البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 137293
تحميل: 6418

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137293 / تحميل: 6418
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

أذهان الاصحاب آنذاك، نتيجة لتناول النصوص النبوية له بكثرة وتكرار، وتأكيدها على ذم الابتداع، وانتقادها له بشدة، ودعوتها الى ضرورة مواجهته، ومكافحته، واستئصاله، وتنكيلها بالمبتدعين، ووعدهم بأشد وأقسى أنواع العقوبات الدنيوية والاخروية.

وشأن (البدعة) في ذلك شأن المصطلحات الاسلامية المنقولة الاخرى، التي كانت لها مداليل لغويّة معينة قبل النقل، وفي الاصطلاح اللغوي العام، إلا انها استُعملت من قبل الشارع المقدس في معان اصطلاحية جديدة، واتخذت طابعاً شرعياً محدداً لا تربطه مع المعنى السابق في مجالات الاستعمال، الا تلك العلاقة التي جوَّزت عملية النقل، ونتيجة لكثرة استعمال هذهِ المصطلحات المنقولة الجديدة في حياة المسلمين في معانيها الشرعية، فقد بدأت الذهنية المتشرعة تهجر تلك المعاني اللغوية القديمة، وتنصرف تلقائياً الى المعنى الاصطلاحي الشرعي من دون حاجة الى ذكر القرائن والقيود.

فالصلاة، والزكاة، والحج، والخمس. وغير ذلك من المصطلحات الشرعية الاخرى، قد خضعت لعملية النقل هذه، وأخذت بعدها الواضح في أذهان المسلمين، من خلال معانيها الشرعية الجديدة.

ومفهوم (البدعة) واحد من تلك المفاهيم التي سلكت عين الطريق، وسارت في ذات المسار الذي ضمَّ الأعداد الغفيرة من المنقولات.

ولم يكن ليشك أحد بعد عملية النقل هذهِ في دلالة لفظ (البدعة) على الحادث المذموم، والممارسة المقيتة والمرفوضة في نظر الشريعة الاسلامية، ولم يكن ليتردد شخص في طبيعة المورد الذي يستعمل فيه هذا المفهوم، بعد هذا التداول المتكرر والتأكيد الحثيث.

ولكن بعد أن ورد لفظ (البدعة) في حديث التراويح بالذات، انقلبت تلكَ الموازين والمرتكزات، وتوقف إعمال الاسس العلمية التي يتم بموجبها التعامل مع

١٤١

المواقف والاحداث، وقامت الدنيا ولم تقعد، من أجل تبرير اطلاق لفظ (البدعة) على هذهِ الصلاة، وتوجيه معناها الجديد!

وتحيَّر القوم في الأمر. فهم بين حشدٍ كبير من النصوص الصريحة التي تناولت هذا المفموم بالذم الواضح، والتقريع الصريح، والتي ما فتئت حيةً وساخنةً في وجدان المسلمين وقت اطلاق ذلك القول. وبين مقولة «نعمت البدعة هذه» التي عاكست ذلك الاتجاه، وسارت في طريق مضادٍّ له تماماً.

وكان أن تمخَّض الحل في رأي هؤلاء المبررين والمدافعين بتشطير مفهوم (البدعة)، وتقسيمه إلى قسمين: بدعة مذمومة، وهي التي تناولتها أحاديث الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذم والانتقاد، وبدعة ممدوحة، وهي التي يمكن أن تندرج تحتها صلاة التراويج، فيتوجه بذلك القول السابق المذكور في الحديث.

ولنحاول في البداية أن نتناول الأقوال التي نصت على تقسيم البدعة، ثم ننظر بعد ذلك في حقيقة هذا التقسيم.

مع القائلين بالتقسيم

نرجو من القارئ الكريم أن يركِّز عند مطالعة الأقوال التالية على نقطة مهمة جداً في التقسيم، وهي بناء التقسيمات المزعومة على أساس واحد، وهو عبارة عن مقولة «نعمت البدعة هذه»، وانطلاقها من هذا الاتجاه.

وأهم هذهِ الاقوال هي:

١ - الشافعي : روى البيهقي باسناده عن الشافعي أنه قال: «المحدثات من الامور ضربان: أحدهما ما اُحدث مما يخالف كتاباً، أو سنة، أو أثراً، أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما اُحدث من الخير، لا خلاف فيه لواحدٍ من العلماء، وهذه محدثة غير

١٤٢

مذمومة، وقال عمررضي‌الله‌عنه في قيام شهر رمضان: (نعمت البدعة هذه)(١) .

قال الربيع معقباً على ذلك:

«وقد استند في كلا التعبيرين إلى قول عمررضي‌الله‌عنه في صلاة التراويح: «نعمت البدعة هذه»(٢) .

٢ - ابن حزم : يقول بصدد التقسيم: «البدعة في الدين: كل ما لم يأتِ في القرآن، ولا عن رسول اللّه، إلا انَّ منها ما يؤجر عليه صاحبُه، ويُعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه، ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الاباحة، كما روي عن عمررضي‌الله‌عنه : نعمت البدعة هذه»(٣) .

٣ - ابن الاثير : يقول في (جامع الاصول) عن هذا التقسيم: «فأما الابتداع من المخلوقين، فان كان في خلاف ما أمر اللّه به ورسوله، فهو في حيِّز الذم والانكار، وان كان واقعاً تحت عموم ما ندب اللّه إليه، وحضِّ عليه، أو رسولُه، فهو في حيِّز المدح، وان لم يكن مثالُه موجوداً، كنوعٍ من الجود، والسخاء، وفعل المعروف. ويعضد ذلكَ قول عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه في صلاة التراويح: نعمت البدعةُ هذه»(٤) .

