البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 139003
تحميل: 6643

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139003 / تحميل: 6643
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

وذكر (النووي) في شرحه على (صحيح مسلم) ما نصه:

«قوله (فتوفي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمر على ذلك، ثم كانَ الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر) معناه: استمر الأمر هذه المدّة على أنَّ كلَّ واحدٍ يقوم رمضان في بيته منفرداً، حتى انقضى صدر من خلافة عمر، ثم جمعهم عمر على اُبي بن كعب، فصلّى بهم جماعة، واستمر العمل على فعلها جماعة»(١) .

وقال (القسطلاني) في (ارشاد الساري):

«(قال ابن شهاب) الزهري (فتوفي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمر على ذلك)أي: على ترك الجماعة في التراويح، ولغير الكشميهني كما في الفتح: والناس على ذلك (ثم كان الأمر على ذلك) أيضاً (في خلافة أبي بكر) الصدّيق (وصدراً من خلافة عمر) رضي ‌الله‌ عنهما»(٢) .

وقال في موضع آخر:

«(قال عمر): لما رآهم (نعم البدعة هذه)، سماها بدعة لانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسن لهم الاجتماع لها، ولا كانت في زمن الصدّيق، ولا أول الليل، ولا كل ليلة، ولا هذا العدد»(٣) .

____________________

(١) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج: ٣، ص: ٤٠.

(٢) شهاب الدين القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، ج: ٤، ص: ٦٥٥.

(٣) شهاب الدين القسطلاني، إرشاد الساري، ج: ٤، ص: ٦٥٦.

٣٠١

وجاءَ في (الفقه الاسلامي وأدلته) للدكتور الزحيلي عن (ابن عباس) أنَّه قال متحدثاً عن صلاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر رمضان وفي غيره من الشهور:

«كان يصلي في شهر رمضان، في غير جماعة، عشرين ركعة والوتر»(١) .

فقيد (في غير جماعة) في هذا الحديث مؤشر على انَّ النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشرع صلاة (التراويح) ولم يأتِ بها.

وتتحدث (عائشة) عن صلاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر رمضان، فلا نرى في حديثها أية اشارة الى (التراويح) من قريب أو من بعيد، ولو كان النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صلّى هذهِ النافلة، في المسجد أو في أي مكانٍ آخر لما كان يخفى علينا خبر هذهِ الصلاة، ولجاء نقله في كتب الحديث في غاية الوضوح، ولكن لأنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشرع هذهِ الصلاة جاءَ العكس على ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه قائلاً:

«حدثنا اسماعيل قال حدّثني مالك عن سعيد المغبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن انَّه (سأل عائشة رضي ‌الله‌ عنها: كيف كانت صلاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثمَّ يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثم يصلي ثلاثاً.

فقلت: يا رسول اللّه أتنامُ قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة انَّ عيني تنامان، ولا ينام قلبي»(٢) .

فأين هو موضع صلاة (التراويح) من كلِّ ذلك، وأين الاصل المدّعى لها في الدين.

قال تعالى:( وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلِسنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ

____________________

(١) د. وهبة الزحيلي، الفقه الاسلامي وأدلته، ج: ٢، ص: ٤٤، وانظر: نيل الأوطار، ج: ٣، ص: ٥٣.

(٢) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٢، ص: ٢٥٢ - ٢٥٣، وانظر: كنز العمال، ج: ٧، ح: ١٧٩٨٩، ص: ٦٧.

٣٠٢

لِتَفتَروا عَلى اللّهِ الكَذِبَ إِن الَّذينَ يَفتَرُونَ عَلى اللّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحُونَ ) (١) .

قال أبو عبد اللّه الصادقعليه‌السلام :

«صوم شهر رمضان فريضة، والقيام في جماعة في ليلته بدعة، وما صلاها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لياليه بجماعة، ولو كانَ خيراً ما تركه، وقد صلّى في بعض ليالي شهر رمضان وحده، فقام قوم خلفه، فلَّما أحسَّ بهم، دخل بيته، فعل ذلكَ ثلاثَ ليالٍ، فلما أصبحَ بعد ثلاث، صعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:

أيُّها الناس لا تصلّوا النافلة ليلاً في شهر رمضان، ولا في غيره في جماعة فانّها بدعة، ولا تصلوا ضحىً فانّها بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها الى النار، ثم نزل وهو يقول: قليل في سنة خير من كثير في بدعة»(٢) .

وقال الامام موسى الكاظمعليه‌السلام :

«قيام شهر رمضان بدعة، وصيامه مفروض، قال الراوي، فقلت: كيف اُصلّي في شهر رمضان؟ فقال: عشر ركعات والوتر والركعتان قبل الفجر، كذلك كان يصلي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو كان خيراً لم يتركه»(٣) .

ج - (التراويح): أمر مبتدع في وجهة نظر الكثير من علماء العامة

ورد في كثير من أقوال علماء العامة أنَّ عمر هو أول مَن شرع صلاة التراويح، وجمع الناس عليها، وهذا يعني انَّها لم تكن موجودة في عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانَّما هي (بدعة) محدثة، وسوف ننقل للقارئ الكريم طائفة من هذهِ الأقوال:

____________________

(١) النحل: ١١٦.

