شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 265087
تحميل: 11465

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 265087 / تحميل: 11465
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العذراء - العائشة بكلّ طُهرٍ بدون أدنى ذنبٍ، المـُنزهّة عن اللوم، المثابِرة على الصلاة مع الصوم - يوماً مّا وحدَها وإذا بالمـَلاك جبرائيل قد دخل مَخدعَها وسلّم عليها قائلاً: ليكنْ الله معكِ يا مريم، فارتاعت العذراء من ظهور المـَلاك، ولكنّ المـَلاك سكّن روعَها قائلاً: لا تخافي يا مريم؛ لأنّكِ قد نلتِ نعمةً مِن لدُن اللّه الذي اختاركِ لتكوني أُمَّ نبيٍّ يبعثه إلى شَعب إسرائيل؛ ليسلكوا في شرائعه بإخلاص.

فأجابت العذراء: وكيف أَلِد بنينَ وأنا لا أَعرِف رجلاً؟! فأجاب المـَلاك: يا مريم إنّ اللّه الذي صنع الإنسان من غير إنسان لَقادرٍ أنْ يخلقَ فيكِ إنساناً من غير إنسان؛ لأنّه لا مُحال عنده. فأجابت مريم: إنّي لَعالِمةٌ أنّ الله قديرٌ، فلتكنْ مشيئتُه، فقال المـَلاك: كوني حاملاً بالنبيّ الذي سَتدْعينَه يسوع، فامنعيه الخَمر والمـُسكِر، وكلَّ لحمٍ نجسٍ؛ لأنّ الطفل قُدّوس اللّه، فانحنت مريم بضعةً قائلةً: ها أنا ذا أَمَة اللّه، فليكن بحسب كلمتك (1) .

* * *

قلتُ: ما جاء في إنجيل برنابا أسلم وأوفق بالاعتبار ممّا جاء في إنجيليّ لوقا ومتّى.

أولاً: جاء في إنجيل لوقا: (القدُّوس المولود منكِ يُدعَى ابنُ اللّه) (2) .

وفيه أيضاً: أنّ مريم لمـّا أتت خالتها (اليصابات) باركتْها ووصفتْها بأنّها أُمُّ ربّها: (وقالت: أنتِ مباركةٌ في النساء، ومباركة هي ثمرةُ بطنك، فمِن أين لي هذا أنْ تأتي أُمُّ ربي إليَّ) (3) .

وهذا شيءٌ غريب، كيف يكون المولود من امرأةٍ ابناً للّه، بحجّة أنّه لم يولد من أبٍ؟! إذن لكان الأَولى أنْ يكون آدم ابناً للّه؛ حيث لم يلده أبٌ ولا أُمٌّ.

ثم كيف أصبح هذا المولود من غير أبٍ إلهاً من دون اللّه؟! الأمر الذي يرفضه العقل الرشيد.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص377.

(2) إنجيل لوقا، الإصحاح 1/35.

(3) إنجيل لوقا، الإصحاح 1/42 و43.

٨١

قال صاحب كتاب (الفارق بين المخلوق والخالق): ما جاء في إنجيل لوقا (ص1: 32): (وابن العليّ يُدعَى)، هذه الجملة مُنتزَعة من قول زكريّا (عليه السلام) في ابنه يحيى: (وأنت أيّها الصبّي نبيّ العليّ تُدعَى) (لوقا 1 ص1: 76)، فحُرِّفت في حقّ عيسى (عليه السلام) إلى قول لوقا على لسان المـَلَك: (وابن العليّ يُدعى)؛ ليُوهموا الناس أنّ المسيح إلهٌ ابنُ إله ٍ (1) .

وثانياً: قوله: (هذا يكون عظيماً، وابن العليّ يُدعى، ويُعطيه الربُّ الإلهُ كُرسيّ داود أبيه، ويَملك على بيت يعقوب ولا يكون لمـُلكه نهاية)...

قال الأُستاذ النجّار: إنّ هذه العبارات تفرّد بها لوقا، ولم يذْكرْها أحد من كُتّاب الأناجيل سواه، ونحن لا نقول بأنّ الإلهام قَصَّر معهم - وفيهم أصحاب المسيح المـُشاهِدون لأحواله العالِمون بشأنه - وأفاض على لوقا الذي ليس تلميذاً ولا مِن الإثني عشر، بل رجل دخل في الدين متأخّراً وصار تلميذاً لبولس الذي لم يرَ المسيح ولم يُعاشرْهُ.

فهذه العبارة ممّا جاء به؛ ليُزيّنَ أمرَ المسيح ويُدخِلَ على الناس تعظيمَه، والمسيح ليس في حاجةٍ إلى ذلك.

وقد طعن صاحب كتاب (الفاروق) على هذه الجملة (ويعطيه الإله كرسيّ داود أبيه) بوجهين وجيهين:

الأَوّل: أنّ عيسى (عليه السلام) من أولاد الملِك (يهوياقيم) (2) ولا يَصلح أنْ يجلس على كرسيّ داود؛ لأنّه لمـّا أحرق الصحيفة التي كتبها (بارخ) من فم النبيّ (أرمياء) نزل الوحي: (قال الربّ عن يهوياقيم (يواقيم) - ملك يهوذا - لا يكون له جالسٌ على كرسيّ داود) (3) .

الثاني: أنّ المسيح - مع كونه لم يجلس على كرسيّ داود - أمر (بيلاطس) بضربه وإهانته، وسلّمه إلى اليهود - كما يَزعمُه النصارى - ففعلوا به ما فعلوا وصلبوه.

على أنّه يبدو من إنجيل يوحنا (1 ص6) أنّه كان هارباً من قومِهِ عندما أرادوا أنْ

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص378.

(2) في إنجيل متّى: الإصحاح الأَوّل: إنّه من ذرّية (ألياقين)، وقد غيّر فرعون مصر اسمه إلى (يهوياقيم) (قاموس الكتاب المقدّس، ص986)، وراجع: سِفر الملوك 2، إصحاح 23/34.

(3) كتاب أرمياء، إصحاح 36/30.

٨٢

يجعلوه مَلِكاً ولا يُعقل أنْ يهرب من أمرٍ بعثهُ اللّهُ لأجلهِ، على ما بشّر جبرائيلُ أُمّه العذراء قبل ولادته، ومعلومٌ أنّه لمْ يَملِكْ بيتُ يعقوب ساعةً فضلاً عن الأبد (1) .

يا أُخت هارون

ويقول القاضي عبد الجبار في كتابه (تنزيه القرآن عن المطاعن): وربّما قيل في قوله تعالى: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) : كيف يصحّ أنْ يقال لها ذلك وبينها وبين هارون أَخي موسى الزمان الطويل؟ وجوابنا أنّه ليس في الظاهر هارون الذي أخو موسى، بل كان لها أخٌ يُسمّى بذلك، واثبات الاسم واللقب لا يَدلّ على أنّ المسمّى واحد، وقد قيل: كانت مِن وِلْدِ هارون، كما يقال للرجل من قريش يا أخا قريش (2) .

