البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 137292
تحميل: 6418

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137292 / تحميل: 6418
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

والشريعة الاسلامية قد خصت ظاهرة (الابتداع) بجوهر الأحكام الشرعية وحقائقها، دون الامور الخارجة عنها، وغير المرتبطة بها، والتي لا يُعقل أن تكون ثابتة على طول خط التشريع الذي يواكب الحياة الانسانية حتى اللحظات الاخيرة.

فاذا ما حدثت زيادة أو نقيصة في ذات الأمر الشرعي المعيَّن كالصلاة مثلاً، فانَّ هذا الأمر يكون داخلاً ضمن معنى الابتداع، لأنَّه إدخال لأمرٍ ليس من الدين فيه، وأمّا إذا ما تغيرت ظروف الانسان، وأعرافه الخاصة، بما لا يؤثر على حدود الصلاة، وواجباتها، وحقيقتها، ولم يكن مندرجاً تحت امرٍ محظورٍ، ولم يكن منهياً عنه من قبل الشريعة، فهو ما لا يقبل الوصف بالابتداع، ويخرج عن موارد (البدعة) من الأساس.

إنَّ هناك اموراً شرعيّة كثيرة كان يمارسها الناس في العصور المتقدمة باسلوبهم الحياتي المألوف، وكانت موجودة بشكلها الأولي الذي ينسجم مَعَ طبيعة المرحلة القائمة آنذاك، وظروفها وأجوائها الخاصة، إلا انَّ المسلم اليوم يمارس نفس ما كان يمارسه السابقون باُسلوب آخر، حسب أجوائه الحياتية الجديدة، وهو مَعَ ذلك يُتَّهم بالابتداع، ويُخرج من الدين، لمجرَّد تغيّر الاساليب والأعراف.

إنَّ أغلب الامور الشرعية الحادثة التي يمارسها الانسان المسلم في مراحله المختلفة تتصف بخاصيتين:

الخاصية الاولى: هو ما نستطيع أن نطلق عليه (الجانب الشرعي للأمر الحادث)، وهو عبارة عن أصل الممارسة المشروعة، والمبتنية على الأدلة الثابتة في التشريع.

الخاصية الثانية: هو ما نستطيع أن نطلق عليه (الجانب العرفي للأمر الحادث)، وهو عبارة عن شكلية الممارسة المشروعة، واُسلوب وقوعها، الذي يختلف حسب تطور الزمن، وطبيعة الاعراف، والتقاليد السائدة في المجتمع، من دون أن يؤثر على أصل مشروعيتها، وارتباطها بالدين.

٢٢١

ومسلمو اليوم يعملون الكثير من الامور المشروعة من جهة جانبها الشرعي الثابت والمتسالَم عليه، إلا انَّ تجسيدهم لها قد أخذ طابعاً حياتياً جديداً، فاذا حصل هناك تغيير عمّا كان عليه المسلمون في السابق، فهو انَّما ينحصر في الجانب العرفي للامر الحادث، لا في الجانب الشرعي منه، وتغيّر الجانب العرفي أمر تتطلبه ضرورة الحياة، وتقتضيه ضغوطات الواقع، ومستجداته الملحّة.

فقضية اقامة الاحتفال في المولد النبوي، والذكريات الاسلامية مثلاً، تجد قواسمها المشتركة في جميع الازمنة والعصور التي يمرّ بها المسلمون، كما وتجد دوافعها الشرعية الثابتة التي لا تقبل الترديد، فاحترام شخصية الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والاهتمام بالمقدسات الاسلامية، والذكريات الفاصلة في تاريخ الاسلام، اُمور مقطوعة الثبوت عند الجميع في جوانبها الشرعية الثابتة، وهي موارد إعتزاز واهتمام جميع المسلمين، إلا انَّ تجسيدها، والتعبير عنها واقعياً، يختلف حسب أساليب الناس المتنوعة، وأعرافهم المتفاوتة.

وبكلمةٍ اُخرى نستطيع القول بأنَّ عدم ثبوت الأمر الحادث في حياة السلف من جوانبه العرفية المتغيرة، باطّراد، لا يعني عدم ثبوته من جوانبه الشرعية، هذا كله بفرض التسليم للرأي القائل بحجية فعل السلف جدلاً.

وقد بيّنا فيما سبق بأنَّنا لا نقبل القول بحجية فعل السلف المدّعاة، لا على مستوى الامور الشرعية، ولا على مستوى الامور العرفية، ونعتقد بانَّه قد اُتخذ ذريعة لتبرير رمي المسلمين بالابتداع.

حرص مقلوب!

ونرى انَّ من المناسب في هذا المقام أن نوقف قارئنا الكريم على بعض النماذج

٢٢٢

التأريخية من أفعال السلف، والتي بنيت على أساس فهم خاطئ لمعنى الاتباع، والتمسك بالسنة، والاقتداء بهدي الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتزام سيرته، فبدلاً من أن تعبّر هذهِ المظاهر عن حالة الحرص على الدين، أصبحت ذات مردودات عكسية وآثار سلبية، نتيجة للخطأ في فهم خصوصيات التشريع، وحدوده، فبينما يتصور أصحاب هذا النمط من السلوك أنَّهم متَّبعون ومقتفون لآثار الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعاليم الاسلام، وإذا بهم يسيرون في واقع الأمر في عكس الاتجاه الذي يهدف اليه التشريع.

