البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 138427
تحميل: 6590

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138427 / تحميل: 6590
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

عن (البدعة) هو أنَّها لا ترد إلا مذمومة، ولا تستعمل إلا في هذا المجال، ولذا نراهم يوجهون النقد إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام من خلال وصف عمله بالابتداع بادئ بذي بدء، إلا انَّهم يتراجعون عن ذلك، بعد أن يبيِّن لهم عليعليه‌السلام دوافع هذا الاجراء، وبعد أن يعلموا أنَّ عملهعليه‌السلام انما كان نابعاً من صميم التشريع، ومتخذاً من أجل صيانته والذب عنه.

*ذكر ابن وضاح عن أبي حفص المدني انَّه قال: «اجتمع الناس في يوم عرفة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعونَ بعد العصر، فخرج نافع مولى ابن عمر من دار آل عمر، فقال: أيُّها الناس، انَّ الذي أنتم عليه بدعة وليست بسنة، إنّا أدركنا الناس ولا يصنعونَ مثلَ هذا، ثم رجع فلم يجلس، ثم خرج الثانية، ففعل مثلها، ثم رجع»(١) .

فعلى الرغم من انَّ فهم (نافع) لمفهوم (البدعة) كان فهماً مغلوطاً إلا انَّ الذي يخصّنا ذكره في المقام هو انَّ لفظ (البدعة) قد استعمل في مورد الذم المقابل للسنة، وطُبق على هذا المورد بالخصوص في نظر القائل.

*جاءَ في مدخل (ابن الحاج): «انَّ مروان لمّا أحدثَ المنبر في صلاة العيد عند المصلّى، قام إليه أبو سعيد الخدري، فقال: يا مروان ما هذهِ البدعةُ؟ فقال: انَّها ليست ببدعة، هي خير مما تعلم، انَّ الناس قد كثروا فأردتُ أن يبلغهم الصوت، فقالَ أبو سعيد: واللّهِ لا تأتون بخير مما أعلم أبداً، واللّه لا صليت وراءَك اليوم.

فانصرف ولم يصلِّ معه صلاة العيد»(٢) .

وعلى الرغم أيضاً من انَّ معالجة أبي سعيد الخدري لهذا الموقف المحدث لم تكن مبنيةً على أساس فهم صحيح لمفهوم (البدعة)، وبقطع النظر عن طبيعة المواقف الصادرة من طرفي هذهِ الواقعة، نجد أنَّ (البدعة) قد استُعملت مذمومةً أيضاً، وقد فهم الطرف المقابل خصوص هذا المعنى من استعمالها تبادراً.

____________________

(١) ابن وضّاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤٦.

(٢) ابن الحاج، المدخل، ج: ٢، ص: ٢٨٦.

١٦١

*وجاءَ في (المدخل) أيضاً: «قال أبو معمَّر رأيتُ يساراً أبا الحكم يستاكُ على باب المسجد، وقاصاً يقص في المسجد، فقلتُ له: يا أبا الحكم! الناس ينظرونَ اليكَ، فقال: الذي أنا فيه خير مما هم فيه، أنا في سنة وهم في بدعة»(١) .

فُاطلقت (البدعة) فيما يُقابل السنة في نظر القائل.

*وجاءَ في (فتح الباري): «وقد أخرج أحمد بسند جيِّد عن غضيف بن الحارث قال: بعثَ إلىَّ عبد الملك بن مروان فقال: إنَّا جمعنا الناسَ على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة، وعلى القصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما انهما أمثل بدعكم عندي، ولستُ بمجيبكم إلى شيءٍ منهما، لانَّ النبي قال: (ما أحدث قوم بدعة إلا رُفع من السنة مثلها، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة)«(٢) .

فالاستشهاد بالحديث النبوي، وسياق المحاورة واضح في اطلاق لفظ (البدعة) في مورد الذم من وجهة نظر المتكلِّم.

*روي عن الحسن البصري انَّه قال: «انَّ أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مَعَ أهل الترف في اترافهم، ولا مَعَ أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم، حتى لقوا ربَّهم، فكذلكَ فكونوا»(٣) .

ونُقل عنه أنه قال: «صاحبُ البدعة لا يزداد اجتهاداً، وصياماً، وصلاةً، إلا ازدادَ من اللّه بُعداً»(٤) .

وقال أيضاً: «لا تجالس صاحب بدعة، فانَّه يمرض قلبَكَ»(٥) .

*وخرَّج ابن وهب عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: «لئن أرى في المسجد ناراً

____________________

(١) ابن الحاج، المدخل، ج: ٢، ص ٢٨٦.

(٢) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج: ١٣، ص: ٢٥٤.

(٣) محمد جميل زينو، منهاج الفرقة الناجية، ص: ١١٠.

(٤) ابن وضّاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٢٧.

(٥) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤٧.

١٦٢

لا أستطيع إطفاءَها، أحبُّ اليَّ من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها»(١) .

*وروي عن أيوب السختياني انه قال: «ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً، إلا ازدادَ من اللّهِ بُعداً»(٢) .

*وروي عن أبي قلابة انَّه قال: «ما ابتدع رجل بدعة، إلا استحلَّ السيف»(٣) .

*وروي عن يحيى بن أبي كثير انه قال: «إذا لقيتَ صاحبَ بدعةٍ في طريقٍ، فخُذ في طريق آخر»(٤) .

*وروي عن يحيى بن أبي عمر الشيباني انَّه قال: «كانَ يقال: يأبى اللّه لصاحب بدعةٍ بتوبة، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شرٍّ منها»(٥) .

