البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 139075
تحميل: 6650

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139075 / تحميل: 6650
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

ضمنته أكنانُ القلوب وغيابات الغيوب(١٤) ، وما أصغت لاستراقه مصائِخُ الاسماع(١٥) ، ومصائف الذرِّ(١٦) ومشاتي الهوام(١٧) ، ورجع الحنين من المولهات(١٨) ، وهمس الأقدام(١٩) ، ومنفسح الثمرة من ولائج غلف الاكمام(٢٠) ، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها(٢١) ، ومختبأ البعوض بين سوق الأشجارِ وألحيتها(٢٢) ، ومغرزِ الأوراقِ من الأفنانِ(٢٣) ، ومحط الامشاج من مسارب الأصلاب(٢٤) ، وناشئة الغيومِ ومتلاحمها، ودرور قطر السحاب في متراكهما، وما تسفى الأعاصيرُ بذُيولها(٢٥) ، وتعفُو الأمطارُ بسيولها(٢٦) ، وعوم نبات الارض في كثبان الرمال(٢٧) ، ومستقرِّ ذواتِ الاجنحة بذرى شناخيب الجبالِ(٢٨) ، وتغريدِ ذوات المنطق في دياجيرِ الأوكارِ(٢٩) ، وما أوعبتهُ الأصدافُ(٣٠) ،

____________________

(١٣) جمع مسرق مكان مسارقة النظر أو زمانها أو البواعث عليها أو فلان يسارق فلاناً النظر أي ينتظر منه غفلة فينظر إليه. والايماض: اللمعان وهو أحق أن ينسب إلى العيون لا إلى الجفون، ونسبته إلى الجفون لانه ينبعث من بينها.

(١٤) ضمنته: حوته، والاكنان: جمع كن كل ما يستتر فيه. وغيابات الغيوب: أعماقها.

(١٥) استراق الكلام: استماعه خفية، والمصائخ: جمع مصاخ مكان الاصاخة وهو ثقبة الآذان.

(١٦) صغار النمل، ومصائفها: محل اقامتها في الصيف، وهو وما بعده عطف على ضمائر المضمرين.

(١٧) مشاتيها محل إقامتها في الشتاء.

(١٨) الحزينات، ورجع الحنين ترديده.

(١٩) الهمس: أخفى ما يكون من صوت القدم على الأرض.

(٢٠) منفسح الثمرة: مكان نموها، الولائج: جمع وليجة بمعنى البطانة: الداخلية. والغلف: جمع غلاف. والاكمام: جمع كم بالكسر وهو غطاء النوار ووعاء الطلع.

(٢١) منقمع الوحوش: موضع انقماعها أي اختفائها. والغيران: جمع غار.

(٢٢) سوق: جمع ساق أسفل الشجرة تقوم عليه فروعها. والالحية: جمع لحاء قشر الشجرة.

(٢٣) الغصون.

(٢٤) الامشاج: النطف. سميت أمشاجاً - جميع مشيج - من مشج إذا خلط، لانها مختلطة من جراثيم مختلفة كل منها يصلح لتكوين عضو من أعضاء البدن، ومسارب الاصلاب: ما يتسرب المني فيها عند نزوله أو عند تكونه.

(٢٥) سفت الريح التراب: ذرته أو حملته. والاعاصير: جمع إعصار ريح تثير السحاب أو تقوم على الأرض كالعمود.

(٢٦) تعفو: تمحو.

(٢٧) الكثبان: جمع كثيب: التل.

(٢٨) الذرى جمع ذروة: أعلى الشيء. والشناخيب: رؤوس الجبال.

(٢٩) تغريد الطائر: رفع صوته بالغناء وهو نطقه. والدياجير: جمع ديجور، وهو الظلمة.

(٣٠) أوعبته: جمعته.

٥٤١

وحضنت عليهِ أمواجُ البحارِ(١) ، وما غشيته سدفة ليلٍ(٢) أو ذرَّ عليه شارقُ نهارٍ(٣) ، وما اعتقبت عليهِ أطبقُ الدَّياجيرِ(٤) ، وسبحاتُ النورِ، وأثرِ كلِّ خطوةٍ، وحسِّ كل حرِّكةٍ ورجعِ كلّ كلمةٍ، وتحريكِ كلَّ شفةٍ، ومستقرِّ كُلِّ نسمَةٍ، ومثقالِ كلِّ ذرَّةٍ، وهماهم كل نفسِّ هامةٍ(٥) ، وما عليها من ثمرِ شجرةٍ(٦) ، أو ساقط ورقةٍ أو قرارةِ نطفةٍ(٧) أو نقاعةِ دَمٍ ومُضغةٍ(٨) ، أو ناشئةِ خلقٍ وسلالَةٍ، لم تلحقهُ في ذلك كلفةٌ، ولا اعترضتهُ في حفظ ما ابتدعهُ من خلقه عارضةٌ(٩) ، ولا اعتورتهُ في تنفيذ الامور وتدابير المخلوقين ملالةٌ ولا فترةٌ(١٠) ، بل نفذ فيهم علمهُ، وأحصاهُم عدهُ، ووسعهم عدلُهُ، وغمرهُم فضلهُ مع تقصيرِهم عن كنهِ ما هو أهلهُ.