ويشرح المبشّرون هذه الناحية ويقولون: وَرَد في سورة مريم: ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ) (3) يبدو من هذه الآية أنّ مُحمّداً كان يرى أنّ مريم كانت أُخت هارون أخي موسى. وممّا يزيد هذا الأمر وضوحاً وجلاءً ما ورد في سورة التحريم ونصُّه: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ) (4) وفي سورة آل عمران: ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (5) فلا شكّ أنّ مُحمّداً توهّم أنّ مريم أُخت هارون - التي كانت أيضاً ابنة عِمران (عمرام) - هي مريم نفسها التي صارت أُمَّ يسوع (المسيح عيسى) بعد ذلك بنحوِ ألف وخمسمِئة وسبعين سنة، وهذا خطأ جسيم؛ لأنّه لم يقلْ أحد من اليهود أنّ مريم أُخت هارون وابنة عمران بقيتْ على قيد الحياة إلى أَيّام المسيح (6) .

هكذا وَهِم تسدال ومَن حذا حذوَه مِن المبشّرين! لكنّه وهمٌ فاحش؛ إذ كيف يمكن أنْ يخفى مثلُ هذا الفصل البيّن بين موسى والمسيح (عليهما السلام) على العرب العائشين في

____________________

(1) قصص الأنبياء للنجّار، ص377 - 378.

(2) تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار، ص247.

(3) مريم 19: 27 - 28.

(4) التحريم 66: 12.

(5) آل عمران 3: 35.

(6) مصادر الإسلام، ص102 - 104، والفنّ القصصي ص57 - 58.

٨٣

جِوار اليهود وبين أظهرهم طيلةَ قرونٍ، وكذا مُراودتهم مع نصارى نجران والأحباش، فضلاً عن نبيّ الإسلام النابه البصير ليَتصوّرَ مِن مريم أُمّ المسيح هي مريم أُخت موسى وهارون!

إذ مَن يعرف أنّ لموسى وهارون أُختاً اسمها مريم، لا يمكنه الجهل بهذا الفصل الزمني بين مَريَمين!

ثُمَّ كيف يَسكت اليهود - وهم ألدُّ أعداء الإسلام - على هذا الخطأ التأريخي الفاحش ولم يأخذوه شنعةً على القرآن والإسلام؟

هذا وقد وقع التساؤل عن هذا التشابه على عهد الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) على ما نقله السيّد رضيّ الدين ابن طاووس عن كتاب (غريب القرآن) لعبد الرحمان بن محمد الأَزدي الكوفي - من كبارِ رجال القرن الثالث - بإسناده إلى المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) إلى أهلِ نَجران، فقالوا: أرأيتَ ما تقرأون (يا أُخت هارون) وهارون أخو موسى، بينه وبين عيسى المسيح بكذا وكذا؟ قال: فرجعتُ وذكرتُ ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فقال: (أَلا أخبرتَهم (أو قلتَ لهم) أنّهم كانوا يُسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم!) (1)

وهكذا أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المـُنذر وابن أبي حاتم وابن حبّان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة... الحديث (2) .

نعم وهِمَت عائشةُ أنّها أُخت هارون أخي موسى، فنبّهها كعبُ الأحبار بأنّها غيرها، والفصل الزمني بينهما كبير، وإنّما هو من تشابه الأسماء، فرجعتْ عن زعمها (3) .

وذكر كعبُ أنّ الفصل الزمني بينهما ستمِئة سنة؛ ولعلّه مِن حذف الألف في نقل الرواة.

إذن، لم يكنْ ذلك خافياً على أهل النباهة في ذلك العهد، وهكذا في طول عهد الإسلام،

____________________

(1) سعد السعود، ص221.

(2) الدرّ المنثور، ج5، ص507.

(3) فيما رواه ابن سيرين، راجع: الدر المنثور، ج5، ص507.

٨٤

حتى يأتيَ تسدال وأضرابه مِن أهل السفاسف في مؤخّرة الزمان ليجعلوه شَنعةً على القرآن الكريم!!

والخلاصة، أنّ التسمية باسم الآباء والأُمّهات تشريفاً بهم شيء معروف كما جاء في كلام الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ولا سيّما وهارون كان سيّدَ قومِه مُهاباً عظيماً له شأن في بني إسرائيل، وهو أُوّل رأس الكَهَنَة الذي ترأّس في اللاويين - أكبر قبائل بني إسرائيل - (1) .

أضف إليه أنّ أُمّ مريم - وهي أُخت اليصابات أُمّ يحيى - كانت من سبط لاوي من نسل هارون (2) ، فهي من جهة الأُمّ منتسبةٌ إلى هارون، فالتعبير بأُختِ هارون، مُعاتَبَةً لها؛ حيث عُلِم أخذها بِحُرمة هذا النسب العالي، وهذا كما للتميمي: يا أخا تميم، وللهاشمي: يا أخا هاشم... رُوي ذلك (انتسابها إلى هارون) عن السدّي (3) .

وهذا لا ينافي أنْ تكون مريم من جهةِ الأب منتسبةً إلى داود من سبط يهوذا (4) ؛ لأنّ العقاب إنما يقع بأشرف الأبوين.

وهناك احتمال: أنّها شُبِّهت بمريم أُخت هارون وموسى؛ لمكان قَداستِها وكانتْ ذات وجاهةً عند قومها، وكانت تُدعى أيضاً بأُخت هارون، ويُعبّر عنها بالنبيّة كهارون أخيها (5) ، وكانت أكبرَ من موسى بعشرِ سنين، وهي التي قالت لها أُمّها: قُصّيه، عندما قَذفت بتابوت موسى في النيل.

والمعنى: أنّك تماثلين الصدّيقة مريم أُخت موسى وهارون، فكان جديراً بك المحافظة على هذا المقام (6) .

ابنة عمران

لمْ تذكرْ التوراة عن والدِ مريم شيئاً سِوى أنّها من سبط يهوذا من نسل داود، ولا بُعدَ أنْ يكون اسم والدِها عِمران (عمرام) وكانت التسمية بهذا الاسم شائعةً في بني

____________________

(1) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص916.

(2) المصدر: ص795.

(3) مجمع البيان، ج6، ص512.

(4) المصدر: ص794 - 795.

(5) راجع: سِفر الخروج، إصحاح 15/20.

(6) راجع: تفسير نمونه، ج13، ص51.

٨٥

إسرائيل، وكان في حشد عزرا من كان يُسمّى بهذا الاسم (1) - كما لمْ يُنكر هذا الانتساب مُنذ العهد الأَوّل فإلى الآن - دليلاً على صحّة الانتساب.

وعلى أَيّ حالٍ فلا غَرْوَ أنْ يأتيَ القرآن بحديثٍ لمْ يأتِ مثله في كتب الأقدمين ولا عَرَفه أصحابُ الديانات المعاصرة لنزول القرآن، وقد نبّهنا أنّ القرآن يأتي بالصفو الصحيح من آثارِ الأنبياء والصدّيقين بما أعجب وأبهر، ولذلك يقول سبحانه: بشأن قصص الصدّيقة مريم: ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) (2) .