*وروي عن مالك أنَّه كثيراً ما كان ينشد:

وخيرُ اُمور الدين ما كان سنةً

وشرُّ الامورِ المحدثات البدائعُ(٦)

*وروي عن عبد اللّه بن المبارك قوله: «فالى اللّهِ نشكو وحشتَنا، وذهابَ الاخوان، وقلهَ الاعوان، وظهور البدع.»(٧) .

*ورويَ عن عمر بن عبد العزيز أنه لما بايعه الناس، صَعَد المنبر فقال: «.ألا واني لستُ بمبتدع، ولكنّي متّبع.»(٨) .

وكتب إلى عاملٍ له: «.واعلم أنَّ الناس لم يحدثوا بدعة، إلا وقد مضى قبلها ما

____________________

(١) ابن وضّاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٣٦.

(٢) ابن وضّاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٢٧.

(٣) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٨٣.

(٣) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤٨.

(٥) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٨٥.

(٦) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٨٥.

(٧) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٣٩.

(٨) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٨٦.

١٦٣

هو دليل عليها، وعبرة فيها»(١) .

*وقال عروة بن اُذينة عن اُذينة يرثيه:

ففي كل يوم كنتَ تهدمُ بدعةً

وتبني لنا من سنةٍ ما تهدما(٢)

*وروي عن الفضل بن عياض انَّه قال: «مَن جلسَ مَعَ صاحب بدعة، لم يُعطَ الحكمة»(٣) .

*وقال يحيى بن معاذ الرازي: «اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة اصول، فلكل واحدٍ منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده،: التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدُّها البدعة، والطاعة وضدها المعصية»(٤) .

*وروي أنه قيل لأبي علي الحسن بن علي الجوجزاني: «كيف الطريق إلى السنة؟ فقال: مجانبة البدع.»(٥) .

*وقال أبو بكر الترمذي: «لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها، إلا أهل المحبة، وانما أخذوا ذلك باتباع السنة، ومجانبة البدعة.»(٦) .

*وقال أبو بكر بن سعدان: «الاعتصام باللّه هو الامتناع من الغفلة، والمعاصي، والبدع، والضلالات»(٧) .

*وروي أنه سُئل حمدون القصّار: «متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس؟ فقال: إذا تعيَّن عليه أداء فرض من فرائض اللّه في علمه، أو خاف هلاكَ انسانٍ في بدعةٍ

____________________

(١) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٣٠.

(٢) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٨٧.

(٣) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٠.

(٤) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٢.

(٥) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٢.

(٦) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٢.

(٧) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتطام، ج: ١، ص: ٩٣.

١٦٤

يرجو أن ينجيه اللّه منها»(١) .

*وروي عن أبي عثمان الجبري انَّه قال: «مَن أمَّرَ السنةَ على نفسه قولاً وفعلاً نطقَ بالحكمة، ومَن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة»(٢) .

*وروي انَّه سُئل ابراهيم الخواص عن العافية، فقال: «العافية: أربعة أشياء: دين بلا بدعة. الخ»(٣) .

*وروي عن أبي محمد عبد اللّه بن منازل أنه قال: «لم يضيع أحد فريضة من الفرائض، إلا ابتلاه اللّهُ بتضييع السنن، ولم يُبتلَ بتضييع السنن أحد، إلا يوشك أن يُبتلى بالبدع»(٤) .

*وقال بندار بن الحسين: «صحبةَ أهل البدع تورث الاعراضَ عن الحق»(٥) .

ففي كل هذهِ المقولات المتقدمة، نلاحظ انَّ لفظ (البدعة) قد استُعمل في موارد الذم بشكل واضح وصريح، وتشير السياقات اللفظية في كل الموارد المتقدمة الى انَّ الارتكاز الحاصل في ذهنية المسلمين حول هذا المفهوم ينحصر بالطابع المقيت والمذموم له، وانها لم تُستعمل في محاورات المتشرعة الا مذمومةً، وانَّهم انَّما تلقّوا هذا المعنى من الشريعة، وتعاملوا معه على هذا الأساس، ولم يحتملوا أنَّ (البدعة) في الاصطلاح الشرعي يمكن أن تطبَّق على الحادث الممدوح.

*وروي عن يونس بن عبد الرحمن أنه قال:

«مات أبو إبراهيم الكاظمعليه‌السلام ، وليسَ من قوّامه أحد إلا وعنده المال الكثير، وكانَ ذلك سبب وقفهم، وجحدهم لموته، طمعاً في الأموال. كان عند زياد بن مروان

___________________________

(١) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٥.

(٢) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٦.

(٣) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٧.

(٤) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٧.

(٥) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٩٨.

١٦٥

القندي سبعون ألف دينار، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار، فلما رأيتُ ذلكَ وتبينتُ الحقَّ، وعرفتُ من أمر أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ما علمتُ، تكلمتُ، ودعوتُ الناسَ إليه، فبعثا إليَّ وقالا لي: كُفَّ، فأبيتُ، وقلتُ لهما: إنّا روينا عن الصادقينعليهما‌السلام انَّهما قالا: إذا ظهرت البدع، فعلى العالمِ أن يُظهر علمه، فان لم يفعل سُلب نورَ الايمان، وما كنتُ لأدعَ الجهاد في أمرِ اللّه على كلِّ حال فناصباني، وأضمرا لي العداوة»(١) .

