُقبة التي ظهر فيها كورش الأخميني أو الهخامنشي (1) .

... هذا بعد أنْ لم نَعرف في التأريخ القديم ما يصلح تفسيراً تطبيقيّاً للآية سِوى ما عرفناه بشأن كورش العظيم، فلعلّه هو ذو القَرنَينِ الذي جاء ذِكره في القرآن - حيث الأكثر انطباقاً عليه - واللّه العالم بحقيقة الحال.

سدّ مأرب العظيم!

وحيث جرى الحديث عن سدّ ذي القَرنَينِ، كان المـُناسب التحدّث عن سدّ مأرب وقد اشتبه الأمر على بعضهم فحسبه هو المنسوب إلى ذي القَرنَينِ.

قال الحموي: هو بين ثلاثة جبال يَصبّ ماء السيل إلى موضع واحد، وليس لذلك الماء مَخرج إلاّ من جهة واحدة، فكان الأَوائل قد سدّوا ذلك الموضع بالحجارة الصُلبة والرصاص (الصاروج) فيجتمع فيه ماء عيون هناك، مع ما يفيض من مياه السيول، فيصير خلف السّدّ كالبحر، فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا من ذلك السّدّ بقَدَر حاجتهم

____________________

(1) مفاهيم جغرافية، ص312.

٥٣٠

بأبواب مُحكَمة وحركات مُهندَسة، فيَسقون حسب حاجتهم ثُمّ يسدّونه إذا أرادوا... (1)

وذكر البيروني (362 - 440) - في الآثار الباقية -: أنّه قيل: هو شمر يرعش الحميري، وسُمّي بذلك لذؤابتينِ كانتا تَنُوسان على عاتقيه، وقد بَلغ مشارق الأرض ومغاربها وجابَ شمالها وجنوبها ودوّخ البلاد وأخضع العباد، وبه يفتخر أحد مَقاول اليمن وهو أبو كرب أسعد بن عمرو الحميري في شعره الذي يقول فيه:

قد كان ذو القَرنَينِ قبلي مُسلماً

مَلِكاً علا في الأرض غير مُعبَّدِ

بَلَغ المشارق والمغارب يبتغي

أسبابَ مُلكٍ من كريم سيِّدِ

فرأى مَغيب الشمس وقتَ غروبها

في عين ذي حماءٍ وثأطٍ حَرمدِ

مِن قبله بلقيسُ كانت عَمَّتي

حتى تَقضَّى مُلكها بالهُدهُدِ (2)

ورجّح البيروني هذا القول ورآه أقرب الأقاويل، فإنّ الأذواء كانوا من اليَمن، كذي المنار وذي الأذعار وذي الشناتر وذي نؤاس وذي جدن وذي يزن، وأخباره مع هذا تُشبه ما حُكي عنه في القرآن... (3)

وشمر يرعش هذا هو أَوّل مُلوك حمير من الطبقة الثانية، كانت مدّة مُلكه (275 - 300 م).

وأسعد أبو كرب هو سابع مُلوكهم من نفس الطبقة (385 - 420 م) (4) .

ولعلّ الأمر اشتبه على البيروني؛ إذ الذي يفتخر به أسعد أبو كرب، هو ثاني مُلوك حِميَر من هذه الطبقة، واسمه (الصعب) الملقّب بذي القَرنَينِ عندهم وقد ملك سبأ وريدان وحضرموت (300 - 320 م). وبه افتخرت العرب الأوائل في أشعارها وخُطَبها، منها خُطبة قُسّ بن ساعِدة الأيادي (5) المعروفة:

____________________

(1) معجم البلدان، ج5، ص35.

(2) في لفظ الأبيات اختلاف مع ما سبق نَقله، والصحيح ما أثبتناه هناك.

(3) الآثار الباقية عن القرن الخالية، تحقيق وتعليق برويز أذكائي، ص47 - 48، وراجع: البداية والنهاية، ج2، ص105.

(4) العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان، ص143.

(5) خطيب جاهلي مات حدود (600 م) كان يُضرب به المـَثَل في البلاغة وحُسن البيان، يُقال: إنّه كان من نصارى نجران، وكان يَعِظ قومه في سوق عُكاظ.

