البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 138967
تحميل: 6638

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138967 / تحميل: 6638
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

جائز، ونرجو أن يكون أهله مأجورين، فأن يُخصص للسيرة شهر يُتحدث عنها فيه بلغة الشعر والحب فلا حَرَج.

ألا ترى لو أنَّ مدرسة فيها طلاب خَصصت لكل نوعٍ من أنواع الثقافة شهراً بعينه، فهل هي آثمة؟، ما نظن أن الأمر يخرج عن ذلك».

ويضيف الى ذلك القول:

«لقد كانَ الاستاذ حسن البنا رجل صدق، وثاقب نظر، وإماماً في العلم، وكانَ يرى إحياء المناسبات الاسلامية في عصر مضطرب مظلم قد غفل فيه المسلمون، وجهلوا فيه كثيراً من اُمور دينهم، ومن كلامه -رحمه‌الله - في مذكراته: إحياء جميع الليالي الواجب الاحتفال بها بينَ المسلمين، سواء بتلاوة الذكر الحكيم، وبالخطب، والمحاضرات المناسبة.».

ثم يحمل على المتشددين قائلاً:

«والمتشددون في مثل هذهِ الشؤون تشددهم في غير محلِّه، فليس الأصل في الاشياء الحرمة، بل الأصل فيها الاباحة، حتى يرد النص بالتحريم، وفهمهم لحديث: (كل ما ليس عليه أمرُنا فهو ردٌ) فهم خاطئ.»(١) .

ففي الحقيقة انَّ التعبير الاجتماعي عن المشاعر والعواطف الدينية التي تختزن في نفوس المسلمين أمر متروك لأعراف الناس، وطرقهم المختلفة، وعاداتهم الاجتماعية الخاصة، ونظير هذا الأمر ما تفعله بعض الاُسر في الحياة الاعتيادية من احتفالات بهيجة لمواليدها الجدد، أو ما يتكرر في الذكرى السنوية ليوم الولادة مما يُسمى ب(عيد الميلاد)، أو ما تفعله أغلب الدول، أو كلها بالاحتفال في يوم استقلالها، إلا انَّ الفرق بين هذهِ الاحتفالات العامة، وبين الاحتفال بذكرى يوم المولد النبوي الشريف، أو بقية المناسبات الاسلامية المهمة، هو انَّ تلك الاحتفالات العامة خاضعة الى الرسوم

____________________

(١) سعيد حوّى، كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر، (٦) السيرة بلغة الحب والشعر، ص: ٣٦ - ٣٩.

٢٦١

والآداب، والاعراف التي تحكم حياة الناس، من دون أن تكون مشمولة بعموميات التشريع التي تُدخلها في دائرة الندب والمطلوبية، وأمّا الاحتفال بالذكريات الاسلامية، ولا سيما بمولد النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو مشمول بأوامر الشريعة الاسلامية، ومأثور عنها كما تقدم الكلام فيه.

وختاماً لا بدَّ من القول بانّا إذا نظرنا الى دوافع ومنطلقات هذا اللون من السلوك الذي يتمسك به أتباع مدرسة أهل البيتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصرون على ممارسته، والمواظبة عليه في مختلف الذكريات الاسلامية المفرحة، والمحزنة، ولا سيما إصرارهم على الاحتفال بيوم المولد النبوي الشريف، فانّا نجد الحرص الأكيد من قبل هؤلاء على إبقاء معالم شخصية الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متألقةً وحيةً في ضمائر المسلمين حيناً بعد حين، والاعتزاز بتعاليم الرسالة الاسلامية، وتجديد الانبعاث نحوها، والتمسك بها، إذ انَّ المطّلع على برامج هذهِ الاحتفالات، يلاحظ انَّها تستهدف أول ما تستهدف إجلاء مكانةِ الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإبراز آثاره ومعطياته الخالدة، من خلال الكلمات، والقصائد، والخطب والخواطر، والمقالات الاسلامية الهادفة، بل وقد يتضمن البعض منها تقديم الدراسات المتنوعة حول الجوانب المختلفة من حياته الكريمة، وجهاده الكبير في إعلاء كلمة اللّه على وجه الأرض، وغير ذلك من الاُمور التي ترتبط بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتشد المسلمين نحو سيرته، وتحثهم على الاقتداء به، والسير على هداه.

ومما لا شكّ فيه انَّ هذا النمط من السلوك الهادف، سوف يساهم مساهمة ملموسة في إبقاء معالم التراث الاسلامي الزاخر حيةً وفاعلةً في حاضر حياة المسلمين، ويشكّل أحد المفردات البارزة لتلك العموميات التي يتأمر المسلمين بتوقير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونصرته، وتبجيله، لانَّه يمثل الالتزام العملي بسلوكه، والتمسك بسنته وسيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٦٢

د: زيارة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومراقد الأئمةعليهم‌السلام

ومن الاساليب المندوبة الاُخرى لتجسيد هذا السلوك الهادف، والاشتراك مَعَ ما تقدم في الدوافع والمعطيات زيارة قبر النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبركاً، والدعاء عنده تقرباً الى اللّه تعالى، وكذلك زيارة مراقد أئمة أهل بيت العصمة والطهارةعليهم‌السلام ، لما لهم من وجاهةٍ، ومقام محمود عند اللّه سبحانه وتعالى.

فاضافة الى ما ورد من عموميات متقدمة بشأن إحترام وتوقير النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، وردت الأدلة الخاصة. أيضاً للحث على ذلك، فيكون هذا العمل منتسباً الى التشريع من هذين الطريقين معاً.

فمن ذلكَ الحديث الذي أخرجته اُمّة من الحفّاظ وأئمة الحديث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال:

«مَن زار قبري وجبت له شفاعتي»(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«مَن حجَّ فزار قبري بعدَ وفاتي، كان كمن زارني في حياتي»(٢) .