اللَّهُمَّ أنتَ أهلُ الوصف الجميل، والتعداد الكثير(١١) ، إن تؤمَّل فخيرُ مؤمَّلٍ، وإن تُرج فأَكرَمُ مرجوٍّ، اللَّهم وقد بسطت لي فيما لا أمدحُ به غيركَ، ولا أثني به على أَحدٍ سوَاكَ، ولا أُوجِّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الريبةِ(١٢) ، وعدلتُ بلساني عن مدائحِ الآدميين، والثناءِ على المربوبينَ المخلُوقينَ، اللَّهم ولكُلِّ مُثنٍ على من أثنى عليهِ مثوبةٌ(١٣) من جزاءٍ أو عارفةٌ من عطاءٍ، وقد رجوتك دليلاً على ذخائرِ الرحمةِ وكنوزِ المغفرةِ، اللَّهم وهذا مقامُ من أفردكَ بالتوحيد الَّذي هو لكَ ولم ير مُستحقّاً لهذه المحامدِ

____________________

(١) حضنت عليه: ربته فتولد في حضنها كالعنبر ونحوه.

(٢) سدفة ظلمة.

(٣) ذر طلع.

(٤) اعتقبت: تعاقبت وتوالت، والاطباق: الاغطية. والدياجير: الظلمات، وسبحات النور: درجاته وأطواره.

(٥) هماهم: هموم مجاز من الهمهمة ترديد الصوت في الصدر من الهم.

(٦) عليها أي على الأرض.

(٧) قرارتها: مقرها.

(٨) نقاعة عطف على نطفة. ونقاعة الدم ما ينقع منه في أجزاء البدن، والمضغة: عطف على نقاعة أي يعلم مقر جميع ذلك.

(٩) هي ما يعترض العامل فيمنعه عن عمله.

(١٠) اعتورته: تداولته وتناولته.

(١١) المبالغة في عدِّ كمالاتك إلى ما لا ينتهي.

(١٢) هم المخلوقون.

(١٣) ثواب وجزاء.

٥٤٢

والممادحِ غيرك، وبي فاقةٌ إليكَ لا يجبر مسكنتها إلا فضلُكَ، ولا ينعشُ من خلَّتها إلا منُّك وجودك(١) ، فهب لنا في هذا المقامِ رضاكَ، وأغننا عن مدِّ الأيدي إلى سواك، إنَّك على كلَّ شيء قديرٌ.

____________________

(١) الخلة بالفتح الفقر. والمن: الاحسان.

٥٤٣

الملحق الثاني : احتجاج(١) الامام الصادقعليه‌السلام مَعَ الزنديق الذي سأله عن

معرفة اللّه وصفاته ومسائل دينية اخرى

جاءَ في الاحتجاج:

ومن سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّهعليه‌السلام عن مسائل كثيرة أن قال: كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه؟

قال: رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته.

قال: أليس هو قادراً أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفوه فيعبد على يقين؟ قال: ليس للمحال جواب.

قال: فمن أين أثبت أنبياء ورسلاً؟

قالعليه‌السلام : إنّا لما أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً، لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا أن يلامسوه، ولا أن يباشرهم ويباشروه

____________________

(١) نُقل نص الحديث عن الاحتجاج، ج: ١، ح: ٢٢٣، ص: ٢١٢ - ٢٥٠، بتحقيق الشيخ إبراهيم البهادري والشيخ محمد هادي به واشراف الشيخ جعفر السبحاني، وما ثبت في الهامش من شروح وتوضيحات يعود للنسخة المذكورة من الكتاب، وجاء في هامش الكتاب عن الرواية ما نصه:

إنّ هذه الرواية من أطول أحاديث الكتاب، ولم نجدها بتمامها في مصدر واحد، ولكنّها توجد متفرّقة في أبواب مختلفة من كتب الحديث. يقول العلامة المجلسيرحمه‌الله في بحار الأنوار ١٠ / ١٨٨ بعد نقل الحديث: «هذا الخبر وان كان مرسلاً لكن أكثر أجزائه أوردها الكليني والصدوق متفرّقة في المواضع المناسبة لها، وسياقه شاهد صدق على حقيته».

٥٤٤

ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده، يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن له معبرِّين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للنّاس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم، بالحكمة والدلائل والبراهين والشّواهد: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والابرص، فلا تخلو الأرض من حجّة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته.