(٢) أبو جعفر الطوسي، تهذيب الاحكام، ج: ٣، ص: ٦٩، ح: ٢٢٦. وانظر: وسائل الشيعة للحر العاملي، ج: ٥، ص: ١٩٢، ح: ١، وبحار الانوار للمجلسي، ج: ٩٤، ص: ٣٨١، ح: ٤.

(٣) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٩٣، ص: ٣٨٤، ح: ٣.

٣٠٣

«قال العلامة أبو الوليد محمد بن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر في حوادث سنة (٢٣) من تاريخه - روضة المناظر:

هو أول مَن نهى عن بيع اُمهات الأولاد، وجَمَع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز، وأول مَن جَمَع الناس على إمامٍ يصلّي بهم التراويح. الخ.

ولما ذكر السيوطي في كتابه - تاريخ الخلفاء - أوليات عمر نقلاً عن العسكري قال:

هو أول مَن سمي أمير المؤمنين، وأول مَن سنَّ قيام شهر رمضان - بالتراويح - وأول مَن حَّرمَ المتعة، وأول مَن جَمَع الناسَ في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات. الخ.

وقال محمد بن سعد - حيث ترجم عمر في الجزء الثالث من الطبقات:

وهو أول مَن سنَّ قيام شهر رمضان - بالتراويح - وجمعَ الناس على ذلك، وكتب به إلى البلدان، وذلكَ في شهر رمضان سنة أربع عشرة، وجعل للناس بالمدينة قارئَين، قارئاً يصلي التراويح بالرجال، وقارئاً يصلي بالنساء. الخ.

وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر من الاستيعاب:

وهو الذي نوَّرَ شَهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه»(١) .

( فَماذا بَعدَ الحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنّى تُصرَفُونَ ) (٢) .

د - أمير المؤمنينعليه‌السلام ينهي عن صلاة (التراويح)

من المتفق عليه أنَّ أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام هو أعلم الصحابة وأفقههم وأقضاهم بنص من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك، وقد روى علماء العامة في كتبهم بهذا الصدد الكثير من الأحاديث التي تدل على هذا المعنى.

فمن ذلك أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:

____________________

(١) عبد الحسين شرف الدين، النص والاجتهاد، ص: ٢١٣ - ٢١٤.

(٢) يونس: ٣٢.

٣٠٤

«أعلم اُمتي بالسنة والقضاء بعدي عليُّ بن أبي طالب»(١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«أعلم اُمتي من بعدي علي بن أبي طالب»(٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام :

«أنتَ بَيِّن لاُمتي ما اختلفوا فيه بعدي»(٣) .

وعن أنس قال:

«قيل يا رسول اللّه، عمَّن نأخذ العلمَ بعدَكَ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن علي»(٤) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«علي وعاء علمي، ووصيي، وبابي الذي اُوتى منه»(٥) .

وكان جميع الصحابة يقرّون لعليعليه‌السلام بالأعلمية، ويرجعون إليه عندما تشكل عليهم اُمور الدين، ويقبلون حكمه من دون توقف لمعرفتهم بانَّه باب مدينة علم

____________________

(١) حسين علي الشاكري، علي في الكتاب والنسة، ج: ٢، ص: ١٤١، عن الاستيعاب، ج: ٢، ص ٢٩، والرياض النضرة: ج: ٢، ص: ١٩٤، وتفسير النيسابوري في سورة الاحقاف، ومناقب الخوارزمي، ص: ٤٨، وتذكرة الخواص، ص: ٨٧، ومطالب السؤول، ص: ١٢، وفيض القدير، ج: ٤، ص: ٢٥٧، وأخرجه أحمد، والعقيلي، وابن السمّان.

(٢) حسين علي الشاكري، علي في الكتاب والسنة، ج: ٢، ص: ١٤٠، عن الخوارزمي في المناقب، ص: ٤٩، ومقتل الحسين، ج: ١، ص: ٤٢، والمتقي في كنز العمال، ج: ٦، ص: ١٥٢.

(٣) حسين علي الشاكري، علي في الكتاب والسنة، ج: ٢، ص: ١٤٢، عن الحاكم في المستدرك، ج: ٢، ص: ١٢٢، والذهبي في ميزان الاعتدال، ج: ١، ص: ٤٧٢، والقندوزي في ينابيع المودة، ص: ٢٠٣، وانظر لمزيد من الاطلاع على مصادر الحديث إحقاق الحق، ج: ٦، ص: ٥٢ - ٥٥، وج: ١٦، ص: ٤٣٥ و ٤٣٦، وج: ٢٠، ص: ٣١٨ و٣١٦.

(٤) حسين علي الشاكري، علي في الكتاب والسنة، ج: ٢، ص: ١٤٣، عن العلامة قطب الدين شاه في قرة العينين، ص: ٢٣٤.

(٥) حسين علي الشاكري، علي في الكتاب والسنة، ج: ٢، ص: ١٤٠، عن كفاية الطالب، ص: ٧٠ و ٩٢، وشمس الاخبار، ص: ٢٩.

٣٠٥

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووارث حكمته، وقد قال فيه أبو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:

ما كنتُ أحسبُ انَّ الامر منصرف

عن هاشم ثمَّ منها عن أبي حَسَنِ

أليسَ أول مَن صلّى لقبلتكم

وأعلم الناس بالقرآنِ والسننِ

وقد ثبت تأريخياً انَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قد نهى عن صلاة (التراويح)، وزجر الناس عندما ررآهم يؤدّونها، فقد روي أنَّه:

«لمّا اجتمع الناس على أمير المؤمنينعليه‌السلام بالكوفة سألوه أن ينصب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان، فزجرهم، وعرَّفهم انَّ ذلك خلاف السنة، فتركوه، واجتمعوا، وقدَّموا بعضهم، فبعث اليهم الحسنعليه‌السلام ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة، فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا: واعمراه«(١) .