فالملاحظ هنا أيضاً أن يونس بن عبد الرحمن قد طبَّق لفظ (البدعة) على الأمر المذموم في نظر الشريعة المقدسة.

مَعَ النافينَ للتقسيم

وبما انَّ التقسيم المزعوم ل‍(البدعة) لا يمتلك أياً من المرتكزات الشرعية أو العقلية التي تبرره بشكل مطلق، بل ولكونه يصطدم بشكل مباشر مع حكم العقل، ونصوص الشرع كما أسلفنا ذلك في البحث السابق. فقد التفت مجموعة من علماء العامة إلى هذا الأمر، وأبطلوا القول بالتقسيم بشكل صريح.

ولكنَّ هؤلاء ظلّوا يعيشون في نفس الوقت هاجس (التراويح)، وتحيّروا في تبرير اطلاق لفظ (البدعة) عليها في مقولة: «نعمت البدعةُ هذه»، إذ لا بدَّ أن يكون المراد منها أحد أمرين: إمّا المعنى الاصطلاحي، وإمّا المعنى اللغوي، فان كانَ المراد منها هو المعنى الاصطلاحي، فهو غير قابل للانطباق إلا في خصوص الموارد المذمومة، بنص كلام النافين للتقسيم، وهذا يعني كون (التراويح) بدعة لا أصل لها في الدين، وإما أن يكون المقصود منها هو المعنى اللغوي الذي يعني الأمر الحادث لا على مثال سابق، على ما أجمع عليه اللغويون، وهذا ينتهي بهم أيضاً إلى كون (التراويح) بدعةً لا أصل لها في

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج: ٤٨، باب: ١٠، ح: ١، ص: ٢٥٢.

١٦٦

الدين أيضاً، إذ إنَّ من أجلى قيود (البدعة) وشروطها بالاتفاق، هو عدم وجود أصل شرعي للعمل في الدين.

هذا الأمر يطرح نفسه بالحاح أمام النافين للتقسيم، فماذا يا تُرى أنهم يجيبون عليه؟ وما هو التبرير الذي بوسعهم أن يقدموه في هذا المجال؟

هذا ما ستقف عليه أيها القارئ الكريم، بعد أن تطالع معنا هذهِ الطائفة التي انتخبناها لكَ من بين أقوال النافين للتقسيم.

١ - الحافظ ابن رجب الحنبلي : يقول في ابطال القول بتقسيم البدعة إلى ممدوحة ومذمومة: «والمراد بالبدعة: ما اُحدثَ مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كانَ له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعةٍ شرعاً، وان كانَ بدعةً لغةً»(١) .

ويضيف الى ذلك القول: «فقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كل بدعة ضلالة)، من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من اُصول الدين، وهو شبيه بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو ردّ)، فكل مَن أحدثَ شيئاً، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء من ذلكَ مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة»(٢) .

٢ - ابن حجر العسقلاني : يقول في (فتح الباري) موضحاً معنى (المحدَثة في الدين)، «المحدَثات بفتح الدال، جمع محدَثة، والمراد بها ما اُحدث وليسَ له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع (بدعة)، وما كانَ له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فانَّ كلَّ شيء اُحدث على غير مثال يُسمّى بدعة، سواء كانَ محموداً أو مذموماً، وكذا القول في المحدثة، وفي الأمر

____________________

(١) سعيد حوّى، الاساس في السنة وفقهها، ص: ٣٦١، عن جوامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، ص: ٢٣٣.

(٢) صالح الفوزان، البدعة: تعريفها - أنوعها - أحكامها، ص: ٨.

١٦٧

المحدَث الذي وردَ في حديث عائشة: «ما أحدثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو رد»(١) .

٣ - أبو اسحاق الشاطبي : وهو يفصّل القول بابطال تقسيم البدعة إلى ممدوحة ومذمومة في الاصطلاح الشرعي، ويقصرها على خصوص مورد الذم من خلال أدلة وحجج كثيرة، فيقول بشأن النصوص الشرعية التي تناولت مفهوم (البدعة) بالذم والتقريع: «انَّها جاءت مطلقة عامة على كثرتها، لم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأتِ فيها مما يقتضي أنَّ منها ما هو هدى، ولا جاءَ فيها: كل بدعةٍ ضلالة إلا كذا وكذا، ولا شيءَ من هذهِ المعاني، فلو كانَ هناكَ محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان، أو أَنّها لاحقة بالمشروعات، لذُكر ذلكَ في آيةٍ أو حديث، لكنَّه لا يوجد، فدلَّ على أنَّ تلكَ الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية، التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد. إنَّ معتقَّل البدعة يقتضي ذلكَ بنفسه، لأنَّه من باب مضادة الشارع، واطّراح الشرع، وكل ما كانَ بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسنٍ وقبيح، وأن يكون منه ما يمدحُ ما يُذم»(٢) .

ويقول منتقداً الرأي القائل بتقسيم (البدعة) إلى أحكام الشريعة الخمسة:

«إنَّ هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع، لأنَّ من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي، لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده، إذ لو كانَ هناك ما يدل من الشرع على وجوب، أو ندبٍ، أو إباحة، لما كانَ ثَمَّ بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخيَّر فيها، فالجمع بينَ تلكَ الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها، أو ندبها، أو إباحتها، جمع بينَ متنافيين»(٣) .

____________________

(١) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج: ٤، ص: ٢٥٢.

(٢) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ١٤١.

(٣) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ١٩١ - ١٩٢.