ثم قالعليه‌السلام - بعد ذلك -: نحن نزعم انَّ الأرض لا تخلو من حجّة، ولا تكون الحجّة إلا من عقب الأنبياء، وما بعث اللّه نبيّاً قطّ من غير نسل الأنبياء، وذلك انّ اللّه شرع لبني آدم طريقاً منيراً، وأخرج من آدم نسلاً طاهراً طيباً، أخرج منه الأنبياء والرسل، هم صفوة اللّه، وخلص الجوهر، طهروا في الأصلاب، وحفظوا في الأرحام، لم يصبهم سفاح الجاهلية، ولا شاب أنسابهم، لأنَّ اللّه عزّ وجلّ جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه، فمن كان خازن علم اللّه، وأمين غيبه، ومستودع سرّه، وحجّته على خلقه، وترجمانه ولسانه، لا يكون إلا بهذه الصّفة، فالحجّة لا تكون إلا من نسلهم، يقوم مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول، إن جحده الناس سكت، وكان بقاء ما عليه الناس قليلاً مما في أيديهم من علم الرسول على اختلافٍ منهم فيه، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس، وإنّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه، ظهر العدل، وذهب الاختلاف والتشاجر، واستوى الأمر، وأبان الدين، وغلب على الشك اليقين، ولا يكاد أن يقر الناس به ولا يطيعوا له، أو يحفظوا له بعد فقد الرسول، وما مضى رسول ولا نبي قط إلا وقد تختلف أُمته من بعده، وإنَّما كان علّة اختلافهم خلافهم على الحجة وتركهم إيّاه.

قال: فما يصنع بالحجة إذا كان بهذه الصفة؟

٥٤٥

قالعليه‌السلام : قد يقتدى به ويخرج عنه الشيء بعد الشيء مكانه منفعة الخلق وصلاحهم، فان أحدثوا في دين اللّه شيئاً أعلمهم، وإن زادوا فيه أخبرهم، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم.

ثم قال الزنديق: من أي شيء خلق اللّه الأشياء؟ قالعليه‌السلام : من لا شيء.

فقال: كيف يجيء من لا شيء شيء؟

قالعليه‌السلام : إنَّ الأشياء لا تخلو أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء، فان كانت خُلقت من شيء كان معه، فإنّ ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثاً، ولا يفنى ولا يتغير، ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمن أين جاءَت هذه الألوان المختلفة، والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشّىء الذي اُنشئت منه الأشياء حيّاً؟ ومن أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتاً؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميت قديمين لم يزالا، لأنَّ الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيّاً، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميت قديماً لم يزل بما هو به من الموت، لأنَّ الميت لا قدرة له ولا بقاء.

قال: فمن أين قالوا إنَّ الأشياء أزلية؟

قالعليه‌السلام : هذه مقالة قوم جحدوا مدبِّر الأشياء، فكذَّبوا الرسل ومقالتهم، والأنبياء وما أنبأوا عنه، وسموا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم، إنَّ الأشياء تدل على حدوثها، من دوران الفلك بما فيه، وهي تسعة أفلاك وتحرك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، واختلاف الوقت، والحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان، وموت وبلاء، واضطرار النفس إلى الإقرار بأنَّ لها صانعاً ومدبّراً، أما ترى الحلو يصير حامضاً، والعذب مرّاً، والجديد بالياً، وكلٌّ إلى تغير وفناء؟!

قال: فلم يزل صانع العالم عالماً بالأحداث التي أحدثها قبل أن يحدثها؟

٥٤٦

قالعليه‌السلام : فلم يزل يعلم فخلق ما علم.

قال: أمختلف هم أم مؤتلف؟

قالعليه‌السلام : لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف، إنّما يختلف المتجزي، ويأتلف المتبعض، فلا يُقال له: مؤتلف ولا مختلف.

قال: فكيف هو اللّه الواحد؟

قالعليه‌السلام : واحد في ذاته، فلا واحد كواحد، لأنَّ ما سواه من الواحد متجزي، وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزى، ولا يقع عليه العدّ.

قال: فلأي علّة خلق الخلق وهو غير محتاج إليهم، ولا مضطر إلى خلقهم، ولا يليق به التعبث بنا؟.

قالعليه‌السلام : خلقهم لإظهار حكمته، وإنفاذ علمه، وإمضاء تدبيره.

قال: وكيف لا يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه ومحتبس عقابه؟

قالعليه‌السلام : إنَّ هذه الدار دار ابتلاء، ومتجر الثواب، ومكتسب الرحمة، ملئت آفات، وطبقت شهوات، ليختبر فيها عبيده بالطاعة، فلا يكون دار عمل دار جزاء.