٤ - الجاكمودي : يقول في قصيدة له:

فبدعة فعلكَ ما لم يُعهد

في عهد سيِّد الورى محمّد

قد قُسمت كالخمسة الأحكام

من الوجوب الندب والحرام

كذاك مكروه وجائز تمام

قد قاله عزّ بن عابد السلام

فكل بدعة ضلالة حُمِل

على التي قد حُرِّمت فقط نُقل

____________________

(١) النووي، تهذيب الأسماء واللغات، قسم اللغات، ج: ١، ص: ٢٣، وانظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج: ١٣، ص: ٢٥٣.

(٢) سعيد حوّى، الاساس في السنة وفقهها (العقائد الاسلامية)، ص: ٣٥٩.

(٣) سعيد حوّى، الاساس في السنة وفقهها (العقائد الاسلامية)، ص: ٣٥٩.

(٤) ابن الاثير، جامع الاصول في أحاديث الرسول، ج: ١، ص: ٢٨٠ - ٢٨١.

١٤٣

من بدعٍ واجبةٍ تعلّم

النحو إذ به الكتاب يُفهمُ

ومثّلوا الحرامَ في المكاتب

كالقدرية من المذاهب

وانَّما زخرفة المساجد

من بدعٍ مكروهةٍ للعابد

ومثّلوا المندوب كاجتماع

عند التراويح بلا نزاعِ(١)

٥ - عز الدين بن عبد السلام : وقد بالغ في تقسيم (البدعة)، وسحب عليها الأحكام الشرعية الخمسة، وهو الذي قصده (الجاكمودي) في أبياته المتقدمة، فيقول في أواخر (القواعد):

«البدعة: خمسة أقسام، فالواجبة: كالاشتغال بالنحو الذي يُفهم به كلام اللّه ورسوله، لأنَّ حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك، فيكون من مقدمة الواجب، وكذا شرح الغريب، وتدوين اُصول الفقه، والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم، والمحرَّمة: ما رتبه مَن خالف السنة من القدرية، والمرجئة، والمشبهة، والمندوبة: كل إحسان لم يُعهد عينُه في العهد النبوي، كالاجتماع على التراويح، وبناء المدارس والربط، والكلام في التصوف المحمود، وعقد مجالس المناظرة، إن اُريد بذلكَ وجهُ اللّه، والمباحة: كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، والتوسع في المستلذات من أكل، وشرب، وملبس، ومسكن، وقد يكون ذلكَ مكروهاً، أو خلاف الأولى، واللّه أعلم»(٢) .

٦ - الغزالي : يقول في الاحياء بصدد الأكل على السفرة ما يستفاد منه تبنّيه للتقسيم المذكور: «وقيل: أربع اُحدثت بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الموائد، والمناحل، والأشنان، والشبع، واعلم انّا وان قلنا الاكل على السفرة أولى، فلسنا نقول الأكل على المائدة منهي عنه نهي كراهة أو تحريم، إذ لم يثبت فيه نهي.

ما يُقال أنه اُبدع بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس كل ما اُبدع منهياً عنه، بل المنهي

____________________

(١) محمد بن أبي بكر بارو، تنبيه المنتقد للاحتفالات بليلة المولد، ص: ٣١.

(٢) النووي، تهذيب الاسماء واللغات، ص: ٢٢ - ٢٣، وانظر فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج: ١٣، ص: ٢٥٤.

١٤٤

عنه بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علته، بل الابداع، قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب»(١) .

٧ - الشيخ عبد الحق الدهولي : يقول في شرح المشكاة مصرحاً بالتقسيم: «اعلم انَّ كل ما ظهر بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعة، وكل ما وافق اصول سنته وقواعدها، أو قيس عليها فهو بدعة حسنة، وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة»(٢) .

من كتاب كشاف اصطلاحات الفنون.

انعكاسات القول بالتقسيم

إنَّ القول بتقسيم (البدعة) لو كان قد توقف عند هذا الحد الذي استعرضناه قبل قليل، لكان الأمر هيّناً ويسيراً، ولكنَّ بعض كتب اللغة التي يُفترض انَّها تتناول المعاني بشكل توقيفي لا اجتهاد فيه، وتستعرض اللغات بأمانة ودقّة متناهية. قد تأثرت بهذا التقسيم أيضاً، وحمَّلت مفهوم (البدعة) هذا المعنى الخاطئ في تسامحٍ خطير، وتبع هذهِ الكتب اللغوية بعض دوائر المعارف المشهورة أيضاً.

ومما ينبغي الالتفات إليه انَّ هذه الكتب لم تجعل تقسيم (البدعة) مختصاً بمعناها اللغوي، لكي يُلتمس لها العذر فيما قالت وادَّعت، وانما نصت على انَّ التقسيم من خواص (البدعة) في الاصطلاح الشرعي.

واليكَ أيها القارئ الكريم نماذج من ذلك:

١ - المصباح المنير : «وأبدعتُ الشيء وابتدعته: استخرجته وأحدثته، ومنه قيل للحالة المخالفة: (بدعة)، وهي اسم ممن (الابتداع)، وهم اسم من (الابتداع)، كالرفعة من الارتفاع، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة، لكن قد يكون بعضها غير مكروه

____________________

(١) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب آداب الاكل، الباب: الاول، ص: ٤ - ٥.

(٢) سعيد حوّى، الأساس في السنة وفقهها (العقائد الاسلامية)، ص ٣٦٠، عن الجزء الاول

١٤٥

فيسمى: بدعة مباحة، وهو مصلحة يندفع بها مفسدة، كاحتجاب الخليفة عن أخلاط الناس»(١) .

فمن الملاحظ هنا انَّ (المصباح المنير) بعد أن يستعرض المعنى اللغوي للبدعة، ينتقل الى بيان معناها الشرعي، فينص على انَّها يمكن أن تكون مباحة كذلك، ويمثل لها باحتجاب الخليفة عن أخلاط الناس، الذي لم يكن موجوداً في عصر التشريع الاول، وانما اُحدث بعد ذلك في الازمنة المتأخرة، ويُعدُّ ذلكَ بدعة مباحة.