إذ جاءت قصّتها في كتب السابقين مشوّهة محرّفة، ولكنّها في القرآن نقيّة زاكية.

تأليه الصدّيقة مريم!

( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) (3) .

وهذا تعريضٌ بفرقةٍ مِن فِرَقِ النصارى قالوا بأُلوهيّة المسيح وأُمّه... الأمر الّذي أنكرته فِرَقُ النصارى اليوم، بحجّةِ أنّه لم توجدْ فرقة تعتقد أُلوهيّة مريم الغذراء!

لكنّ التأريخ يشهد بوجود فرقة أو فِرَقٍ من المسيحيّين الأَوائل كانوا يعتقدون بأُلوهيّتها إلى جَنب أُلوهيّة المسيح:

يقول عنهم ابن البطريق - الطبيب المؤرِّخ المسيحي (263 - 328 هـ/877 - 940م): (4)

(وكانوا مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول: إنّ المسيح وأُمّه إلهان من دون اللّه، وهم (البربرانيّة)... ويُسمَّون (الريمتيّين) (المريمانيّة)، ومنهم من كان يقول: إنّ المسيح مِن الأب بمنزلةِ شُعلة نارٍ انفصلت من شُعلةِ نارٍ، فلم تَنقص الأُولى بانفصال الثانية منها، وهي مقالة (سابليوس) وشيعته، ومنهم من كان يقول: لمْ تحبلْ بهِ مريم تسعةَ

____________________

(1) راجع: عزرا، إصحاح 10، عدد 34.

(2) آل عمران 3: 44.

(3) المائدة 5: 116.

(4) هو سعيد بن البطريق من أهل مصر، وُلِد بفُسطاطٍ، واُقيم بطريركاً في الإسكندريّة وسُمّي أنتيشيوس ( Entychius ) سنة 321 هـ ق، له كُتب في الطبّ والتأريخ ولا سيّما تأريخ المسيحيّة، كُتب عن فِرقِ النصارى وما بينهم من شقاقٍ وخلافٍ، راجع: الوافي بالوفيّات للصفدي (76 هـ)، ج15، ص127، رقم 4858، والأعلام للزركلي، ج3، ص144.

٨٦

أشهرٍ، وإنّما مرّ في بطنها كما يمرّ الماء في المِيزاب؛ لأنّ الكلمة دخلت في اُذُنِها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة (إليان) وأشياعه، ومنهم من كان يقول: إنّ المسيح إنسانٌ خُلق مِن اللاهوت كواحدٍ مِنّا في جوهره، وأنّ ابتداء الابن من مريم، وأنّه اصطُفي ليكونَ مُخلِصاً للجوهر الإنسي، صَحِبتهُ النعمةُ الإلهيّة وحلّت فيه بالمحبّة والمشيئة، ولذلك سُمّي (ابن اللّه) ، ويقولون: إنّ اللّه جوهر قديم واحد وأقنوم واحد، ويسمّونه بثلاثة أسماءٍ، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القُدُس، وهي مقالة (بولس الشمشاطي) بطريرك أنطاكيّة وأشياعه وهم (البوليقانيّون)، ومنهم من كان يقول إنّهم ثلاثة آلهة لم تزلْ: صالحٌ وطالحٌ وعدل بينهما، وهي مقالة (مرقيون) هو رئيس الحواريّين وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بأُلوهيّة المسيح، وهي مقالة (بولس) الرسول ومقالة الثلاثمِئة وثمانية عشر أُسقفاً...

ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلاديّة (مجمع نيقيّة) عند الملك (قسطنطين) وبدعوةٍ منه، فاجتمع ألفان وثمانية وأربعون أُسقفاً، ودارتْ البُحوث، وقد اختار الإمبراطور الروماني (قسطنطين) - الذي كان قد دخل في النصرانيّة من الوثنيّة مُنُذ عهدٍ قريب ولم يكنْ يدري مِن النصرانيّة شيئاً - هذا الرأي الأخير (رأي بولس الرسول) وسلّط أصحابه على مخالفيهم، وشرّد أصحاب سائر المذاهب، وبخاصّة القائلين بألوهيّة الأب وحده، وناسوتيّة المسيح! (1)

وهكذا يقول يقول ابن حزم الأندلسي (383 - 456هـ) وهو قريبُ عهدٍ بابن البطريق - بعد شرح الخلافات بين طوائف النصارى أيّام قسطنطين وكان أَوّل من تنصّر من مُلوك الروم، فكان ممّا عَدَّ من تلك المذاهب والفِرق: البربرانيّة. قال: (ومنهم البربرانيّة، وهم يقولون إنّ عيسى وأُمّه إلهان من دون اللّه عزّ وجلّ: قال: وهذه الفرقة قد بادت...) (2) .

____________________

(1) راجع ما كتبه سيد قطب بهذا الشأن (في ظِلال القرآن، ج6، ص117 - 121، المجلّد الثاني، ص685 - 689) نقلاً عن كتاب محاضرات في النصرانيّة للشيخ محمد أبو زهره، وعن كتاب الأُمّة القبطيّة وغيره من مراجع.

(2) الفِصَل في الملل والنحل، ج1، ص48.

٨٧

ويكلّم الناس في المهد وكهلاً

جاء في القرآن في ثلاثة مواضع، تكلّمُ المسيح في المهد:

1 - في سورة آل عمران (الآية: 46): ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

2 - في سورة المائدة (الآية: 110): ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) .

3 - في سورة مريم (الآية: 29): ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ) .

ذكر الرازي أنّ النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد، بحجّة أنّه لم يثبتْ عندهم وكانوا هم أَولى بنقله لو كان؛ لأنّه حادث عجيب وبرهان ساطع على صدق نبوّتِه، ولشَهدِه جمّ غفير، ونُقل بالتواتر لتوفّر الدواعي عليه، بما لا يمكن خفاؤه لكي يظهر على يد نبيّ الإسلام فحسب! (1) .

لكن هذا الاعتراض إنّما كان يَرِد لو كان أبناء المسيحيّة قد احتفظوا بمُستَنداتهم الدينيّة طُولَ عهدِ التأريخ ولم يُضيّعوها، ولم يَدَعوها على ذمّة التحريف والخلط والتبديل، على أنّهم مُنذ البدء لم يأخذوا ديانتَهم عن أصلٍ وثيق، ولا عرفوا شيئاً من حياة صاحب الرسالة إلاّ أقاويل وأساطير، فقد ضاعت عنهم كلُّ معالمِ الشريعة والصحيح من سيرة المسيح مُنذ بداية الأمر...