١٦٨

٤ - الشيخ محمد بخيت : يقول في رسالته عن (البدعة): «انَّ البدعة الشرعية هي التي تكون ضلالة ومذمومة، وأمّا البدعة التي قسَّمها العلماء إلى واجبٍ وحرام. الخ، فهي البدعة اللغوية، وهي أعم من الشرعية، لأنَّ الشرعية قسم منها»(١) .

٥ - الدكتور دراز : يقول ما مضمونه: «صارت كلمة البدعة في الاستعمال الشرعي إلى معنىً أخص من معناها في الاستعمال اللغوي، فلا تتناول على حقيقتها الشرعية في الصدر الأول إلا ما هو باطل، وهو تلكَ الطرائق المخترعة التي ليس لها مستند من كتابٍ أو سنة أو ما استنبط منها»(٢) .

٦ - محمد جميل زينو : يقول في (العقيدة الاسلامية): «ليس في الدين بدعة حسنة والدليل قوله تعالى:( اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِيناً ) (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ايّاكم ومحدثات الامور، فانَّ كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) (صحيح رواه النسائي وغيره)»(٤) .

وقد نصَّ أكثر علماء الامامية على بطلان تقسيم (البدعة)، وأثبتوا عدم صحة هذا التقسيم المبني أساساً على مقولة (نعمت البدعة هذه)، وانَّ الصحيح هو انَّ (البدعة) لا تُطلق في مصطلح الشريعة إلا مذمومةً.

يقول (الشهيد الأولقدس‌سره ) في قواعده:

«محدثات الامور بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنقسم أقساماً، لا تطلق اسم البدعة عندنا إلا على ما هو محرَّم منها»(٥) .

____________________

(١) سعيد حوّى، الاساس في السنة وفقهها، ص: ٣٦١.

(٢) سعيد حوّى، الاساس في السنة وفقهها، ص: ٣٦٢.

(٣) المائدة: ٣.

(٤) محمد بن جميل زينو، العقيدة الاسلامية من الكتاب والسنة الصحيحة، ص: ٩٤.

(٥) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٧١، ص: ٢٠٣.

١٦٩

ويقول العلامة (محمد باقر المجلسيرحمه‌الله ) في توضيح قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل بدعة ضلالة»:

«يدل على أنَّ قسمة بعض أصحابنا البدعة إلى أقسام خمسة تبعاً للعامة باطل، فانّها انَّما تُطلق في الشرع على قولٍ أو فعل أو رأي قُرر في الدين، ولم يرد فيه من الشارع شيء، لا خصوصاً ولا عموماً، ومثل هذا لا يكون إلا حراماً، أو افتراءاً على اللّه ورسوله»(١) .

ويقول الشيخ (عباس القميرحمه‌الله ) في (سفينة البحار):

«إذ لا تُطلق البدعة إلا على ما كان محرَّماً كما قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار»(٢) .

ويقول العلامة المحقق السيّد (جعفر مرتضى العاملي):

«انَّ ما ذُكر من تقسيم البدعة إلى حسنة ومذمومة، ومن كونها تنقسم إلى الأحكام الخمسة، ثمَّ الاستشهاد بقول عمر بن الخطّاب عن صلاة التراويح: نعمت البدعة هي. إنَّ ذلكَ كلَّه ليسَ في محلِّه، ولا يستند إلى أساسٍ صحيح، وذلكَ لأنَّ البدعة الشرعية هي: إدخال ما ليسَ من الدين في الدين، استناداً إلى ما روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من أحدثَ في أمرنا ما ليسَ منه فهو ردُ)، لأنَّ قوله: (في أمرنا) معناه: اُدخل في تشريعاتنا الدينية ما ليس منها.

بل لقد قال السيد الأمين عن البدعة: (ولا يحتاج تحريمها إلى دليل خاص، لحكم العقل بعدم جواز الزيادة على أحكام اللّه تعالى، ولا التنقيص منها، ولاختصاص ذلكَ به تعالى، وبأنبيائه الذينَ لا يصدرون إلا عن أمره).

فالبدعة في الشرع، وبعنوان التشريع لا تقبل القسمة المذكورة، بل هي من غير

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج: ١، ص: ١٩٣.

(٢) عباس القمي، سفينة البحار، ج: ١، ص: ٦٣.

١٧٠

صاحب الشرع قبيحة مطلقاً، وأما الابتكار والابتداع في العادات والتقاليد، واُمور المعاش والحياد، فهو الذي يقبل القسمة إلى الحسن والقبيح، ويكون موضوعاً للأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والاستحباب، والكراهة، والاباحة»(١) .

ويقول العلامة المحقق الشيخ (جعفر السبحاني):

«وأمّا البدعة بمعنى إدخال ما ليسَ من الدين في الدين، فهو قبيح مطلقاً لا ينقسم، وليس له إلا قسم واحد، وهو أنَّه قبيح محرّم على الاطلاق»(٢) .

استدراك خائب!

بعدَ أن انكشف للكثيرين من علماء العامة بطلان القول بتقسيم (البدعة) على نحو القطع واليقين، وانحصار حقيقتها الشرعية في خصوص مورد الذم والحرمة، حاولوا أن يبرروا اطلاق لفظ (البدعة) على (التراويح) في مقولة: «نعمت البدعة هذه» من غير المنطلق الذي استند إليه القائلون بالتقسيم، ويعالجوها من زاوية جديدة تنسجم مَعَ القول بنفي التقسيم.