٢ - تهذيب الاسماء واللغات : «(بدع): البدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي منقسمة الى حسنة وقبيحة»(٢) .

٣ - النهاية (٣) : «وفي حديث عمررضي‌الله‌عنه في قيام رمضان: نعمت البدعة هذه، البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر اللّه به ورسولُهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو في حيِّز الذم والانكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب اللّه إليه، وحضَّ عليه اللّه، أو رسولُه، فهو في حيِّز المدح، وما لم يكن له مثال موجود، كنوعٍ من الجود، والسخاء، وفعل المعروف، فهو من الأفعال المحمودة. ومن هذا النوع قول عمررضي‌الله‌عنه : نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير، وداخلة في حيِّز المدح سمّاها بدعةً، ومدحها، لأنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسنَّها لهم، وانما صلاها ليالي ثم تركها(٤) ، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وانما عمررضي‌الله‌عنه جمع الناس عليها، وندبهم اليها، فبهذا سمّاها بدعة، وهي على الحقيقة سنة، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)، وقوله: (اقتدوا بالذين من بعدي ابي بكر و

____________________

(١) المصباح المنير الفيومي، المصباح المنير، ص: ٣٨.

(٢) النووي: تهذيب الاسماء واللغات، ج ١، ص ٢٢.

(٣) كتاب (النهاية) من الكتب التي تناولت غريب الحديث، وقد تناول المعاني اللغوية ضمناً.

(٤) قوله: وانما صلاها ليالي ثم تركها. لا يصح، لأنه لو فعلها مرة لكانت سنّة، وخرجت عن كونها بدعة، ولكان استدل بذلك من أمر بها. وسيأتي توضيح هذا المطلب فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

١٤٦

عمر)(١) .

وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: (كل محدثة بدعة)، انَّما يريد ما خالف اُصول الشريعة، ولم يوافق السنة. واكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم»(٢) .

وقد أصبح تقسيم ابن الأثير ل(البدعة) في هذا الكلام الى: مذمومة وممدوحة، أساساً تناقلته كتب لغوية اُخرى، وجعلته أحد الآراء المعتبرة للمعنى الشرعي لها، من دون أن تتبناه.

ومن تلك الكتب (لسان العرب) لابن منظور، حيث نقل كلام ابن الاثير هذا بتمامه، ونسبه إليه من دون تعليق(٣) ، كما نقله بتمامه أيضاً صاحب (تاج العروس)، ونسبه إلى قائله(٤) ، ونقل بعضه أيضاً الطريحي في (مجمع البحرين)، ولم يصرّح باسم قائله(٥) .

ونحن لا نريد أن نسجل ملاحظة على هذه النقولات، وعلى هذا التسامح في طريقة عرض الآراء، بغثّها وسمينها، أكثر من أن نقول بأنَّ للانسان أن يركن الى هذهِ الكتب في مجال تخصصاتها اللغوية، باعتبار انَّها أسفار علمية معتبرة، وخصوصاً الكتب اللغوية المشهورة منها، ولا كلام لنا في ذلك، إلا انه من غير الصحيح أن ينساق المرء مع كل ما يُطرح في هذهِ الكتب، على مستوى تقرير المعاني الاصطلاحية للألفاظ، ويتلقاها من دون تثبُّت، وإمعان نظر، وذلك لما ثبت عن طريق التتبع والاستقراء، من عدم توفر الدقة الكافية في تحقيق هذهِ المعاني الاصطلاحية، والتي قد لا تضبط بشكل كامل ودقيق حتى من قبل أصحاب الفن أنفسهم، ومن جهة خروج هذا المطلب عن أصل التخصص

____________________

(١) سيأتي بطلان هذا النحو في الاستدلال، والمناقشة في حديث سنة الخلفاء الراشدين فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

(٢) ابن الاثير، النهاية، ج ١، ص: ١٠٦ - ١٠٧.

(٣) ابن منظور، لسان العرب، ج: ٨، ص: ٧٠٦.

(٤) محب الدين الحنفي، تاج العروس في جواهر القاموس: ج: ٥، ص: ٢٨٠.

(٥) الطريحي، مجمع البحرين، ج: ٤، ص: ٢٩٨ - ٢٩٩.

١٤٧

الذي يدور حوله البحث في مثل هذهِ المصنفات.

٤ - دائرة المعارف الإسلامية : «وهناك تصنيف دقيق يفرّق البدع على أحكام الفقه الخمسة، والبدع التي هي فرض كفاية على الجماعة الاسلامية: دراسة فقه اللغة العربية، توصلاً الى فهم القرآن. الخ، والأخذ بشهادة العدول أو رفضها، وتمييز الحديث الصحيح من غيره، وترتيب أحكام الفقه والرد على الزنادقة، ومذاهب الزنادقة المخالفة للسنة حرام. وإنشاء الرباطات والمدارس وأشباهها من البدع المندوبة. وتزيين المساجد، وتوشية المصاحف، من البدع المكروهة. ومن أمثلة البدع المباحة: الانفاق على المآكل والمشارب وغيرها»(١) .

٥ - دائرة معارف القرن العشرين : «البدعة: ما اختُرع على غير مثال سابق، وهي مؤنث بدع، وقد اُطلقت على الخصلة المحدثة في الدين، سواء أكانت حسنة أم سيئة، وقد كثر اطلاقها على المستحدثات السيئة في العقائد، والعوائد، والمعاملات»(٢) .