تلك الأناجيل الأربعة، ثلاثة منها (متّى، مرقس، لوقا) لم تحتفظ على معاجز المسيح (الثلاث والثلاثون معجزة) سِوى معجزة واحدة، وإنجيل يوحنّا لم تذكر منها سِوى سبع معاجز (2) ، فأين الباقي؟

على أنّ هذه الأناجيل بينها اختلاف كبير وهي قريبةُ العهد بالتدوين، والعُمدة أنّها كُتبت في عهدٍ متأخّرٍ (بعد انتهاء أمر المسيح) فخلطتْ الحابلَ بالنابل، وكان فيها الغث والسمين، وبعد أنْ أفاق المسيحيّون من الاضطهادات التي كانت تتوالى عليهم نظروا في

____________________

(1) التفسير الكبير، ج8، ص52.

(2) راجع: قاموس الكتاب المقدّس، ص967.

٨٨

تلك الأساطير واختارت الكنيسة من بينها تلك التي لا تتعارض مع نزعتها وجعلتها رسميّةً، ولم تَكتَرث لِما بين مضامينها من التخالف والتناقض مادام ذلك لا يخالف المـَنزع العام الذي قصدته الكنيسة، والأناجيل جميعها منقطعة السند، ولا توجد نسخة إنجيل بخطِّ تلميذٍ من تلاميذ ذلك المؤلِّف ولا ما يضمن شُبهة صحّةٍ فيها (1) .

من ذلك الخلط الفاحش، إسناد (لوقا) التكلّم في المـَهد إلى يوحنّا المعمدان (يحيى بن زكريّا) بدلَ المسيح (عيسى بن مريم)، (2) وسكت عنه سائر الأناجيل.

جاء في إنجيل لوقا: كان في أَيّام هيروديس - مَلِك اليهود - (4 - 40 - ق م) كاهنٌ اسمه زكريّا وامرأته من بنات هارون واسمها (اليصابات) وكانت عاقراً... فبينما زكريّا يَكهنُ في نوبةٍ فرفته أمام اللّه، إذ ظهر له مَلائكةُ الرّبِّ فبشّروه بيحيى... ولمـّا حبلت اليصابات أخفت نفسَها خمسة أشهرٍ، وفي الشهر السادس أُرسِل جبرائيل إلى مدينةِ ناصرة إلى العذراء مريم ليُبشِّرها بعيسى وقال لها: هاهي خالتك اليصابات أيضاً حُبلى بابنٍ في شيخوختها.

وفي تلك الأيام ذهبت مريم إلى مدينة يهوذا ودخلت على اليصابات وسلّمت عليها، وظلّت عندها ثلاثة أشهر ثم عادت إلى بيتها في الناصرة.

ولما تمّ زمان حمل اليصابات ولدتْ ابناً وسَمع الجيران والأقرباء وفرِحوا بذلك، وفي اليوم الثامن جاؤوا ليَختنوه وسمّوه يحيى - بإشارة من أبيه - وفي الحال انفتح فمُه ولسانُه، وتكلّم وبارك اللّه... فتعجّب الجميع من ذلك الحادث الغريب؟!

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص399.

(2) كان لوقا طبيباً من أهل أنطاكيّة، ولم يرَ المسيح أصلاً وقد لُقِّن النصرانيّة عن (بولس)، وبولس هذا كان يهوديّاً متعصّباً على المسيحيّة ولم يرَ المسيح في حياته، وكان يُسيء إلى النصارى إساءات متواصلة، ولمـّا رأى أنّ اضطهاده للنصرانيّة لا يُجدي عَمَدَ من طريق الحيلة إلى الدخول فيها وإظهار الاعتقاد بالمسيحيّة، وادّعى أنّه صُرِع وفي حال صَرعه لمسه المسيح وزجره عن الإساءة إلى متابعيه، ومن ذلك الوقت آمن وأرسله المسيح ليُبشِّر بإنجيله (نظير ما اختلقه كعب الأحبار - الكاهن اليهودي - تعليلاً لإسلامه أيام عمر بن الخطاب) وانطلت حيلتُه على الكنيسة، وهو الذي جعل النصارى يمرقون من واجبات الناموس الذي جاء المسيح لتأييدها، فأباح لهم أكل المِيتة وشرابَ الخمور، وأنّ الإيمان وحده كان في النجاة بدون عمل... قصص الأنبياء للنجّار، ص400.

وكان تأليف لوقا إنجيله بإيحاءات من شيخه بولس هذا الذي حاول التشويهَ في شريعة المسيح والحطَّ من قداسته، ومن ذلك نسبة الكلام في المـَهد - وهي نفحة قُدسيّة - إلى يحيى قبل أن يأتيَ عيسى المسيح، الأمر الذي اغترّ به أتباع المسيح من غير دراية.

٨٩

وأمّا مريم العذراء فلمـّا تمّ أيامُ حَملِها ولدت ابناً فقمّطتْه وأضجعته في المِذوَدِ... ولمـّا تمّت ثمانيةُ أيّام جاؤوا ليَختنوا الصبّي وسُمّي اليسوع... (1)

ولنَتساءل كاتب الإنجيل: هل كانت هناك ضرورة تدعو إلى تكلّمِ يحيى في اليوم الثامن من ولادته؟ (مع العلم أنّ المعجزات خوارق للعادات لا تظهر على يدِ أولياء اللّه إلاّ حينما تدعو الضرورة إليه!).

والصحيح أنّه من سهوِ الكاتب إنْ لم يكن هناك عَمْدٌ.

* * *

هذا، وليس في القرآن تصريحٌ بأنّ المسيح تكلَّمَ في المـَهد حال رضَاعِه وقبل أوان الكلام؛ ذلك أنّ اللّه امتنّ على المسيح إذ أيّده بروح القُُدُس، ومنحَ له عقلاً وافراً يكلّمُ الناس - بكلامٍ معقولٍ - مُنذ طفولتِه فإلى أوان كهولته، فكان(عليه السلام) مُنذ صِغَره زكيّاً بارعاً وافرَ العقل، ينطقُ كما ينطق الرجل الخبير، وسنذكر مُحاجّتَه مع العلماء في أروشليم مُذ بلغَ من العُمر اثنتي عشرة سنة، بحيث أعجبَ الجميعَ كلامُهُ، فخافت مريمُ عليه وعنّفتْه على ذلك (2) .

وهذا هو الظاهر من قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) (3) .

أخرج الطبري بإسناده إلى سعيد بن جبير عن قُتادة قال: يكلّمُهم صغيراً وكبيراً، وهكذا أخرج بإسناده إلى الربيع بن أنس، وعن ابن جُريج قال: كلّمهم صغيراً وكبيراً وكهلاً... (4)

وهذا كقولهم: (اطلبوا العلمـَ مِن المـَهد إلى اللَحد) أي مُنذ الصِغَر فإلى نهاية الكِبَر، والمـَهد كناية عن حالة الصبّي في نُعومة أظفاره ورخاوة هندامه، فيضطجع فيما مُهِّد له من مضجعٍ ناعم فارهٍ.

____________________

(1) إنجيل لوقا، إصحاح، 1 و2.