قال: أفمن حكمته أن جعل لنفسه عدواً، وقد كان ولا عدو له، فخلق كما زعمت «إبليس»، فسلّطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته، ويأمرهم بمعصيته وجعل له من القوة كما زعمت، يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم، فيوسوس إليهم فيشككهم في ربهم، ويلبس عليهم دينهم، فيزيلهم عن معرفته، حتى أنكر قوم لمّا وسوس إليهم ربوبيته وعبدوا سواه، فَلم سلط عدوه على عبيده، وجعل له السّبيل إلى إغوائهم؟

قالعليه‌السلام : إنَّ هذا العدو الذي ذكرت لا تضره عداوته، ولا تنفعه ولايته، وعداوته لا تنقص من ملكه شيئاً، وولايته لا تزيد فيه شيئاً، وإنّما يتّقى العدو إذا كان في قوة يضر وينفع، إن همّ بملك أخذه، أو بسلطان قهره، فأمّا إبليس فعبد، خلقه ليعبده ويوحّده، وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتّى

٥٤٧

امتحنه بسجود آدم، فامتنع من ذلك حسداً، وشقاوة غلبت عليه فلعنه عند ذلك، وأخرجه عن صفوف الملائكة، وأنزله إلى الأرض ملعوناً مدحوراً فصار عدو آدم وولده بذلك السبب، وما له من السلطنة على ولده إلا الوسوسة، والدعاء إلى غير السبيل، وقد أقر مع معصيته لربّه بربوبيته.

قال: أفيصلح السّجود لغير اللّه؟

قالعليه‌السلام : لا.

قال: فكيف أمر اللّه الملائكة بالسّجود لآدم؟

فقال: إنَّ من سجد بأمر اللّه فقد سجد للّه، فكان سجوده للّه إذا كان عن أمر اللّه تعالى.

قال: فمن أين أصل الكهانة، ومن أين يخبر النّاس بما يحدث؟

قالعليه‌السلام : إنَّ الكهانة كانت في الجاهلية، في كل حين فترة من الرسل، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الأمور بينهم، فيخبرهم عن أشياء تحدث، وذلك من وجوه شتّى: فراسة العين، وذكاء القلب، ووسوسة النفس، وفتنة الرّوح، مع قذف في قلبه، لأنَّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة: فذلك يعلم الشيطان ويؤديه إلى الكاهن، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف.

وأمّا أخبار السماء، فإنَّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، وهي لا تحجب، ولا ترجم بالنجوم، وإنّما منعت من استراق السّمع، لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن اللّه، لإثبات الحجّة، ونفي الشبهة، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من اللّه في خلقه، فيختطفها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده، فيخلط الحقّ بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به، فهو ما أداه إليه شيطانه ممّا سمعه، وما أخطأ فيه، فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت

٥٤٨

الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة، واليوم إنّما تؤدي الشياطين إلى كهانها أخباراً للنّاس ممّا يتحدّثون به، وما يحدثونه، والشّياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث من سرق، ومن قاتل قتل، ومن غائب غاب، وهم بمنزلة (أمثال) الناس أيضاً، صدوق وكذوب.

قال: فكيف صعدت الشّياطين إلى السّماء، وهم أمثال النّاس في الخلقة والكثافة وقد كانوا يبنون لسليمان بن داودعليهما‌السلام من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟

قالعليه‌السلام : غلظوا لسليمان كما سخروا وهم خلق رقيق، غذاؤهم النسيم، والدليل على ذلك صعودهم إلى السّماء لاستراق السمع، ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها إلا بسلّم أو بسبب.

قال: فأخبرني عن السحر ما أصله، وكيف يقدر السّاحر على ما يُوصف من عجائبه، وما يفعل؟

قالعليه‌السلام : إنَّ السّحر على وجوه شتّى: وجه منها: بمنزلة الطبّ، كما أنّ الأطباء وضعوا لكل داء دواء، فكذلك علم السّحر، احتالوا لكل صحة آفة، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى حيلة.

ونوع منه آخر: خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة.

ونوع منه: ما يأخذ أولياء الشّياطين عنهم.

قال: فمن أين علم الشّياطين السّحر؟

قالعليه‌السلام : من حيث عرف الأطباء الطبّ، بعضه تجربة وبعضه علاج.

قال: فما تقول في الملكين: هاروت وماروت؟ وما يقول النّاس بأنّهما يعلّمان النّاس السحر؟

قالعليه‌السلام : إنّهما موضع ابتلاء وموقف فتنة، تسبيحهما: اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا، ولو يعالج بكذا وكذا لصار كذا، أصناف السّحر، فيتعلمون منهما ما

٥٤٩

يخرج عنهما، فيقولان لهم: إنَّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم ولا ينفكم.