ومن الانعكاسات السلبية الاخرى للقول بتقسيم البدعة الى مذمومة وممدوحة، هو انَّ بعض علماء العامة أطلق لفظ (البدعة) على جملة من الأعمال الجائزة شرعاً، والمندرجة تحت الادلة العامة المقطوعة الصدور، وان لم تكن موجودة في العصر الأول للتشريع، كالاحتفال بيوم المولد النبوي مثلاً، فهو عمل مشروع ومندوب من وجهة نظر الكثير من علماء العامة، إلا انّا نجد انّ هؤلاء القائلين بمشروعية هذا العمل وجوازه، أبوا إلا ان يطلقوا عليه لفظ الابتداع وينعتوه بذلك، فقالوا بانَّ عمل المولد بدعة، إلا انها بدعة ممدوحة، وكأنَّ اللغة العربية، والتراكيب اللغوية المترامية فيها، قد ضاقت بسعتها عن انجاب لفظ آخر ينطبق على الامور الحادثة المشروعة.

وكان أن سبَّب اطلاقهم للفظ البدعة في مثل هذهِ الموارد التباساً عند الآخرين،

____________________

(١) دائرة المعارف الاسلامية: ج: ٣، ص: ٤٥٦.

(٢) محمد فريد وجدي: دائرة معارف القرن العشرين، ج: ٢، ص: ٧٧.

١٤٨

فظنوا انَّ هذا العمل غير مشروع باعتبار الارتكاز الحاصل في ذهنية المتشرعة عموماً على رفض هذا المفهوم، وانسباق صورة مقيتة عنه بسبب الاحاديث الكثيرة الواردة في شجبه وذمه، ويزداد الأمر تعقيداً والتباساً عندما تُقتطع الالفاظ عن تتماتها ومكملاتها، وتُعرض بصورة ناقصة بتراء، من باب الاختصار، أو التسامح، أو التمويه.

ولعلَّ هذا الاطلاق يهيئ مخرجاً سهلاً، لاولئكَ الذين اصرّوا على تحاشي الاصطدام مع مَن يرمي مثل هذا العمل بالابتداع، ويخرجه عن دائرة التشريع، باعتبار الاشتراك الموجود بين اللفظين.

فبدلاً من التصريح بجواز هذا العمل ومشروعيته، يُقال بأنَّ هذا العمل بدعة ممدوحة، في الوقت الذي يطلق الآخرون القول عنه بانَّه بدعة أيضاً وبصورة قاطعة، من دون شك أو ترديد.

وهناك نماذج كثيرة لاستخدام لفظ (البدعة) في مثل هذهِ الموارد، على الرغم من القول بجوازها، ومشروعيتها، فمن تلك الموارد:

ما قاله ابن حجر حول المولد النبوي: «عمل المولد بدعة، لم تُنقل عن أحدٍ من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدَّها، فمن تحرّى في عملها المحاسن، وتجنَّب ضدها، كان بدعةً حسنة، والا فلا»(١) .

وقال الحلبي الشافعي حول نفس الموضوع أيضاً: «جرت عادة كثير من الناس إذا سمعوا بذكر وصفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوموا تعظيماً له، وهذا القيام بدعة لا أصل لها، أي ولكن هي بدعة حسنة»(٢) .

____________________

(١) جعفر مرتضي العاملي، المواسم والمراسم، ص ٦٢، عن رسالة حسن المقصد المطبوعة مَعَ النعمة الكبرى على العالم/ ص: ٨٨، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص: ١١٤.

(٢) جعفر مرتضى العاملي، المواسم والمراسم، ص ٦٢. والمراد من وصفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولادته.

١٤٩

بطلان القول بالتقسيم

وبعد هذه الجولة السريعة في مجمل الآراء التي تعرضت لتقسيم (البدعة) الى مذمومة وممدوحة، وملاحظة الخلفيات التي دعت الى القول بهذا التقسيم، من خلال صراحة النصوص المتقدمة، واعتمادها بشكل واضح على مقولة: «نعمت البدعة هذه»، ومَع هذا، فسواء أكان التقسيم مبنياً على هذا الاساس وصحَّ هذا الأمر، أم لم يكن مبنياً على ذلك. فسوف نذكر أدلتنا على بطلان القول بتقسيم البدعة الى مذمومة وممدوحة، أو الى الأحكام الخمسة التي ادُّعيت في بعض الكلمات.

ثم نتعرض بعد اتمام ذلك الى أقوال النافين للتقسيم من أعلام الفريقين.

وقبل أن نستعرض أدلة نفي التقسيم، يجدر بنا أن نشير الى انَّ القول بتقسيم (البدعة) يستند أساساً على الخلط بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لهذا المفهوم.

فانّا لو كنّا مع مفهوم (البدعة) بمعناها المجرّد عن مراد الشريعة وقصدها، فانَّها تعني: الأمر المحدث الذي ليس له سابق مثال، وهذا المعنى يتحمل أن يكون مذموماً، وأن يكون ممدوحاً، لأنَّ هناك اُموراً كثيرة تحدث وتُبتدع بعد عصر التشريع، مما لم تنلها الاحكام، والادلة الخاصة، فتتصف بالمدح تارةً، وبالذم اُخرى، بل يمكن أن تتصف بالعناوين الشرعية الخمسة أيضاً.

ولكن بعدَ أن تضيَّقت دائرة دلالة هذا المفهوم، وأصبح شاملاً لخصوص الأمر المحدث الذي يُدخل في الدين من دون أن يكون له أصل شرعي فيه، فلا يمكن حينئذٍ ان نتصور له قسماً ممدوحاً بشكل مطلق.