(2) قصص الأنبياء للنجّار، ص387، وسنذكر الحديث بتفصيله.

(3) المائدة 5: 110.

(4) جامع البيان، ج3، ص188.

٩٠

مريم تعودُ بابنها وقد جاوزَ سنَّ الرضَاعة

على أنّ مريم لمـّا جاءت بالمسيح كان قد تجاوزَ دَورَ الرضَاعة الأُولى بعد مدّة طويلة مِن ولادتِهِ.

جاء في إنجيل متّى: ولمـّا وُلِد يسوع في بيت لحم في أيام هيروديس المـَلِك، جاءت جماعة من المجوس ليقدّسوه وعَلم المـَلِك بذلك، واستفسر من الكَهَنة عن مولدهِ فأنبأوهُ بمكانِ ولادتِه وكان قد همَّ بقتلِه، وقال للمجوس إذا عِرفتُموه فأخبروني لكي اُقدّسَهُ معكم.

أمّا المجوس فوجدوه في بيت لحم مع أُمّهِ مريم، فخرّوا وسجدوا له وقدّموا هداياهم، ورَجعوا مُنصرفينَ على غير طريق المـَلِك.

وبعد ما انصرفوا إذا مَلائكة الرّبِّ قد ظهروا ليوسف - خطيب مريم - في حُلُمٍ وأمروه أنْ يهربَ بالصبيّ إلى مكان بعيد لا يعرفونه؛ خوفاً على الصبيّ من السلطان، فلمـّا مات المـَلِك أُلهِم يوسف بأنْ يرجع مع الصبيّ إلى أرضِ إسرائيل، وقد كان (أرخيلاوس) مَلِك اليهود، فخاف يوسف وعرَّج على نواحي الجليل وسكن في مدينة يقال لها ناصرة (1) .

وفي أنجيل برنابا نفس العبارة مع شيء مِن التوضيح:

(ولمـّا مات هيروديس ظهر مَلاك الربِّ في حُلُمٍ ليوسف قائلاً: عُد إلى اليهوديّة؛ لأنّه قد مات الذين كانوا يريدون قتل الصبّي، فأخذ يوسف الطفل ومريم - وكان الطفل بالغاً سبع سنين من العمر - وجاء إلى اليهوديّة، حيثُ سَمِع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس صار حاكماً فيها، فذهب إلى الجليل لأنّه خاف البقاء في اليهوديّة (أورشليم) فذهبوا ليسكنوا في الناصرة.

وهكذا يبدو من ظاهر تعبير القرآن: قال تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً . .....

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً...

____________________

(1) إنجيل متّى، إصحاح 1 و2.

٩١

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً...

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ... ) (1) .

يبدو من هذه الآيات أنّ مريم اختارت لعبادتها أرضاً غير آهِلةٍ بعيدةً عن مساكن أهلها؛ لتختلي بعبادةِ ربِّها دونَ أعين الناظرين، وفي هذا الدور جاءها مَلاك الربّ ليُبشّرها بالمسيح، ولمـّا حملتْ به أخذت تَبتعدُ أكثر خوفَ الفضيحة، وكان هناك (في المكان القصّي) نخل ومعينُ ماء، فوضعتْ حَملَها هناك بعيداً عن الناس كافّة، وأمرها المـَلاك أنْ لا تتكلّم مع أحدٍ يمرُّ عليها أو تمرّ عليه؛ بحجّة أنّها صائمة صومَ صمتٍ، فكانت مختليةً بنفسها وولَدِها، يعيشان في هدوء وفراغة بالٍ بعيداً عن هرج العامّة. ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) (2) .

وكم عاشا هناك في خَلأ من الناس؟

يبدو أنها لم تَعِش هناك سِوى سنتين أو ثلاث؛ لأنّها حين رجعت إلى قومها كانت تَحمل طفلَها، ولابدَّ أنّ الطفل عندما يبلغ مثلَ هذا السنّ قادر على التكلّم، وليس ذلك بغريب، أمّا قولهم: فلعلّه من جهة أنّهم استغربوا أنّها جاءت بولدٍ وهي غير متزوّجة، فلابدّ أنّها هي المجيبة على ذلك، وليس الطفل - الذي هو نِتاج الحَمل - بِمسؤولٍ ولا قادرٍ على حلّ الإشكال. فالطفل غير عارف بسبب هذا الإنتاج، فلا معنى للسؤال منه!

لكنّهم عندما واجهوا كلام المسيح في رَزانة وتعقّل متين عرفوا أنّ ذلك آية من آيات اللّه، فلا موضع للاستغراب!

____________________

(1) مريم 19: 16 - 30.

(2) المؤمنون 23: 50.

٩٢

هذا ولم يتكلّمْ من أصحابِ الأناجيل عن الحَمل بالمسيح وولادته شيئاً يُذكر سِوى ما جاء - باختصارٍ وإجمالٍ - في متّى (1 ص1: 18) ولوقا (1 ص1: 27 - 32).

عيسى يحاجّ العلماء في سنٍّ مبكّرٍ

جاء في إنجيل برنابا (1 ص2: 1 - 15): (ولمـّا مات هيروديس ظهر مَلاك الربِّ في حُلُم ليوسف قائلاً: عُد إلى اليهوديّة (أورشليم)؛ لأنّه مات الذين كانوا يريدون موت الصبيّ، فأخذ يوسف الطفل ومريم - وكان الطفل بالغاً سبع سنين من العمر - وجاء إلى اليهوديّة، حيث سمع أنّ أرخيلاوس بن هيروديس كان حاكماً في اليهوديّة، فذهب إلى الجليل؛ لأنّه خاف أن يبقى في اليهوديّة، فذهبوا ليسكنوا في الناصرة. فنما الصبيّ في النعمة والحِكمة أمام اللّه والناس.

ولمـّا بلغ يسوع اثنتي عشرة سنة من العمر صعد مع مريم ويوسف إلى أورشليم؛ ليسجد هناك حسب شريعة الربّ المكتوبة في كتاب موسى، ولمـّا تمّت صلواته انصرفوا بعد أن فقدوا يسوع؛ لأنّهم ظنّوا أنّه عاد إلى الوطن مع أقربائهم ولذلك عادت مريم ويوسف إلى أورشليم ينشدان يسوع بين الأقرباء والجيران.

وفي اليوم الثالث وجدوا الصبيَّ في الهيكل وسطَ العلماء يحاجّهم في أمر الناموس، وأُعجبَ كلّ أحدٍ بأسئلته وأجوبته، قائلاً: كيف أُوتي مثل هذا العلم وهو حَدث ولم يتعلّم القراءة؟ فعنّفته مريم قائلةً: يا بنيّ ماذا فعلت بنا، فقد نشدتُك وأبوك ثلاثة أيّام ونحن حزينان، فأجاب يسوع: أَلا تعلمين أنّ خدمة اللّه يجب أنْ تُقدّم على الأب والأُمّ، ثمّ نزل يسوع مع أُمّه ويوسف إلى الناصرة، وكان مطيعاً لهما بتواضع واحترام... (1)

ولعلّ هذا هو المراد بتكلّمه مع الناس صغيراً وكبيراً ( في المهد وكهلاً ) ... واللّه العالم.