وغير ذلك من عشرات الاحاديث الاخرى المروية من طرق الفريقين، والتي ندبت الى زيارتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدعاء عنده، والتبرك بقبره(٣) ، وكذلك أهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، باعتار الاشتراك في الدوافع والآثار والمعطيات المترتبة على هذا الاهتمام، بينهمعليهم‌السلام وبين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّهم يمثلون الامتداد الشرعي لموقعه الديني

____________________

(١) ذكره الاميني في (الغدير)، ج: ٥، ص: ٩٣، عن أكثر من أربعين راوياً ومحدثاً من أئمة المذاهب الاربعة.

(٢) ذكره الاميني في الغدير، ج: ٥، ص (٩٨ - ١٠٠) عن خمسة وعشرين حافظاً ومحدّثاً، وانظر على سبيل المثال بعض مدارك الحديث في كنز العمال لعلاء الدين الهندي، ج: ١٥ ص: (٦٤٦ - ٦٥٧)، الاحاديث: (٤٢٥٥١ - ٤٢٦٠٧).

(٣) راجع (الغدير) للاميني، ج: ٥، ص (٨٦ - ٢٠٨)، باب زيارة مشاهد العترة الطاهرة، فقد روى عن مصادر العامة اثنين وعشرين حديثاً حول زيارة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقل كلمات أربعين علماً من أعلام المذاهب الأربعة حول زيارتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وَبَسط الكلام في ذلك بالحجة البالغة، والقول السديد.

٢٦٣

في الرسالة الاسلامية.

وكتُبُنا الحديثية المعتبرة مليئة بالروايات الصحيحة التي تحث على هذا السلوك، وتوضِّح تعاليمه وآدابه وخصائصه التفصيلية الاُخرى.

وفي الحقيقة انَّ قضية التبرك بآثار الانبياء والأوصياء قد وردت فيها الدلالة واضحة من قبل الشريعة، وعلى رأس ذلك ما ورد في قوله تعالى:

( اذهَبُوا بِقَميصي هذا فَأَلقُوهُ على وَجهِ أَبي يَأتِ بَصيراً ) (١) .

فنلاحظ ان النبي يوسفعليه‌السلام يرسل قميصه الى أبيه لكي يكون وسيلة وواسطة لارتداد البصر اليه باذن اللّه تعالى، وهذا من أظهر مصاديق التبرك، وقد قال تعالى بعد ذلك:

( فَلَمّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلقاهُ عَلى وَجهِهِ فارتَدَّ بَصيراً ) (٢) .

وأما الأحاديث فهي كثيرة منها ما رواه (البخاري) عن أبي جحيفة انّه قال:

«خرج علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهاجرة، فاُتي بوضوء، فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه، فيتمسحون به»(٣) .

وروى (البخاري) عن الجعد انَّة قال:

«سمعتُ السائب بن يزيد يقول ذهبت بي خالتي الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت: يا رسول اللّه انَّ ابن اختي وقع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثمَّ توضأ فشربت من وضوئه.»(٤) .

وفيه عن (ابن يرين) انَّه قال:

«قلت لعبيدة عندنا من شعر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبناه من قبل أنس، أو من قبل أهل

____________________

(١) يوسف: ٩٣.

(٢) يوسف: ٩٦.

(٣) البخاري، صحيح البخاري، ج: ١، كتاب الوضوء، ص: ٥٥.

(٤) البخاري، صحيح البخاري، ج: ١، كتاب الوضوء، ص: ٥٦.

٢٦٤

أنس، فقال: لأن يكون عندي شعرة منه أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها»(١) .

وفيه أيضاً عن (أنس) انَّه قال:

«انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا حلقَ رأسه كان أبو طلحة أوّل مَن أخذ من شعره»(٢) .

وقال (ابن حجر) في (الاصابة):

«كل مولود ولد في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُحكم بأنَّه رآه، وذلك لتوفّر دواعي إحضار الأنصار أولادهم عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحنيك والتبرّك، حتى قيل: لما افتُتحت مكة جعل أهل المدينة يأتون الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصبياتهم، ليمسح على رؤوسهم، ويدعو لهم بالبركة»(٣) .

وجاء في (مسند أحمد) عن (عائشة) انَّها قالت:

«كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤتى بالصبيان فيحنكهم ويبرّك عليهم.»(٤) .

وجاءَ في (اُسد الغابة):

«انَّ بلالاً رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامه وهو يقول: ما هذهِ الجفوة يا بلال؟ ما آن لكَ أن تزورنا؟ فانتبه حزيناً، فركب الى المدينة، فأتى قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل يبكي عنده، ويتمرّغ عليه، فاقبل الحسن والحسين، فجعل يقبّلهما ويضمهما.»(٥) .

وفي (البخاري) عن أبي جحفة قال:

«خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهاجرة الى البطحاء، فتوضأ، ثم صلّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين. الى أن قام وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فاذا هي أبرد من الثلج، وأطيب

____________________

(١) البخاري، صحيح البخاري، ج: ١، كتاب الوضوء، ص: ٥٠ - ٥١.

(٢) البخاري، صحيح البخاري، ج: ١، كتاب الوضوء، ص: ٥١.

(٣) جعفر السبحاني، الوهابية في الميزان، ص: ٢١٤، عن الاصابة، ج: ٣، ص: ٦٣١.

(٤) أحمد بن حنبل، ج: ٦، ح: ٢٥٢٤٣، ص: ٢١٢.

(٥) ابن الاثير، اُسد الغابة، ج: ١، ص: ٢٠٨.

٢٦٥

رائحةً من المسك»(١) .