وأما أدلة نفي التقسيم فهي:

الدليل الأول : هو انَّ الضرورة العقلية تقضي وتحكم بعدم امكانية طروّ وعروض التقسيم على مفهوم (البدعة)، فمن خلال خلال التدقيق في المعنى الاصطلاحي الوارد لتحديد مفهوم (البدعة) في النصوص الشرعية، نلاحظ انَّ هذا المفهوم غير قابل للتقسيم

١٥٠

بحد ذاته أصلاً، ولا يمكن أن يعتريه أيّ استثناء أو استدراك أساساً، إذ انَّ معنى (البدعة) في الاصطلاح الشرعي هو: «ادخال ما ليس من الدين فيه» كما تقدمت الاشارة اليه، وهذا يعني انَّ (البدعة) تشريع وضعي ينصب نفسه في مقابل التشريع الالهي المقدس، ويضاهي السنة الشريفة، ويتحدى تعاليم السماء، فهل يُعقل أن نتصور قسماً ممدوحاً لمثل هذا اللون من الادخال؟ وهل يمكن أن يتصف مثل هذا التشريع بالمدح والإطراء؟! أو أن يتصف بواحدٍ من الاحكام الشرعية الخمسة غير التحريم المطلق؟

إنَّ شأن الابتداع في المصطلح الشرعي شأن الكذب على اللّه ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أفهل يُعقل أن يكون هناك قسم ممدوح لهذا اللون من الكذب؟ وهل يقول أحد بانَّ هناك كذباً وافتراءاً على اللّه ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتصف بالمدح، أو الاباحة، أو حتى بالكراهة والعياذ باللّه؟!.

الدليل الثاني : إنَّ اللغة التي تحدثت بها النصوص الشرعية حول مفهوم (البدعة) تأبى التقسيم المذكور أيضاً، فقد مرَّ انَّ هذهِ النصوص المستفيضة جعلت (البدعة) ندّاً مقابلاً للسنة، وضدّاً لا يلتقي معها أبداً، وذمت المبتدع وأكالت له أنواع الذم، والتوبيخ والتقريع، وأوعدت بعذاب المبتدع بأقسى أنواع العقوبات الدنيوية، والاخروية، ودعت الى مقاطعته، وهجرانه، وأطلقت القول بعدم قبول توبته. فكيف يمكن مع كل هذا أن يكون هناك قسم ممدوح للابتداع؟ وكيف يمكن لهذا القسم أن يتخطى هذا الحجم الغفير من النصوص الصريحة، ويحيد عنها نحو اتجاه آخر، لا أثر له ولا دليل عليه؟.

الدليل الثالث : ورد في الحديث المتفق عليه بين الفريقين انَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «. ألا وكل بدعة ضلالة، ألا وكل ضلالة في النار»(١) ، وورد بلفظ:

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٢، كتاب العلم، باب: ٣٢، ح: ١٢، ص: ٢٦٣.

١٥١

«فانَّ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة تسير الى النار»(١) .

فدلالة هذا الحديث على استيعاب جميع أنواع البدع بالذم والضلال، لا تحتاج منّا إلى مزيد بيان، ولا تقبل الجدل والانكار.

الدليل الرابع : إنَّ المورد الوحيد الذي تناولته النصوص الشرعية المتقدمة على اختلاف مضامينها، وتنوع مداليلها، هو المورد المذموم، الذي يُعد (البدعة) خصوص الأمر الحادث الذي يقابل الكتاب، والسنة، والتشريع الالهي المقطوع، وبهذا فقد تعرض هذا المورد إلى الذم والانتقاد الشديد، ولو كان هناك نحو من أنحاء الاستثناء في موارد معينة مفترضة، وحتى لو كانت تلك الموارد المستثناة موارد جزئية ومحدودة، لما كان بوسع الشريعة المقدسة أن تتجاهلها، وتغض النظر عنها بشكل من الاشكال، في الوقت الذي نترقب حصول مثل هذا الاستثناء من قبل الشريعة، فيما لو وُجد أمر من هذا القبيل، باعتبار انَّ لسان بيان التشريع يتحدث من موقع استيفاء جميع شؤون الاحكام والتعاليم.

فمفهوم (الكذب) مثلاً، وردت في شأنه نصوص صريحة وقاطعة، تناولته بالذم الشديد، حتى أصبح الايمان بقبحه من مسلمات الاعتقاد، وضروريات الدين، إلا انَّ الشريعة لم تتجاهل في نفس الوقت بعض الموارد التي يرتفع فيها موضوع الذم، ولا تسير في نفس الاتجاه الأصلي المذكور، وانما نرى انَّ هناك نصوصاً شرعية مماثلة في الصراحة، وقوة الدلالة على استثناء بعض أنواع الكذب من أصل التحريم، إذ قد يخرج من دائرة التحريم إلى دائرة الوجوب، فيما لو توقف عليه حفظ نفس مؤمنة من القتل والهلاك مثلاً.

ومفهوم (الغيبة) كذلك، يخضع لنفس التعامل الذي صدر من الشريعة بشأن الكذب، فهو مذموم ممقوت في نظر الشريعة، ويُعدّ من كبائر الذنوب، إلا انَّ هناك موارد ذكرتها النصوص الاسلامية تحت عنوان (جواز الاغتياب)، يتم الانتقال بموجبها من

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١، ح: ١١١٣، ص: ٢٢١.

١٥٢

الحكم الاولي بالتحريم، إلى أحكام اُخرى كالجواز مثلاً، فيما لو كان المغتاب متجاهراً بالفسق، ومعلناً له.

وهكذا الأمر في الكثير من المفاهيم الاسلامية المذمومة الاخرى، حيث يرد الاستثناء صريحاً فيها، فتتحول بواسطة هذا الاستثناء من الحكم الاوّلي المحرَّم، إلى أحكامٍ ثانوية أخرى، كالاباحة، أو الندب، أو الوجوب، أو الكراهة، بحسب مقدار دائرة وحدود ذلك الاستثناء، ونوع القيود التي وضعتها الشريعة له.

