البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 137291
تحميل: 6418

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137291 / تحميل: 6418
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

«من قدرتي»(١) .

١٥ - قوله تعالى:( فَلمّا أَسَفُونا انتَقَمنا مِنهُم ) (٢) .

ورد عن أبي عبد اللّه عليه في الآية الكريمة انَّه قال:

«انَّ اللّه تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا، ولكنّه خلقَ أولياء لنفسه يأسفون ويرضون، وهم مخلوقونَ مدبَّرون، فجعل رضاهم لنفسه رضى، وسخطهم لنفسه سخطاً، وذلكَ لانّه جعلهم الدعاة إليه، والأولاد عليه، فلذلكَ صاروا كذلك، وليس انّ ذلك يصل إلى اللّه كما يصل إلى خلقه، ولكنَّ هذا المعنى ما قال من ذلك، وقد قال أيضاً: (مَن أهان لي وليّاً فقد بازرني بالمحاربة ودعاني اليها)، وقال أيضاً:( مَن يُطِعِ الرَّسولَ فَقَد أَطاعَ اللّه ) (٣) ، وقال أيضاً:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايعونَكَ إِنَّما يُبايعُونَ اللّهَ ) (٤) ، وكل هذا وشبهه على ما ذكرتُ لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الاشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلى المكوِّن الاسفُ والضجرُ وهو الذي أحدثهما وأنشأهما، لجاز لقائل أن يقول: إنَّ المكِّون يبيدُ يوماً مّا، لأنَّه إذا داخلَه الضجر والغضب دخله التغيير، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الابادة، ولو كان ذلك كذلك لم يُعرف المكوِّن من المكوَّن، ولا القادر من المقدور، ولا الخالق من المخلوق، تعالى اللّه عن هذا القول علوّاً كبيراً، هو الخالق للاشياء لا لحاجةٍ، فإذا كان لا لحاجةٍ استحال الحدّ والكيف فيه، فافهم ذلك إن شاء اللّه»(٥) .

١٦ - قوله تعالى:( وَهُوَ الّذِي في السَّماءِ إِلهٌ وَفي الأرضِ إِلهٌ ) (٦) .

____________________

(١) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ٢٧، ح: ٥، ص: ١٧٢.

(٢) الزخرف: ٥٥.

(٣) النساء: ٨٠.

(٤) الفتح: ١٠.

(٥) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ٢٦، ح: ٢، ص: ١٦٨ - ١٦٩.

(٦) الزخرف: ٨٤.

٥٠١

روي عن هشام بن الحكم انَّه قال: قال أبو شاكر الديصاني:

- إنَّ في القرآن آيةً هي قوة لنا، قلت:

- وما هي؟ فقال:

-( وَهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِلهٌ وَفي الأَرضِ إِلهٌ ) .

فلم أدرِ بما اُجيبه، فحججتُ، فخبّرت أبا عبد اللّهعليه‌السلام فقال:

- «هذا كلام زنديق خبيث، إذا رجعتَ إليه فقل: ما اسمكَ بالكوفة، فانّه يقول فلان، فقل: ما اسمكَ بالبصرة، فانَّه يقول: فلان، فقل: كذلكَ اللّه ربُّنا في السماء إله، وفي الأرضِ إله، وفي البحارِ إله، وفي كلَّ مكانٍ إله.

قال: فقدمتُ، فأتيتُ أبا شاكر، فأخبرتُه فقال:

- هذهِ نُقلت من الحجاز»(١) !!

١٧ - قوله تعالى:( سَخِرَ اللّهُ مِنهُم ) (٢) وقوله:( اللّهُ يَستَهزئُ بِهِم ) (٣) . وقوله:( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيرُ الماكِرينَ ) (٤) وقوله:( يُخادِعونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُم ) (٥) .

جاءَ عن علي بن الحسن بن علي بن فضّال عن أبيه قال: سألتُ الرضا علي بن موسىعليه‌السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ:( سَخِرَ اللّهُ مِنهُم ) وعن قول اللّه عزّ وجلّ:( اللّهُ يَستَهزئُ بِهِم ) وعن قوله:( وَمَكرُوا وَمَكرَ اللّهُ ) وعن قوله:( يُخادِعونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُم ) ، فقالعليه‌السلام :

«انَّ اللّه تباركَ وتعالى لا يسخر ولا يستهزئ، ولا يمكرُ ولا يخادعُ، ولكنَّه

____________________

(١) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ٩، ح: ١٦، ص: ١٣٣.

(٢) التوبة: ٧٩.

(٣) البقرة: ١٥.

(٤) آل عمران: ٥٤.

(٥) النساء: ١٤٢.

٥٠٢

عزّ وجلّ يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء، وجزاء المكر والخديعة، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمونَ علوّاً كبيراً».