قال: أفيقدر السّاحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك؟

قالعليه‌السلام : هو أعجز من ذلك، وأضعف من أن يغيِّر خلق اللّه، إنَّ من أبطل ما ركّبه اللّه وصوره وغيَّره فهو شريك اللّه في خلقه، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، لو قدر السّاحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض، ولنفي البياض عن رأسه والفقر عن ساحته، وإنَّ من أكبر السحر النميمة، يفرّق بها بين المتحابين، ويجلب العداوة على المتصافيين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور ويكشف بها الستور، والنّمام أشرّ من وطئ الأرض بقدم، فأقرب أقاويل السحر من الصّواب أنّه بمنزلة الطب، إنَّ السّاحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النَّساء فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج، فأبرئ.

قال: فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع؟ قال: الشريف المطيع، والوضيع العاصي.

قال: أليس فيهم فاضل ومفضول؟

قالعليه‌السلام : إنّما يتفاضلون بالتقوى.

قال: فتقول إنَّ ولد آدم كلّهم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلا بالتقوى؟

قال:عليه‌السلام : نعم. إنِّي وجدت أصل الخلق التُّراب، والأب آدم والأم حواء، خلقهم إله واحد، وهم عبيده، إنَّ اللّه عزّ وجلّ اختار من ولد آدم أُناساً طهر ميلادهم، وطيَّب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النِّساء، أخرج منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم، ما فعل ذلك لأمر استحقّوه من اللّه عزّ وجلّ ولكن علم اللّه منهم - حين ذرأهم - أنَّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً فهؤلاء بالطاعة نالوا من اللّه الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وساير النّاس سواء، ألا من اتّقى اللّه أكرمه، ومن أطاعه أحبه، ومن أحبه لم يعذّبه بالنار!!

٥٥٠

قال: فأخبرني عن اللّه عزّ وجلّ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً؟

قالعليه‌السلام : لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب، لأنَّ الطّاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنّة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، واحتج عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إيّاه العقاب.

قال: فالعمل الصّالح من العبد هو فعله، والعمل الشرّ من العبد هو فعله؟

قالعليه‌السلام : العمل الصالح من العبد بفعله واللّه به أمره، والعمل الشرّ من العبد بفعله واللّه عنه نهاه.

قال: أليس فعله بالآلة التي ركَّبها فيه؟

قالعليه‌السلام : نعم. ولكن بالآلة التي عمل بها الخير، قدر على الشرّ الذي نهاه عنه.

قال: فإلى العبد من الأمر شيء؟

قالعليه‌السلام : ما نهاه اللّه عنه شيء إلا وقد علم أنه يطيق تركه، ولا أمره بشيء إلا وقد علم أنه يستطيع فعله، لأنّه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون.

قال: فمن خلقه اللّه كافراً أيستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟

قالعليه‌السلام : إنَّ اللّه خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفاعل حين يفعله العبد، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه، فعرض عليه الحقّ فجحده، فبإنكاره الحقّ صار كافراً.

قال: أفيجور أن يقدر على العبد الشرّ، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله، ويعذّبه عليه؟

قالعليه‌السلام : إنَّه لا يليق بعدل اللّه ورأفته أن يقدر على العبد الشرّ ويريده منه، ثمّ

٥٥١

يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع أخذه، والانزاع عمّا لا يقدر على تركه، ثمّ يعذبه على تركه أمره الذي علم أنّه لا يستطيع أخذه.

قال: بماذا استحق الذين أغناهم وأوسع عليهم من رزقه الغناء والسعة، وبماذا استحق الفقير التقتير والضيق؟.

قالعليه‌السلام : اختبر الأغنياء بما أعطاهم لينظر كيف شكرهم، والفقراء بما منعهم لينظر كيف صبرهم.

ووجه آخر: انّه عجل لقوم في حياتهم، ولقوم آخر ليوم حاجتهم إليه.

ووجه آخر: فانّه علم احتمال كل قوم فأعطاهم على قدر احتمالهم، ولو كان الخلق كلّهم أغنياء لخربت الدنيا وفسد التدبير، وصار أهلها إلى الفناء، ولكن جعل بعضهم لبعض عوناً، وجعل أسباب أرزاقهم في ضروب الأعمال وأنواع الصناعات، وذلك أدوم في البقاء، وأصح في التدبير، ثم اختبر الأغنياء بالاستعطاف على الفقراء، كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يُعاب تدبيره.