وما دمنا نتفق على أنه لا يوجد أيّ لون من ألوان الاستثناء الشرعي الصريح في خصوص الادلة التي تناولت بأجمعها ذم الابتداع وانتقاده الشديد، وما دام لا يمكن لأي أحد أن يّدعي ذلك، وحتى اُولئك الذين يقولون بالتقسيم، إذ انَّهم لا يبنونه على النص الشرعي الصريح وانما على التنظير العقلي المحض، أو على استفادات بعيدة المنال من بعض النصوص الشرعية. فما دمنا نتفق على ذلك، فلا بد أن نتفق أيضاً على انّ مفهوم (البدعة) لا يمتلك إلا قسماً واحداً مذموماً، وإلا لو وجد له قسم آخر، لأعربت عنه الشريعة، ولما تجاهلته وأهملته، كما هو الشأن في جميع المفردات التشريعية الاخرى.

وربما يُعترض على ما قررناه من بيان بانَّ (البدعة) قد وردت مقيَّدة ب(الضلالة)، وهذا يعني وجود قسم آخر لها لا يتصف بالضلالة، فقد ورد في الحديث:

«انَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لبلال بن الحارث: اعلم! قال: ما أعلم يا رسول اللّه؟، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعلم يا بلال! قال: وما أعلم يا رسول اللّه؟، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه مَن أحيى سنة من سنتي قد اُميتت بعدي، فانَّ له من الأجر مثل مَن عمل بها، من غير ان ينقص من أجورهم شيئاً، ومَن ابتدعَ بدعة ضلالة، لا تُرضي اللّه ورسوله، كان عليه مثل آثام مَن عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً»(١) .

فقيد (الضلالة) كما يدّعي هؤلاء المقسمون في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومَن ابتدعَ بدعة

____________________

(١) الدارمي، سنن الدارمي، ج: ٥، كتاب العلم، باب: ١٦، ح: ٢٦٧٧، ص: ٤٤.

١٥٣

ضلالة»، يفيد في مفهومه انَّ هناكَ لوناً من البدع لا يتصف بالضلالة، وإلا فما هي فائدة ذكر القيد في الحديث؟

والجواب على ذلك انّا لو سلّمنا صحة هذا الحديث، فانَّ منطوق قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل بدعة ضلالة» الدال على الاستيعاب والعموم بالأداة (كل) يعارض المفهوم المستفاد من «بدعة ضلالة» ويتقدم عليه، هذا أولاً.

وثانياً: انَّ مثل هذا المفهوم غير ثابت عند أهل التحقيق والنظر من علماء الفريقين، ولو سلمنا ثبوته فانه لا ينفعنا في المقام شيئاً، لانَّ الادلة الصريحة والمستفيضة قد دلَّت بصراحة وبالاطلاق على لزوم الضلالة ل(البدعة) من دون انفكاك، فيكون القيد في هذا الحديث، من قبيل القيد في قوله تعالى:

( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأكُلُوا الرّبا أَضعافاً مُّضاعَفَةً ) (١) .

كما قد يُعترض على ما تقرر من انَّ (البدعة) في الاصطلاح الشرعي لم تستعمل إلا مذمومة، ولم تطلق إلا على خصوص الحادث المذموم، بورود الاستثناء المستفاد من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الشريف:

«عمل قليل في سُنّة، خير من عمل كثير في بدعة»(٢) .

فيدل الحديث كما يُدَّعى على المفاضلة بين قليل السنة وكثير (البدعة)، وهذا يعني انَّ لكثير البدعة نحواً من القبول والصحة، وإلا لما وقعت هذه المفاضلة المذكورة.

وفي الحقيقة انَّ مَن أدنى اطلاع على طبيعة الخطابات الشرعية، ومَن يمتلك ولو مقداراً يسيراً من التعامل والتماس مع النصوص الاسلامية، يدرك بأنَّ المقصود من الحديث هنا مجاراة الخصم ومسايرته، أي لو كان في البدعة خير، فقليل السنة خير من كثير البدعة، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك تلك النصوص الشرعية المصرِّحة بذم البدعة،

____________________

(١) آل عمران: ١٣٠.

(٢) كنز العمال، ج: ١، ح: ١٠٩٦، ص: ٢١٩.

١٥٤

وانتقادها بشكل مطلق، وإذا ما التفتنا إلى انَّ هذهِ الصيغة من الخطاب، أي الصيغة المذكورة في حديث: «قليل في سنة، خير من كثير في بدعة» جارية في جملة من النصوص الشرعية الاخرى، وفي المحاورات العرفية العامة.

الدليل الخامس: ثبت معنا انَّ كلمة (البدعة) في الاصطلاح الشرعي لم تُستعمل إلا مذمومةً، والروايات الواردة عن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام تصل في كثرتها إلى حد الاستفاضة في هذا النحو من الاستعمال، وهذهِ الاحاديث إما أن نكون قد استعرضناها سابقاً ضمن بحث (مواجهة الابتداع)، وإما سوف نتعرض لها تحت عنوان (البدعة في النصوص الاسلامية)، أو بين طيات البحث، والمهم في الأمر انَّ الاستقراء والتتبع لهذه الاحاديث، يوقفنا على النتيجة على التي انتهينا اليها، وهي انَّ (البدعة) لم تستعمل في اصطلاح الشارع إلا مذمومة.

ويمكن أن يضاف إلى هذا المقدار من الاستعمال، قرائن ظنية قوية، مستفادة من تتبع واستقراء استعمالات المتشرعة الذين رافقوا الزمن الأول للتشريع، ومَن بعدهم بقليل، والوصول من خلال ذلك إلى عين النتيجة السابقة، وهي انَّ المتشرعة لم يستعملوا البدعة إلا مذمومة أيضاً، فنحن نرى من خلال استعراض استعمالات هذهِ الطبقة التي كانت تتلقى المفاهيم الاسلامية من قرب، انَّ تطبيق هذا المفهوم لم يكن يتجاوز الحادث المذموم بشكل عام، وأما قصة التقسيم فهي قضية حدثت في فترة متأخرة عن بدايات عصر التشريع، وكانت لها خلفياتها ودواعيها الخاصة، ومنطلقاتها التي قد نكون ألمحنا للبعض منها فيما مضى من دراستنا هذه.