ولنقرأ معاناة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومشاعره التي تجيش بالألم واللوعة، من خلال ما ورد عنه بهذا الشأن:

«قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسولَ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمدين لخلافه، ولو حملتُ الناس على تركها لتفرَّقوا عنّي.

واللّه لقد أمرتُ الناسَ أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم انَّ اجتماعهم في النوافل (بدعة)، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الاسلام غُيِّرت سنة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً، ولقد خفتُ أن يثوروا ناحية جانب عسكري، ما لقيتُ من هذهِ الامة من الفرقة، وطاعة أئمة الضلال، والدعاة إلى النار؟.»(٢) .

فأمير المؤمنينعليه‌السلام ينص هنا على كون الجماعة في نافلة شهر رمضان (بدعة)،

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: ١٢، ص: ٢٨٣، وانظر: التهذيب للشيخ الطوسي، ج: ٣، ص: ٧٠، ح: ٢٢٧، ووسائل الشيعة للحر العاملي، ج: ٥، ص: ١٩٢، ح: ٢.

(٢) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج: ٥، ص: ١٩٣، ح: ٤، وانظر: بحار الانوار للعلامة المجلسي، ج: ٩٣، ص: ٣٨٤، ح: ١.

٣٠٦

وانَّ الجماعة لا تشرع إلا في الفريضة، ونصَّ في صدر هذا الحديث أيضاً على انَّ هذهِ الاُمور قد أصبحت بمثابة السنة الثابتة في نظر عوام الناس على الرغم من أنها لم تشرّع من قبل صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانهعليه‌السلام كان يعاني من تمسك الناس بهذهِ البدع، وتركهم لسنة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنهعليه‌السلام يؤثر السكوت، ويفضّل الغض عن ذلك، خوفاً من وقوع الفتنة بين المسلمين، وحفظاً لمصلحة الاسلام العليا.

ه‍ - التضارب الفاضح في عدد ركعات (التراويح)

على الرغم من الاصرار الكبير لدى البعض للتمسك بمشروعية (التراويح)، والقول بانَّها كانت قائمة في زمن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا انه تركها مخافة أن تفترض على الامة، إلا ان هؤلاء لم يتفقوا على صيغة محددة وواضحة لكيفية هذهِ الصلاة، وعدد ركعاتها، فجاءت أقوالهم متضاربة ومتعارضة بشكل فاضح، الأمر الذي لم يعهده المسلمون في أية فريضة اسلامية اُخرى، فانَّ من الممكن أن تتعدد الأقوال والآراء في بعض المسائل الفرعية من الدين، أما أن يقع مثل هذا النحو من التضارب في أصل العبادات، التي يدّعى انّها منتسبة إلى التشريع وصادرة عنه، فهذا ما لا يصح بحالٍ من الأحوال، وخصوصاً في عبادةٍ مثل الصلاة التي هي أمر توقيفي لا يؤخذ في هيئته وطريقته إلا عن مصدر تشريعي موثوق الصدور، فلننظر إلى هذا التضارب العجيب.

يقول (ابن حجر) في (فتح الباري):

«لم يقع في هذهِ الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها اُبي بن كعب، وقد اختُلف في ذلك، ففي (الموطأ) عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد انَّها إحدى عشرة، ورواه سعيد بن منصور من وجهٍ آخر، وزاد فيه (وكانوا يقرؤن بالمائتين، ويقومون على العصا من طول القيام).

ورواه محمد بن نصر المروزي من طريق محمد بن اسحق، عن محمد بن يوسف،

٣٠٧

فقال: ثلاث عشرة.

ورواه عبد الرزاق من وجهٍ آخر عن محمد بن يوسف فقال: إحدى وعشرين.

وروى مالك من طريق يزيد بن حضيفة، عن السائب بن يزيد: عشرين ركعة، وهذا محمول على غير الوتر.

وعن يزيد بن رومان قال: (كان الناس يقومون في زمان عمر بثلاث وعشرين).

وروى محمد بن نصر من طريق عطاءٍ قال: (أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة، وثلاث ركعات الوتر).

والجمع بين هذهِ الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويُحتمل انَّ ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس.

وبذلك جزم الداودي وغيره، والعدد الأول موافق لحديث عائشة المذكور بعد هذا الحديث في الباب، والثاني قريب منه، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر، وكأنَّه كان تارةً يوتر بواحدةٍ، وتارةً بثلاث.

وروى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس قال: (أدركتُ الناس في إمارة أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز - يعني بالمدينة - يقومون بست وثلاثين ركعة، ويوترون بثلاث، وقال مالك هو الأمر القديم عندنا).

وعن الزعفراني عن الشافعي (رأيت الناس يقومونَ بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق).

وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلّوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحبُّ اليَّ.

وقال الترمذي: أكثر ما قيل فيه انَّها تُصلى إحدى وأربعين ركعة يعني بالوتر - كذا قال -.