ومن أبرز هذه المظاهر ما يلي:

١ - عن عروة بن عبد اللّه بن قُشير قال: حدثني معاوية بن قرة عن أبيه قال:

«أتيتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رهطٍ من مُزينة(١) فبايعناه، وانَّه لمطلق الأزرار، فادخلتُ يدي في جنب قميصه، فمسستُ الخاتم.

قال عروة: فما رأيت معاوية، ولا ابنه قط في شتاءٍ ولا صيفٍ، الا مطلقي الأزرار»(٢) .

فنحن نلاحظ هنا انَّ الاقتداء بمثل الأمر المذكور في الرواية لا يعدّ اتباعاً بالمعنى الشرعي، ولا يمثل الاقتداء المطلوب في نظر الشريعة بالرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ انَّ الأمر يتعلق بقضية حياتية خاصة، لا علاقة لها بالحكم الشرعي ولوازمه.

وهكذا الأمر فيما روي عن زيد بن أسلم انه قال:

«رأيت ابن عمر يصلّي محلولاً أزراره، فسألته عن ذلك، فقال: رأيتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعله»(٣) !

٢ - روي عن مجاهد انَّه قال:

____________________

(١) مزينة: احدى قبائل العرب.

(٢) المنذري، الترغيب والترهيب، ج: ١، باب: الترغيب في اتباع الكتاب والسنة، ح: ١٢، ص: ٨٢.

(٣) المنذري، الترغيب والترهيب، ج: ١، باب: الترغيب في اتباع الكتاب والسنة، ح: ١٣، ص: ٨٢.

٢٢٣

«كنّا مَعَ ابن عمررحمه‌الله في سفرٍ، فمرَّ بمكانٍ فحادَ عنه، فسُئل لم فعلتَ ذلكَ؟ قال: رأيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فَعَل هذا ففعلت»(١) !

وهذا المظهر أيضاً لا يدخل تحت عنوان الاتباع، والتمسك بسيرة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاقتداء بسنته، وإن حاول البعض أن يمتدحه، ويشيد به، ويحشره ضمن موارد الاتّباع، والحرص على الدين.

٣ - روي عن ابن سيرين انَّه قال:

«كنتُ مَعَ ابن عمررحمه‌الله بعرفات، فلما كان حين راح رحتُ معه، حتى أتى الامام فصلّى معه الاُولى والعصر، ثم وقف وأنا وأصحاب لي، حتى أفاض الامام، فأفضنا معه، حتى انتهى الى المضيق دون المأزمين، فأناخَ وأنخنا، ونحن نحسب انّه يريد أن يصلّي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: انَّه ليس يريد الصلاة، ولكنَّه ذكر أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا انتهى الى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضي حاجته»(٢) !!

ولا نظن انَّ الأمر يحتاج منّا الى شيء من التعليق!

٤ - روي عن مروان بن سويد الأسدي انَّه قال:

«خرجتُ مَعَ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب من مكّة الى المدينة، فلمّا أصبحنا صلّى بنا الغداة، ثم رأى الناس يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهب هؤلاء؟، قيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلّى فيه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هم يأتون يصلّون فيه، فقال: إنّما هلكَ مَن كان قبلكم بمثل هذا! يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعاً، مَن أدركته الصلاة في هذهِ المساجد فليصلّ، ومَن لا فليمضِ، ولا يعتمدها»(٣) .

وفي الحقيقة انَّ هذهِ المبالغة في نهي الناس عن الصلاة في مسجدٍ صلّى فيه رسول

____________________

(١) المنذري، الترغيب والترهيب، ج: ١، باب: الترغيب في اتباع الكتاب والسنة، ح: ١٤، ص: ٨٢.

(٢) المنذري، الترغيب والترهيب، ج: ١، باب: الترغيب في اتباع الكتاب والسنة، ح: ١٦، ص: ٨٢ - ٨٣.

(٣) ابن وضّاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤١.

٢٢٤

اللّه لا تقترب من الصواب، وانَّ هذا الحرص لم يكن في محلِّه، بل لعلَّه يسير باتجاه معاكس، وذلك لشرافة المسجد الذي يصلّي فيه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاً، ولأنَّ في مراعاة الصلاة فيه وقصده لأجل ذلك إحياءاً لسنن الشريعة، وأحكام الاسلام، وحفظاً لآثار الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتخليداً لمبادئه وذكراه.

٥ - قال (ابن وضّاح القرطبي) في كتابه (البدع والنهي عنها):

«أمَرَ عمر بن الخطّاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقطعها، لأنَّ الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة»(١) .

وهذا المضمون يتجه اتجاه الأمر السابق في ترتب الآثار السلبية، والمردودات العكسية لحالة الحرص الخاطئة.

٦ - ذكر (الشاطبي) في (الاعتصام):

«انَّ عمر قد ترك الاغتسال من الاحتلام، حتى طلع عليه الصباح، وانَّ قوماً من الصحابة راجعوه، وسألوه عن سبب تركه للاغتسال مَعَ انَّه كان بإمكانه أن يأخذ من أثوابهم ما يصلي به، ثم يغسل ثوبه عند سعة الوقت، فأجاب بأنَّه لو فعله لكان سنة، وقال: بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أرَ»(٢) .