٤ - تأويل ظواهر الاحاديث الدالّة على التشبيه والتجسيم

١ - عن الحسين بن خالد قال: «قلتُ للرضاعليه‌السلام :

- إنَّ الناس يروون أنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنَّ اللّه خلق آدم على صورته فقالعليه‌السلام :

«قاتلهم اللّه، لقد حذفوا أوَّل الحديث، إنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرَّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبَّح اللّه وجهكَ ووجهَ من يشبهكَ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عبدَ اللّه لا تقل هذا لأخيكَ، فانَّ اللّه عزّ وجلّ خلقَ آدَم على صورته»(٢) .

٢ - وعن ابراهيم بن أبي محمود قال: قلتُ للرضاعليه‌السلام :

- يا ابنَ رسول اللّه! ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنَّ اللّه تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا»، فقالعليه‌السلام : «لعن اللّه المحرّفين الكلم عن مواضعه، واللّهِ ما قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك انّما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّ اللّه تبارك وتعالى يُنزل ملكاً إلى السماء كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل، فيأمره فينادي: هل من سائل فاعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، يا طالب الشرّ أقصر! فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عادَ إلى محلِّه من ملكوت السماء، حدّثني بذلك أبي عن جدّي، عن آبائه، عن

____________________

(١) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ٢١، ح: ١، ص: ١٦٣.

(٢) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ١٢، ح: ١١، ص: ١٥٣.

٥٠٣

رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(١) .

٣ - ومن الحوار الذي جرى بين أبي قرّة المحدّث صاحب شبرمة وبين الامام الرضاعليه‌السلام ، انَّه قال له:

«أفتكذب بالرواية: (إنَّ اللّه إذا غضب انَّما يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش، يجدونَ ثقله على كواهلهم، فيخرّونَ سجّداً، فإذا ذهبَ الغضب، خفَّ فرجعوا إلى مواقفهم)؟ فقال أبو الحسنعليه‌السلام :

- «أخبرني عن اللّه تبارك وتعالى منذ لعنَ إبليس إلى يومكَ هذا وإلى يوم القيامة غضبان هو على إبليس وأوليائه، أو راضٍ عنهم؟ فقال:

- نعم هو غضبان. قالعليه‌السلام :

- فمتى رضي فخفَّ، وهو في صفتكَ لم يزل غضباناً عليه وعلى أتباعه؟

ثم قالعليه‌السلام :

- ويحكَ! كيف تجترئ أن تصفَ ربَّكَ بالتغيّر من حالٍ إلى حال، وانَّه يجري عليه ما يجري على المخلوقين؟! سبحانه لم يزل مَعَ الزائلين، ولم يتغيّر مَعَ المتغيّرين»(٢) .

٤ - روي عن عبد السلام بن صالح الهروي انّه قال: قلتُ لعلي بن موسى الرضاعليه‌السلام :

- «يا ابن رسول اللّه، ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث انِّ المؤمنين يزورون ربَّهم من منازلهم في الجنّة؟ فقالعليه‌السلام :

- يا أبا الصّلت انّ اللّه تبارك وتعالى فضَّل نبيَّه محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جميع خلقه من

____________________

(١) أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، ج: ٢، رقم: ٢٩٣، ص: ٣٨٦.

(٢) أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، ج: ٢، رقم: ٢٨٥، ص: ٣٧٩.

٥٠٤

النبيين والملائكة، وجَعَل طاعته طاعتَه، ومتابعته متابعتَه، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارتَه، فقال عزّ وجلّ:( مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطاعَ اللّهَ ) (١) ، وقال:( إِنَّ الَّذِينَ يبُايعونَكَ إِنَّما يُبايعونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوق أَيديهِم ) (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (مَن زارني في حياتي أو بعدَ موتي فقد زارَ اللّه)، درجةُ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره إلى درجته في الجنة من منزلِه، فقد زارَ اللّه تبارك وتعالى.

قال أبو الصلت: فقلتُ له:

- يا ابن رسول اللّه، فما معنى الخبر الذي رووه انَّ ثواب لا اله إلا اللّه النظر إلى وجه اللّه؟ فقالعليه‌السلام :

-يا أبا الصلت، مَن وصفَ اللّه بوجهٍ كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه اللّه أنبياؤُه ورسله وحججه صلوات اللهِ عليهم، هم الذين بهم يتوجّه إلي اللّه وإلى دينه ومعرفته، وقال اللّه عزّ وجلّ:( كُلُّ مَن عَلَيها فانٍ* وَيَبقى وَجهُ رَبِّكَ ) (٣) ، وقال عزّ وجلّ:( كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلا وَجهَهُ ) (٤) ، فالنظر إلى أنبياء اللّهِ ورسله وحججهعليهم‌السلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (مَن أبغضَ أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة)، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (انَّ فيكم مَن لا يراني بعد أن يفارقني)، يا أبا الصلت، إنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا تدركه الأبصار والأوهام»(٥) .