الكُهولة هو تخطّي الثلاثين

قال الراغب: الكَهْلَ مَن وَخَطه الشيبُ، (2) أي خالطَ سوادَ شَعَره، وهو الذي تخطّى الشبابَ وحانتْ مشيبتُه.

____________________

(1) قصص الأنبياء للنجار، ص386 - 387.

(2) المفردات للراغب الإصبهاني، مادة (كَهَل).

٩٣

والمعروف أنّ المسيح (عليه السلام) أُرسِل إلى الناس عندما بلغ ثلاثين سنة، ورُفع إلى السماء بعد ثلاث سنين (1) .

لكنْ الشباب قبل بلوغ ثلاثين عاماً، وعنده يأتي دور الكُهُولة حتّى نهاية الأربعين.

قال الجوهري - في الصحاح -: الكَهْل من الرجال الذي جاوزَ الثلاثين ووَخَطه الشيب، وقال ابن الأثير - في النهاية -: الكَهْل من الرجال مَن زاد على ثلاثين سنة إلى أربعين، فما بين الثلاثين والأربعين هي سنّ الكهولة.

ويبدو من كلام أهل اللغة أنّ الكُهُولة هي السنّ التي تجتمع فيها القِوى، ويكون المـَرء في أجمع قواه ما بين سنّ الثلاثين فإلى أربعين.

قال ابن فارس: الكاف والهاء واللام أصل يدلّ على قوّة في الشيء أو اجتماع جبلّةٍ، من ذلك الكاهل: ما بين الكتفَين، سُمّي بذلك لقوّته، ويقولون للرجل المـُجتمِع إذا وَخَطه الشيب: كَهْلٌ وامرأة كَهْلةٌ (2) ، قال أبو منصور الثعالبي: يقال للرجل إذا اجتمعت لحيتُه وبلغ غايةَ شبابِهِ: مجتمِع (3) .

التبشير بِمَقدم رسول الإسلام مُحمّد (صلّى الله عليه وآله)

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (4) .

أنكروا وجود هذه البِشارة في بشائر المسيح (عليه السلام)؛ بحجّةِ خلوّ الأناجيل عنها!!

لكن البِشارة موجودة، والقوم حرّفوها في التراجم تحريفاً.

جاء التبشير بِمَقدم سيّدنا مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) في وصايا المسيح (عليه السلام) للحواريّين والذين اتّبعوه بلفظةٍ تدلّ على وصف المـُبَشّر به بأنّه (كثير المـَحمَدَة) المـُنطَبِقة مع لفظةِ (أحمد) وهو أفعل التفضيل من الحَمد.

____________________

(1) تفسير آلاء الرحمان للبلاغي، ج 1، ص 284.

(2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ج 5، ص 144.

(3) فقه اللغة وسِرّ العربية للثعالبي، ص 111.

(4) الصفّ 61: 6.

٩٤

وكانت لغةُ المسيح التي بَشّر بها هي العِبرانيّة، وهي لغةُ إنجيل يوحنّا الذي جاء فيه هذا التبشير، لكنّها تُرجِمت إلى اليونانيّة ولم يُعرف المـُترجم ولا سبب التَرجمة إليها... وضاع الأصل ولم يَعد له وجود حتّى الآن.

والتَراجم الموجودة حاليّاً هي تراجم عن النُسَخ اليونانيّة.. والبِشارة في اليونانيّة كانت بلفظة (بير كلوطوس) ومعناها: (الذي له حمدٌ كثير).

لكن القوم حرّفوا اللفظة إلى (باراكلي طوس) لتُتَرجم إلى المـُبشَّر أو المـُسلَّى أو المـُعزَّى (1) وجاء تعريبُها (فار قليطا) كما هو معروف.

* * *

يقول الأستاذ النجّار: كنتُ في سَنة 1893 - 1894 ميلاديّة طالباً بدار العُلوم في السَنة الأُولى، وكان يجلس بجانبي - في درس اللغة العربيّة - العلاّمة الكبير الدكتور (كارلونلينو) المـُستَشرق التلياني، وكان يحضر درس اللغة العربيّة بتوصيةٍ من الحُكومة الإيتاليّة.

فانعقدت أواصر الصُحبة المتينة بيني وبينه، وكان المرحوم (أحمد بك نجيب) يُعطي محاضراتٍ في الانفتياتر والعمومي، وكنّا نَحضَرُها ونُعطي مَلازِمَ من كتابهِ (الأثر الجليل في قدماء وادي النيل)، ففي ليلةِ السابع والعشرين من شهر رجب سنة 1311 خرجنا بعد المحاظرة وسُرنا في (درب الجماميز)، فقال لي الدكتور (نلينو): هذه الليلة ليلة المِعراج؟ قلت: نعم. فقال: وبعد ثلاثة أيام عيد السيّدة زينب؟ فقلت: نعم...

ثم قلت له - وأنا أعلم أنّه حاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اليهود اليونانيّة القديمة -: ما معنى (بيريكلتوس)؟ فأجابني بقوله: إنّ القَسَسَ يقولون: إنّ هذه الكلمة معناها (المـُعَزّى). فقلت: إنّي أسأل الدكتور (كارلونينو) الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانيّة القديمة ولستُ أسأل قسّيساً! فقال: إنّ معناها: (الذي له حمدٌ كثير)، فقلت:

____________________

(1) جاء في إنجيل يوحنّا، إصحاح 15 / 26 و 27: ومتّى جاء المـُعَزّى الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنّكم معي من الابتداء.

وفي إصحاح، 16 / 7: لكنّي أقول لكم الحقّ، إنّه خير لكم أنْ أنطلق؛ لأنّه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزّى، ولكن إنْ ذهبت أرسله إليكم.

وفي النسخة الفارسيّة جاءت عبارة)تسلّى دهنده): أي المـُسلّي.

٩٥

هل ذلك يُوافق أفعل التفضيل مِن حَمَدَ؟ فقال: نعم! فقلت: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أسمائه (أحمد)، فقال: يا أخي أنت تحفظُ كثيراً... وقد ازددت بذلك تثبّتاً في معنى قولهِ تعالى حكايةً عن المسيح: ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (1) .

وقال الحجّة البلاغي: الكلمة في الأصل اليوناني (بير كلوطوس) الذي تعريبه (فيرقلوط) بمعنى (كثير المـَحمَدَة) الموافق لاسم (أحمد) و (مُحمّد)، لكنّهم صححّوه - حَسَبَ زعمهم - إلى (بيراكلي طوس) ويعبّرون عنه بـ (فارقليط) كما عن التَراجم المطبوعة بلندن سنة (1821 و 1831 و 1841م) ومطبوعةِ وليم بلندن (1857م) على النُسخة الروميّة المطبوعة سنة (1664م)، والتَرجمة العبريّة المطبوعة سنة (1901م)، لكن أبدلهُ بعض المترجمين إلى لفظة (المـُعَزّى) أو (المـُسلَّى) وشاع ذلك (2) .