وهذا التبرير غير مقبول، إذ انَّ الحرص على السنة يقتضي وفقاً للمبادئ الاسلامية الثابتة القيام بواجب اللّه تعالى، والذي هو هنا أعظم الواجبات الاسلامية على الاطلاق، ووجوب المبادرة الى الاغتسال من الاحتلام، وأداء الصلاة الواجبة قبل انقضاء الوقت، ما دام ذلكَ ممكناً.

ونجد ما يشابه هذا التبرير فيما رواه في (الاعتصام) أيضاً عن عثمان بن عفان، إذ يقول مبرراً له ترك السنة الثابتة، واتمام الصلاة في السفر:

____________________

(١) ابن وضّاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤٢.

(٢) انظر: أبو اسحق الشاطبي، الاعتصام، ج: ٢، ص: ٣٢.

٢٢٥

«ومنه ما ثبت عن عثمانرضي‌الله‌عنه انَّه كان لا يقصر في السفر، فيُقال له: ألستَ قصرتَ مَعَ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول: بلى! ولكنّي امام الناس، فينظر اليَّ الأعراب، وأهل البادية اُصلّي ركعتين فيقولون: هكذا فُرضت»!

وأضاف الشاطبي الي ذلك القول:

«فالقصر في السفر سنّة أو واجب، ومَعَ ذلك تركه خوف أن يُتذرّع به لأمرٍ حادثٍ في الدين غير مشروع»(١) .

وهذا من الموارد التي جاءَ العذر فيها أقبح من الذنب!

٧ - جاءَ في (الاعتصام) عن ابن ابي العربي انَّه قال:

« كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وهو مذهب مالك والشافعي، وتفعله الشيعة، فحضر عندي يوماً في محرس أي الشعراء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدَّم الى الصف الأول، وأنا في مؤخرة قاعداً على طاقات البحر، أتنسَّم الريح من شدّة الحر، ومعي في صفٍ واحدٍ (أبو تمنة) رئيس البحر وقائده، في نفر من أصحابه، ينتظر الصلاة، ويتطلّع على المراكب، فلمّا رفع الشيخ الفهري يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه، قال (أبو تمنة) وأصحابه: ألا ترى الى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا؟ قوموا اليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد!! فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحانَ اللّه! هذا الطرطوشي فقيه الوقت، فقالوا لي: ولِمَ يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه.

وجعلت اُسكتهم، واُسكنهم، حتى فرغ من صلاته، وقمتُ له الى المسكن من المحرس، ورأى تغيّر وجهي فأنكره، وسألني، فأعلمته، فضحك، وقال: من أين لي أن اُقتل على سنة؟! فقلت له: ويحلّ لك هذا؟ فانَّكَ بين قومٍ إن أقمتَ بها قاموا عليكَ، وربّما

____________________

(١) أبو اسحق الشاطبي، الاعتصام، ج: ٢، ص: ٣٢.

٢٢٦

ذهبَ دمكَ، فقال: دع هذا الكلام وخذ في غيره»(١) !

٢ - عدوم وجود دليل شرعي على الأمر الحادث من الدين

إنَّ هذا القيد يعدّ من أوضح قيود (البدعة)، ومن أهم مقوماتها الاساسية. إلا انَّ هذا القيد لم يُشخّص بشكل شامل ودقيق، الأمر الذي أدّى الى وقوع اختلاف كبير في الموارد التطبيقية لمفهوم الابتداع، وعدم وجود ضابطة موحّدة، يتم بوجبها دخول الأمر الحادث أو خروجه عن هذا المفهوم.

فمن الشروط الاساسية التي تزج بالأمر الحادث في دائرة الابتداع، هو أن لا يكون لهذا العمل أصل وأساس في الدين، لا على نحو الخصوص، ولا على نحو العموم، يقول اللّه تعالى:

( وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرى عَلى اللّهِ كَذِباً أَو كذَّبَ بآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفلحُ الظّالِمونَ ) (٢) .

ويقول عزَّ شأنه:( قُل ءآللّهُ أَذِنَ لَكُم أَم عَلى اللّهِ تَفتروُنَ ) (٣) .

فاذا وجد لدينا دليل خاص ينطبق على الأمر الحادث، فان هذا الدليل يخرج هذا الامر عن حدّ (الابتداع) ويجعله داخلاً في صميم السنّة والتشريع، كما انّه لو وُجد لدينا دليل عام يمكن تطبيقه على الأمر الحادث، فانَّ هذا الدليل يخرج الأمر الحادث عن حدّ (الابتداع) أيضاً.

هذا كلُّه طبعاً بفرض صحة الأدلة الخاصة والعامة، والتأكد من صحة صدورها من الشارع المقدس وارتباطها به، لكي يتحقق ارتباط الأمر الحادث بالدين، على نحو

____________________

(١) أبو اسحق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٣٥٨.

(٢) الانعام: ٢١.

(٣) يونس: ٥٩.

٢٢٧

القطع واليقين.

وقد أصبح هذا القيد الدخيل في رسم الصورة النهائية لمفهوم (البدعة)، مثاراً لوجود الالتباس في أذهان البعض، بقصد أو من دون قصد.

وسوف نستعرض نماذج توضيحية لما ورد بشأنه الدليل الخاص، ثم لما ورد بشأنه الدليل العام.