____________________

(١) النساء: ٨٠.

(٢) الفتح: ١٠.

(٣) الرحمن: ٢٦ - ٢٧.

(٤) القصص، ٨٨.

(٥) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ٨، ح: ٢١، ص: ١١٧ - ١١٨.

٥٠٥

٥ - وروي عن صفوان بن يحيى انَّه قال:

«سألني أبو قرّة المحدّث أن اُدخله على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، فاستأذنته في ذلكَ فأذن لي، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤالُه التوحيد، فقال ابو قرّة:

- إنّا روينا أنَّ اللّه عزّ وجلَّ قسَّم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسم لموسىعليه‌السلام الكلام، ولمحمدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرؤية، فقال أبو الحسنعليه‌السلام :

-فمن المبلّغ عن اللّه عزّ وجلّ إلى الثقلين الجن والانس:( لا تُدرِكُهُ الأَبصارُ وَهُو يُدرِكُ الأَبصارَ ) (١) ،( وَلا يُحيطونَ بِهِ عِلماً ) (٢) ،( لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ ) (٣) ، أليس محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال:

- بلى، قالعليه‌السلام :

- فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم انَّه جاءَ من عند اللّه وانَّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه، ويقول:( لا تدركه الابصار وهو يدرك الأبصار ) ،( ولا يحيطون به علماً ) ،( وليس كمثله شيء ) ، ثم يقول: أنا رأيتُه بعيني، لو عرفوك لوصفوكَ بما وصفتَ به نفسَكَ، سبحانَكَ كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبّهوك بغيرك، إلهي لا أصفُكَ إلا بما وصفتَ به نفسَكَ، ولا اشبّهكَ بخلقكَ، أنت أهل لكلّ خير فلا تجعلني من القوم الظالمين.

ثم التفتَ الينا فقالعليه‌السلام :

- ما توهمتم من شيء فتوهموا اللّه غيره، ثم قالعليه‌السلام :

- نحن آل محمد النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي، ولا يسبقنا التالي، يا محمَّد!

____________________

(١) الانعام: ١٠٣.

(٢) طه: ١١٠.

(٣) الشورى: ١١.

٥٠٦

إن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينَ نظر إلى عظمة ربِّه كان في هيئة الشاب الموفق وسنّ أبناء ثلاثينَ سنة، يا محمد! عظُم ربّي وجلَّ أن يكونَ في صفة المخلوقين.»(١) .

٦ - وعن إبراهيم بن محمد الخزّاز، ومحمد بن الحسين قالا:

«دخلنا على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، فحكينا له ما روي أنَّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربَّه في هيئة الشاب الموفقِ في سنّ أبناء ثلاثينَ سنةً رجلاه في خضرةٍ، وقلت: إنَّ هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: انَّه أجوف إلى السّرة والباقي صمد.

فخرَّعليه‌السلام ساجداً، ثم قال:

- سبحانَكَ ما عرفوكَ ولا وحّدوك فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانَكَ وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن اللّه بشيء، ثم يأتي بخلافه من وجهٍ آخر!!

قال أبو قرّة:

- فانه يقول:( وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرى ) (٢) ؟ فقال أبو الحسنعليه‌السلام :

- إنَّ بعدَ هذهِ الآية ما يدلّ على ما رأى، حيث قال:( ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى ) (٣) يقول: ما كذب فؤاد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال:( لَقَد رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبرى ) (٤) ، فآيات اللّه عزّ وجلّ غير اللّه، وقد قال:( ولا يحيطونَ به علماً ) ، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم، ووقعت المعرفة.

____________________

(١) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ١٨، ح: ١٣، ١١٣.

(٢) النجم: ١٣.

(٣) النجم: ١١.

(٤) النجم: ١٨.

٥٠٧

فقال أبو قرّة:

- فتكذِّب بالروايات؟! فقال أبو الحسنعليه‌السلام :

إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كَذَّبت بها، وما أجمع المسلمون عليه انَّه لا يُحاط به علم، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء»(١) .

____________________

(١) أبو جعفر الصدوق، التوحيد، باب: ١٨، ح: ٩، ص: ١١١ - ١١٢.

٥٠٨

التصوف والرهبنة

١ - من كلامٍ لأمير المؤمنينعليه‌السلام وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي - وهو من أصحابه - يعوده، فلمّا رأى سعة داره قال:

« - ما كنتَ تصنع بسعة هذهِ الدار في الدنيا، وأنتَ اليها في الآخرة كنتَ أحوج؟ وبلى إن شئتَ بلغتَ بها الآخرة، تَقري فيها الضيف، وتصل فيها الرّحم، وتُطلع منها الحقوق مطالعَها، فإذا أنتَ قد بلغتَ بها الآخرة.

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو اليكَ أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟

قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا، قال: عليَّ به.