قال: فبما استحق الطفل الصغير ما يصيبه من الأوجاع والأمراض بلا ذنب عمله، ولا جرم سلف منه؟

قال: إنَّ المرض على وجوه شتّى: مرض بلوى، ومرض عقوبة، ومرض جعل علّة للفناء، وأنت تزعم أنَّ ذلك من أغذية رديّة، وأشربة وبية(١) ، أو علّة كانت بأُمه، وتزعم أنَّ مَن أحسن السياسة لبدنه، وأجمل النظر في أحوال نفسه، وعرف الضّار ممّا يأكل من النافع لم يمرض، وتميل في قولك إلى من يزعم أنَّه لا يكون المرض والموت إلا من المطعم والمشرب! قد مات ارسطاطاليس معلّم الأطباء، وافلاطون رئيس الحكماء، وجالينوس شاخ ودق بصره، وما دفع الموت حين نزل بساحته، ولم يألوا حفظ أنفسهم، والنظر لما يوافقها، كم من مريض قد زاده المعالج سقماً، وكم من طبيب عالم، وبصير بالأدواء

____________________

(١) من الوباء وهو المرض العامّ، ويعبّر عنه بالطاعون - مجمع البحرين.

٥٥٢

والأدوية ماهر، مات، وعاش الجاهل بالطب بعده زماناً، فلا ذاك نفعه علمه بطبّه عند انقطاع مدّته وحضور أجله، ولا هذا ضرّه الجهل بالطبّ مع بقاء المدّة وتأخر الأجل.

ثم قالعليه‌السلام : إنَّ أكثر الأطباء قالوا: إِنَّ علم الطب لم تعرفه الأنبياء، فما نصنع على قياس قولهم بعلم زعموا ليس تعرفه الأنبياء الذين كانوا حجج اللّه على خلقه، وأُمناءه في أرضه، وخزّان علمه، وورثة حكمته، والأدلاء عليه، والدّعاة إلى طاعته؟

ثم إنَّي وجدت أكثرهم يتنكب(١) في مذهبه سبل الأنبياء، ويكذّب الكتب المنزلة عليهم من اللّه تبارك وتعالى، فهذا الذي أزهدني في طلبه وحامليه.

قال: فكيف تزهد في قوم وأنت مؤدبهم وكبيرهم؟

قالعليه‌السلام : إنَّي لما رأيت الرجل الماهر في طبّه إذا سألته لم يقف على حدود نفسه، وتأليف بدنه، وتركيب أعضائه، ومجرى الأغذية في جوارحه، ومخرج نفسه، وحركة لسانه، ومستقر كلامه، ونور بصره، وانتشار ذكره، واختلاف شهواته، وانسكاب عبراته، ومجمع سمعه، وموضع عقله، ومسكن روحه، ومخرج عطسته، وهيج غمومه، وأسباب سروره، وعلّة ما حدث فيه من بكم وصمم وغير ذلك، لم يكن عندهم في ذلك أكثر من أقاويل استحسنوها، وعلل فيما بينهم جوّزوها.

قال: فأخبرني عن اللّه عزّ وجلّ أله شريك في ملكه، أو مضادّ له في تدبيره؟

قالعليه‌السلام : لا.

قال: فما هذا الفساد الموجود في هذا العالم: من سباع ضارية، وهوام مخوّفة، وخلق كثير مشوهة، ودود وبعوض وحيّات وعقارب، وزعمت أنّه لا يخلق شيئاً إلا لعلّة، لأنّه لا يعبث؟!

قالعليه‌السلام : ألست تزعم أنَّ العقارب تنفع من وجع المثانة والحصاة، ولمن يبول في الفراش، وأنَّ أفضل التزياق ما عولج من لحوم الأفاعي، فانَّ لحومها إذا أكلها المجذوم

____________________

(١) تَنَكّبَ: عدل - لسان العرب ١ / ٧٧٠.

٥٥٣

بِشبٍّ(١) نفعه، وتزعم أنَّ الدود الأحمر الذي يُصاب تحت الأرض نافع للآكلة؟ قال: نعم.

ثمَّ قالعليه‌السلام : فأمّا البعوض والبق فبعض سببه أنّه جُعل ارزاق بعض الطير، وأهان بها جباراً تمرد على اللّه وتجبر، وأنكر ربوبيته، فسلّط اللّه عليه أضعف خلقه ليريه قدرته وعظمته، وهي البعوضة فدخلت في منخره حتّى وصلت إلى دماغه فقتلته. واعلم أنا لو وقفنا على كل شيء خلقه اللّه تعالى لِمَ خلقه؟ ولأي شيء أنشأه؟ لكنّا قد ساويناه في علمه، وعلمنا كلّما يعلم واستغنينا عنه، وكنّا وهو في العلم سواء.

قال: فأخبرني هل يُعاب شيء من خلق اللّه وتدبيره؟ قالعليه‌السلام : لا.

قال: فإنَّ اللّه خلق خلقه غرلاً(٢) ، أذلك منه حكمة أو عبث؟

قالعليه‌السلام : بل حكمة منه.