استثناء ما ورد فيه دليل خاص

إذا ورد دليل شرعي خاص بشأن أمرٍ معيَّن، ولم يكن ذلك الأمر موجوداً في حياة النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو في طيلة عصر التشريع، فانَّ هذا الأمر يأخذ العنوان الشرعي، الذي ذكره الدليل الخاص بشأنه، ولا يدخل أخذه لهذا العنوان الشرعي ضمن دائرة (الابتداع)، إذ ليس المدار في الأمر المبتدع هو وجوده أو عدم وجوده في عصر التشريع، وانَّما المدار هو انَّه هل ينطبق عليه دليل خاص أو عام، أم لا ينطبق عليه ذلك.

ولنوضح هذهِ الفكرة من خلال بعض النماذج.

أ - وردت أدلة شرعية توجب صلاة الآيات عند حدوث (الزلزلة)، فلو افترضنا انَّ زلزلةً لم تقع في عصر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو طيلة زمان عصر التشريع، ثم وقعت في زمانٍ متأخر عن ذلك، فانَّ القول بوجوب صلاة (الزلزلة) حينئذٍ ليس ( بدعة)، باعتبار انَّ هذا الأمر حادث، ولم يقع في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو من صميم السنة الشريفة، لأنَه وجب عن طريق الدليل الشرعي الخاص، غاية الأمر أن مورده لم يكن متحققاً في صدر التشريع.

ورد عن عبد اللّه بن الحارث:

«انَّ الأرض زلزلت بالبصرة، فقام ابن عباس فصلّى بهم، فركع ثلاث ركعات،

٢٢٨

ثم سجد سجدتين، ثم قامَ فركع ثلاث ركعات، ثم سجد سجدتين»(١) .

وفي رواية اُخرى عن عبد اللّه بن الحارث أيضاً قال:

«صلّى بنا ابن عباس بالبصرة في زلزلة كانت، صلّى ست ركعات في ركعتين، فلما انصرف قال: هكذا صلاة الآيات»(٢) .

فهل يمكن أن يدّعي أحد أن القول بوجوب صلاة الآيات (بدعة) باعتبار انَّها لم تُصلَّ في زمن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وهل يمكن أن يُنظر اليها من زاوية كونها أمراً حادثاً مَعَ قصر النظر عن الدليل الخاص؟

إنَّ الذي نريد قوله هو انَّ مثل هذا الامر لا يقبل الاتصاف بالابتداع بشكل مطلق.

ب - وردت نصوص شرعيّة تحرِّم على الرجل أن يتزيّى بزي النساء، وتحرِّم على المرأة أن تتزيّى بزي الرجال.

فعن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال:

«لعن اللّه الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل»(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ليس منّا مَن تشبَّه بالرجال من النساء، ولا مَن تشبَّه بالنساء من الرجال»(٤) .

فتشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال، أخذ عنوانه الشرعي من خلال النص الخاص، وإن كان أمراً حادثاً بعد عصر التشريع، فلا معنى لدرجه ضمن مفهوم (البدعة)، والادّعاء بأنَّ القول بتحريم هذا الأمر من البدع باعتبار انَّه لم يكن موجوداً فيما سبق، وانّما ينبغي درج القول بتحريمه في صميم الاُمور الشرعية.

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٨، ٢٣٥٥٥، ص: ٤٤١.

(٢) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٨، ح: ٢٣٥٥٦، ص: ٤٤١.

(٣) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٥، ح: ٤١٢٣٥، ص: ٣٢٣.

(٤) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ٨، ح: ٤١٢٣٧، ص: ٣٢٤.

٢٢٩

ج - هناك أحاديث كثيرة تنص على النهي عن زخرفة المساجد، فلو افترضنا انَّه لم يكن في عصر التشريع مسجد مزخرف، ثم سادت هذهِ الظاهرة في العصور اللاحقة، فان هذا لا يجعل القول بكراهة هذا الأمر من موارد الابتداع، باعتبار كونه أمراً حادثاً لم يكن له وجود في عصر التشريع، وانَّما ينبغي إدخاله في الدين، باعتبار ارتباطه فيه من خلال النص الخاص.

والخلاصة أنَّ النص الخاص يبعد الأمر الحادث عن مفهوم الابتداع، ويخرجه عن موضوعه من الأساس، ويبقى الأمر الحادث مَعَ عنوانه الشرعي الذي اكتسبه من خلال ذلك النص الخاص.

استثناء ما ورد فيه دليل عام

هناك اُمور عامة تناولتها تعاليم الشريعة الاسلامية، وتركت تشخيص مواردها وموضوعاتها موكولاً الى المكلف نفسه، شريطة أن يضمن اتصاف عمله التفصيلي بعنوان ذلك العام المقطوع الورود.

وهذهِ النقطة في التشريع هي سرّ عمومية الرسالة، وشموليتها، وانطباقها على مختلف موارد الحياة، ومستجدات الوجود، والا لو كانت موارد الاحكام الشرعية منحصرة في فترة زمنية محددة، أو ظرف حياتي خاص، لما بقي للشريعة الاسلامية أيّ أثر، ولما امتدَّ وجودها الى آخر لحظات وجود الانسان على وجه هذهِ الأرض.

وقد جاءت دلالات الكثير من الاحكام الشرعية الاسلامية عامة وكلية، يُترك الأمر لنفس المكلف في تطبيقها على مواردها، من خلال نصوص عديدة نستعرض ادناه قسماً منها.