وقد نقل ابن عبد البر، عن الاسود بن يزيد: تُصلى أربعين، ويوتر بتسع، وقيل:

٣٠٨

ثمان وثلاثين، وذكره محمد بن نصر عن ابن أيمن عن مالك، وهذا يمكن ردّه إلى الأول بانضمام ثلاث الوتر، ولكن صرَّح في روايته بأنَّه يوتر بواحدة فتكون أربعين إلا واحدة، قال مالك: وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة.

وعن مالك: ست وأربعين وثلاث الوتر، وهذا هو المشهور عنه، وقد رواه ابن وهب، عن العمري، عن نافع، قال: لم اُدرك الناس إلا وهم يصلّون تسعاً وثلاثين يوترون منها بثلاث.

وعن زرارة بن أوفى انَّه كان يصلي بهم بالبصرة أربعاً وثلاثين ويوتر.

وعن سعيد بن جبير: أربعاً وعشرين.

وقيل ست عشر غير الوتر.

وروي عن أبي مجلز عن محمد بن نصر، وأخرج من طريق محمد بن اسحق حدثني محمد بن يوسف، عن جدِّه السائب بن يزيد قال: كنّا نصلّي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة.

قال ابن اسحق: وهذا أثبت ما سمعتُ في ذلك، وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل، واللّه أعلم»(١) !!!

فانظر أيها القارئ أين يؤدي الابتعاد عن الشرع المبين، والى أيّ طريق يوصل.

فهل يمكن للشريعة الاسلامية أن تقع في مثل هذا التضارب والتهاتر؟.

وهل يمكن أن تضطرب تعاليمها إلى هذا المستوى الغريب من التشويش؟!

إنَّ الاسلام لأسمى من أن تَعلُقَ به هذهِ الترهات والأقاويل، وأقدس من أن تُنسب إليه مثل هذهِ السفاسف والأباطيل.

____________________

(١) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج: ٤، ص: ٢٥٣ - ٢٥٤.

٣٠٩

مداخلات

ومن الغريب حقاً ما قامَ به صاحب كتاب (المغني) من محاولات متعسفة لتبرير هذهِ (البدعة) حيث يقول:

«وإذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة، والتشدد في حفظ القرآن، فما الذي يمنع أن يعمل به على وجه أنه مسنون؟»(١) .

فهل انَّ الامر المختلف فيه أمر ذوقي يمكن بشأنه الارجاع إلى حكم العقل البشري القاصر عن إدراك المصالح والمفاسد بأبعادها وتفاصيلها الغائبة عنه؟! على انَّ الادلة الشرعية القاطعة تضافرت على نبذ هذا النمط من الاستدلال الذي يعتمد على العقل والذوق، والردع عن ذلك، باعتبار انَّ دين اللّه لا يُصابُ بالعقول.

وهل هذا إلا تحكيم للرأي الذي يتقاطع مَعَ تعاليم الشرع المبين، ويخالف فلسفة التشريع من الأساس؟

وهل يمكن لنا من خلال إدراك مصلحة معينة في فعلٍ معين من أن نشرّع ذلك العمل، ونعدّه مندوباً؟!

ثم ما أدرانا انَّ الدعاء إلى الصلاة، والتشدد في حفظ القرآن الكريم، يتوقف على الالتزام بمثل هذا العمل، وإضفاء صفة الشرعية عليه؟

ولو كان الأمر كذلك فلماذا لم يكن أصل الائتمام بالنافلة مشروعاً ومندوباً؟ ولماذا هذا التخصيص بنافلة شهر رمضان دون بقية النوافل الاُخرى؟ أليس في بقية النوافل دعاء إلى الصلاة، وتشدد في حفظ القرآن الكريم؟

يقول اللّه عزَّ وجلَّ:( وَما كانَ لِمُؤمِنٍ ولا مُؤمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرسُولُه أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الِخيَرةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً ) (٢) .

____________________

(١) نقله الشريف المرتضى في الشافي في الامامة، ج: ٤، ص: ٢١٧.

(٢) الأحزاب: ٣٦.

٣١٠

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتفق عليه:

«من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ»(١) .

إنَّ هذا الاستدلال لا يعدو أن يكون محاولة يائسة، وخارقة لجميع الاُسس التي اتفق عليها المسلمون بمختلف المذاهب والمشارب.

يقول الدكتور (يوسف القرضاوي) بشأن التوقيف في العبادات:

«قال شيخ الاسلام ابن تيمية: (انَّ تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون اليها في دنياهم، فباستقراء اُصول الشريعة نعلم انَّ العبادات التي أوجبها اللّه، أو أحبَّها، لا يثبت الأمر بها الا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الخطر، فلا الحظر منه إلا ما حظره اللّه سبحانه وتعالى، وذلكَ لأنَّ الأمر والنهي هما شرع اللّه، والعبادة لا بدَّ أن تكون مأموراً بها، فما لم يثبت انَّه مأمور به كيف يحكم عليه بأنَّه محظور).

ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: انَّ الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها الا ما شرعه اللّه، والا دخلنا في معنى قوله تعالى:( أَم لَهُم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُم مّنَ الدينِ ما لَم يَأذَن بِهِ اللّهُ ) (٣) .

فهل غابت كل هذهِ الأدلة عن بال صاحب (المغني) فادّعى ذلكَ غفلةً، أو علم بذلك إلا أنَّه كابر متعسفاً؟!