فالقائلون بتقسيم (البدعة) إلى مذمومة وممدوحة، لم يكونوا ليعانوا أمراً من مسألة الاستعمال هنا، لانهم يقولون ببساطة استناداً إلى التقسيم المتقدم، بأنَّ المراد من (البدعة) في هذا الحديث هو البدعة الممدوحة، وقد تقدم معنا أنَّ مصدر القول بالتقسيم إنما بُني أساساً على هذا الحديث نفسه، فالحديث إذن يحمل بين طياته حجية القول بالتقسيم، ويتضمن مشروعية اطلاق لفظ (البدعة) على ما لم يكن مذموماً، ثم يُتَّخذ القول بالتقسيم الذي يُدَّعى استفادته من هذا الحديث ذريعةً لصحة استعمال (البدعة) في غير مورد الذم، وبعبارة اُخرى أنَّ تقسيم (البدعة) قد بُني على طبيعة الاستعمال

____________________

(١) جعفر مرتضى العاملي، المواسم والمراسم، ص: ٦٣ - ٦٤.

(٢) جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج: ٤، ص: ٩٢.

١٧١

المذكور في الحديث، ومن ثمَّ خُرِّج القول بصحة اطلاق لفظ (البدعة) على (التراويح)، واستعمالها في غير مورد الذم - على ما يُدَّعى في نفس الحديث - بناءاً على التقسيم المذكور.

فانظر ماذا ترى؟!

وأمّا بقية الاعلام الذين أصابوا الواقع في القول بنفي التقسيم المذكور، فقد تحيَّروا حقاً في توجيه هذهِ المقولة، وتبرير اطلاق لفظ (البدعة) على (التراويح)، ومن ثمَّ استحسانها، والاطراء عليها، فهل انَّها استُعملت في المعنى الاصطلاحي الشرعي الذي يعني (ادخال ما ليس من الدين فيه)، فيتم بذلك القضاء المبرم على شرعية التراويح؟ أو انَّها استُعملت في المعنى اللغوي الذي يعني الحادث الذي ليس له أصل سابق، فلا تكون النتيجة في هذا الفرض بأحسن مما سبق؟ أو أنَّ هناك استعمالاً ثالثاً لم نتمكن من الاهتداء إليه؟!

هذهِ الاسئلة أخذت تطرح نفسها بالحاح أمام النافين للتقسيم المذكور، وباتت تنتظر الاجابة الصريحة منهم، وفقاً لما توصلوا إليه من نتائج تلك الابحاث.

ونود أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّا لسنا بصدد إثبات صحه اطلاق لفظ البدعة الواردة في مقولة «نعمت البدعة هذه» على معنىً دونَ معنىً آخر، لانه سواء أصحَّ هذا الاطلاق أو ذاك، فانَّ صلاة (التراويح) غير ثابتة لدينا، ولم يقم على مشروعيتها أي دليل شرعي، كما سنثبت ذلك مفصلاً في فصل لاحق إن شاء اللّه تعالى.

ولكنَّ كلامنا يتجه نحو الطريقة التي يتعامل فيها الكثير من أعلام العامة مَعَ مفردات الثقافة الاسلامية، وكيف تكون هذهِ المفردات الحساسة ضحيةً للتقولات والتبريرات، إذ يكون الاساس في البحث والطرح العلمي هو تبرير ما يُراد تبريره - لأيِّ دافعٍ كان - حتى لو اقتضى الأمر حرف المفهوم عن حقيقته، وإقصائه عن واقعيته التشريعية، وهذا ما لمسناه بشكل مباشر في الكلمات المتقدمة التي بَنَت تقسيم (البدعة)

١٧٢

على أساس مقولة «نعمت البدعة هذه»، على حساب المعنى الشرعي والواقعي لها، والذي تداركه البعض الآخر من هؤلاء الأعلام الذين أبطلوا القول بالتقسيم.

ولكنَّ هؤلاء وإن أصابوا في إبطال القول بالتقسيم، إلا انَّهم وقعوا في نفس ما وقع فيه الأسبقون حينَ حاولوا تبرير مقولة «نعمت البدعة هذه»، وتوجيه استعمال هذا اللفظ فيها، مَعَ الحرص على القول ببطلان التقسيم وانَّ (البدعة) لا تُطلق في مصطلح الشرع إلا في مورد الذم والحرمة.

وان كنّا نحتفظ لانفسنا بالاعتقاد بأنَّ لفظ (البدعة) هنا قد استُعمل في معناه الشرعي المصطلح، والمرتكز في اذهان المسلمين، والذي يعني (إدخال ما ليس من الدين فيه)، فنكون قد سجَّلنا دليلاً من نفس الحديث المذكور على عدم شرعية صلاة (التراويح) ليُضم إلى الادلة والقرائن الاُخرى التي سوف نذكرها لاحقاً لاثبات صحة ما نذهب إليه باذن اللّه تعالى.

ويبقى علينا أن ننتحل العذر لأمر الاعجاب بهذهِ (البدعة)، والاطراء عليها، لما رآه القائل من استجابة مثالية من قبل المسلمين لقراراته، التي ينطلق فيها من اعتبار نفسه ناطقاً باسم الرسالة والدين، وممسكاً بزمام الاحكام الشرعية، ومؤهلاً لرفعها، أو وضعها من الأساس!

وقبل أن نستعرض بعض الاقوال التي بررت اطلاق لفظ (البدعة) على صلاة (التراويح) من قبل النافين للتقسيم، نشير إلى انَّ هؤلاء قد اتفقوا على أمرين هما:

الأمر الأول : انَّ صلاة (التراويح) ليست بدعةً بالمعنى الشرعي، وانّما هي سنّة تمتلك الأصل الشرعي، من خلال ممارسة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها بضعة ليالٍ، ثم تركها مخافة الافتراض على الامة.