٢٣٠

قال اللّه تعالى:( فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فلا إِثمَ عَليهِ ) (١) .

وقال تعالى:( وَلا تَأكُلُوا أَموالَكُم بَينَكُم بالباطل ) (٢) .

وقال تعالى:( وَلَن يَجعلَ اللّهُ لِلكافِرينَ عَلى المُؤمِنينَ سَبِيلاً ) (٣) .

وقال تعالى:( وَتعاوَنُوا عَلى البِرّ والتَّقوى وَلا تَعاوَنُوا عَلى الإِثمِ وَالعُدوانِ ) (٤) .

وقال تعالى:( وَالمُؤمُنونَ والمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ ) (٥) .

وقال تعالى:( مَا عَلى المُحسِنينَ مِن سَبِيلٍ ) (٦) .

وقال تعالى:( وَما جَعَلَ عَلَيكُم في الدّينِ مِن حَرَجٍ ) (٧) .

وقال تعالى:( إِن جاءَكُم فاسِق بِنبإٍ فَتبيَّنوا ) (٨) .

وقال تعالى:( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فانتَهُوا ) (٩) .

فمن الواضح أنَّ هذهِ الآيات القرآنية تمتلك دلالات كلية عامة قابلة للانطباق على مختلف الازمنة والعصور، شريطة أن تتحقق موضوعات الأحكام المذكورة فيها على نحو الدقة، وتُحرز على نحو اليقين.

كما انَّ هناك مجاميع اُخرى من الآيات القرآنية الكريمة تمتلك شبيه هذهِ الدلالات، لم ندرجها هنا مراعاةً للاختصار.

وورد نظير ذلكَ في الأحاديث الشريفة أيضاً، فقد ذُكرت قواعد كلية لمختلف

____________________

(١) البقرة: ١٧٣.

(٢) البقرة: ١٨٨.

(٣) النساء: ١٤١.

(٤) المائدة: ٢.

(٥) التوبة: ٧١.

(٦) التوبة: ٩١.

(٧) الحج: ٧٨.

(٨) الحجرات: ٦.

(٩) الحشر: ٧.

٢٣١

القضايا التي تكتظّ بها حياة الانسان، ويحفل بها سلوكه الفردي والعام.

فمن هذهِ الاحاديث ما ورد عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال:

«رُفع عن اُمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطرّوا اليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«انَّ الناسَ مسلَّطون على أموالهم»(٢) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا ضررَ ولا ضرارَ على مؤمن»(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«المسلمون عند شروطهم»(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«المغرور يرجع الى مَن غرَّه»(٥) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«الاسلام يعلو ولا يُعلى عليه، والكفّار بمنزلة الموتى، لا يحجبون، ولا يورثون»(٦) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

«مَن كان على يقين، فأصابه شك، فليمضِ على يقينه، فانَّ اليقين لا يُدفَع

____________________

(١) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، تحقيق: هاشم الطهراني، ص: ٣٥٣.

(٢) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج: ٢، باب: ٣٣، ح: ٧، ص: ٢٧٢.

(٣) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج: ٧، باب: عدم جواز الاضرار بالمسلم، ح: ٤، ص ٣٤١.

(٤) أبو جعفر الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه ج٣، ح: ٣٧٦٥، ص: ٢٠٢.

(٥) حسن البجنوردي، القواعد الفقهية، ج: ١ ص: ٤٧.

(٦) حسن البجنوردي، القواعد الفقهية، ج: ١ ص: ١٥٩.

٢٣٢

بالشك»(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ليسَ على المؤتمن ضمان»(٢) .

وعن موسى بن بكر قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : الرجل يُغمى عليه اليوم أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، كم يقضي من صلاته؟، فقالعليه‌السلام : ألا اُخبركم بما ينتظم هذا وأشباهه، فقالعليه‌السلام : كل ما غلب اللّهُ عليه من أمرٍ، فاللّه أعذر لعبده.

وزاد فيه غيره انهعليه‌السلام قال: وهذا من الأبواب التي يفتح كلّ باب منها ألف باب»(٣) .

وعنهعليه‌السلام :

«لا سهو على مَن أقرَّ على نفسه بالسهو»(٤) .

وعنهعليه‌السلام :

«انّما علينا أن نلقي اليكم الاصول، وعليكم أن تفرِّعوا»(٥) .

وعن محمد بن حكيم قال: سألت أبا الحسنعليه‌السلام : «عن القرعة في أيِّ شيء؟ فقال لي: كل مجهولٍ ففيه القرعة»(٦) .

وقد دلَّت الشواهد التاريخية على انَّ المسلمين كانوا يمارسون عملية تطبيق مثل هذهِ الاحكام الكلية العامة على الموارد المختلفة، فيأتي التأييد من قبل الشارع المقدس على نحو الاقرار، أو التشجيع، أو الاستحسان، أو الى غير ذلك من الحالات، التي توحي

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج: ٢، باب: ٣٣، ح: ٢، ص: ٢٧٢.

(٢) حسن البجنوردي، القواعد الفقهية، ج: ٢ ص: ٥.

(٣) أبو جعفر الصدوق، بصائر الدرجات، ص: ٣٠٧.

(٤) محمد بن النعمان المفيد، الارشاد، ج: ١، ص: ٣٠٢.