٥٣١

(يا معشر أياد! أين الصعب ذو القَرنَينِ، مَلَك الخافِقَينِ، وأَذلّ الثَقَلينِ، وعُمِّر أَلفين، ثُمّ كان ذلك كلحظة عين...).

وأنشد ابن هشام للأعشى:

والصَعبُ ذو القَرنَينِ أَصبح ثاوياً

بالحِنوِ في جَدَث أُمَيم مُقيمِ

قوله بالحِنو، يريد: حِنو قراقر، الذي مات فيه ذو القَرنَينِ بالعراق (1) .

وسننبّه: أنّ تلك الأبيات وهذه الخطبة من مختلقات الأَواخر، وليس عليها صِبغة جاهليّة قديمة.

وأغرب منه ما ذَكَره المـُفجَّع في أخبار مُلوك اليمن، قال: لمـّا مات (ياسر يُنعم) (250 - 275 م) آخر مُلوك حِمير من الطبقة الأُولى، قام مِن بعده (شمر يرعش) (275 - 300 م) - أَوّل مُلوكهم من الطبقة الثانية - فجمعَ جنوده وسار في (000/500) خمسمِئة ألف رجل حتّى وَرَد العراق، فأعطاه (يشتاسف) (عامل ملوك الفرس على العراق) الطاعة... فسار لا يَصدّه شيء نحو بلاد الصّين، فلمـّا صار بالصغد تَحصَّن أَهلها بمدينة (سمرقند) فاستنزلهم من غير أمان وقتل منهم مَقتلة عظيمة وأمر بالمدينة فهُدِمت، فسُمّيت: شمركند، فعرّبتها العرب (سمرقند)، ولكنّه مات هو وجنوده في طريقهم إلى الصّين...

فبقيت سمرقند خراباً إلى أن مَلَك (تُبَّع الأقرن) (ثالث ملوك حمير بعد شمر يرعش - على رواية حمزة الأصفهاني) فتجهّز نحو الصّين، فوَرد العراق، فأعطاه (بهمن بن اسفنديار) الطاعة، حتّى وصل إلى سمرقند فوجدها خراباً فأمر بعِمارتها، وسار حتّى أتى بلاداً واسعة فبنى (التبّت)، ثمّ قصد الصين فقتل وسبى وأَحرق، وعاد إلى اليمن مُظفّراً... وعن الأصمعي: على باب سمرقند نُقوش وكتابات تُعيّن أبعاد البلاد عنها... (2)

____________________

(1) الروض الأنف للسهيلي، ج2، ص59.

(2) أورده ياقوت في معجم البلدان بشأن مدينة سمرقند، ج3، ص247 - 248، وراجع: العرب قبل الإسلام، ص123 و143 - 144.

٥٣٢

وهكذا ذَكر ابن خلدون: أنّ شَمَرْ يرعش (275 - 300 م) - سُمّي بذلك؛ لارتعاشٍ كان به - ويُقال إنّه وطئ أَرض العراق وفارس وخراسان وافتتح مدائنها وخَرّب مدينة الصغد (1) وراء جيحون، فقالت العجم (شَمَركَنْد) أي شمرخرّب، وبنى مدينةً هناك باسمه وعرّبته العرب فصار (سَمَرقَند).

ويقال: إنّه الذي قاتل (قُباذ) (2) مَلِك الفارس وأَسره! وأنّه الذي حَيّر (الحيرة) (3) وكان مُلكه (160) سنة، وذَكر بعض الأخباريّينَ أنّه مَلَك بلاد الروم! وأنّه استعمل عليهم (ماهان قيصر)، ذكر ذلك ولم يُعلّق شيئاً...! (4) .