* * *

وذكر مُحمّد بن إسحاق المؤرِّخ الإسلامي المعروف صاحب السيرة النبويّة المتوفّى سنة (151هـ) نقلاً عن إنجيل يوحنّا أنّ كلمة البِشارة كانت بالسريانيّة (المـُنْحَمَنّاً)، وهي بالروميّة (البَرَقليطس)، (3) يعني: مُحمّداً (صلّى الله عليه وآله).

قال: وقد كان فيما بلغني عمّا كان وَضْعُ عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهلِ الإنجيل من صفةِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ممّا أثبت لهم (يُحنّس) الحواري (4) لهم حين نُسِخ لهم الإنجيل عن عهد (5) عيسى بن مريم (عليه السلام) في رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (من أبغضني فقد أبغض الربَّ، ولولا أنّي صنعتُ بحضرتهم صنائعَ لم يصنعْها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِروا وظنّوا أنّهم يُعزّونَني، (6) وأيضاً للربّ، ولكن لابدَّ مِن أنْ تتمَّ الكلمة التي في الناموس: أنّهم أبغضونني مجّاناً (7) أي باطلاً، لو

____________________

(1) هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص 397 - 398، والآية 6 من سورة الصفّ.

(2) راجع: الرحلة المدرسيّة للبلاغي، ج 2، ص 33.

(3) ولعلّه يقصد بالروميّة اليونانيّة، حيث اتصال العرب باليونان يومذاك كان عن طريق الروم الشرقيّة.

(4) ولعلّه محرّف (يوحنّى)؛ حيث البِشارة بذلك موجودة في إنجيل يوحنّا، إصحاح 15 / 26.

(5) ظاهر العبارة أنّ هذا الإنجيل كُتب متأخّراً عن عهد المسيح (عليه السلام) وهو كذلك؛ لأنّ الأساقفة اجتمعوا عند يوحنّا سنة 96 وقيل: 65، والتمسوا منه أنْ يكتب لهم عن المسيح وينادي بإنجيل ممّا لم يكتبه أصحاب الأناجيل الأُخر (راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 401).

(6) أي يغلبونَني.

(7) وجاءت عينُ العبارة في إنجيل يوحنّا، إصحاح 15 / 23 - 25 هكذا: (الذي يَبغضُني يَبغض أبي أيضاً. لو لم أكنْ قد

٩٦

قد جاء (المـُنْحمنّا) هذا الذي يُرسلُه الله إليكم من عند الربّ روح القُدُس، وهذا الذي مِن عند الربّ خرج، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضاً؛ لأنّكم قديماً كنتم معي، في هذا قلت لكم لكيما لا تشكّوا (1) .

وهذه العبارة الأخيرة أيضاً جاءت في إنجيل يوحنّا، هكذا: ومتّى جاء (المـُعَزّى) الذي سأرسلُه أنا إليكم من الأب روح الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنّكم معي في الابتداء (2) .

قال ابن إسحاق: والمـُنحمنّا بالسريانيّة: مُحمّد، وهو بالروميّة: البرقليطس (صلّى الله عليه وآله).

انظر إلى هذه التطابق مع إنجيل يوحنّا قبل اثني عشر قرناً، وكيف حصل التحريف في لفظهِ إلى (المـُعَزّى) وغيره.

قِصّة الصّلب

جاءت قصّةُ صَلبِ المسيح (عليه السلام) والأسباب التي دعت إلى صَلبه في الأناجيل مختلفةً أشدّ الاختلاف، فلا تكاد جزئية من الجزئيّات في أحدها تتحدّ مع الجزئيّة نفسها في إنجيل آخر.

ولمـّا كانت هذه الأناجيل من تأليف أُناس يدّعي المسيحيّون لهم الإلهام ويعتقدون خلوّها من الخطأ، كان ينبغي أنْ تكون كُتُبهم في مثل هذه الحادثة المهمّة - التي هي مناط النجاة ومدعاة الإيمان في نظرهم - متطابقةً متوافقةً، بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلاً؛ إذ النفس لا تطمئنّ إلى الأخذ بروايات جاءت بشأن قضيّةٍ واحدةٍ إذا اختلفت وتضارب بعضها مع البعض، الأمر الذي يُنبئ عن عدم أمانة الراوي كلَّ الأمانة، وتزول الثقة بروايتهِ، فلم يجز التصديق بها في نظر الاعتبار.

____________________

عملتُ بينهم أعمالاً لم يعملْها أحد غيري لم تكن لهم خطيئة، وأمّا الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي، لكن لكي تتمّ الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنّهم أبغضوني بلا سبب...).

(1) راجع: سيرة ابن هشام، ج 1، ص 248؛ والروض الأنف، ج 1، ص 264.

(2) إصحاح 15 / 26 - 27.

٩٧

وقد فصّل الكلام الأستاذ النجّار عن هذا الاختلاف الفاحش، وأبانَ مواضعَ التناقضِ والتهافتِ بين الأناجيل بشأن قصّةِ الصَلبِ، قال: لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألةٍ من المسائل كاختلافها في تفصيلِ مسألةِ صَلب المسيح وقتلهِ (1) .

قال: إنّ أدنى نظر يَهدي إلى أنّ عبارات هذه الأناجيل الأربعة متخالفة، وشهادتها لا تصلح أنْ تكون مُستنداً يَثبت به أمرٌ له مِن الأهميّة مثل ما لمسألةِ صَلبِ المسيح التي يدّعيها المسيحيّون ويجعلونها أساسَ إيمانهم:

1 - إنّ (متّى) يقول: إنّ يسوع جاء مع تلاميذه إلى قرية (جثيماني). ووافقه (مرقس)، وخالفهما (لوقا) وقال: إلى جبل الزيتون. وقال (يوحنّا): عِبر وادي (قدرون).

2 - وقال (متّى): ثُمّ أخذ معه (بطرس) وابني (زبدى) وابتدأ يَحزن ويَكتئب، ووافقه (مرقس)، وخالف (لوقا) في ذلك وذكر أنّه انفصل عنهم رمية حجرٍ وصار يُصلّي، وأسقط (يوحنا) هذه العبارة.

3 - ذكر (متّى) أنّه قال لمن معه: (نفسي حزينة حتّى الموت، امكثوا هاهنا واسهروا معي) ثُمّ راجعهم فوجدهم نياماً وهكذا للمرّة الثانية والثالثة فأنبأهم للمرّة الثالثة أنّ (ابن الإنسان) - يعني نفسه - سُلِّم إلى أيدي خُطاة، ثُمّ قال: قوموا نتطلّق هوذا الذي يُسلمني قد اقترب. وعبارة (مرقس) توافق عبارة (متّى) في المعنى.