وورد في (الطبقات الكبرى):

«عن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنَّه نظر الى ابن عمر وقد وضع يده على مقعد المنبر حيث كان النبي يجلس عليه، ثم وضعها على وجهه»(٢) .

وروي عن علي أمير المؤمنين أنَّه قال:

«قدِم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاثة أيام، وحثى من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول اللّه! قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن اللّه سبحانه فوعينا عنك، وكان فيما أنزل اللّه عليك:( وَلَو أَنَّهُم إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُم جاءُوكَ. ) (٣) . وقد ظلمتُ وجئتكَ تستغفر لي، فنودي من القبر، قد غُفر لك»(٤)

ولكنّن نرى أيضاً على الرغم من عمق انتساب هذا العمل للدين، وقوة ارتباطه بالتشريع قد نُعتَ من قبل الكثيرين بالابتداع، وحاول البعض أن يصوّر زيارة مراقد أهل البيتعليهم‌السلام ، والدعاء عندها، والتبرك بها، عبادة لأصحاب هذهِ القبور، بهتاناً وزوراً وافتراءاً، وقلباً للحقائق، والتفافاً حولها، مَعَ أنَّ الذي يطالع ويطّلع على لغة الزيارة التي يلهج بها أتباع منهج أهل البيتعليهم‌السلام لهؤلاء الابرارعليهم‌السلام ، يلمس الأدبَ الرسالي الرفيع، والروحَ التوحيدية الخالصة التي تطفح بوضوح من بين جنبات هذهِ المقاطع الاسلامية الموروثة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنفسهم بنحوٍ غالب.

فلننظر الى ما يقوله (الفوزان) حول هذا الموضوع:

«ولكنَّ التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة، فمنها ما هو كفر صراح، كالطواف

____________________

(١) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٤، كتاب المناقب، ص: ١٦٥.

(٢) جعفر السبحاني، الوهابية في الميزان، ص: ٢١٦، عن الطبقات الكبرى، ج: ١، القسم الثاني، ص: ١٣.

(٣) النساء: ٦٤.

(٤) عبد الحسين الاميني، الغدير، ج: ٥، ص: ١٤٨، عن الحافظ ابي عبد اللّه بن نعمان المالكي في مصباح الظلام، والشيخ شعيب الحريفيش في (الروض الفائق) ج: ٢، ص: ١٣٧، والسيد نور الدين السمهودي في (وفاء الوفا) ج: ٢، ص: ٤١٢، والقسطلاني في (المواهب اللدنية). وآخرين.

٢٦٦

بالقبور تقرّباً الى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم. ومنها ما هو من وسائل الشرك كالبناء على القبور، والصلاة والدعاء عندها»(١) .

ونحن لا نريد هنا أن نتبنّى الاجابة على ما ذكره (الفوزان) وما يذكره غيره من المغرضين من طعنٍ وتجريح لأتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام في خصوص الموارد التي ذكرها، لانّا قلنا بانَّ لمثل هذهِ الاجابات التفصيلية موضعها الخاص من كتب ومصنفات علمائنا المتقدمين والمتأخرين.

ولكننا نعجب حقاً لهذهِ اللغة الرخيصة التي لا تنسجم مَعَ الأعراف، والأخلاق، والمنطق العلمي السليم، ونعجب من هذا التسامح المفرط في تكفير الطوائف الاسلامية، وإلغاء عقائد الملايين من الموحدين من أبناء الاسلام بكلمة واحدةٍ لا يعرف هؤلاء المتحجرون من مفردات الثقافة الاسلامية المترامية سواها، وهي كلمة (بدعة)، فكل أمرٍ لا ينسجم مَعَ أهوائهم وميولهم الخاصة أطلقوا عليه هذا اللفظ، ونعتوه بهذا الوصف.

وفي الواقع انَّ ما يقوله (الفوزان) اليوم وما يقوله غيره من الوهابيين، هو ترديد وتكرار لما قاله اُستاذهم (ابن تيمية) الذي نظَّر لهذا الأمر في مصنفاته المختلفة، وشكّل بذلكَ باعثاً على زرع التفرقة بين المسلمين، وشق عصا وحدتهم وتماسكهم.

على أنّا نجد ان نفس (ابن تيمية) يتناقض مَعَ نفسه، حين تفرض الحقائق نفسها على كتاباته، ولا يجد من ذلكَ بدّاً ومخرجاً، فعلى الرغم من أنَّ مصنفاته تطفح بالتشنيع والنيل من أتباع مذهب أهلعليهم‌السلام ، ومؤاخذتهم بعنف على ما يمارسونه من زيارةٍ لمراقد أهل البيتعليهم‌السلام ، وتبركٍ بآثارهم المقدسة، وتوسلٍ الى اللّه تعالى بجاههم العظيم، نجد انه يصرِّح بأصل مشروعية الاتيان للمشاهد في (اقتضاء الصراط المستقيم) حيث يقول:

«قال سندي الخواتيمي: سألنا أبا عبد اللّه عن الرجل يأتي هذهِ المشاهد ويذهب اليها: ترى ذلك؟ قال: أمّا على حديث ابن اُم مكتوم انَّه سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلي في بيته

____________________

(١) صالح الفوزان، البدعة، ص: ١٧.

٢٦٧

حتى يتخذ ذلك مصلى، وعلى ما كان يفعل ابنعمر رضي ‌الله‌ عنهما، يتبع مواضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثره، فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا انَّ الناس قد أفرطوا في هذا جداً وأكثروا فيه.