لكنّه في المقدّمة يأتي عليها ويذروها ذرواً، ويجعلها أوهاماً خرافيّة هي أشبه بقَصص شعبية أساطيريّة، يقول: ومن الأخبار الواهية ما ينقلونه عن التبابعة مُلوك اليمن وجزيرة العرب، أنّهم كانوا يغزون من قُراهم بجيوش حافلة إلى أقاصي البلاد، ويدوّخون المعمورة كلّها بحملات متتالية، وأنّ ذا الإذعار من ملوكهم غزا المـَغرب ودوّخه، وكذلك ياسر ابنه بَلغ وادي الرمل في بلاد المغرب، وأنّ تُبَّع الآخر وهو أسعد أبو كرب، مَلِك الموصل وآذربيجان ولقى التُرك فهَزَمهم وأَثخن ثُمّ غزاهم ثانية وثالثة، وأغزى بعد ذلك ثلاثةً من بنيه: بلاد فارس، وإلى بلاد الصغد من بلاد أُمَم التُرك وراء النهر، وإلى البلاد الروم، فمَلَك الأوّل البلاد إلى سمرقند وقطع المغازة إلى الصين فوجد أخاه الثاني قد سبقه إليها، فأَثخنها في بلاد الصين ورَجعا جميعاً بالغنائم، وتركوا ببلاد الصين قبائل من حِمير، فهم

____________________

(1) صُغد: منطقة واسعة، قصبتها سمرقند، وهي قُرى متّصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى بخارى، من أزهى بلاد العالم وأجملها، قال الحموي: هي من أطيب أرض اللّه، كثيرة الأشجار، غزيرة الأنهار، متجاوبة الأطيار... معجم البلدان، ج3، ص409.

(2) ولعلّه والد أنوشيروان الملك الساساني، كان مدّة (487 - 531 م) وتُوفّي مُوفّقاً في أمره عن عمر جاوز الثمانين، كان قد عَمَر البلاد وأشاد كثيراً من المـُدن في حياته وفوّض المـُلك إلى ابنه أنوشيروان بسلام. تأريخ إيران، ص205 - 209.

(3) مدينة كانت عامرةً قرب الكوفة بالعراق، كانت قاعدةَ مُلك الملوك اللخميّين (المناذرة). كان اللخميّون عُمّال الفرس على أطراف العراق، كما كان الغساسنة عُمّال الروم على مشارف الشام، وكان أَوّل من حَكم العراق آل تنوخ ومنهم جذيمة الأبرش وصار الحُكم بعده إلى =

٥٣٣

بها إلى هذا العهد، وبلغ الثالث إلى قسطنطينيّة فَدَرسها (هَدمها ومحى أَثرها نهائيّاً) ودوّخ بلاد الرّوم ورجع...

قال: وهذه الأخبار كلّها بعيدة عن الصحّة، عريقة في الوَهم والغَلط، وأشبه بأحاديث القَصَص المـُوضوعة... ثُمّ أخذ في التدليل على بطلانها بأساليب النقد النزيه... (1)

وهكذا يقول الدكتور السيد سالم - في حديثه عن تأريخ جاهليّة العرب -: (لا شكّ أنّ ما رواه العرب عن فتوحاته لا يعدو قَصصاً خرافيّة. والثابت أنّه (تُبَّع الأكبر - شمر يرعش) انتصر على مناطق من بلاد العرب الجنوبيّة وأنّه تغلّب على قبائل تهامة التي كانت تسكن على ساحل البحر الأحمر...) (2) .

وهكذا يستبعد الدكتور (هبو) تلك الأخبار عن ملوك التبابعة، يقول: (فعصرُ التبابعة عند العرب من أزهى العصور وأَكثرها لخيالهم الخِصب، إذ يرون القَصص الخياليّة والأساطير عن قوّتهم وعظمتهم، فينسبون إليهم غزو أفريقيا والهند والصين وإخضاع فارس وبلاد ما وراء النهر ومصر والمغرب... ممّا دعا ابن خلدون إلى وصف هذه الروايات بالوهم والغلط...) (3) .

* * *

تلك أساطير بائدة أو شئت فقل قَصص شعبيّة حاكتها أوهام خيال هي أشبه بطيف أحلام.

إنّ سبأ كانت في أَوّل أمرها إمارة أو مَشيخة صغيرة تَحكم ناحية من اليمن، ثُمّ أخذت تتّسع حتّى شملت اليمن كلّه وحضرموت وتهامة، هذا فحسب ولم تتعدّ حدود اليمن في يوم من الأيّام.