(٥) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٢، باب: ٢٩، ح: ٥٤، ص: ٢٤٥، كتاب السرائر.

(٦) حسن البجنوردي، القواعد الفقهية، ج: ١، ص: ٤٧.

٢٣٣

بانَّ مثل هذهِ الممارسات نابعة من صميم الدين الاسلامي الذي يواكب الحياة على مرّ الازمنة والعصور.

فاذا حدث في حياة المسلمين أمر معيَّن لم يكن له وجود في عصر التشريع الاسلامي، فان وجدَ هذا الأمرُ الحادث له عنواناً كلياً عاماً يندرج تحته من أحكام الشريعة العامة، فانَّه يخرج بذلك عن دائرة (الابتداع)، ويكتسب شرعيته من خلال ذلك النص الكلي العام حتى لو لم يرد فيه نص خاص، يذكره على نحو الاستقلال والانفراد.

ومن النماذج التأريخية التي أقرَّت الشريعة الاسلامية فيها هذا النمط من السلوك التطبيقي ما ورد في (الطبراني) بسنده:

«انَّ النبي عليه الصلاة والسلام مرَّ على أعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: (يا مَن لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيِّره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل، وأشرقَ عليه النهار. لا تواري سماء منه سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خيرَ عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوماً ألقاكَ فيه).

فوكل رسول اللّه بالأعرابي رجلاً، وقال: إذا صلّى فأتني به، وكان قد اُهدي بعض الذهب الى رسول اللّه، فلما جاءَ الأعرابي، وهبَ له الذهب، وقال له: تدري لم وهبتُ لك؟!

قال الأعرابي: للرحم التي بيني وبينَك!

قال الرسول الكريم: إنَّ للرحم حقاً، ولكنّي وهبتُ لكَ الذهب لحُسن ثنائكَ على اللّه»(١) .

____________________

(١) محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، ص: ١٠٢.

٢٣٤

فنرى هنا انَّ هذا الاعرابي قد دعا بدعاءٍ رفيع، أخذ مضامينه السليمة والعالية من تعاليم الرسالة الاسلامية وأحكامها العامة، وان لم تكن الفاظه وتراكيبه اللغوية مما وردت على نحو الخصوص في لسان الشرع.

ونظير هذا الحادث ما روي عن أنس انَّه قال:

«اُقيمت الصلاة فجاء رجل يسعى، فانتهى وقد خفره النفس أو انبهر، فلما انتهى الى الصف قال: الحمدُ للّهِ كثيراً طيِّباً مباركاً فيه.

فلما قضى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاته قال: أيكم المتكلم؟، فسكت القوم، فقال: أيكم المتكلِّم، فانَّه قال خيراً، أو لم يقل بأساً.

قال: يا رسول اللّه أنا، أسرعت المشي، فانتهيتُ الى الصف، فقلت الذي قلت، قال: لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها، ثم قال: إذا جاءَ أحدكم الى الصلاة، فليمشِ على هينته، فليصلِّ ما أدرك، وليقضِ ما سبقه»(١) .

فهذا الحديث أيضاً على فرض صحته يدل على ما تمت الاشارة اليه من جواز ابتكار أذكار معيَّنة ودعوات خاصة، لم تكن موجودة بتراكيبها اللفظية الخاصة في عصر التشريع، ما دامت منسجمة مَعَ مضامين التعاليم الشرعية العامة، وغير مخالفة لها.

فكلّ أمر حادث ورد بشأنه الدليل العام - إذن - لا يعدّ من مصايق (الابتداع)، وانما هو منبثق من صميم السنة والتشريع. ومن هنا ندرك سذاجة التفكير الذي كان يحصر الامور الشرعية في خصوص ما ورد بشأنه الدليل الخاص فقط، ويُعدّ الزائد على ذلك من (البدع) الدخيلة على الدين، فقد مرَّ معنا انَّ سعداً حينما سمع رجلاً يقول: (لبيكَ ذا المعارج)، علَّق على عبارته هذهِ بالقول: «ما كنّا نقول هذا على عهدِ رسول اللّه»(٢) !

وكذلك ما روي عن (الشاذلي) انَّه كان يقول: «مَن دعا بغير ما دعا به رسول اللّه

____________________

(١) أحمد بن حنبل، مسند الامام أحمد بن حنبل، ج: ٣، ح: ١١٦٢٣، ص: ١٠٦.

(٢) ابن الجوزي، تلبيس ابليس، ص: ٢٥.

٢٣٥

فهو مبتدع»(١) .

وقد اشترك مَعَ هذا النمط الخاطئ من التفكير مجموعة اُخرى من علماء العامة، واتهموا من خلال ذلك أتباع مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام بشتّى ألوان التهم والافتراءات، وأطلقوا على أغلب العبادات الشرعية التي يمارسها الموحدون بقصد التقرب الى اللّه تعالى، ومن باب انسجامها مَعَ مضامين الشريعة العامة، والأمر بها من خلال الادلة الكلية. أطلقوا على هذهِ العبادات لفظ (البدعة) بعفوية واسترسال، ومن دون أن يكلِّفوا أنفسهم النظر في خلفيات هذه الممارسات ودوافعها الشرعية، والتثبّت عند اطلاق لفظ (البدعة) على مثل هذهِ الامور المنتسبة الى الدين عن طريق الادلة القطعية العامة إذا لم يكن وارداً بشأنها الدليل الخاص، كما هو الغالب في هذهِ الممارسات.