وكذلكَ نقل عنه أحمد بن القاسم ولفظه: سُئل عن الرجل يأتي هذهِ المشاهد التي بالمدينة وغيرها، يذهب اليها؟ قال: أمّا على حديث ابن اُم مكتوم انَّه سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجداً، وعلى ما كان يفعله ابن عمر، يتبع مواضع سير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفعله حتى رؤيَ يصب في موضع ماء، فسُئل عن ذلك؟ فقال: رأيتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصب ههنا ماء، قال أمّا على هذا فلا بأس»(١) .

فهذا الكلام الذي ينقله عن الامام (أحمد بن حنبل)، يدل بشكل واضح وصريح على أصل مشروعية إتيان المشاهد، والتبرك بآثار النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويقول في موضعٍ آخر في نفس الموضوع:

«فكما انَّ تطوع الصلاة فرادى وجماعة مشروع من غير أن يتخذ جماعة عامة متكررة تشبه المشروع: من الجمعة، والعيدين، والصلوات الخمس، فكذلك تطوّع القراءة والذكر والدعاء جماعة وفرادى، وتطوع قصد بعض المشاهد، ونحو ذلك كلُّه من نوعٍ واحد.»(٢) .

فاذا كان اتيان المشاهد مشروعاً، والتبرك أيضاً مشروعاً، فلماذا هذا التهجم على الموحدين من أبناء الاسلام، ونعت عملهم بالابتداع؟ ولماذا تحميل هذا العمل المشروع عناوين اُخرى لا واقع لها من الأساس؟ ولماذا لا يُحمل عمل المسلمين على الصحة وفقاً لتلك العموميات التي ندبت الى تبجيل النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وتوقيرهم، ونصرتهم أحياءً وأمواتاً؟

____________________

(١) ابن تيمية، إقتضاء الصراط المستقيم، ص: ٣٠٥ - ٣٠٦.

(٢) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، ص: ٣٠٥.

٢٦٨

ولكنَّ العجب العجاب أنَّ نفس ما لم يكن يسمح به (ابن تيمية) من تبرك بالاموات، ونفس ما كان يعتبر فاعله مشركاً وخارجاً عن الدين. قد حصل بشأنه بعد الموت، ولكنَّ أحداً من خواصه ومريديه والمدافعين عن عقائده المضللة ومبانيه لم ينبس ببنت شفة، ولم يقل بأنَّ هذا الأمر مشمول بالابتداع، عدا ما أظهره محقق كتاب (العقود الدرّية) عند هذا الموضع من إمتعاض باهتٍ وسريع.

فقد ورد في الكتاب المذكور بلهجة الاطراء والثناء على (ابن تيمية) بعد موته:

«وحضر جمع الى القلعة، فاُذن لهم في الدخول، وجلسَ جماعة قبل الغسل، وقرأوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا.

وحضر جماعة من النساء، ففعلنَ مثل ذلك ثمَّ انصرفنَ. وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك.

وشرب جماعة الماءَ الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غُسِّل به.

وقيل: إنَّ الطاقية التي كانت على رأسه دُفع فيها خمسمائة درهم، وقيل: الخيط الذي فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل، دفع فيه مائة وخمسونَ درهماً».

ثم يضيف قائلاً:

«وتردد الناس الى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً، ورؤيت له منامات كثيرة صالحة»(١) .

____________________

(١) الحافظ أحمد بن عبد الهادي، العقود الدرية في مناقب شيخ الاسلام أحمد بن تيمية، بتحقيق محمد حامد الفقي، ص: ٣٦٩ - ٣٧١.

٢٦٩

ه‍: اِقامة المآتم ومجالس العزاء

وردت الأحاديث المتظافرة الدالة على استحباب الترحم على الموتى، وضرورة مواساة المسلمين بعضهم للبعض الآخر عند نزول الموت، والمشاركة في مراسيم التشييع والدفن، وبقية مراسيم العزاء.

وقد اعتاد المسلمون في الفترات الأخيرة على تجسيد هذا الندب الشرعي المؤكّد، من خلال إقامة مجالس الفاتحة على أرواح اُولئكَ الموتى، وذكرهم بالخيرات، وقراءة القرآن والدعاء، واطعام المعزّين من باب أدب الضيافة.

ولم يكن ليدّعي أحد من هؤلاء المسلمين بأنّ هذا العمل ضروري أو واجب، وانّما يقوم به أولياء المتوفى كل بحسب شأنه وطاقته، بل وقد لا يقوم به البعض الآخر لقلّة ذات يساره، على أنَّ دعم بقية المسلمين لهؤلاء المصابين، وقيامهم بأغلب نفقات هذهِ المآتم، يحول غالباً دون عدم تحقيق هذا الأمر المندوب.

فهذا أيضاً من نوع تطبيق وتجسيد عموميات الشريعة المقدسة.

ولكنَّ المؤسف انّ البعض قد عدَّ هذا العمل من قبيل البدعة المحرّمة، وتسرَّعَ الى اطلاق هذا العنوان عليه من دون محاولة التأمل في خلفياته ومبرراته الشرعية، جاءَ في (الفقه الاسلامي وأدلته):

«أما صنع أهل البيت طعاماً للناس فمكروه وبدعة لا أصلَ لها، لأنّ فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم الى شغلهم، وتشبهاً بصنع أهل الجاهلية، وإن كان في الورثة قاصر دونَ البلوغ، فيحرم إعداد الطعام وتقديمه، قال جرير بن عبد اللّه: كنا نعدّ الاجتماع الى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة»(١) .

ويفصّل (الفوزان) هذا التحريم بالقول:

____________________

(١) د. وهبة الزحيلي، الفقه الاسلامي وأدلتُه، ج: ٢، ص: ٥٤٩.

٢٧٠

«ومنها: إقامة المآتم على الأموات، وصناعة الأطعمة، واستئجار المقرئين، يزعمون أنَّ ذلكَ من باب العزاء، أو انَّ ذلك ينفع الميت، وكل ذلكَ بدعة لا أصل لها، وآصار وأغلال ما أنزل اللّه بها من سلطان»(١) .