فلما جاءَ قالعليه‌السلام :

- يا عديَّ نفسه! لقد استهامَ بكَ الخبيث! أما رحمتَ أهلك وولدك! أترى اللّه أحلّ لكَ الطيّبات، وهو يكره أن تأخذها! أنت أهون على اللّه من ذلك!

قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنتَ في خشونة ملبسكَ وجشوبة مأكلك!

قال: ويحكَ، إنّي لست كأنت، إنَّ اللّه تعالى فرضَ على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضَعفة الناس، كيلا يتبيَّغ(١) بالفقير فقرُه»(٢) .

٢ - «دخَل سفيان الثوري على أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فرأى عليه ثيابَ بياض كأنَّها غرقئ(٣) البيض، فقال له:

- إنَّ هذا اللباس ليس من لباسك، فقال لهعليه‌السلام :

- اسمع منّي وعِ ما أقول لكَ، فانَّه خير لكَ عاجلاً وآجلاً، إن أنتَ متَّ على السنّة

____________________

(١) يتبيَّغ: يهيج به الالم فيهلكه.

(٢) نهج البلاغة: الكلام / ٢٠٩.

(٣) الغرقئ: كزبرج - القشرة الملتزقة ببياض البيض.

٥٠٩

والحق، ولم تمت على بدعة.

اُخبرُكَ أنَّ رسول اللّه كانَ في زمان مقفر جدب(١) ، فإذا أقبلت الدنيا فأحقُّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها، ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفّارها، فما أنكرتَ يا ثوري؟ فواللّهِ إنّي لمعَ ما ترى ما أتى عليَّ مذ عقلتُ صباح ولا مساء وللّه في مالي حقّ أمرني أن أضعه موضعاً الا وضعته.

قال: فأتاهعليه‌السلام قوم ممن يظهرون الزُّهد، ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف، فقالوا له:

- إنَّ صاحبنا حصر(٢) عن كلامك، ولم تحضره حجّة، فقال لهمعليه‌السلام :

- فهاتوا حججكم، فقالوا:

- إنَّ حججنا من كتابِ اللّه، فقال لهمعليه‌السلام :

- فأدلوا بها، فانَّها أحق ما اتُّبع وعُمل به، فقالوا:

- يقول اللّه تبارك وتعالى مخبراً عن قومٍ من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَيُؤثِرونَ عَلى أنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأولئِكَ هُمُ المُفلِحونِ ) (٣) فمدحَ فعلهم، وقال في موضعٍ آخر:( وَيُطعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسكِيناً وَيَتيماً وَأَسيراً ) (٤) ، فنحن نكتفي بهذا.

فقال رجل من الجلساء:

- إنّا رأيناكم تزهدون في الاطعمة الطيبة، ومَعَ ذلكَ تأمرونَ الناس بالخروج من أموالهم حتى تتمتعوا أنتم منها؟ فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام :

- دعوا عنكم ما لا تنتفعونَ به، أخبروني أيّها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من

____________________

(١) القفر، خلو الارض من الماء، والجدب: انقطاع المطر ويبس الارض.

(٢) الحصر: العي في المنطق. والعجز عن الكلام.

(٣) الحشر: ٩.

(٤) الدهر: ٨.

٥١٠

منسوخه، ومحكمه من متشابهه، الذي في مثله ضلَّ مَن ضلَّ، وهلكَ مَن هلك من هذهِ الامّة؟ فقالوا له:

- أو بعضه، فأمّا كلَّه فلا، فقال لهمعليه‌السلام :

- فمن هنا اُتيتُم(١) ، وكذلك أحاديث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، فأمّا ما ذكرتم من إخبار اللّه عزّ وجلّ إيّانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم فقد كانَ مباحاً جائزاً، ولم يكونوا نهوا عنه، وثوابهم منه على اللّه عزّ وجلّ، وذلكَ أنَّ اللّه جلَّ وتقدَّس أمَرَ بخلاف ما عملوا به فصارَ أمرُه ناسخاً لفعلهم، وكان نهي اللّه تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين ونظراً لكي لا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم، منهم الضعفة، والصغار، والولدان والشيخ الفاني، والعجوزة الكبيرة، الذين لا يصبرون على الجوع، فان تصدَّقت برغيفي ولا رغيف لي غيره، ضاعوا وهلكوا جوعاً.

فمن ثم قال رسول اللّه صلى الّه عليه وآله وسلم: خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير، أو دراهم يملكها الانسان، وهو يريد أن يمضيها، فأفضلها ما أنفقه الانسان على والديه، ثم الثانية على نفسه وعياله، ثم الثالثة على قرابته الفقراء، ثم الرابعة على جيرانه الفقراء، ثم الخامسة في سبيل اللّه وهو أخسّها أجراً.

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للانصاري حيث أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق، ولم يكن يملك غيرهم، وله أولاد صغار: لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مَعَ المسلمين، يتركَ صبيةً صغاراً يتكففونَ الناس.