على أنَّ الأكثر غرابةً من ادّعاء صاحب (المغني) المذكور حول (التراويح)، هو المغالطة التي حاول من خلالها (ابن أبي الحديد المعتزلي) تبرير هذهِ (البدعة)، والانتصار إلى محدثها، حيث يقول:

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١، ح: ١١٠١، ص: ٢١٩.

(٢) الشورى: ٢١.

(٣) د. يوسف القرضاوي، الحلال والحرام في الاسلام، ص: ٣٦.

٣١١

«أليس يجوز للانسان أن يخترع من النوافل صلوات مخصوصة بكيفيات مخصوصة وأعداد ركعات مخصوصة، ولا يكون ذلك مكروهاً ولا حراماً، نحو أن يصلّي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة، ويقرأ في كل ركعة منها سورةً من قصار المفصل! أفيقول أحد انَّ هذا بدعة، لانه لم يرد فيه نص ولا سبق إليه المسلمون من قبل!.».

ثم أضاف مبرراً ل(التراويح) دخولها في دائرة الجواز بزعمه:

«فان قال: هذا يسوغ، فانَّه داخل تحت عموم ما ورد في فضل صلاة النافلة، قيل له: والتراويح جائزة ومسنونة لأنَّها داخلة تحت عموم ما ورد في فضل صلاة الجماعة»(١) .

ولنا على كلام (المعتزلي) هذا ملاحظتان:

أولاً : إنَّ العمل العبادي الذي نعته (ابن أبي الحديد) بالجواز، وادّعى انَّه ليس بمكروه ولا حرام باتفاق الجميع، لا يخلو من نقاش، إذ انَّ هناك خلافاً مستفيضاً بين الفقهاء في انَّه هل يجوز الاتيان بالنوافل على أية هيئة كانت، أو انَّ صلاة النافلة لا بدَّ أن تُراعى فيها الشروط التوقيفية التي ذكرتها الشريعة الاسلامية لها، فالرأي الذي عليه أتباع مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام هو عدم جواز الاتيان بالنافلة التطوعية إلا بصورتها التوقيفية التي رويت عن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، وهي أن تكون ركعتين ركعتين.

قال السيّد (محمد كاظم اليزدي) في (العروة الوثقى):

«يجب الاتيان بالنوافل ركعتين ركعتين»(٢) .

فصلاة النافلة وان كان أصلها عملاً تطوعياً مندوباً، وداخلاً في صميم التشريع، إلا انَّ الاتيان بها بقصد التقرب إلى اللّه جل ثناؤُه لا بدَّ أن تُلحظ فيه المقومات الدخيلة في

____________________

(١) ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج: ١٢، ص: ٢٨٣.

(٢) محمد كاظم اليزدي، العروة الوثقى، ج: ١، ص: ٥١٥، مسألة: ١.

٣١٢

أصل ماهيتها، فمثلاً من شروط إيقاع النافلة أن تكون مَعَ فاتحة الكتاب، وأن يكون المصلّي على طهور، فقد ورد انَّه (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، و(لا صلاة إلا بطهور)، ولا يمكن تعدّي هذهِ الشروط، والاتيان بصلاة النافلة من دون فاتحة الكتاب، أو من دون طهورٍ مثلاً، وهكذا الأمر بالنسبة إلى تحديد ركعات النافلة، إذ لا يمكن على رأي مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام أن يؤتى بها بأية هيئة أو كيفية كانت، وانّما يجب التقيد بالاتيان بها ركعتين ركعتين.

نعم هناك أفعال مرنة ضمن اطار صلاة النافلة نفسها، يمكن للمكلف أن يتحرك في ظلِّها باختياره، كالتحكّم في طبيعة (السورة) التي يقرأها بعد فاتحة الكتاب، أو نوع الدعاء الذي يدعو به، أو كميّة الذكر الذي يأتي به. أو غير ذلك من الاُمور التي أُوكل التصرف فيها إلى نفس المكلَّف، شريطة أن تبقى محتفظة بسمة الشرعية، ومندرجة تحت العموميات الثابت ورودها عن الشريعة المقدسة.

يبقى أمر يجدر التنبيه عليه، وهو أنَّ الخروج من كيفية الركعتين في النافلة لا يتم إلا عن طريق الدليل الشرعي، إذ الأصل هو الركعتان إلا ما خرجَ بالدليل، ومثال ما خرجَ بالدليل ركعة الوتر التي تُختم بها صلاة الليل.

وأما أبناء العامة، فقد اختلفوا في ذلك ايضاً، وان كان أكثرهم على الجواز، إلا انَّ بعضهم نصَّ على انَّ الزيادة على الركعتين أمر مكروه، وبعضهم قصر الزيادة على الأربع. وهكذا.

قال الامام (القدوري الحنفي):

«ونوافل النهار إن شاءَ صلّى ركعتين بتسليمة واحدة، وإن شاءَ أربعاً، وتُكره الزيادة على ذلك، فأمّا نافلة الليل فقال أبو حنيفة: إن صلّى ثمان ركعات بتسليمة واحدةٍ جاز، وتُكره الزيادة على ذلك»(١) .

____________________

(١) اللباب في شرح الكتاب لعبد الغني الحنفي، ج: ١، ص: ٩١ - ٩٢، وانظر: (الفقه الاسلام وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي، ج: ٢، ص: ٥٠.

٣١٣

وقال (أبو يوسف ومحمَّد):

«لا يزيد بالليل على ركعتين بتسليمة واحدة»(١) .