ولكي نستوعب هذا القيد بصورة أفضل نحاول أن نذكر بعض النماذج والأمثلة التوضيحية لبعض الامور الحادثة، التي لم يرد فيها دليل خاص، إلا انَّها ترتبط بالدين عن طريق الدليل الشرعي العام:

أ - الاهتمام بالقرآن الكريم

إنَّ الشريعة الاسلامية قد ندبت المسلمين الى الاهتمام بالقرآن الكريم، وحفظه، وتعاهد أمره، وصيانته، والاعتزاز به، وكانَ من موارد حفظه آنذاك أن يتدارسه المسلمون، ويتعاطوه باستمرار، ثم حَدَثَ أن شرعَ المسلمون بأمر تدوينه، وكتابته. ثم تطوَّر الأمر في الأزمنة اللاحقة الى طباعته وتكثيره، بالأساليب الحديثة والاجهزة المتطورة، وإخراجه بالحروف الفنية الرائقة، وقد خُصصت لأجل حفظ القرآن وتلاوته في الآونة الأخيرة مؤتمرات دورية عامة، ومحافل متنوعة، ومسابقات إقليمية وعالمية

____________________

(١) البروسوي، تفسير روح البيان، ج: ٩، ص: ٣٨٥.

٢٣٦

متتابعة، واتُّفق على قواعد عامة للتحكيم، وضوابط مشخصة للمفاضلة بين القرّاء، وخُصصت هدايا لتكريم الفائزين في الحفظ والتلاوة. وما الى ذلك من الاُمور التي تعكس الاهتمام الجدّي والمشروع بالقرآن الكريم.

فكل هذهِ الاهتمامات تعبِّر عن مصاديق بارزة وجلية لتلكَ الاحكام العامة التي دعت الى الاهتمام بالقرآن الكريم، والاعتزاز به، كمعجزة خالدة للاسلام العظيم، ولا تمت مثل هذه الاُمور الى (الابتداع) المصطلح بأَيّةٍ نسبةٍ تُذكر.

ب - صيام يوم الخامس عشر من شعبان وقيام ليلته

حثت الشريعة الاسلامية أتباعها على الاهتمام بالصيام، وندبت اليه طيلة أيام السنة، واستثنت من ذلك يومي العيدين (الفطر) و(الاضحى)، وعدَّت صيامها محرَّماً. وأمّا ما عدا ذلك فبابه مفتوح لمن يحب الاستزادة من فعل الخير والعمل الصالح.

وكذلك ندبت الشريعة الاسلامية الى الاهتمام بقيام الليل وإحيائه، بالذكر، والعبادة، والتهجد، والدعاء، يقول اللّه تعالى:

( وَمَا تَفَعَلُوا مِن خَيرٍ يَعلَمهُ اللّهُ وَتَزوَّدُوا فَإنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى. ) (١) .

ويتأكد هذان الأمران في الأيام والليالي الفاصلة في تاريخ الاسلام، كليلة القدر، ويوم المبعث النبوي الشريف، وليلة الخامس عشر من شعبان، ويومه.

وعلى الرغم من وضوح هذا الأمر، وجلاء اتصاله بالشرع المبين، إلا انَّ بعض علماء العامة لم يرضَ لنفسه إلا أن يدرج بعض مفردات هذا الأمر العبادي، ضمن دائرة (الابتداع) وخصوصاً تلك المظاهر التي يمارسها أتباع مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، فيقول (الفوزان) فيما يعد من النماذج المعاصرة للبدع على حدِّ زعمه:

____________________

(١) البقرة: ١٩٧.

٢٣٧

«ومن ذلكَ تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام، ويوم النصف من شعبان بصيام، فانَّه لم يثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلكَ شيء خاص به»(١) .

ويقول في موضعٍ آخر تحت عنوان (أنواع البدع):

« ما يكون بتخصيص وقتٍ للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع، كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيام وقيام، فانَّ أصل الصيام والقيام مشروع، ولكنَّ تخصيصه بوقتٍ من الأوقات يحتاج الى دليل»(٢) .

وقد سبق (الفوزان) الى ذلك بعض علماء العامة أيضاً، فقد نقل (ابن وضّاح) عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم انَّه قال:

«لم اُدرك أحداً من مشيختنا وفقهائنا يلتفتون الى ليلة النصف من شعبان.»(٣) .

وذكر أيضاً عن ابن أبي مليكة انه قيل له:

«انَّ زياداً النميري يقول انَّ ليلة النصف من شعبان أجرها كأجر ليلة القدر، فقال ابن أبي مليكة: لو سمعته منه، وبيدي عصا، لضربته بها، وكانَ زياد قاضياً»(٤) .

ولا يخفى على القارئ الكريم انَّ طبيعة النهج الاستدلالي الذي تم بموجبه اطلاق (البدعة) على صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته، قد بُني في الكلمات المتقدمة على اُسس خاطئة وغير مقبولة، فنرى انَّ (الفوزان) يدَّعي عدم وجود النص الخاص بشأن صيام هذا اليوم وقيام ليلته فهو يقول:

«ولم يثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلكَ شيء خاص به»(١) .

ويقول: «ولكنَّ تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج الى دليل».