كانت عاصمة سبأ مدينة مأرب حتى نهاية القرن الثالث للميلاد، ثمّ حَلّت محلّها

____________________

= ابن أُخته عمرو بن عديّ وهو من آل نصر فرع من لخم؛ ولذلك فإنّ هذه الدولة تسمّى دولة آل نصر، أو آل لخم، أو آل عمرو بن عديّ، أو مُلوك الحيرة، أو المناذرة - باعتبار خمسة من ملوكهم سُمّوا بالمنذر. وآخرهم المنذر المغرور - وكان المناذرة قد تَنصّروا على مَذهب النساطرة. كانت مدّة مُلكهم 360 سنة (268 - 628 م). وقصبة ملكهم جميعاً الحيرة، على ثلاثة أميال من مكان الكوفة على ضفة الفرات الغربيّة في حدود البادية، وتقع الآن في الجنوب الشرقي من النجف الأشرف، ولم تكن للحيرة وملوكهم أيّ صلة بملوك حِمير اليمنيّين، العرب قبل الإسلام. ص221 - 223.

(4) تأريخ ابن خلدون، ج2، ص52.

(1) مقدمة ابن خلدون، ص 12 - 14.

(2) راجع: كتابه (تأريخ العرب في عصر الجاهليّة)، ص140 - 153، ط 1971م، وكتابه الآخر (تأريخ العرب قبل الإسلام)، ص55، ودراساته في تأريخ العرب قبل الإسلام، ج1، ص114 - 127، فهي نفس الأبحاث مكرّرة في الكُتب الثلاثة. (ذو القَرنَينِ لمـُحمّد خير رمضان، ص181، الهامش).

(3) تأريخ العرب قبل الإسلام الدكتور أحمد ارحيّم هبو، ص132 - 133. راجع: مُحمّد خير رمضان، ص182.

٥٣٤

مدينة ظفار. ولذلك أسباب سياسيّة واقتصاديّة ذَكرها المؤرّخون.

يقول جرجي زيدان: أَخبار اليمن - على ما ترويه العرب - أكثرها مُبالغ فيها، وبعضها أقرب إلى الخرافات منه إلى الحقائق... كغزو شمر يرعش المشرق فدوّخ خراسان وهَدم مدينة الصُّغد وبنى سمرقند... وأنّ أسعد أبو كرب غزا الصين والتُرك، وغير ذلك ممّا يُخالف العقل فضلاً عن نُصوص التأريخ العامّة... (1)

وقد نبّهنا أنّ الأبيات المنسوبة إلى تُبّع أو أسعد أبي كرب، تبدو مُختلقة وأنّها من صُنع بعض أبناء اليمن بعد ظهور الإسلام؛ إذ ملامح الاقتباس من القرآن عليها لائحة، والمنسوب إلى قسّ بن ساعدة، خُرافة مفتعلة لا يعتريها شكّ!

مَن الذي بنى سدّ مأرب؟

أمّا ومَن الذي بنى سدّ مأرب، الذي حطّمه سَيلُ العَرِم، على ما جاء ذِكره في القرآن الكريم؟

مأرب، وتُسمّى أيضاً (سبأ) هي أشهر مُدُن اليمن القديمة، ويَلوح أنّ لفظها آرامي الأصل، مركّب من (ماء) و(رأب) أي الماء الكثير أو السيل الكبير، ويُؤخذ ممّا عُثر عليه من أنقاضها أنّها كانت مستديرة الشكل، قطرها نحو كيلومتر، يُحدق بها سور منيع له بابانِ، أحدهما شرقيّ والآخر غربيّ، وبجانب الباب الغربيّ، كتابة تفسيرها: أنّه من بِناء يثعمر بيين بن سمهعلي ينوف مكرب سبأ، وفي وسطها آثار هيكل يُسمّيه أهل تلك الناحية الآن: هيكل سليمان.

وكان السيل في وادي (أذنة) يجري في شرقيّها، ليَسقي مابين يديها وما حولها، فتصير كأنّها في جنان وغياض، غير ما كان فيها من الأبنية الضخمة من الرخام.

قال الطمحان يذكر مأرب:

أما ترى مأرِباً ما كان أَحصَنَه

وما حواليه من سُور وبُنيانِ

____________________

(1) العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان، ص122 - 126.

٥٣٥

وقال علقمة يصف بناياتها:

ومنّا الذي دانتْ له الأرضُ كلّها

بمأرب يُبنى بالرُخام دياراً

وبذلك جاء تصديق قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ... )

( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ... ) (1) .