وهذا الأمر سوف نناقشه في بحثنا الخاص حول صلاة (التراويح)، ونثبت هناك انَّ (التراويح) لا تمتلك أية شرعية مطلقاً، وليس لها أيُّ أصل في الدين، وانما هي من أصدق

١٧٣

مصاديق الابتداع.

الأمر الثاني : انَّ لفظ (البدعة) الوارد في مقولة «نعمت البدعة هذه»، لا يمكن أن يُراد منه المعنى الشرعي في نظر النافين للتقسيم لما ثبت لديهم بأنَّ (البدعة) لا تطلق شرعاً إلا في الذم والحرمة، فلا بدّ إذن من التماس مخرجٍ آخر، يبرر الاستعمال المذكور، وينسجم مَع القول بنفي التقسيم، فجاءت التبريرات متعددة ومتنوعة، نذكر منها ثلاثة نماذج من كلمات المتقدمين والمتأخرين:

التبرير الأول : ما ذكره (ابن تيمية) الذي ينص صريحاً على بطلان القول بالتقسيم، وانه يستند دلالة على حديث التراويح، حيث يقول:

«إنَّ من الناس مَن يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة، بدليل قول عمررضي‌الله‌عنه في صلاة التراويح «نعمت البدعة هذه»، والجواب: أمّا انَّ القول (انَّ شرَّ الامور محدثاتها، وانَّ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، والتحذير من الامور المحدثات، فهذا نص من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومَن نازع في دلالته فهو مراغم. ولا يحل لأحد أن يقابل هذهِ الكلمة الجامعة من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلية، وهي قوله (كل بدعة ضلالة) بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليس كل بدعة ضلالة، فانَّ هذا إلى مشاقة الرسول أْقرب منه إلى التأويل، بل الذي يُقال فيما يثبت به حسن الأعمال التي قد يُقال هي بدعة: انَّ هذا العمل المعيَّن مثلاً ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث».

ثم يبرر (ابن تيمية) خروج (التراويح) من عموم البدع المذمومة بالقول:

«أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مَعَ حسنها، وهذهِ تسميه لغوية، لا تسمية شرعية، وذلكَ انَّ البدعة في اللغة تعمّ كل ما فُعل ابتداءاً من غير مثالٍ سابق، وأمّا البدعة الشرعية، فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي. فلفظ (البدعة) في اللغة أعم من لفظ (البدعة) في الشريعة. فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كانوا يصلّون قيام رمضان على عهده

١٧٤

جماعة وفرادى، وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا (انَّه لم يمنعني أن أخرج اليكم إلا كراهة أن يُفرض عليكم، فصلّوا في بيوتكم، فانَّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، فعللصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، فعُلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وانَّه لولا خوف الافتراض لخرج اليهم»(١) .

إلى هنا يكون (ابن تيمية) قد اثبت - حسب زعمه - أنَّ لصلاة التراويح أصلاً في الشرع، فيكون قد تناقض مَعَ كلامه السابق الذي يدّعي فيه استعمال لفظ (البدعة) هنا في المعنى اللغوي، لأنَّ المعنى اللغوي حسب الاتفاق هو: ما لم يكن له مثال سابق، فكيف يمكن صحة الاستعمال اللغوي معَ هذا الأصل المفترض؟.

هذا ما يجيب عنه بالقول:

«فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد، واُسرج المسجد، فصارت هذهِ الهيئة - وهي اجتماعهم في المسجد على إمامٍ واحدٍ مَعَ الاسراج - عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعةً، لانه في اللغة يُسمى بذلك، وان لم يكن بدعة شرعية»(٢) .

فهل تعرف للتحميل والتعسف معنىً غير هذا؟ وهل أنَّ (ابن تيمية) يعتقد في قرارة نفسه بصحة ما يقول؟ وما دخلُ (الاسراج) فيما نحنُ فيه؟

فالملاحظ انَّ (ابن تيمية) يضم (الاسراج) إلى اجتماع المصلين على امامٍ واحد من أجل أن يجعل الامر غير مسبوقٍ بمثال، فيصح بذلك استعمال (البدعة) في معناها اللغوي الذي يعني الحادث الذي ليس له مثال سابق!

ففائدة ضم (الاسراج) إذن هي تبرير الاستعمال المذكور، والايحاء بأنَّ هذهِ الهيئة باجمعها لم تكن موجودة سابقاً، فيكون قد احتفظ لصلاة (التراويح) بأصلها الشرعي المزعوم، وبَرَّر استعمال (البدعة) لغوياً، لكي لا يقع الاصطدام بين الأمرين.

____________________

(١) اين تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص: ٢٧٦ - ٢٧٧.

(٢) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص: ٢٧٦ - ٢٧٧.

١٧٥

وعلى هذا الاساس يمكننا أن نضم عشرات الأوصاف والأحوال الاُخرى إلى هذهِ الهيئة الحاصلة لتبرير عدم مشابهتها لما سبق!!