ثم قالعليه‌السلام : حدثني أبي أنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إبدأ بمن تعول الأدنى فالأدنى. ثمَّ هذا ما نطق به الكتاب ردّاً لقولكم ونهياً عنه، مفروضاً من اللّه العزيز الحكيم، قال:( وَالَّذِينَ إذا أَنفَقُوا لَم يُسرِفوا وَلَم يَقتُرُوا وَكانَ بَينَ ذلكَ قَواماً ) (٣) أفلا ترون أنَّ اللّه

____________________

(١) اُتيتُم: أي دخل عليكم البلاء.

(٢) أي فيها أيضاً ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه.

(٣) الفرقان: ٦٧.

٥١١

تبارك وتعالى قال غير ما أراكم تدعون الناس إليه من الاثرة على أنفسهم، وسمّى مَن فَعَل ما تدعونَ الناس إليه مسرفاً؟

وفي غير آية من كتاب اللّه يقول:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسرِفِينَ ) فنهاهم عن الاسراف، ونهاهم عن التقتير، لكن أمر بين أمرين: لا يعطي جميع ما عنده، ثمَّ يدعو اللّه أن يرزقه فلا يستجيب له، للحديث الذي جاءَ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (انَّ أصنافاً من اُمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمالٍ فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل اللّه عزَّ وجلَّ تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في بيته يقول: ربِّ ارزقني ولا يخرج ولا يطلب الرزق، فيقول اللّه جلَّ وعزّ له: عبدي! ألم أجعل لكَ السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة؟ فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكيلا تكون كلاً على أهلك، فان شئت رزقتك، وإن شئت قتَّرت عليك، وأنت غير معذور عندي، ورجل رزقه اللّه مالاً كثيراً فأنفقه، ثم أقبل يدعو يا ربِّ ارزقني، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ ألم اُرزقك رزقاً واسعاً؟ فهّلا اقتصدت فيه كما أمرتُك، ولم تُسرف وقد نهيتك (عن الاسراف)، ورجل يدعو في قطيعة رحم.

ثمَّ علَّم اللّهُ عزَّ وجلَّ نبيَّه كيف ينفق، وذلكَ، انَّه كان عنده اُوقية من الذهب، فكره أن يبيت عنده، فصدَّق فأصبح وليس عنده شيء، وجاءَه مَن يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامَه السائل، واغتمَّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيماً رفيقاً، فأدَّبَ اللّهُ نبيَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره فقال:( وَلا تَجعَل يَدَكَ مَغلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبسُطها كُلَّ البسطِ فَتَقعُدَ مَلُوماً مَّحسُوراً ) (٢) ، يقول: إنَّ الناس قد يسألونَكَ ولا يعذرونَكَ، فاذا أعطيت جميع ما عندكَ كنتَ قد حسرت من المال.

____________________

(١) الانعام: ١٤١، الاعراف: ٣١.

(٢) الاسراء: ٢٩.

٥١٢

فهذهِ أحاديث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصدّقها الكتاب، والكتاب يصدِّقه أهلُه من المؤمنين، وقال أبو بكر عند موته: اوصي بالخمس، والخمس كثير، فانَّ اللّه قد رضي بالخمس فأوصى بالخمس، وقد جعل اللّه عزّ وجلّ له الثلث عند موته، ولو علم انَّ الثلث خير له أوصى به.

ثمَّ مَن قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي ‌الله‌ عنهما، فامّا سلمان فكان إذا أخذَ عطاءَه رفع منه قوته لسنته، حتى يحضر عطاؤُه من قابل، فقيل له: يا أبا عبد اللّه، أنت في زهدكَ تصنعُ هذا؟ وأنت لا تدري لعلَّكَ تموت اليوم أو غداً، فكان جوابه أن قال: ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليَّ الفناء، أما علمتم يا جهلة انَّ النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنَّت.

وأمّا أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات، يحلبها، ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، أو نزل به ضيف، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة، نحر لهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم قرم اللحم(١) فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم، ومَن أزهد من هؤلاء؟ وقد قال فيهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال، ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئاً البتة، كما تأمرون الناس بالقاء أمتعتهم وشيئهم، ويؤثرونَ به على أنفسهم وعيالاتهم.

واعلموا أيها النفر أنّي سمعتُ أبي يروي عن آبائهعليهم‌السلام أنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوماً: (ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن، انّه إن قرَّض جسده في دار الدنيا بالمقاريض، كان خيراً له، وان ملك ما بين مشارق الارض ومغاربها كان خيراً له، وكلّ ما يصنع اللّه عزّ وجلّ به فهو خير له)، فليتَ شعري هل يحيق فيكم اليوم ما قد شرحت لكم منذ اليوم أم أزيدكم؟

____________________

(١) قرم اللحم: شهوة اللحم.