فمتى كانت قراءة القرآن، والدعاء، واطعام الطعام (بدع) لا اصل لها؟! وما معنى النصوص الشرعية الخاصة والعامة التي حثت المسلمين على هذهِ الاُمور جميعاً، وأكدت على ضرورة مواساة أولياء الميت، ومشاركتهم في العزاء، وتقديم العون لهم، وندبت المسلمين الى كل ذلك في مختلف الاُزمان والعصور؟

فقد ورد عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال:

«مَن عزّى مصاباً فله مثل أجره»(٢) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ما من مؤمن يعزّي أخاه بمصيبةٍ إلا كساه اللّه من حلل الكرامة يوم القيامة»(٣) .

فهذه أدلة عامة تنص على مشروعية الاجتماع واللقاء عند المصاب، وزيارة أولياء الميت، ومواساتهم، وتقديم العزاء لهم. إضافة الى الأدلة العامة الواردة بشأن التعاون على البر والتقوى، ومواساة الاخوان، وزيارة المؤمنين، وإدخال السرور على قلوبهم، وصلة الأرحام. وغيرها من العموميات التي تشمل هذا النوع من الاجتماع والائتلاف والتعاون، وتدفع الانسان المؤمن للوقوف إلى جنب أخيه المؤمن في الشدائد ومواطن الابتلاء.

وأمّا قضية إطعام المعزّين فهي قضية جرى عليها عرف الانسان، واندفع نحوها بايحاء فطرته البشرية، كما انَّها وجدت حوافزها ودوافعها الشرعية من خلال النصوص الكثيرة الواردة في الحث على إكرام الضيف، وإيصال البر والمعروف الى الناس، وإنفاق

____________________

(١) صالح الفوزان، البدعة، ص: ٣١.

(٢) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٥، ح: ٤٢٦٠٨، ص: ٦٥٨.

(٣) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٥، ح: ٤٢٦١٥، ص: ٦٥٩.

٢٧١

ما زاد عن الحاجة، وبذل المستطاع من المال والمتاع. وأوضح مصاديق ذلك هو إطعام الطعام، وإشباع المؤمنين تقرباً الى اللّه تعالى.

فما دخل هذا العمل الذي يقوم به أولياء الميت بالابتداع، وكيف يمكن لمتشرع يخاف يوم الحساب من أن يطبق عليه حدّ (البدعة) ويقول بانَّ هؤلاء قد أدخلوا في الدين ما ليس منه؟.

وهل يُعقل أن تحرِّم الشريعة الاسلامية اكرام الضيف المعزّي وتقديم الطعام له، لا سيما وانَّ أغلب هؤلاء المعزّين يأتون من مناطق بعيدة ونائية، ويتركون أعمالهم وشؤونهم الخاصة، قاصدين مواساة أولياء الميت والشد على أيديهم، علاوةً على انَّهم يتحملون في الغالب عملية إعداد الطعام ونفقاته والاُمور الاُخرى المتعلقة به؟

من هنا نرى انَّ البعض حين يصطدم بالواقع الذي يرفض هذا الاتهام المجحف أشدَّ الرفض، يستدرك ما أطلقه من تحريم بالقول:

«وإن دعت الحاجة الى ذلكَ جاز، فانهم ربَّما جاءَهم مَن يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة، ويبيت عندهم، ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه»(١) .

إنَّ الاسلام أسمى وأقدس من أن يُفهم بهذهِ الطريقة الشلاء التي يلصقها به الجهلاء والمضلّلون، أو يُنظر اليه بهذهِ النظرة السوداوية القاتمة التي تحجبه عن المجتمع، وتمنعه من التفاعل معه وفيه.

إنّ الاسلام دين الحياة الذي ينفتح معها في مختلف الخصوصيات والأبعاد، ويستجيب لمتطلباتها مهما اتسعت وتقدمت بالانسان، والا فيكف يمكن أن نأمن على الدين الاسلامي من أن يواكب المجتمع المتمدن ويحاكي تطور الحياة؟!

ولكنا لا نستغرب كثيراً إذا ما أدركنا بانَّ الدين الذي يريده هؤلاء هو دين السلاطين والملوك، ودين التحجر والانزواء.

____________________

(١) د. وهبة الزحيلي، الفقه الاسلامي وأدلتُه، ج: ٢، ص: ٥٥٠.

٢٧٢

وأمّا استحباب تلاوة القرآن الكريم، والتجمع للاستماع له، فهو لا يتطلب منّا مزيداً من البيان، ولا يحتاج الى أن نذكر له دليلاً أو برهاناً، لكونه أمراً جلياً لا يشكك فيه إلا الجاهل المتعنت، ولا ينكره إلا من لا حظَّ له من العلم بشريعة سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأما ايصال ثواب هذهِ القراءة الى الميت فهو أمر مندوب بالأدلة العامة والخاصة، فروي مثلاً عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال:

«اقرؤها على موتاكم، يعني يس»(١) .

وفي رواية اُخرى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال:

« ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد اللّه تبارك وتعالى والدارَ الآخرة إلا غُفر له، واقرءوها على موتاكم»(٢) .

وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«من مرَّ على المقابر فقرأ فيها إحدى عشرة مرةً (قُل هُوَ اللّه أحد)، ثم وهبَ أجرهُ الامواتَ، اُعطي من الأجر بعدد الاموات»(٣) .

وعن أبي هريرة عن رسول اللّه:

«مَن دَخَل المقابر، ثم قرأ فاتحة الكتاب وقل هو اللّه أحد، وألهاكم التكاثر، ثم قال: إنّي جعلتُ ثواب ما قرأتُ من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات، كانوا شفعاء له الى اللّه تعالى»(٤) .