وقال في (المهذَّب):

«والسنة أن يسلّم من كل ركعتين، لما روي عن ابن عمررضي‌الله‌عنه انَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا رأيت انَّ الصبح تداركك فأوتر بواحدة)، وإن جمع ركعات بتلسيمة جاز، لما روت عاشة رضي ‌الله ‌عنها انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، ويوتر من ذلك بخمس، يجلس في الآخرة ويسلِّم، وانَّه أوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهنَّ بسلام)، وإن تطوَّع بركعةٍ جاز لما روي انَّ عمررضي‌الله‌عنه (مرَّ بالمسجد فصلى ركعة فتبعه رجل، فقال يا أمير المؤمنين انَّما صليت ركعة، فقال: انَّما هي تطوع فمن شاء زاد ومَن شاء نقص».

وعقَّب على ذلك (النووي) بالقول:

« في مذاهب العلماء في ذلك: قد ذكرنا انَّه يجوز عندنا أن يجمع ركعات كثيرة من النوافل المطلقة بتسليمة، وانَّ الافضل في صلاة الليل والنهار أن يسلّم من كل ركعتين، وبهذا قال مالك وأحمد وداود وابن المنذر، وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن جبير، وقال أبو حنيفة: التسليم من ركعتين أو أربع في صلاة النهار، سواء في الفضيلة، ولا يزيد على ذلك، وصلاة الليل ركعتان وأربع وست وثمان بتسليمة، ولا يزيد على ثمان، وكان ابن عمر يصلي بالنهار أربعاً، واختاره اسحق»(٢) .

فكيف يمكن أن يُدَّعى بعد كل هذهِ الأقوال والآراء انَّ أحداً لم يقل بكراهة أو حرمة صلاة ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة، كما قال ذلك المعتزلي بشكل قاطع، وأرسله

____________________

(١) اللباب في شرح الكتاب لعبد الغني الحنفي، ج: ١، ص: ٩١ - ٩٢ وانظر: (الفقه الاسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي، ج: ٢، ص: ٥٠.

(٢) أبو زكريا النووي، المجموع من شرح المهذب، ج: ٤، ص: ٤٩ - ٥١.

٣١٤

أرسال المسلَّمات.

وهذا كلّه طبعاً لو جاء المكلّف بالعمل على سبيل القربة المطلقة، ولم ينسبه إلى الشريعة الاسلامية المقدسة، وأما إذا تمت نسبة هذا العمل العبادي المخترع بكيفيته المذكورة والمخصوصة هذهِ إلى الشريعة، وادُّعي انَّه مستفاد منها، وانَّه جزء من تعاليمها، فلا شكَ ولا ريب في كونه عملاً محَّرماً، بل هو من أبرز مصاديق قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ».

وقد مرَّت الاشارة إلى موضوع (قصد التشريع) فيما تقدم، وذكرنا الضابطة التي يتم بموجبها دخول العمل من هذهِ الناحية في الدين أو خروجه عنه.

قال الشيخ (يوسف البحراني) في (الحدائق الناضرة):

«لا ريب في انَّ الصلاة خير موضوع، إلا انه متى اعتقد المكلف في ذلكَ أمراً زائداً على ما دلَّت عليه هذهِ الأدلة من عددٍ مخصوص، وزمانٍ مخصوص، أو كيفية خاصة، ونحو ذلك، مما لم يقم عليه دليل في الشريعة، فانَّه يكون محرَّماً، وتكون عبادته بدعة، والبدعيةليست من حيث الصلاة، وانَّما هي من حيث هذا التوظيف الذي اعتقده في هذا الوقت، والعدد، والكيفية، من غير أن يرد عليه دليل»(١) .

ومن الواضح لدينا انَّه حينما سُنَّت هذهِ الصلاة، واُمر المسلمون بها، وُعيِّن لهم امام خاص يقيمها، واستُحسنَ ذلك بعد ذلك، فانّه لم يُعمد إلى هذا العمل بما هو عمل عام، يأتي به الشخص بنية القربة المطلقة، وامتثال عموميات الادلة التي تحث المسلمين على صلاة النوافل، أو صلاة الجماعة - على الرغم من أننَّا لا نسلم حتى هذا المقدار لما ذكرناه آنفاً - وانَّما الملاحظ انَّه قد اُريد لهذا العمل أن يكون عملاً دورياً وثابتاً، وبهذا فهو مقصود بكيفيته الخاصة، ومنسوب إلى التشريع بما يحمل من مواصفات وخصوصيات معيّنة، وهذا يعني قصد التشريع المنافي والمبطل لاندراجه تحت العموميات المشار اليها في كلام

____________________

(١) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج: ٦، ص: ٨٠.

٣١٥

(ابن أبي الحديد)، لو توافقنا معه جدلاً بشأنها.

وقد حصل هذا الأمر فعلاً، وجيء بهذهِ النافلة تحت عنوان الندب الشرعي، وأخذ بعض المسلمين يتعاهدون هذا العمل دهراً بعد دهر على انَّه سنة ثابتة من صميم التشريع، ولذا رأينا فيما سبق انَّ المصلين الذين نهاهم أمير المؤمنينعليه‌السلام عن أداء هذهِ الصلاة وأوضح لهم انَّها (بدعة)، ومخالفة لحكم اللّه تعالى، وسنة رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اعترضوا عليه ونادوا: واعمراه، ومن بعد ذلك أصروا على مزاولتها، والاقامة عليها.