والآن نحاول أن نستعرض بعض التطبيقات التي قد استُعملت (البدعة) فيها مذمومةً، مع اعتقادنا بانَّ الاستعمال بحدِّ ذاته لا يكشف ذاتياً عن حقيقة الوضع الشرعي لهذا المفهوم في معناه الحقيقي، الا اننا حين نضم إلى ذلك الاستعمال الواردة على لسان صاحب الشريعةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، والتي لم تخرج عن هذا الاطار،

١٥٥

وباعتبار انهم عليهم في مقام بيان كل تفاصيل التشريع، ومن جهة النظر إلى الادلة المتقدمة التي قضت ببطلان التقسيم المزعوم. فبالنظر لكل هذا وذاك، تشكّل هذهِ الاستعمالات بمجموعها قرينة مؤثرة في الحسابات العلمية، وتؤيد بطلان القول بالتقسيم.

ونود أن نذكّر أنّا لسنا بصدد تقويم هذهِ النصوص المعروضة، أو بيان صحة أو عدم صحة مواردها واستعمالاتها، أو مناقشة مؤدياتها، وانما نحن بصدد الاستشهاد بنحو استعمال لفظ (البدعة) الوارد فيها، ومن خلال النظر إلى هذه الزاوية ليس غير.

وأمّا الكلام في معنى الحادث المذموم، وفي حقيقة التطبيق وحدوده، فهذا ما سوف نعالجه في موضعه الخاص من هذه الدراسة باذن اللّه تعالى.

وسوف نذكر ما يتيسر مما ورد في استعمال لفظ (البدعة) مذمومةً ضمن مرحليتن:

المرحلة الاولى: ما ورد من ذلك على ألسنة الصحابة وبالأخص بعد وفاة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والمرحلة الثانية: ما ورد من ذلك على ألسنة مَن يلي اولئك بقليل.

استعمالات (البدعة) في الحادث المذموم

*«ورد انَّ رجلاً قد أخبر عبد اللّه بن مسعود بأنَّ قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل يقول: كبّروا اللّه كذا وكذا، وسبّحوا اللّه كذا وكذا، واحمدوا اللّه كذا وكذا، فقال عبد اللّه بن مسعود للرجل: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم، فأتاهم الرجل فجلس، فلما سمع ما يقولون، قام فأتى ابن مسعود، فأخبره، فجاءَ ابن مسعود، وكان رجلاً حديداً، فقال: انا عبد اللّه بن مسعود، واللّه الذي لا اله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماً، ولقد فضلتم أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علماً، فقال عمرو بن عتبة: استغفر اللّه، فقال عبد اللّه: عليكم الطريق فالزموه، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلنَّ ضلالاً

١٥٦

بعيداً»(١) .

فبغض النظر عن طبيعة الاسلوب الذي عالج به عبد اللّه بن مسعود هذهِ الحادثة التي لم يكن لها سابق مثال في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه، نجد أنه قد استعمل لفظ (البدعة) في مورد الذم، وعدَّ انحراف الانسان عن طريق الحق نحو اليمين أو الشمال بدعةً وضلالاً بعيداً، والظاهر من الحديث انَّ هذا المعنى ل(البدعة) هو المرتكز في أذهان القوم آنذاك.

*روي عن ابن مسعود أيضاً أنه قال: «اتبعوا آثارنا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم»(٢) .

*وروي ايضاً عن ابن مسعود أنه قال: «انَّ للّه عند كل بدعة كيد بها الاسلام ولياً من أوليائه، يذب عنها، وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلكَ المواطن، وتوكلوا على اللّه.»(٣) .

فاستعمال لفظ (البدعة) مذمومةً واضح في الحديث، حيث عدَّ (البدعة) مما يُكاد به الاسلام، وانَّ لِلّه تعالى في كل زمن ولياً، يدافع عن الاسلام، ويذب هذهِ المحدثات عنه، ولعلَّ كلام ابن مسعود هذا مستفاد من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إنَّ للّه عند كل بدعة تكون بعدي يُكاد بها الايمان ولياً من أهل بيتي موكلاً به، يذب عنه، ينطق بالهامٍ من اللّه، ويعلن الحق، وينوره، ويرد كيد الكائدين، ويعبّر عن الضعفاء، فاعتبروا يا اولي الابصار، وتوكلوا على اللّه»(٤) .

وسوف نعود إلى هذا الحديث مرة أخرى، عندما نصل إلى البحث عن دور أهل البيتعليهم‌السلام في مواجهة ظاهرة الابتداع، إن شاء اللّه تعالى.

____________________

(١) ابن الجوزي، تلبيس ابليس، تحقيق د. الجميلي ص: ٢٥.

(٢) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، تصحيح وتعليق محمد أحمد دهمان، ص: ١٠.

(٣) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤.

(٤) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٢، كتاب العلم، باب: ٣٤، ح: ٧٩، ص: ٣١٥.

١٥٧

*عن عبد اللّه بن الحلبي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّهعليهما‌السلام انهما قالا:

«حجَّ عمر أول سنة حجَّ وهو خليفة، فحج تلك السنة المهاجرون والانصار، وكان عليعليه‌السلام قد حجَّ تلكَ السنة بالحسن والحسينعليهما‌السلام وبعبد اللّه بن جعفر، قال: فلما أحرم عبد اللّه، لبس إزاراً ورداءً ممشقين مصبوغين بطين المشق، ثم أتى، فنظر إليه عمر وهو يلبي، وعليه الازار والرداء، وهو يسير إلى جنب عليعليه‌السلام ، فقال عمر من خلفهم: ما هذه البدعةُ التي في الحرم؟

فالتفت إليه عليعليه‌السلام فقال له: يا عمر، لا ينبغي لأحدٍ أن يعلّمنا السنة، فقال عمر: صدقتَ يا أبا الحسن، لا واللّه ما علمتُ أنكم هم»(١) .