* * *

أمّا السّدّ، فقد كثُر في بلاد اليمن بناء الأسداد، وهي جدران ضخمة كانوا يُقيمونها في عرض الأودية لحجز السيول وخزن المياه ورفعها، لريّ الأرضينَ المرتفعة، كما يُفعل اليوم في بناء الخزّانات، وإنّما عَمَد السبأيون إلى بناء الأسداد؛ لقلّة الأنهار ومجاري المياه في بلادهم (بل في الجزيرة كلّها) مع رغبتهم في إحياء زراعتها، فلم يَدعوا وادياً يمكن استثمار جانبيه بالماء إلاّ حجزوا سيله بسدّ، فتكاثرت الأسداد بتكاثر الأودية التي تكثر فيها السيول، حتى تجاوزت المئات، وقد ذَكر الهمداني في (يحصب العلوّ) من مخاليف اليمن وحده ثمانين سدّاً، وكانوا يُسمّون كلّ سدّ باسم خاص به.

وإلى ذلك أشار شاعرهم:

وبالبقعةِ الخضراء من أرض يَحصب

ثمانون سدّاً تقذف الماء سائلاً

وأشهر أسداد اليمن (العَرِم) وهو سدّ مأرب الشهير، هو أعظم أسداد بلاد العرب وأشهرها، وقد كثُر ذِكره في أخبار العرب وأشعارهم على سبيل العِبرة؛ لما أصاب مأرب بانفجاره، وإليه أشار القرآن في سورة سبأ.

( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ

____________________

(1) سبأ 34: 15 و18.

٥٣٦

( وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ...

فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (1) .

أمّا موضع هذا السدّ، ففي الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هي شِعاب من جبل السراة الشهير، تمتدّ مئاتٍ من الأميال نحو الشرق الشمالي، وبين هذه الجبال أودية تصبّ في كبير يُعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقيّ، وهو أعظم أودية الشرق، تمييزاً له عن ميزاب (مور) أعظم أودية الغرب المنشعبة من جبل السراة المذكور.

وشِعاب الميزاب الشرقيّ كثيرة تتّجه في مصابّها ومنحدراتها نحو الشرقيّ الشماليّ، وأشهر جبالها ومواضعها في ناحية (رداع العرش) و(ردمان) و(قَرَن) والجبال المشرفة على (سويق)، وفي ناحية (ذمار بلد عنس) جميعاً.

فشِعاب هذه المواضع وأوديتها، إذا أمطرت السماء تجّمعت فيها السيول، وانحدرت حتى تنتهي أخيراً إلى وادي (أذنة) وهو يعلو نحو (1100متر) عن سطح البحر، فتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي، حتى تنتهي إلى مكانٍ قبل مدينة مأرب بثلاث ساعات، هو مضيق بين جبلينِ، يُقال لكل منها: (بلق) (2) ، يُعبّر عن أحدهما بالأيمن وعن الآخر بالأيسر، والمسافة بينهما (600) ستمِئة خُطوة أو (ذراع) ويُسمّيها الهمداني: (مأذمي مأرب) يجري السيل الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرقيّ الشماليّ في وادٍ هو وادي أذنة.

واليمن مثل سائر بلاد العرب، ليس فيها أَنهر، وإنّما يَستقي أهلها من السيول التي تجتمع من مياه المطر، فإذا أمطرت السماء فاضت السيول وزادت مياهها عن حاجة الناس، فيذهب معظمها ضياعاً في الرمال، فإذا انقضى فصل المطر ظمئ القوم وجفّت أَغراسهم، فكانوا إمّا في غريق أو حريق، وقلّما ينتفعون حتى أيّام السيول من استثمار البقاع المرتفعة (الهضبات) عن منحدرات الجبال، وكان قد يفيض السيل حتى يسطو على

____________________

(1) سبأ 34: 16 و19.

(2) يقال: بَلَق السيل الأحجار بَلْقاً وبلوقاً: جرفها، وقد كانت السيول جَرفت طرفَي سفح الجبلينِ، فسُمّيا: البَلَقين.