وعن عائشة:

____________________

(١) أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج: ٥، ح: ١٩٧٩٠، ص: ٢٦.

(٢) أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج: ٥، ح: ١٩٧٨٩، ص: ٢٦.

(٣) علاء الدين الهندي، كنز العمال: ج: ١٥، ح: ٤٢٥٩٦، ص: ٦٥٥.

(٤) عبد اللّه بن عبد الاله الحسيني، صاروخ القرآن والسنة، ص: ٨٢، عن ابي محمد السمرقندي في فضائل (قُل هُوَ اللّه أحد)، والرافعي في تأريخه، والدارقطني.

٢٧٣

انَّ رجلاً قال لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ امي افتُلتت نفسها، وانَّها لو تكلمت تصدَّقت، أفأتصدق عنها؟ فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم، فتصدَّق عنها»(١) .

وعن كعب بن عجرة قال:

« قلتُ: يا رسول اللّه! انّي اُكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لكَ من صلاتي؟ فقال: ما شئت، قال، قلت: الربع، قال: ما شئت، فان زدت فهو خير لكَ، قلت: النصف، قال: ما شئت، فان زدتَ فهو خير لكَ، قال: قلت: فالثلثين، قال: ما شئت، فان زدت فهو خير لكَ، قلت: أجعل لكَ صلاتي كلَّها، قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك»(٢) .

فهذه الأحاديث والكثير غيرها تدل بوضوح على مطلوبية ذكر الأموات بالدعاء، والقرآن، وأعمال البر الاُخرى، وانَّ ثواب هذه الاعمال يصل الى الميت في قبره وينتفع به. قال صاحب كتاب (صاروخ القرآن والسنة) حول هذا الموضوع:

«قال مفتي الديار الحضرمّية في رسالته المذكورة: أما قراءة القرآن العظيم للاموات، ثم الدعاء بعدها بأن يوصل ثواب القراءة الى روح فلان. الخ، فقد كفانا المؤونة في ذلك الامام العلامة الشيخ محمد العربي التباني، المدرس بالمسجد الحرام، وأحد أساتذة مدرسة الفلاح بمكة سابقاً، فانّه صنف في هذا الموضوع رسالة سماها (إسعاف المسلمين والمسلمات بجواز القراءة ووصول ثوابها للأموات)، ذكر في صدرها انَّ قراءة القرآن على الأموات جائزة، يصل ثوابها لهم عند جمهور فقهاء الاسلام أهل السنة، وإن كانت بأُجرة على التحقيق.

ثم نقل عن الامام شيخ الاسلام زكريا في (شرح الروض) ما مثاله: (فرع) الاجارة للقراءة على القبر مدة معلومة، أو قدراً معلوماً، جائزة للانتفاع بنزول الرحمة

____________________

(١) النسائي، سنن النسائي، ج: ٣، ح: ٣٦٥١، ص: ٥٦٠، كتاب الوصايا (٧)، إذا مات الفجأة.

(٢) الترمذي، سنن الترمذي، ج: ٤، ح: ٢٤٥٧، ص: ٥٤٩، كتاب: صفة القيامة / ٢٣.

٢٧٤

حين يُقرأ القرآن. كالاستئجار للأذان، وتعليم القرآن، ويكون الميِّت كالحي الحاضر، سواء عقَّب القرآن بالدعاء، أو جعل أجر قراءته له، أم لا، فتعود منفعة القرآن الى الميِّت في ذلك.

ثم قال: بل قال السبكي تبعاً لابن الرفعة على انّز الذي دلَّ عليه الخبر بالاستنباط انَّ القرآن إذا قُصد به نفع الميت نفعه.

ثم نقل عن الامام الرملي في (النهاية) والشبراملسي في حاشيته عليها، وعن شيخ الاسلام في فتاويه، وعن الحافظ السيوطي، وابن الصلاح ما يؤيد ذلك، الى أن قال: وقال النوويرحمه‌الله في (شرح المهذب): يستحب لزائر القبور أن يقرأ ما تيسر من القرآن، ويدعو لهم عقبها، نصَّ عليه الشافعي واتفق عليه الاصحاب، وزاد في موضع آخر: إن ختموا القرآن على القبر كان أفضل ا ه‍».

ثم نقل عن علماء بقية المذاهب الأربعة ما لا يخرج عمّا ذكر، الى أن قالَ في الخاتمة: «والخلاصة قد تحقق وتلخص من كلام العلماء كابن قدامة، وابن القيمِّ، وغيرهما المنقول عن الائمة الاقدمين من أهل الأثر، إنَّ القراءة على الاموات فعلها السلف الصالح، وانَّ عمل المسلمين شرقاً وغرباً لم يزل مستمراً عليها، وانَّهم وقفوا على ذلك أوقافاً، وأطال في ذلك.

ثم نقل عن الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية انَّه قال: مَن اعتقد انَّ الانسان لا ينتفع إلا بعمله، فقد خرق الاجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة، أحدها انَّ الانسان ينتفع بدعاء غيره، وهو انتفاع بعمل الغير، وأطال الى أن عدَّ واحداً وعشرين وجهاً.

ثم قال: ومَن تأمل العلم وجد من إنتفاع الانسان بما لم يعمله ما لا يكاد يُحصى ا ه‍ كلام ابن تيمية»(١) .

____________________

(١) عبد اللّه بن عبد الاله الحسيني، صاروخ القرآن والسنة، ص: ٨١ - ٨٤.