فنرى في هذا الحديث انَّ عمر يستعمل لفظ (البدعة) في مورد الذم بنظره إلا انَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يبيِّن له انَّ هذا العمل ليس ببدعة كما يتصور، وانما هو من صميم السنة، فيعتذر لأجل ذلك، وينسحب عمّا تفوه به من كلام.

*روى (البخاري) عن مجاهد أنه قال: «دخلتُ أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد اللّه بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، وإذا اُناس يصلّون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة»(٢) .

وقال في (فتح الباري) بصدد عدد الأقوال الواردة في (صلاة الضحى)، وهي ستة: «السادس: انَّها بدعة، صحَّ ذلك من رواية عروة عن ابن عمر، وسئُل أنس عن صلاة الضحى، فقال: (الصلوات خمس)، وعن أبي بكرة انَّه رأى ناساً يصلّون الضحى فقال: ما صلاها رسول اللّه، ولا عامة أصحابه»(٣) .

وهذا يدل انَّ الاستعمال كان في مورد الذم، وانه في خصوص الامر الذي يُدخل

____________________

(١) تفسير العياشي، ج: ٢، ص: ٣٨.

(٢) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٢، كتاب الحج، باب: العمرة، ح: ٤، ص: ١٩٨ - ١٩٩.

(٣) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج: ٣، ص: ٥٥.

١٥٨

إلى الدين من دون ان يستند إلى أصل شرعي، من خلال اطلاق لفظ (البدعة) في كلام عبد اللّه بن عمر.

*قال (الشاطبي) في (الاعتصام): «وخرَّج ابو داود وغيره عن معاذ بن جبلرضي‌الله‌عنه انه قال يوماً: إنَّ من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأتَ القرآن؟ ما هم يمتبعيَّ حتى ابتدع لهم غيره، وإيّاكم وما ابتُدع فانَّ ما ابتُدع ضلالة»(١) .

فاستعملت (البدعة) هنا أيضاً مذمومة، واُطلق القول بأنَّ كلَّ ما ابتُدع واُحدث فهو ضلالة.

*نقل ابن وضاح عن حذيفة: «انه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد اللّه ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: والذي نفسي بيده لتظهرنَّ البدع حتى لا يُرى من الحق إلا بقدر ما بين هذين الحجرين من النور، واللّه لتفشونَّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تُركت السنّة»(٢) .

*وخرَّج ابن وضّاح عن ابن عباس أنه قال: «ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا سنّة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن»(٣) .

وعنه أيضاً أنه قال: «عليكم بالاستفاضة والأثر، وإيّاكم والبدع»(٤) .

ولسان المقولتين واضح في ذم البدع، وعدّها في مقابل السنة، والتحذير منها، وهذا يعني انها استعملت في كلام ابن عباس في مورد الذم أيضاً.

____________________

(١) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٨٢.

(٢) ابن وضّاج القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٥٨.

(٣) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٣٩.

(٤) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٨١.

١٥٩

*قال الكاندهلوي في (حياة الصحابة): «أخرج الطبراني عن عمرو بن زرارة قال: وقف عليَّ عبد اللّه - يعني ابن مسعودرضي‌الله‌عنه - وأنا أقص، فقال: يا عمرو! لقد ابتدعتَ بدعة ضلالة، أو انكَ لأهدى من محمدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه؟

ولقد رأيتهم تفرقوا عني، حتى رأيت مكاني ما فيه أحد»(١) .

والكلام في قول ابن مسعود: «لقد ابتدعتَ بدعة ضلالة» كالكلام في قول النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومَن ابتدع بدعة ضلالة»(٢) ، وقد تقدم انَّ هذا القيد لا يدل على المفهوم، ولا يُخرج (البدعة) عن أصل وضعها لخصوص الموارد الحادثة المذمومة.

*روي أنَّه لمّا عاقبَ عليعليه‌السلام المغالينَ الذين ادّعوا الوهيّتهُ، وأنكروا نبوة الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن قتلهم بالدخان، قدم عليه يهودي من أهل يثرب، قد اُقرَّ له في يثرب من اليهود انَّه أعلمهم، وكان معه عدة من قومه وأهل بيته، فبادر علياًعليه‌السلام بالقول:

«يابنَ أبي طالب ما هذهِ البدعةُ التي أحدثتَ في دين محمّد؟ فقالعليه‌السلام : وأيةُ بدعةٍ؟ فقال اليهودي: زعم قوم من أهل الحجاز أنكَ عهدتَ إلى قومٍ شهدوا أن لا اله إلا اللّه، ولم يقرّوا أنَّ محمداً رسوله، فقتلتهم بالدخان، فقالَ أمير المؤمنينعليه‌السلام : فنشدتُك بالتسع الآيات التي اُنزلت على موسى بطور سيناء، وبحق الكنائس الخمس القدس، وبحق السمت الديان، هل تعلم أنَّ يوشع بن نون اُتي بقومٍ بعد وفاة موسىعليه‌السلام شهدوا أن لا الهَ إلا اللّه، ولم يقرّوا أنَّ موسىعليه‌السلام رسول اللّه، فقتلهم بمثل هذهِ القتلة؟ فقال اليهودي: نعم. إلى آخر الحديث»(٣) .

فمن الواضح أيضاً من خلال هذهِ الواقعة انَّ المرتكز في أذهان هؤلاء المحاججين

____________________

(١) الكاندهلوي، حياة الصحابة، ج: ٤، ص: ٧٧.

(٢) الدارمي، سنن الدارمي، ج: ٥، كتاب العلم، باب: ١٦، ح: ٢٦٧٧، ص: ٤٤.

(٣) محمّد بن يعقوب الكليني، الفروع من الكافي، ج: ٤، كتاب الصيام، باب: النوادر، ح: ٧، ص: ١٨١.

١٦٠