٥٣٧

المـُدن والقرى، فينالهم من أذاه أكثر ممّا ينالون من نفعه، فساقتهم الحاجة إلى استنباط الحيلة في اختزان المياه ورفعه إلى مستوى الهضبات وتوزيعه على قَدر الحاجة، فاختار السبأيّون المضيق بين جبلي (بلق) وبنوا في عَرضه سوراً عظيماً عُرف بسدّ مأرب أو سدّ العَرِم؛ لريّ ما يجاور مدينتهم (مأرب) من السهول والهضبات.

والجبلان المذكوران، بعد أن يتقاربا عند مضيق بلق، ينفرجان ويتّسع الوادي بينهما، وعلى ثلاث ساعات منهما نحو الشمال الشرقي من مدينة مأرب أو سبأ، في الجانب الغربي أو الأيسر من وادي أذنة، فإذا جرى السيل حاذى بابها الشرقي، وبين المضيق والمدينة متّسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من سفوح الجبال نحو (300) ميل مربّع، كانت جرداء قاحلة، فأصبحت بعد تدبير وإلجام المياه بالسدّ غياضاً وبساتين على سفحي الجبلينِ، وهي المعبّر عنها بالجنّتين بالشمال واليمين أو بالجنّة اليمنى والجنّة اليسرى، على ما جاءت الإشارة إليه في القرآن.

والسدّ المشار إليه عبارة عن حائط ضخم أقاموه في عَرض الوادي، على نحو (150) ذراعاً نحو الشمال الشرقي من المضيق، سمّوه (العَرِم)، وهو سدّ أصمّ طوله من الشرق إلى الغرب نحو (800) ذراع، وعلوه بضعة عشر ذراعاً، وعرضه (150) ذراعاً، لا يزال ثُلُثه الغربي أو الأيمن باقياً إلى اليوم.

ويظهر ممّا شاهدوه في جزئه الباقي أنّه مبنيّ من التراب والحجارة ينتهي أعلاه بسطحينِ مائِلَينِ على زاوية منفرجة، تكسوهما طبقة من الحصى كالرصيف يمنع انجراف التراب عند تدفّق المياه.

فالعَرِم يقف في طريق السيل كالجبل المـُستعرض ويصدّه عن الجري، فتجتمع مياهه وترتفع ارتفاعاً عالياً يفي بريّ المرتفعات.

وقد جعلوا طرفي السدّ عند الجبلينِ أبنية من حجارة ضخمة متينة، فيها منافذ ينصرف منها الماء إلى إحدى الجنّتين اليمنى أو اليسرى.

فأنشأوا عند قاعدة الجبل الأيمن بناءينِ بشكل المخروط المقطوع، علوّ كلّ منهما

٥٣٨

بضعة عشر ذراعاً، سمّوهما الصَدفينِ، إحداهما قائم على الجبل نفسه، والآخر إلى يساره، وبينهما فُرجة عَرضها خمسة أذرع، وقاعدة الأيمن منهما تعلو قاعدة الأيسر بثلاثة أذرع، والأيسر مبنيّ من حجارة منحوتة، يمتدّ منه نحو الشمال والشرق جدار طوله 40 ذراعاً ينتهي في العرم نفسه ويندغم فيه، وعلوّ الجدار المذكور مثل علوّ الصدف ومثل علوّ العَرِم.

وفي جانب كلّ من الصدَفينِ، عند وجهيهما المتقابلينِ، ميزاب يقابل ميزاباً في الصدف الآخر، والميزابان مُدرّجان، أي في قاع كلّ منهما دَرجات من حجارة كالسُّلَّم، الدرجة فوق الأخرى، ونظراً لشكل الصدَفينِ المخروطَينِ، ولِما يقتضيه شكل الميزاب السُلّمي، أصبحت المسافة بينهما عند القاعدة أقصر منها عند القمّة.

ويظهر من وضع المخروطَينِ أو الصدفَينِ على هذه الصورة، أنّ أصحاب ذلك السدّ كانوا يستخدمون المسافة بينهما مَصرفاً يسيل منه الماء إلى سفح جبل بلق الأيمن فيسقي الجنّة اليمنى، وأنّهم كانوا يقفلون المصرف بعوارض ضخمة من الخشب أو الحديد، تنزل في الميزابَينِ عرضاً، وكلّ عارضة في درجة، فتكون العارضة السفلى أقصرها جميعاً فوقها عارضة أطول منها فأطول إلى العليا وهي أطولها جميعاً.