٢٧٥

فهذهِ هي نصوص الشريعة الاسلامية الناصعة، وآراء أتباع مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام المستقاة منها، وهذهِ أقوال أهل السنة وفتاواهم التي يحكى عنها الاجماع، فأين نضع قول مَن يقول: «ومنها إقامة المآتم على الاموات، وصناعة الأطعمة، واستئجار المقرئين يزعمون انَّ ذلكَ من العزاء، أو انَّ ذلك ينفع الميّت، وكل ذلك بدعة لا أصل لها، وآصار وأغلال ما أنزل اللّه بها من سلطان»(١) .

فلماذا التسرع في إطلاق لفظ (البدعة) على الاُمور المقطوعة الثبوت في التشريع؟ ولماذا الاستعجال بتكفير آلاف الموحدين من الطوائف الاسلامية المختلفة لانَّهم يعتقدون بأمرٍ منتزع من صميم التشريع، ويمارسونه على هذا الأساس المشروع؟

إِنَّ التهاون في مثل هذهِ الاُمور، والتسامح في إطلاق لفظ (البدعة) مَعَ ما له من خطورة وحساسية في التصور الاسلامي، لا يمكن أن يُغتفر ويُتجاوز عنه، خصوصاً إذا ما صدر من شخصيات لها وزنها وموقعها، في مختلف المقاييس والاعتبارات.

جاءَ في كتاب (الروح) ل(ابن القيِّم الجوزية):

«قال الخلال: وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق: حدثني علي بن موسى الحدّاد وكان صدوقاً، قال: كنت مَعَ أحمد بن حنبل، ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دُفن الميت، جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فققال له أحمد: يا هذا إنَّ القراءة عند القبر بدعة!

فلما خرجنا من المقابر، قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد اللّه ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبتَ عنه شيئاً؟ قال: نعم، قال: فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنَّه أوصى إذا دُفن أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعتُ ابن عمر يوصي بذلك، فقال له أحمد، فارجع وقل للرجل

____________________

(١) - صالح الفوزان، البدعة، ص: ٣١.

٢٧٦

يقرأ»(١) !!

ويحاول الشيخ (الغزالي) أن يبني نسبة (الابتداع) إلى إطعام الطعام، وتلاوة القرآن وتوزيع الأشربة والسجائر!! في المآتم. على قاعدةٍ عقلية عثر عليها في كلمات المتقدمين! وهامَ إعجاباً بها، وجعلها شاهداً لكثير من أحكامه بالابتداع على ما لا ينسجم معها من الامور الحادثة في حياة المسلمين، فيقول عند التعرض لموضوع الابتداع:

«ومن الفقهاء الذينَ في هذا الميدان أبو اسحق الشاطبي، وأظنه واضع هذهِ القاعدة: (ما تركه النبي عليه الصلاة والسلام مَعَ وجود الداعي، وانتفاء المانع، فتركه سنة، وفعله بدعة)، وهي قاعدة جليلة تحمي الاسلام من تقاليد رديئة اختلقها المسلمون في مناسبات كثيرة، وحسبها العامة ديناً، وما هي بدين»(٢) .

يستعين (الغزالي) بهذه القاعدة على نسبة (الابتداع) إِلى مَن يقيم مآتم العزاء، ومجالس الترحم على الموتى، ويطعم الطعام، ويقرأ القرآن، ويوزِّع السجائر والاشربة! فيقول:

كانَ الناس يموتون، ولم يتجاوز الأمر عند موتهم الدفن بعد صلاة الجنائز، ثم قبول العزاء على نحوٍ عابر لا افتعال فيه.

وربما كلف جيران الميت باعداد الطعام لأهله، فانَّ مصابهم شغلهم عن إعداده لأنفسهم، لكنَّ مسلمي اليوم رأوا أن يجتمعوا عقب الوفاة في أندية أو سرادقات، يستمعون فيها الى القرآن، ويستقبلونَ فيها الوفود، وتوزع فيها السجائر والأشربة، ويتكلَّف فيها أهل الميت ما يبهظهم.

والجماهير ترى أنَّ قراءة القران في حشدٍ يضم المعزّين لا بدَّ منه، ولكنَّ العلماء

____________________

(١) ابن القيم الجوزية، الروح، ص: ١٠.

(٢) محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، ص: ١٠٣.

٢٧٧

مجمعون على أنَّ الرسول وصحابته لم يفعلوا هذا مَعَ وجود الداعي له وهو الموت، وطلب الثواب، وانتفاء المانع فالأمن مستقر والتجمع سهل.

وما دام الأمر كذلك فالترك سنة، والفعل بدعة»(١) .

ونحن نعجب لصاحب هذهِ الشخصية العلمية كيف ينحى هذهِ الطريقة الخطيرة من التفكير، وكيف يسمح لنفسه نعت مثل هذهِ الأعمال المشروعة بالابتداع، في الوقت الذي لم يُعهد من ممارسي هذهِ الاعراف القول بانَّها ضرورة لا بدَّ منها كما ذكر في كلامه.

وحتى القاعدة التي تم استشهاده بها، والتي كانت تمثل ظفراً علمياً نفيساً بالنسبة اليه، لا تصلح لأن تكون ضابطة لحد الابتداع، إذ ليس المدار في انطباق مفهوم (البدعة) على الاُمور الحادثة هو عدم فعلها في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَعَ وجود الداعي لذلك وارتفاع المانع عنه، على ما صوَّره (الغزالي) في كلامه المتقدم، إذ انَّ هناك خصوصيات أساسية متمِّمة قد أغفلها صاحب القاعدة، ومَن هامَ إعجاباً بها في آن واحد، تلك هي مراعاة طبيعة المجتمع، وعاداته، وأعرافه. ومثل هذا الأمر موكول الى سليقة الناس، وطبائعهم، وتقاليدهم الخاصة، يعبّرون عنه كيف يشاؤون، ويأتون به بالطريقة التي تفرضها ضرورات الحياة، ومتطلبات العصر، وأعراف المجتمع، بشرط أن لا يصطدموا مَعَ خطوط الشريعة الحمراء، ولا ينسبوا العمل بكيفيته التفصيلية الى الشرع المقدس، عندما لا يرد بشأنه دليل خاص، وهذا ما يحصل في هذهِ المجالس والمآتم، فهي تشتمل على الذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن الكريم، وإطعام الطعام، وإكرام الضيف، ومواساة المؤمنين، وتسلية المصاب. وكل هذهِ الامور قضايا مندوبة ومستحبة، ولا توجد أية مساحة للمخالفة الشرعية في عناوينها وتطبيقاتها في هذهِ المجالس.