٥١٣

أما علمتم أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ قد فرض على المؤمنين في أول الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين، ليس له أن يولّي وجهه عنهم، ومَن ولاهم يومئذٍ دبره فقد تبوّءَ مقعده من النار، ثمَّ حوَّلهم عن حالهم رحمةً منه لهم، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفاً من اللّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين فنسخ الرجلان العشرة.

وأخبروني أيضاً عن القضاة أجورة هم حيث يفرضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: إنّي زاهد وإنّي لا شيء لي، فان قلتم: جورة ظلّمكم أهل الاسلام، وإن قلتم: بل عدول خصمتُم أنفسكم، وحيث تردُّون صدقة مَن تصدَّق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث.

أخبروني لو كان الناس كلهم كالذّين تريدون زهّاداً لا حاجة لهم في متاع غيرهم، فعلى مَن كان يُتصدَّق بكفّارات الايمان والنذور، والصدقات من فرض الزكاة من الذهب والفضة والتمر والزبيب وسائر ما وجب فيه الزكاة من الابل والبقر والغنم، وغير ذلك إذا كان الأمر على ما تقولون لا ينبغي لأحدٍ أن يحبس شيئاً من عرض الدنيا إلا قدَّمه، وإن كانَ به خصاصة، فبئس ما ذهبتم إليه وحمَّلتم الناس عليه من الجهل بكتاب اللّه عزَّ وجلَّ وسنّة نبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديثه التي يصدِّقها الكتاب المنزل، وردِّكم إياها بجهالتكم، وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ، والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي، وأخبروني أنتم عن سليمان بن داودعليه‌السلام حيث سأل اللّه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه اللّه جلَّ اسمه ذلك، وكان يقول الحق ويعمل به، ثم لم نجد اللّه عزَّ وجلَّ عاب عليه ذلك، ولا أحداً من المؤمنين، وداود النبيّعليه‌السلام قبله في ملكه وشدّة سلطانه.

ثم يوسف النبيعليه‌السلام حيث قال لملك مصر:( اجعَلنِي عَلى خَزائِنِ الأَرضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (١) فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن،

____________________

(١) يوسف: ٥٥.

٥١٤

فكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعةٍ أصابتهم، وكان يقول الحقّ ويعمل به، فلم نجد أحداً عابَ ذلك عليه.

ثم ذو القرنين عبد أحبَّ اللّه فأحبَّه اللّه وطوى له الاسباب، وملكه مشارق الأرض ومغاربها، وكان يقول الحق، ويعمل به، ثم لم نجد أحداً عاب ذلك عليه.

فتأدّبوا أيها النفر بآداب اللّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين، واقتصروا على أمرِ اللّه ونهيه، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به، وردّوا العلمَ إلى أهله تُؤجروا وتُعذروا عند اللّه تبارك وتعالى، وكونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابه، وما أحلَّ اللّه فيه مما حرَّم، فانَّه أقرب لكم من اللّه وأبعد لكم من الجهل، ودعوا الجهالة لأهلها، فانَّ أهل الجهل كثير، وأهل العلم قليل، وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ( وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلمٍ عَليمٌ ) (١) (٢) .

٣ - «ورد قوم من المتصوفة إلى خراسان ودخلوا على علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، فقالوا له:

-إنَّ أمير المؤمنين فكَّر فيما ولاّه اللّه من الامور، فرآكم أهل بيت أولى الناس أن تؤمّوا الناس، ونظر فيكم أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس، فرأى أن يردَّ هذا الأمر اليك، والامامة تحتاج إلى مَن يأكل الجشب، ويلبس الخشن، ويركب الحمار، ويعود المريض.

فقال لهمعليه‌السلام :

- إنَّ يوسف كان نبيّاً يلبس أقبية الديباج المزرَّدة بالذهب، ويجلس على متكآت آل فرعون ويحكم، انّما يُراد من الامام قسطه وعدله، إذا قال صَدَق، وإذا حكم عَدَل،

____________________

(١) يوسف: ٧٦.

(٢) الكليني، الاصول من الكافي، ج: ٥، كتاب المعيشة، الباب: ١، ح: ١، ص: ٦٥ - ٧٠، والمجلسي، بحار الأنوار، ج: ٦٧، كتاب الايمان والكفر، باب: ٥١، ح: ١٣، ص: ١٢٣ - ١٢٨، وتحف العقول، ص: ٣٦٣ - ٣٦٩.

٥١٥

وإذا وَعَد أنجز، إنَّ اللّه لم يحرِّم لبوساً ولا مطعماً، ثم قرأ:( قُل مَن حرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتي أَخرَجَ لِعبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هيَ للَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنيا خَالِصَةً يَومَ الِقيامةِ ) (١) (٢) .