ثانياً : إنَّ ما يمكن أن تشمله عموميات ما ورد في فضل صلاة الجماعة، والدعوة إلى إقامتها على ما ذكره (المعتزلي) هو خصوص الأمر القابل للاتصاف بهذا العنوان، والذي يمكن بشأنه ذلك، لا الأمر المنهي عنه والخارج عن دائرة الصلوات بشكل عام (إمّا لورود الدليل على عدم صحة الاتيان به، أو لعدم الدليل عليه)، أو الخارج عن دائرة الصلوات التي تُسن فيها صلاة الجماعة، على أحسن التقديرين.

وقد ورد عن الشريعة الاسلامية ثبوت بعض الصلوات المستحبة التي يجوز أن تُصلّى جماعةً بالأصالة أو بالعارض، ولم نرَ فيما بين هذهِ الصلوات صلاةً يُقال لها (التراويح)، على انَّ هناك نهياً عاماً يشمل الصلاة جماعة في النافلة غير ما ذُكر بخصوصه من استثناء.

قال السيّد (محمد كاظم اليزدي) في (العروة الوثقى):

«لا تشرع الجماعة في شيء من النوافل الأصلية وإن وجبت بالعارض بنذرٍ أو نحوه، حتى صلاة الغدير على الأقوى، إلا في صلاة الاستسقاء، نعم لا بأس بها فيما صارَ نفلاً بالعارض، كصلاة العيدين، مَعَ عدم اجتماع شرائط الوجوب، والصلاة المعادة جماعةً، والفريضة المتبرّع بها عن الغير، والمأتي بها من جهة الاحتياط الاستحبابي»(١) .

____________________

(١) محمد كاظم اليزدي، العروة الوثقى، ج: ١، ص: ٧٦٤ - ٧٦٥، مسألة: ٢.

٣١٦

٢ - النداء الثاني يوم الجمعة

من أمثلة (الابتداع) الاخرى التي لا أصل لها في الدين، ولم تأمر بها الشريعة الاسلامية المقدسة هو النداء الثاني يوم الجمعة، فقد روى علماء العامة ومحدثوهم في مصادرهم المعتبرة انَّ هذا الأذان لم يكن موجوداً على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانَّ (عثمان بن عفان) هو الذي استحدثه من تلقاء نفسه من دون سابق مثال، ولا شكَّ في انَّ هذا المقدار كافٍ لانطباق تعريف (الابتداع) عليه.

جاء في صحيح البخاري:

«كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الامام على المنبر على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبي بكر وعمر رضي ‌الله ‌عنهما، فلما كان عثمانرضي‌الله‌عنه ، وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء»(١) .

وورد في (سنن ابن ماجة):

«ما كان لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا مؤذن واحد، إذا خرج أذَّن، وإذا نزلَ أقام، وأبو بكر وعمر كذلك، فلما كان عثمان، وكثر الناس، زاد النداء الثالث على دارٍ في السوق يُقال لها الزوراء»(٢) .

وورد في (سنن النسائي):

«انَّما أمَرَ بالتأذين الثالث عثمان حين كثر أهل المدينة، ولم يكن لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مؤذن واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الامام»(٣) .

____________________

(١) البخاري، صحيح البخاري، ج: ١، ص: ٢١٩، باب: الاذان يوم الجمعة، وعنه: مصابيح السنة للبغوي، ج: ١، ص: ٤٧٥، ح: ٩٨٤.

(٢) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ج: ١، ح: ١١٣٥، ص: ٣٥٩.

(٣) النسائي، سنن النسائي بشرح السيوطي، ج: ٣، ص: ١٠٠ - ١٠١.

٣١٧

وفيه أيضاً:

«كان بلال يؤذن إذا جلس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر يوم الجمعة، فإذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي ‌الله ‌عنهما»(١) .

وفي (مجمع البيان) للعلامة (الطبرسي):

«عن السائب بن يزيد قال: كان لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤذن واحد بلال، فكان إذا جلس على المنبر أذَّن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، وكان أبو بكر وعمر كذلك، حتى إذا كانَ عثمان، وكثر الناس، وتباعدت المنازل، زاد أذاناً، فأمر بالتأذين الأول على سطحِ دارٍ له بالسوق يُقال لها: الزوراء، وكان يُؤذَّن له عليها، فإذا جلس عثمان على المنبر أَذَّنَ مؤذنه، فإذا نزل أقام للصلاة»(٢) .

ففي هذهِ النصوص دلالة صريحة على انَّ هذا النداء انَّما كان محض ابتداع، ولم يكن له أيُّ أثر في حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يرد به الأمر من قبل الشريعة، لا بالدليل العام، ولا بالدليل الخاص، فهو وارد إلى الدين - إذن - من خارج حياطه وحدوده، وبهذا فقد اُدخل في الدين ما ليس منه، وهذا حدّ (الابتداع) كما هو واضح.

ويؤيد هذا المعنى ما نقله العامة في كتبهم عن (ابن عمر) انه قال صريحاً:

«الأذان الأول يوم الجمعة بدعة»(٣) .

وممن نصَّ على عدم وجود هذا الأذان في عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ابن تيمية) حيث يقول في فتاواه:

«أما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانَّه لم يكن يصلّي قبل الجمعة بعد الأذان شيئاً، ولا نقل هذا عنه أحد، فانَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يؤذَّن على عهده إلا إذا قَعَد على المنبر، ويؤذِّن بلال، ثمَّ

____________________

(١) النسائي، سنن النسائي بشرح السيوطي، ج: ٣، ص: ١٠٠ - ١٠١.