وفي نفس الوقت يُقر بانَّ هذا العمل مندرج تحت العموميات الشرعية الثابتة التي

____________________

(١) صالح الفوزان، البدعة، ص: ٣٢، وانظر التوحيد له، طبعة عام ١٩٩٢ م، ص: ١٠٧.

(٢) صالح الفوزان، التوحيد، ص: ٩٣.

(٣) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤٦.

(٤) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، ص: ٤٦.

٢٣٨

حثت المسلمين على الصيام والقيام، فيقول: «فانَّ أصل الصيام والقيام مشروع».

ونحن على الرغم من أننا سننقل ورود النص الخاص بهذا الشأن والمروي من قبل الفريقين، ومن الكتب الحديثية المعتبرة عند أبناء العامة على نحو الخصوص إلا اننا نعود فنقول بأنَّه يكفي لتصحيح العمل ورود النصوص العامة بشأنه، وبامكان هذهِ النصوص أن تحرِّك المكلف نحو الاتيان بهذا العمل، وتحثه عليه، ويقع في النتيجة العمل مقبولاً ومرضياً، ويترتب الثواب الموعود عليه.

كما انَّ بامكان المكلف نسبة هذا العمل الى الدين من خلال هذهِ النصوص الكلية الثابتة كما أوضحناه سابقاً، وأما تخصيصه بالعبادة والاتيان به بهذا العنوان الخاص، وانَّه مطلوب من قبل الشريعة بعنوانه المشخَّص، فهو ما وردت بشأنه الأدلة الوافية من قبل الفريقين، والتي سوف نتعرض لها بعد قليل إن شاء اللّه تعالى.

فقصر النظر على ورود النص الخاص - إذن - ليس صحيحاً على اطلاقه، إذ يمكن أن يؤتى بالعمل من زاوية كونه أمراً عبادياً مندرجاً تحت العموميات المتفق على ثبوتها على حدّ قول الجميع، وتصحيح أعمال المسلمين وعقائدهم انطلاقاً من هذا الأساس، إن كان هناك دوافع خيّرة في النفوس نحو جمع شتات المسلمين، ووحدة كلمتهم، وان انطوت النوايا على تطلعات مخلصة لصالح رسالة الاسلام واعلاء كلمته في الأرض.

على اننا نمتلك علاوة على ذلك النص الشرعي الخاص الذي يقطع النزاع، ولا يدع للمنتحلينَ مسلكاً آخر يركبوه.

فسوف يأتي بعد قليل أن أصل هذا الأمر (وهو صيام اليوم الخامس عشر من شعبان، وقيام ليلته) مشمول بأدلة صريحة عامة مقطوعة الصدور، كما انَّ تخصيصه كذلك مما وردت فيه الأدلة الصريحة من قبل الفريقين. وأمّا ما نقله (ابن وضّاح) عن محمد بن زيد بن أسلم من انَّه لم يدرك أحداً من مشايخه يلتفت الى ليلة النصف من شعبان، فهو مما لا نلتفت نحن اليه، ولا نعدّ له أية قيمة في الاستدلال، ولا نرى له اعتباراً

٢٣٩

في مقام الطرح العلمي مطلقاً.

وقال (أبو اسحق الشاطبي)، فيما يذكر من البدع.

«ومنها التزام العبادات المعيَّنة في أوقات معيَّنة، لم يوجد لها ذلكَ التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته»(١) .

وقد حاول أن يؤطّر القول بتحريم قيام ليلة النصف من شعبان، وصوم يومه، وعدِّه من (البدع)، عن طريق عناوين جانبية اُخرى، إلتفافاً على أصل المطلب، وتمويهاً لحقيقة الأمر فيه بعد أن اتضحت حقيقة ارتباطه بالدين بشكل واضح وصريح، فيقول (الشاطبي) بهذا الشأن:

«فنحن نعلم انَّ ساهر ليلة النصف من شعبان لتلكَ الصلاة المحدثة لا يأتيه الصبح إلا وهو نائم، أو في غاية الكسل، فيُخل بصلاة الصبح، وكذلك سائر المحدثات»(٢) .

ومن الواضح أنَّ الاخلال بصلاة الصبح أمر مستقل، لا علاقة له بأصل إحياء ليلة النصف من شعبان، واستحباب هذا الأمر.

وإذا ما حصل في مورد من موارد الاحياء حصول بعض حالات الاخلال بالواجبات بشكل نادر وغير مطّرد، باعتبار انَّ الذي يندفع لممارسة هذهِ الاعمال العبادية المستحبة، ويحيي الليل بالتهجد، والذكر، والعبادة، والدعاء غالباً ما يندفع الى التمسك بالامور الواجبة، فانَّ حصول مثل هذهِ الموارد لا يستلزم القول بعدم استحباب الاحياء، ولا نظن انَّ هذا الأمر يحتاج منا الى فريد من البيان، ألا ترى انَّ الانسان قد يتهجد بالليل، ويسهر بالعبادة والدعاء، فتفوته في بعض الاحيان صلاة الصبح، أفهل يقول أحد هنا بأنَّ صلاة الليل (بدعة) لأنَّها اضرَّت بالصلاة الواجبة، وأدت الى

____________________

(١) أبو اسحق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٣٩.

(٢) أبو اسحق الشاطبي، الاعتصام، ج: ٢، ص: ٤ - ٥.

٢٤٠