قال: غيرتم خلق اللّه، وجعلتم فعلكم في قطع الغلفة أصوب ممّا خلق اللّه لها، وعبتم الأغلف واللّه خلقه، ومدحتم الختان وهو فعلكم. أم تقولون انَّ ذلك من اللّه كان خطأً غير حكمة؟!

قالعليه‌السلام : ذلك من اللّه حكمة وصواب، غير أنّه سنَّ ذلك وأوجبه على خلقه، كما أنّ المولود إذا خرج من بطن أُمّه وجدنا سرّته متصلة بسرة أُمة كذلك خلقها الحكيم فأمر العباد بقطعها، وفي تركها فساد بيِّن للمولود والأُمّ، وكذلك أظفار الإنسان أمَرَ إذا طالت أن تقلم، وكان قادراً يوم دبّر خلق الإِنسان أن يخلقها خلقة لا تطول، وكذلك الشَّعر من الشّارب والرّأس يطول فيجز، وكذلك الثيران خلقها اللّه فحولة واخصاؤها أوفق، وليس في ذلك عيب في تقدير اللّه عزّ وجلّ.

قال: ألست تقول: إنَّ اللّه تعالى قال:( أُدعُوني أَستَجِب لَكُم ) (٣) ، وقد نرى

____________________

(١) الشَّبُّ: دواء معروف، وقيل: الشب شيء يشبه الزاج - لسان العرب ١ / ٤٨٣.

(٢) الغرلة: مثل القفلة وزناً ومعنىً، وغرل غرلاً، من باب تعب: إذا لم يختن - المصباح ٢ / ١١٣.

(٣) غافر: ٦٠.

٥٥٤

المضطر يدعوه فلا يُجاب له، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره؟

قالعليه‌السلام : ويحك! ما يدعوه أحد إلا استجاب له، أمّا الظّالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب إلى اللّه، وأمّا المحقّ فانّه إذا دعاه استجاب له، وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه، أو ادخر له ثواباً جزيلاً ليوم حاجته إليه، وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيراً له إن أعطاه أمسك عنه، والمؤمن العارف باللّه ربّما عزّ عليهأن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ، وقد يسأل العبد ربه إهلاك من لم تنقطع مدّته، ويسأل المطر وقتاً ولعّله أوان لا يصلح فيه المطر، لأنّه أعرف بتدبير ما خلق من خلقه، وأشباه ذلك كثيرة فافهم هذا.

قال: فأخبرني أيُّها الحكيم، ما بال السّماء لا ينزل منها إلى الأرض أحد، ولا يصعد من الأرض إليها بشر، ولا طريق إليها، ولا مسلك، فلو نظر العباد في كل دهر مرّة من يصعد إليها وينزل، لكان ذلك أثبت في الربوبيّة، وأنفى للشّك وأقوى لليقين، وأجدر أن يعلم العباد أنَّ هناك مدبّراً إليه يصعد الصاعد ومن عنده يهبط الهابط؟!

قالعليه‌السلام : إنَّ كل ما ترى في الأرض من التدبير إنَّما هو ينزل من السّماء، ومنها يظهر، أما ترى الشمس منها تطلع، وهي نور النّهار، ومنها قوام الدنيا ولو حبست حار من عليها وهلك، والقمر منها يطلع، وهو نور اللّيل، وبه يعلم عدد السنين والحساب، والشهور والأيام، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير، وفي السّماء النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ومن السّماء ينزل الغيث الذي فيه حياة كل شيء: من الزرع والنبات والأنعام وكل الخلق لو حبس عنهم لما عاشوا، والرِّيح لو حبست أيّاماً لفسدت الأشياء جميعاً وتغيّرت، ثمّ الغيم والرعد والبرق والصواعق، كل ذلك إنَّما هو دليل على أنَّ هناك مدبّراً يدبّر كل شيء ومن عنده ينزل، وقد كلّم اللّه موسى وناجاه، ورفع اللّه عيسى بن مريم والملائكة تنزل من عنده، غير أنّك لا تؤمن بما لم تره بعينك، وفيما تراه بعينك كفاية ان تفهم وتعقل.

٥٥٥

قال: فلو أنَّ اللّه تعالى ردّ إِلينا من الأموات في كل مائة عام واحداً لنسأله عمّن مضى منّا، إِلى ما صاروا وكيف حالهم، وماذا لقوا بعد الموت، وأي شيء صنع بهم، ليعمل النّاس على اليقين، واضمحل الشكّ، وذهب الغل عن القلوب.

قالعليه‌السلام : إنَّ هذه مقالة من أنكر الرسل وكذّبهم، ولم يصدق بما جاءوا به من عند اللّه، إِذا أخبروا وقالوا: إِنَّ اللّه أخبر في كتابه عزّ وجلّ على لسان أنبيائه، حال من مات منّا، أفيكون أحد أصدق من اللّه قولاً ومن رسله.