(٢) الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان، ج: ١٠، ص: ٣٦٦ - ٣٦٧.

(٣) الشوكاني، نيل الاوطار من أحاديث سيد الاخيار، ج: ٣، ص: ١٠٠ - ١٠١، وانظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج: ٢، ص: ٣٩٤.

٣١٨

يخطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخطبتين، ثم يقيم بلال، فيصلّي بالناس»(١) .

ومن الملاحظ انَّ هذا النداء المبتدع تارة يسمى ب(الأذان الثالث)، واُخرى ب(الأذان الثاني)، وثالثة ب(الأذان الأول)، وكل هذهِ المصطحات تشير إليه، وتعبّر عنه من لحاظٍ معيَّن، فقد سُمي ثالثاً باعتبار إضافته إلى الأذان والاقامة المعهودين في الصلاة من باب إطلاق اسم الأذان على الاقامةِ تغليبياً، وسُمي ثانياً باعتبار الأذان الحقيقي لا الاقامة، فهو ثانٍ إلى الأذان الحقيقي، وسُمي أوّلاً باعتبار أنَّه يؤذَّن به قبل الأذان والاقامة.

ومن خلال النظر في النصوص المتقدمة يظهر انَّ المدافعين عن هذهِ (البدعة) حاولوا أن يوجهوها بالكثرة السكانية الحاصلة في المدينة في عهد عثمان على ما يُدَّعى، لأنَّهم لم يجدوا مبرراً مشروعاً لها غير ذلك على حدِّ زعمهم، وهذا وحده كافٍ للدلالة على عدم ارتباط هذا النداء بالدين كما هو واضح.

ولكنَّ الطريف انَّ هؤلاء المدافعين قد أخفقوا حتى في هذا التبرير والتوجيه المزعوم، ولم يحسنوا تمرير المغالطة التي موَّهوا بها هذا الأمر، وأضفوا عليه طابع الشرعية الزائف.

على أنَّ الذي ينبغي أن يلتفت إليه قارئنا الكريم هو انَّ هذا التبرير سواء أصحَّ أم لم يصح فهو لا يشفع في إخراج هذا الأمر الحادث عن دائرة (الابتداع)، لانه شُرِّع في مقابل السنة الالهية الثابتة بالنصوص الصريحة التي لا تقبل التلاعب والتغيير بأي حال كان.

فسواء برَّر هؤلاء تشريع النداء المحدث بالكثرة السكانية أو بغيرها من التبريرات، فانَّ النداء يبقى مطبوعاً بالابتداع من دون ترديد.

أما لماذا أحفق هؤلاء في توجيه هذه (البدعة)، والقول بأنَّها شرعت لتلافي

____________________

(١) ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، ج: ١، ص: ١٥٠.

٣١٩

الكثرة السكانية الحاصلة في المدينة آنذاك، فللاُمور التالية:

أولاً : انَّنا لو سلمنا انّ الكثرة كانت حاصلة في أهل المدينة آنذاك وانَّ الضرورة كانت تدعو لاستيفاء كثرة المسلمين هذه بالنداء، وتغطية عددهم المتزايد، فانَّ هذا الأمر يدعو لان يناقض الحديث نفسه، ويقع في التهافت والاضطراب، إذ انَّ النداء الجديد كان يؤتى به على موضعٍ يُقال له (الزوراء)، وقد فُسرت (الزوراء) بمعانٍ ومواضع متعددة، لا تبتعد في جميع معاينها المذكورة بمسافة كبيرة عن المسجد النبوي، وهذا مما لا يفي بالغرض المذكور من دون ريب، إذ ينبغي أن يكون هذا النداء بفرض صحة الفلسفة من تشريعه، (وإن كان هذا الأمر لا يصح إلا من قبل صاحب الشريعة) في موضع بعيد عن المسجد ليسُمعَ مَن لا يسمع الأذان الشرعي، لا أن يكون الأذانان في دائرة سمعية واحدة!

فقد ذكر (الحموي) في (معجم البلدان):

«انَّ الزوراء: موضع عند سوق المدينة قرب المسجد. وقيل بل الزوراء سوقُ المدينة نفسه، ومنه حديث ابن عباسرضي‌الله‌عنه ، انه سمع صياح أهل الزوراء»(١) .

وجاءَ في كلٍّ من (القاموس) و(تاج العروس) انَّ الزوراء بالمدينة قرب المسجد(٢) .

وجاءَ في (فتح الباري):

«وجزمَ ابنُ بطّال بأنَّه - أي الزوراء - حجر كبير عند باب المسجد، وفيه نظر لما في رواية ابن اسحق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجة بلفظ (زادَ النداء الثالثَ على دارٍ في السوق يُقال لها الزوراء)، وفي روايته عند الطبراني: (فأمرَ بالنداءِ الأول على دارٍ له يُقال لها الزوراء، فكان يؤذَّن له عليها، فإذا جلسَ على المنبر أذَّنَ مؤذنُه الأوَّل، فإذا

____________________

(١) ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج: ٣، ص: ١٥٦.

(٢) النظر القاموس المحيط للفيروزآبادي، ج: ٢، ص: ٤٢، وتاج العروس للحنفي، المجلد الثالث، ص: ٣٤٦.

٣٢٠