ونكتفي بالاشارة في المقام إلى انَّ العودة إلى الاستعمال اللغوي للفظ المنقول، وتصحيح اطلاقه كذلك، ليس كما يصوره (ابن تيمية) في كلامه هذا، وخصوصاً مثل كلمة (البدعة) التي ترسخ معناها الاصطلاحي الجديد في أذهان المسلمين، واقترن استعمالها الشرعي في موارد الذم والحرمة، من خلال أحاديث غفيرة على لسان صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلمات بقية الصحابة، كما استعرضنا قسماً منها في سابق دراستنا هذه، ولا سيما إذا لاحظنا قول (ابن تيمية) المتقدم حول قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل بدعة ضلالة»: «فهذا نص من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومَن نازع في دلالته فهو مراغم»(١) .

فإذا كانت دلالة الحديث على ذم البدع بهذا المستوى من الوضوح، وقد أصبح هذا المعنى نتيجة لعملية النقل الشرعي هو المتبادر إلى أذهان المسلمين، فكيف يصح استعمال لفظ ( البدعة) بعد ذلك في معناها اللغوي الاسبق، من دون الاتيان بقرينة تصرف اللفظ عن معناه المرتكز، لا سيما إذا لاحظنا انَّ كلمة (البدعة) قد وردت في هذا الحديث بشكل مطلق، بل وسياق الحديث يأبى هذا التحميل، ويشهد بخلافه، ابتداءاً من ذكره «هذه» أو «هي» وقوله: «والتي ينامون عنها أفضل»، المنصرف إلى خصوص هذهِ الصلاة من دون قيدٍ أو شرط، ومروراً بعدم الاشارة إلى أمر (الاسراج) من قريبٍ أو بعيد في عمدة الاحاديث التي يُستدل بها على ثبوت (التراويح)، بما في ذلك روايتي (البخاري) و(الموطأ)، وانتهاءاً بقوله: «إني أرى لو جمعت هؤلاءِ على قارئ واحد لكان أمثل».

وهل يرتضي (ابن تيمية) لشخص أن يقول بشأن صلاة العشاء مثلاً التي تقام

١٧٦

جماعة في مسجد ذي سراج بأنّها (بدعة)، ويطلق القول بهذه العفوية، من دون أن يقيم قرينة على إثبات ما يقصدُ إليه؟!

وهل يُلام مَن يحمل كلمة (البدعة) في هذا الكلام على معناها الشرعي المنقول عند الاستماع اليها بهذه الطريقة المطلقة؟

فكيف إذا حُفَّ الأمر بقرائن توحي بالعكس، وكيف إذا صدرت هذه الكلمة بهذا التسامح من انسان جلس في الموقع الذي يحاسب فيه على الصغيرة والكبيرة من أطراف الكلام؟

وعلى أيّة حال فان ما تكلَّفه (ابن تيمية) أمر مرفوض من الناحية العلمية بالدرجة الاولى، من ناحية كونه التفافاً معلناً على الحقائق، وتزوير المفاهيم الاسلامية، بما يصب في صالح الأحقاد المذهبية، والتعصب الذميم.

التبرير الثاني: ما ذكره (أبو اسحاق الشاطبي)، في (الاعتصام) حيث يقول:

«فان قيل: فقد سمّاها عمررضي‌الله‌عنه بدعة، وحسَّنها بقوله: نعمت البدعة هذهِ، وإذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع.

فالجواب: إنَّما سماّها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر، لا انَّها بدعة في المعنى، فمن سمّاها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي»(١) .

فالشاطبي هنا يجعل (التراويح) من حيث أصلها ذات وجهين، فهي عنده ذات أصل في الدين، باعتبار أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صلاها ليالٍ ثم انقطع عنها كما يُدعّى، وبهذا تخرج عن كونها بدعةً في الاصطلاح الشرعي، لأنَّ المعنى المصطلح والمذموم هو ما لم يكن له أصل شرعي يستند إليه.

وهي في نفس الوقت لا تمتك أصلاً، وليس لها سابق مثال، باعتبار انَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ١٩٥.

١٧٧

قد انقطع عنها ولم يصلِّها أبو بكر، وبهذا يصح اطلاق لفظ (البدعة) عليها بهذا الاعتبار، أي باعتبار انَّها لم تُصلَّ في برهة زمنية معينة.

ومن الواضح انَّ كلام (الشاطبي) هنا لا يسلم من المعارضة السابقة لكلام (ابن تيمية) المتقدم، وإن كان (الشاطبي) لم يصرّح هنا بأن (البدعة) قد استُعملت في معناها اللغوي كما فعل (ابن تيمية)، وانما ترك الكلام غائماً، ومشوباً بالغموض والابهام.

وعلى أية حال فان ذكر (الشاطبي) لهذهِ الفترة الوسطية التي لم تُصلَّ فيها (التراويح) على ما قال إن كان المراد انّها تسوِّغ الاستعمال اللفظي ل(البدعة) في الحادث الذي ليس له مثال سابق، فهو ما لا يصح هنا، لأنَّ ترك العمل لمدة معينة غير كافٍ في انطباق عنوان (ما ليس له مثال سابق) عليه، فلو انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صلّى صلاة الاستسقاء مثلاً لقحطٍ أصاب المسلمين، وندرةٍ في الامطار، ثم ترك الصلاة إلى أن ارتحل إلى الرفيق الأعلى، ثم صُلّيت هذهِ الصلاة بعد عشرين عاماً لنفس السبب السابق، فهل يسوغ لنا أن نقول هنا بأنَّ صلاة الاستسقاء (بدعة)، ونطبق اللفظ لغوياً على هذا المعنى المتأخر زماناً؟ وهل لنا أن نبرر هذا الاستعمال اللغوي باعتبار الفترة الوسطية التي تخللت الفعلين؟!