٤ - ورد في كتاب المسائل عن علي بن جعفر أنَّه قال:

«سألتُ أخي موسىعليه‌السلام عن الرجل المسلم هل يصلح له أن يسيح في الأرض أو يترهَّب في بيت لا يخرج منه؟ قالعليه‌السلام : لا»(٣) .

٥ - وفي رواية ابن حمزة والسيد المرتضى عن الشيخ المفيد باسناده عن محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب انّه قال:

«كنت مع الهادي علي بن محمدعليه‌السلام في مسجد المدينة، فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان رجلاً بليغاً، وكانت له منزلة عظيمة عنده، ثم دخل المسجد جماعة من الصوفية، وجلسوا في جانبه حلقة مستديرة ثم أخذوا بالتهليل، فقالعليه‌السلام :

- لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين، فانّهم خلفاء الشياطين، ومخّربو قواعد الدين، يتزهدون لراحة الأجسام، ويتهجدون لتقييد الأنام، ويتجوعون عمراً حتى يذبحوا للايكاف حمراً، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقلّلونَ الغذاءَ الا للالتباس والاختلاف، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة واحدٍ منهم حيّاً أو ميتاً، فكأنماً ذهبَ إلى زيارة

____________________

(١) الاعراف: ٣٢.

(٢) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٦٧، كتاب الايمان والكفر، باب: ٥١، ح: ١١، ص: ١٢٠ - ١٢١، عن ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج: ٣، ص: ١٢.

(٣) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٦٧، كتاب الايمان والكفر، باب: ٥١، ح: ١٠، ص: ١١٩، عن الاحتجاج للطبرسي.

٥١٦

الشيطان، وعبادة الأوثان، ومَن أعانَ أحداً منهم فكأنّما أعانَ يزيد ومعاوية وأبا سفيان.

فقال رجل من أصحابهعليه‌السلام :

- مَن كان معترفاً بحقوقهم؟

فنظر إليهعليه‌السلام شبه المغضب وقال:

- دع ذا، مَن اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري انَّ أخس الطوائف الصوفية، والصوفية كلهم من مخالفينا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلا نصارى ومجوس هذهِ الامّة، اُولئكَ الذين يجهدونَ في إطفاء نور اللّه، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون»(١) .

____________________

(١) ع. نجف، منهاج التحرك عند الامام الهاديعليه‌السلام ، ص: ١٣٩ - ١٤٠، عن ذرائع اللسان لمحمد رضا الطبسي، ج: ٢، ص: ٣٧.

٥١٧

مواجهة حركة الغلاة

١ - روي عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام أنَّه قال:

«اُتي أمير المؤمنينعليه‌السلام - وهو جالس في المسجد بالكوفة - بقومٍ وجدوهم يأكلون بالنهار في شهر رمضان، فقال لهم أمير المؤمنينعليه‌السلام :

- أكلتُم وأنتم مفطرون؟ قالوا:

- نعم! قالعليه‌السلام :

- أيهود أنتم؟! قالوا:

- لا! قالعليه‌السلام :

- فنصارى؟! قالوا:

- لا!، قالعليه‌السلام :

- فعلى أي شيء من هذهِ الأديان المخالفين للاسلام؟ قالوا:

- بل مسلمون! قالعليه‌السلام :

- فسفر أنتُم؟ قالوا:

- لا! قالعليه‌السلام :

- فيكم علّة استوجبتم الافطار ولا نشعر بها، فانكم أبصر بأنفسكم منّا، لانَّ اللّه عزّ وجلّ يقول:( بَلِ الإنسانُ عَلى نَفسِهِ بَصيرَةٌ ) (١) ؟ قالوا:

- بل أصبحنا ما بنا من علّة.

فضحك أمير المؤمنينعليه‌السلام ثم قال:

- تشهدون أن لا اله الا اللّه وانَّ محمّداً رسول اللّه؟ قالوا:

____________________

(١) القيامة: ١٤.

٥١٨

- نشهد أن لا اله الا اللّه، ولا نعرف محمداً، قالعليه‌السلام :

- فانَّه رسول اللّه! قالوا:

- لا نعرفه بذلك، إنّما هو أعرابي دعا إلى نفسه، فقالعليه‌السلام :

- إن أقررتُم والا قتلتكم، قالوا:- وان فعلتَ!فوكّل بهم شرطة الخميس، وخرج بهم إلى الظهر ظهر الكوفة، وأمَرَ ان يُحفر حفرتين، وحفر إحداهما الى جنب الاخرى، ثم خرق فيما بينهما كوّة ضخمة شبه الخوخة، فقال لهم:

- إنّي واضعكم في أحد هذين القليبين، واُوقد في الآخر النار، فاقتلكم بالدخان، قالوا:

- وان فعلتَ، فانما تقضي هذهِ الحياة الدنيا!!فوضعهم في أحد الجبّين وضعاً رفيقاً، ثَّم أمَرَ بالنار فأوقدت في الجبّ الآخر، ثم جعل يناديهم مرّة بعد مرّة:

- ما تقولون؟ فيجيبون:

- فاقضِ ما أنت قاضٍ!!حتى ماتوا»(١) .