أضف الى انَّ مقيمي هذهِ المجالس وحضّارها لا يدّعون وجوبها وحتميتها، ولذا نرى أنَّ بعضهم يكتفي بمراسيم التشييع والدفن ليس غير، وأما البعض الآخر فيبذل ما

____________________

(١) محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص: ١٤٣.

٢٧٨

يقدر عليه من برٍّ وإحسان حسب وسعه وطاقته.

فطبيعة المجتمع إذن لها مدخلية في رسم الصورة النهائية لهذا النمط من التعبير العاطفي المسموح به في ثوابت الشريعة، وهو أمر مغروس في نفوس الناس، ومختزن في أعماقهم، غاية الأمر انَّ هناك اختلافاً في طريقة ترجمته على الواقع العملي المعاش، وهذا الاختلاف ينتج عن الاختلاف في أعراف الناس وطبائعهم.

بل ويمكن أن نلتمس من نفس كلام (الغزالي) شاهداً ومؤشراً على كون اُصول هذا العمل كانت موجودةً فيما سبق، إلا انَّها كانت بدرجة محدودة، وبمستوىً ضئيل، يتناسب مَعَ طبيعة المجتمع القائم آنذاك، ونوع الأعراف والتقاليد التي كانت تحكمه وتسوده، لا سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ الناس كانوا جديدي عهدٍ بأحكام الشريعة وتعاليمها وأسرارها، فقد مرَّ معنا انّه يقول: «ثم قبول العزاء بنحوٍ عابرٍ لا افتعال فيه».

ويقول: «وربما كُلِّف جيران الميت باعداد الطعام لأهله».

وفي هذا إشارة الى ما ورد في الأثر:

«ولما جاءَ نعي جعفر بن أبي طالب الى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إصنعوا لآل جعفر طعاماً، فانَّه قد أتاهم ما شغلهم»(١) .

وفي رواية اخرى انَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:

«لا تغفلوا آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاماً فانَّهم قد شُغلوا بأمرِ مصابهم»(٢) .

وهذا يدلل على انَّ جذور هذهِ المراسيم كانت قد بدأت تضرب بجذورها في نفوس المسلمين وطبائعهم، باعتبار استجابتهم لارشادات الشريعة التي توصي بالاهتمام بآل المتوفى من جانب، وتوصي باكرام الضيف وإطعامه والتصدّق عن الموتى بمختلف أعمال البر والمعروف من جانبٍ آخر، ثم أخذت هذهِ الممارسة تقوى وتشتد وتستجيب

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٥، ح: ٤٢٦٣٠، ص: ٦٦٣.

(٢) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٥، ح: ٤٢٦٢٩، ص: ٢٦٢.

٢٧٩

لواقع العصر مَعَ مرور الزمن، الى أن اتصفت بالطابع الذي هي عليه الآن.

وربما ينتقل أحد هؤلاء المسلمين الذين نعتهم (الغزالي) بالابتداع الى أحد البلدان التي لا تسود فيها مثل هذهِ الاعراف، فيبدأ يتكيف مَعَ الجو الجديد، ويقتصر من مجمل هذهِ المراسيم المتعارفة على ما هو سائد ومألوف في ذلك المجتمع.

ولا يحس من نفسه بانّه ترك واجباً، أو يشعر بأنّه ارتكب حراماً!!

فالأمر إذن مرتبط بأعراف الناس ومشاعرهم من ناحية، وبمستجدات الزمن وتطوراته من ناحية اُخرى. هذا بالنسبة الى هيكليته العامة وطابعه الشكلي، وأمّا في واقع تشريعه وانتساب مفرداته الى الدين، فهو مشمول بالأدلة التي أشرنا الى بعضها آنفاً.

هذا ونجد أنَّ (الغزالي) يصرِّح بنفسه في موضع آخر بما يخالف دعواه هذهِ بشكل معلن، ويستدرك الاذعان المطلق الى القاعدة التي ذكرها سابقاً، فيقول:

«ونحن نحترم هذهِ القاعدة مَعَ إضافة وجيزةٍ تشرحها!

هناك أدلة عامة في الدين يجب النزول عندها، بيد أنَّ صورتها تتجدد على اختلاف الليل والنهار، كفعل الخير مثلاً - وهناك أمر به - وكالتواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى، والجهاد بالمال والنفس واللسان. الخ.

إنَّ صور الطاعات هنا تكثر وتتغاير، فهل تدخل في باب الابتداع؟ كلا! لكن ما الضابط الذي نحترز به من البدع؟.

المخوف هو تحويل الصورة التي يقوم بها امرؤ ما الى قانون عام يُحمد فاعلُه، ويُذم تاركه، وكأنّما هو وحي من عند اللّه».

ويضيف:

«سُئلت عن التلاوة الجماعية للقرآن الكريم في بعض مساجد المغرب؟ فقلت: لا آمر بها ولا أنهى عنها، والأحبُّ اليِّ أن أقرأ وحدي، وليس لمن يفعلها أن يشد الناس

٢٨٠