هذا كله بالاضافة إلى ما ذكرناه سابقاً من حاجة مثل هذا الاستعمال إلى قرينة صارفة تعيِّن المقصود، وتصحح الاستعمال.

وإذا كان مراد (الشاطبي) من ذكر الفترة الوسطية بين الفعلين انَّ اطلاق لفظ (البدعة) هنا اطلاق تسامحي، وانَّه من باب ما يعبِّر عنه بالقول: «فلا مشاحة في الاصطلاح»، فهو مرفوض أيضاً لسببين:

السبب الاول : انَّ هذا المعنى إن تمَّ واستقام في شيء، فهو لا يتم في التعامل مع مصطلحات الشريعة الاسلامية، وخصوصاً مثل مفهوم (البدعة) الذي يعد من المفاهيم الاسلامية الدقيقة والحساسة، التي لا يمكن التسامح في أمر تناولها، وتطبيقها على الموارد

١٧٨

المختلفة، من دون تثبّت، ودقة، واستقصاء، وخصوصاً من قبل الاشخاص الذين يعتلون المواقع الحساسة التي تطمح اليها الأبصار، إذ انَّ أية مسامحة من هذا القبيل، سوف تعرِّض مفاهيم الشريعة الاصطلاحية إلى التذبذب والارتباك.

والسبب الثاني : انَّ هذا الامر الذي ذكره (الشاطبي) يمكن أن يجري في اطلاق لفظ (البدعة) على غير موارد الذم والحرمة أيضاً مما لم يكن له وجود في عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثل الاعتبار المذكور، أي يقال بانَّه (بدعة) باعتبار انَّه لم يكن موجوداً في عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويُعتذر لذلك بالقول بأنَّه لا مشاحة في الاصطلاح، فيرجع الأمر في النتيجة إلى تقسيم (البدعة) إلى مذمومة وممدوحة، إذ يمكن أن نوجد لحاظاً واعتباراً لكل الامور الحادثة الممدوحة، ونبرر تطبيق لفظ (البدعة) عليها على هذا الاساس، وهذا ما رفضه (الشاطبي) أشدَّ الرفض، حين أكَّد بطلان القول بالتقسيم بشكل مطلق.

التبرير الثالث : ما ذكره الشيخ (صالح الفوزان) الذي كان يرفض القول بتقسيم (البدعة) رفضاً قاطعاً حيث يقول: «كل بدعة في الدين فهي محرّمة وضلالة لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (واياكم ومحدثات الامور فانَّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليَس منه فهو ردّ)، وفي روايةٍ: (مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

فدلَّ الحديث على أنَّ كلَّ محدثٍ في الدين فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة مردودة، ومعنى ذلكَ انَّ البدع في العبادات والاعتقادات محرّمة. مَن قسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة فهو غالط ومخطئ ومخالف لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فانَّ كل بدعة ضلالة)، لأنَّ الرسول حكم على البدع كلِّها بأنها ضلالة، وهذا يقول: ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة».

ثم أردف قائلاً:

«وليس لهؤلاء حجّة على انَّ هناك بدعة حسنة إلا قول عمررضي‌الله‌عنه في صلاة

١٧٩

التراويح: (نعمت البدعة هذه)»(١) .

ولكنَّ (الفوزان) بعد ان ينتهي إلى هذهِ النتيجة يواجه الاشكال الذي يقول: بأن الامر إذا كان كذلك، وانَّ كل بدعة ضلالة من دون أي استثناء، فهذا يعني أنَّ من حقنا أن نحمل كلمة (البدعة) الواردة في مقلولة: «نعمت البدعة هذه» على الضلالة المحرَّمة، لأنَّ كل بدعة ضلالة، وهذهِ (بدعة)، فهي إذن ضلالة، وهذا لون من ألوان القياس العقلي الذي لا يقبل التشكيك.

فيعود (الفوزان) إلى خلفيات هذهِ الصلاة المحدثة، ويحاول أن يعالج الأمر من الجذور، بعد اليأس من درجها ضمن دائرة المندوب أو المباح، كما كان يفعل القائلون بالتقسيم.

وقد عمد إلي تبرير اطلاق لفظ (البدعة) هنا بانتهاج سبيلين:

السبيل الأول: أنه ادّعى انَّ لفظ (البدعة) الوارد في الحديث المتقدم محمود على معناه اللغوي لا الاصطلاحي، فيقول: «وقول عمر: (نعمت البدعة)، يريد البدعه اللغوية لا الشرعية»(٢) .

وقد حاول أن يضيِّق من المدلول اللغوي لهذه الكلمة، ويتصرف في أصل وضعها بما ينسجم مع هذهِ المقولة، فأضاف: «فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه إذا قيل انَّه بدعة، فهو بدعة لغةً لا شرعاً»(٣) .

فالملاحظ أنَّه يجعل الفعل الذي يكون له أصل في الشرع من أفراد المعنى اللغوي للبدعة، وهذا ما لم يتفوه به أحد من السابقين أو اللاحقين، وهو خلاف فاضح لما ذكره قبل صفحتين من موضوع كلامه هذا، عندما تعرَّض لذكر المعنى اللغوي ل(البدعة) حيث

____________________

(١) صالح الفوزان، البدعة - تعريفها - انواعها - أحكامها، ص: ٨.

(٢) صالح الفوزان، البدعة، ص: ٩.

(٣) صالح الفوزان، البدعة، ص: ٩.

١٨٠