٢ - وعن عنبسة بن مصعب قال: قال لي أبو عبد اللّهعليه‌السلام :

- أيّ شيء سمعت من أبي الخطّاب(٢) ؟ قلت:

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٣٨، باب: ٥٨، ح، ١٣، ص: ٦٠ - ٦١.

(٢) أبو الخطّاب الاسدي: وهو محمد بن مقلاص الاسدي الكوفي، كانَ رجلاً من الموالي، اشتهر بكنيته دونَ اسمه، فالشهرستاني يذكره على انَّه محمد بن زينب الاسدي الاجدع، والمقريزي يثبته: محمد بن أبي ثور، ويذكر انَّه قيل في اسمه: محمد بن يزيد الأجدع، وأبو جعفر بن بابويه يذكر انَّ اسم أبي الخطّاب زيد. إلى آخر ما فيه من الاختلاف.

ظهر هذا الرجل في الكوفة، وكان المجتمع يموج بالتيارات السياسية، والدعوة العباسية تشق طريقها إلي النجاح بسرعة، فاستغل ذلك الظرف الذي يأمل فيه نجاح مهمته في نشر دعوته الالحادية، فدعى إلى عقيدة عُرف أتباعها بالخطابية، وساعدته الظروف المؤاتية أن يجمع حوله تلاميذ يلقنهم تعاليمه، ويرسم لهم خطط الدعوة والتجمع والظهور، وكانت حركتهم سرّية محكمة، وهي حركة سياسية من جهة وعقائدية من جهة اخرى، وتلتقيان في نقطة العداء للاسلام.

ولم تدون عقائد أبي الخطّاب في كتب سطرتها أقلام أتباعه، وانّما اُخذت من غيرهم، وهذا ما يجعلنا نتردد في بعض ما نُسب إليه، وقد أجمعت الشيعة على لعن أبي الخطّاب، وتكفيره، والبراءة منه، وانَّه غالٍ ملعون كما هو مذكور في كتب الرجال والحديث والتأريخ.قد اتسعت حركة أبي الخطاب في ذلك الجو المضطرب، واستغل فرصة الدعوة لأهل البيتعليهم‌السلام والانتقام من أعدائهم، فاعلنَ مبدأه وأظهر عقيدته المخالفة لروح الاسلام، والتي لا تتصل بأهل البيتعليهم‌السلام بأي صلة، ولما بلغ ذلك إلى الامام الصادقعليه‌السلام اهتم غاية الاهتمام بفتنة أبي الخطاب، وخاف عاقبتها السيئة التي تعود على صفوف المسلمين بالفرقة، وعلى جمعهم بالشتات، وهوعليه‌السلام في ذلك العصر يبذل جهده في التوجيه إلى الالتزام بتعاليم الدين لتجتمع كلمة المسلمين، فيكونوا صفّاً واحداً يردّون كلّ خطر يهدد المجتمع الاسلامي.

(أسد حيدر، الامام الصادق والمذاهب الاربعة، المجلد الثاني، ص: ٣٧٤ - ٣٧٥).

٥١٩

- سمعته يقول: انَك وضعت يدك على صدره وقلتَ له: عه ولا تنسَ، وأنتَ تعلم الغيب، وانكَ قلت: هو عيبة علمنا وموضع سرِّنا، أمين على أحيائنا وأمواتنا، فقال الصادقعليه‌السلام :

- لا واللّه! ما مسَّ شيء من جسدي جسده، وأمّا قوله: إنّي أعلم الغيب، فواللّه الذي لا اله إلا هو ما أعلم الغيب، ولا آجرني اللّه في أمواتي، ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له، وأمّا قوله انّي قلت: هو عيبة علمنا، وموضع سِّرنا، وأمين أحيائنا وأمواتنا، فلا آجرني اللّه في أمواتي، ولا باركَ لي في أحيائي إن كنتُ قلتُ له من هذا شيئاً».

وقال عيسى بن أبي منصور: سمعت أبا عبد اللّه الصادق يقول - وذكر أبا الخطّاب -: «اللَّهم العن أبا الخطاب فانّه خوفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي، اللهمَّ أذقه حرَّ الحديد»(١) .

٣ - وعن المفضل انَّه قال: قال لي أبو عبد اللّه الصادقعليه‌السلام وذكر أصحاب أبي الخطّاب والغلاة:

«يا مفضَّل لا تقاعدوهم، ولا تواكلوهم، ولا تشاوروهم، ولا تصافحوهم، ولا

____________________

(١) أسد حيدر، الامام الصادق والمذاهب الاربعة، المجلد الثاني، ص: ٣٧٥.

٥٢٠