وأمّا (لوقا) فزاد: أنّ مَلَكاً من السماء نزل إلى المسيح يُقويه، وأنّه كان يصلّي بأشدِّ لجَاجةٍ وصار عرقُهُ كقطراتِ دمٍ، وأسقط مجيئَه إلى التلاميذ للمرّة الثالثة.

وأمّا (يوحنا) فقد أسقط ذلك كلّه ولم يَذكر شيئاً منه، وهو أحد الثلاثة الذين انفرد بهم يسوع عن سائر التلاميذ، وهو دليل على عدم حصول شيء من ذلك.

4 - قال (متّى): وفيما هو يتكلّم إذا يهوذا أحد الإثني عشر قد جاء ومعه جمعٌ كثير بسيوف وعصيٍّ من عند رؤساء الكَهَنة وشيوخهم وشيوخ الشعب، والذي سلّمه أعطاهم علامةً قائلاً: هو هو امسكوه، فلِلوقتِ تقدّمٌ إلى يسوع وقال: السلام عليك يا سيّدي وقبّله،

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 433 - 452.

٩٨

فقال يسوع: يا صاحب لماذا جئت؟ حينئذٍ تَقدّموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه.

وافق (مرقس) (متّى) في المعنى، وقال (لوقا): إنّ المسيح قال: يا يهوذا أبِقُبلةٍ تُسلم ابن الإنسان؟! بدل قوله (يا صاحب لماذا جئت). وزاد: إنّ المسيح خرج إليهم وقال: مَن تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصري، فقال لهم: أنا هو، فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. ثم أعاد سؤاله وأعادوا الجواب، ثم قال: فإن كنتم تَطلبونَني فَدَعُوا هؤلاءِ يذهبون.

5 - ذكر (متّى) أنّهم قبضوا على يسوع، ثُمّ أنّ بطرس استلّ سيفه وضرب عبدَ رئيس الكَهَنة فقطع أُذُنَه، حينئذٍ تركه التلاميذ كلّهم وهربوا، أمّا (مرقس) فلمْ يَذكر هربَ التلاميذ، وأمّا (لوقا) فانفرد عن الجميع بأنّ المسيح لَمَسَ أُذُنَ العبد وأبرأها.

6 - يقول (متّى): إنّ الذين أمسكوا يسوع مضوا به إلى (قيافا) رئيس الكَهَنة. وأمّا (يوحنّا) فقال: إنّهم أوثقوه وذهبوا إلى (حنّان) حما (قيافا).

7 - ذكر (متّى) أنّ رؤساء الكَهَنة والشيوخ والجمع كلّه كانوا يَطلبون شهادةَ زُورٍ على يسوع فلمْ يجدوا، ومع أنّه جاء شهودُ زُورٍ كثيرون لم يجدوا.

قال الأُستاذ النجّار: انظروا إلى هذا الكلام الغَلق المتناقض كلَّ التناقض، إذا كانوا طلبوا شهود زُورٍ فلم يجدوا فيكف يقول بعد ذلك: (ومع أنّه جاء شهود زُورٍ كثيرون لم يجدوا)؟!

8 - المفهوم صراحةً من عبارة (متّى) و (مرقس) أنّ المـُحاكمة كانت ليلاً عَقِب القبض على المسيح ووصوله إلى دار رئيس الكَهَنة، ولكن (لوقا) و (يوحنّا) جعلا المـُحاكمة صباحاً.

9 - قال (يوحنّا): وكانت واقفات عند صلب المسيح أمّه وأخت أمّه وكلّم المسيح مع أنّه، وقد انفرد (يوحنّا) يذكر هذه العبارة. وأمّا (لوقا) فلم يذكر قرب أحد من معارفه إليه ولم يشر إليهم بكلمة ولم يَذكر (مرقس) أحداً من معارفه نظر حادثة الصَلب من قريب.

٩٩

10 - ذكر (متّى) أنّ حجاب الهيكل قد انشقّ إلى نصفين اثنين من فوقٍ إلى أسفلٍ حين أسلم المسيحُ الروحَ، والأرض تزلزلت والصخور تشقّقت والقبور تفتّحت، وقام كثيرٌ من أجساد القدّيسين الأموات، وأمّا (مرقس) فقد أهملَ هذا القول كلّه ولم يذكر منه شيئاً، وقال (لوقا): واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل، ولم يَذكر زلزلةَ الأرض ولا غير ذلك ممّا ذكره (متّى).

وعدّد الأستاذ النجّار أكثرَ من ثلاثينَ موضعاً خالفتْ فيها الأناجيل، وعقّبها بقوله: أراني قد مَلَلتُ جدّاً من إيرادِ الأقوال المتخالفة بهذا الشأن، وأظنّ أنّ القارئ قد سَئِم كما سَئِمتُ، ولو ذهبتُ في هذا الشوط اُعدّد هذا التضادّ بين الأناجيل لأضعت وقتاً ثميناً.

قال: وبعد ذلك فهل يظنّ ظانّ أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) هو الذي ابتدع مسألة نفي صَلب المسيح؟ (1)

وإذا نظرنا إلى مسألة صَلب المسيح وقتلَه لم نجدْها عند المسيحيّين إجماعيّة، بل وُجِد مِن طوائف المسيحييّن مَن ينفي الصَلب والقتل. منهم: (الساطرينوسيون) و(الكاربو كراتيون) و(المركيونيّون) و(البارديسيانيون) و(التاتيانسيون) و(البارسكاليونون) و(البوليسيون)... وهؤلاءِ مع كثيرينَ غيرهم لم يُسلِّموا بوجهٍ من الوجوه: أنّ المسيح سُمِّر فعلاً ومات على الصَليب.

وما ذكرنا هنا مقرّر في تأريخهم الذي يُدرَّس في مدارس اللاهوت الإنجيليّة باسم (موسى هيم). وهناك شهادات من علماء النصرانيّة تفيد المطّلع بصيرةً:

1 - قال الميسو (ارادوار سيوس) الشهير - أحد أعضاء (الانسيتودي فرانسي) في باريس والمشهور بمعارضة المسلمين - في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانيّة، ص49): إنّ القرآن ينفي قتلَ عيسى وصَلبَه، ويقول بأنّه شبّهه على غيره فغَلطَ اليهودُ فيه وظنّوا أنّهم قتلوه، قال: وما قاله القرآن موجودٌ عند طوائفٍ من المسيحيّين، منهم (الباسيليديون) كانوا يعتقدون أنّ عيسى وهو ذاهب لمحلّ الصلب ألقى الشبه على

____________________

(1) بل لم يكن له غاية من هذا النفي، ولعلّ إثباته أنفع له؛ حيث اليهود الّذين واجههم كانوا يَقتلون الأنبياء بغير حقٍّ. فكانت حادثةُ صَلب المسيح على أيديهم أدلَّ شيء على هذا المدّعى، الأمر الذي يدلّ على أنّ مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) كان على وضعِ بيان الحقيقة لا غير.

١٠٠