والظاهر أنّ تلك العوارض كانت مصنوعة على شكل تتراكب فيه أو تتداخل، حتّى يتألّف منها باب متين يسدّ المصرف سدّاً محكماً يمنع الماء مع الانصراف إلاّ عند الحاجة.

فإذا بلغ الماء في علوّه إلى قمّة الصدفينِ رفعوا العارضة العليا، فيجري الماء على ذلك العلوّ إلى سفح الجبل في أقنية مُعدَّة لذلك، ونُقَرٌ أو أحواضٌ لخزن الماء أو توزيعه في سفح ذلك الجبل، فلا يزال الماء ينصرف حتى يهبط سطحه إلى مساواة العارضة الثانية فيقف، فمتى أرادوا ريّاً آخر نزعوا عارضة أُخرى، وهكذا بالتدريج وعلى قدر الحاجة.

وفي الطرف الأيسر من العَرِم - وهو الغربي الذي ينتهي بالجنّة اليسرى - كالحائط - دعوناه السدّ الأيسر - عَرضه عند قاعدته (15) ذراعاً، وطوله نحو (200) ذراع، وبجانبه من اليمين مخروطانِ أو صَدفانِ أَيمنانِ، أحدهما مُتّصل بالعَرِم نفسه والآخر بينه

٥٣٩

وبين السدّ الأيسر، فيتكوّن من ذلك مَصرفان، مثل المصرف الأيمن، لكلّ منهما ميزابان مُدرّجان متقابلان، تنزل فيهما العوارض وتُنزع حسب الحاجة لصرف الماء إلى الجنّة اليسرى، وينتهي العَرِم من حدّه الغربي بحائط مِنجليّ الشكل مبنيّ بحجارة منحوتة صُلبة، لعلّه الذي وصفه الهمداني: العضاد.

فكان السيل إذا جرى في وادي أذنة حتى تجاوز المضيق بين جبلي بلق، صدّه العَرِم عن الجري فيتعالى ويتحوّل جانب منه نحو اليسار إلى السدّ الأيسر، فإذا أرادوا ريّ الجنّة اليُمنى رفعوا من العوارض بين الصدفينِ الأيمنينِ على قدر الحاجة، وإذا أرادوا ريّ الجنّة اليسرى صرفوا الماء من المصرفينِ بنفس الطريقة، فيجري الماء في أقنية وأحواض في سفح الجبل الأيسر حتّى يأتي مأرب؛ لأنّها واقعة إلى اليسار من السدّ.

* * *

وأمّا مَن هو الذي بنى السدّ (سدّ مأرب العظيم)... ومتى؟

فقد عثر المنقّبون في أنقاض سدّ مأرب على نُقوش كتابية بالحرف المسند (الخطّ الحميري) استدلّوا منها على بانيه، أهمّها نقشانِ، أحدهما على الصَدف الأيمن المـُلاصق للجنّة اليمنى، تفسيره: (أنّ يثعمر بيين بن سمه على ينوف مكرب سبأ، خرق جبل بلق وبنى مصرف رَحِب لتسهيل الرّيّ)، والآخر على الصَدف الآخر، تفسيره: (أنّ سمه على ينوف مكرب سبأ اخترق بلق وبنى مصرف رحب لتسهيل الرّيّ).

(سمه على) هذا هو والد (يثعمر) المذكور، وكلّ منهما بنى صدفاً أو حائطاً، وكلاهما من أهل القرن الثامن قبل الميلاد... فهما مُؤسِّساه، ولم يتمكّنا من إتمامه، فأَتمّه خلفاؤهما، وبنى كُلٌّ منهم جزءً ونُقش اسمه عليه، فعلى المخروط أو الصَدف في اليسار نَقش قرأوا منه: (كرب إيل بيين بن يثعمر مكرب سبأ بنى...)، وعلى جزء آخر من السدّ اسم (ذَمَر على ذَرَح مَلِك سبأ)، وفي محلّ آخر اسم (يَدَع إيل وتار)، وعلى السدّ الأيسر مما يلي الجنّة اليسرى عدّة نُقوش بمِثل هذا المعنى... ممّا يدلّ هذا السدّ لم يَستأثر

٥٤٠