وقد رجع إِلى الدنيا ممّن مات خلق كثير، منهم «أصحاب الكهف» أماتهم اللّه ثلاثمائة عام وتسعة، ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث، ليقطع حجّتهم، وليريهم قدرته، وليعلموا أنَّ البعث حقّ.

وأمات اللّه «أرمياء» النّبيعليه‌السلام الذي نظر إِلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصَّر(١) ، وقال:( أنّى يُحييِ هذِهِ اللّهُ بَعدَ مَوتِها فَأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ) (٢) ثمّ أحياه ونظر إلى أعضائه كيف تلتئم، وكيف تلبس اللّحم، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل، فلمّا استوى قاعداً قال:( أعلَمُ أَنَ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ) (٣) .

وأحيا اللّه قوماً خرجوا عن أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم، فأماتهم اللّه دهراً طويلاً حتّى بليت عظامهم، وتقطعت أوصالهم، وصاروا تراباً، فبعث اللّه في وقت أحبّ أن يرى خلقه قدرته نبياً يُقال له: «حزقيل»(٤) فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لا يفقدون من أعدادهم رجلاً،

____________________

(١) قال الفيروزآبادي: بخت نصَّر بالتشديد، أصله: بوخت ومعناه: إبن، ونصَّر كبقَّم: صنم، وكان وُجد عند الصنم ولم يعرف له أب فنسب إليه، خرّب القدس! القاموس ٢ / ١٤٣.

(٢) البقرة: ٢٥٩.

(٣) نفس المصدر.

(٤) حزقل أو حزقيل، كزبرج وزنبيل: إسم نبي من الأنبياءعليهما‌السلام - القاموس ٣ / ٣٥٧.

٥٥٦

فعاشوا بعد ذلك دهراً طويلاً(١) .

وإنَّ اللّه أمات قوماً خرجوا مع موسىعليه‌السلام حين توجّه إلى اللّه عزّ وجلّ فقالوا:( أرِنَا اللّهَ جَهرَةً ) (٢) فأماتهم اللّه ثمّ أحياهم.

قال: فأخبرني عمّن قال بتناسخ الأرواح، من أيّ شيء قالوا ذلك، وبأيّ حجّة قاموا على مذاهبهم؟

قالعليه‌السلام : إنَّ أصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدِّين، وزيّنوا لأنفسهم الضلالات، وأمرجوا(٣) أنفسهم في الشهوات وزعموا أنَّ السماء خاوية ما فيها شيء مما يوصف، وأنَّ مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين، بحجّة من روى أنَّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته، وأنّه لا جنّة ولا النار، ولا بعث ولا نشور، والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر، إن كان محسناً في القالب الأول أُعيد في قالب أفضل منه حسناً في أعلى درجة من الدنيا، وان كان مسيئاً أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا، أو هوام مشوهة الخلقة وليس عليهم صوم ولا صلاة، ولا شيء من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته وكل شيء من شهوات الدنيا مباح لهم: من فروج النِّساء وغير ذلك من الأخوات والبنات والخالات وذوات البعولة.

وكذلك الميتة، والخمر، والدم، فاستقبح مقالتهم كل الفرق، ولعنهم كل الأمم، فلمّا سئلوا الحجّة زاغوا وحادوا، فكذّب مقالتهم التوراة، ولعنهم الفرقان، وزعموا مع ذلك أنَّ إلههم ينتقل من قالب إلى قالب، وأنَّ الأرواح الأزلية هي التي كانت في آدم، ثمّ هلمّ جرا تجري إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر، فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أنَّ أحدهما خالق صاحبه؟!

وقالوا: إِنَّ الملائكة من ولد آدم كل من صار في أعلى درجة من دينهم خرج من

____________________

(١) هذه القصّة مشهورة، انظر تفسير القمي ١ / ٨٠، وتفسير العيّاشي ١ / ١٣٠.

(٢) النساء: ١٥٣.

(٣) الُمَرْجُ: الموضع ترعى فيه الدواب وإرسالها للرعي، والخلط - القاموس ١ / ٢٠٧.

٥٥٧

منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك، فطوراً تخالهم نصارى في اشياء، وطوراً دهرية يقولون: إِنَّ الأشياء على غير الحقيقة، فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئاً من اللحمان، لأنَّ الدوابّ كلّها عندهم من ولد آدم حولوا من صورهم، فلا يجوز أكل لحوم القرابات.

قال: ومن زعم أنّ اللّه لم يزل ومعه طينة مؤذية، فلم يستطع التفصي منها إلا بامتزاجه بها ودخوله فيها، فمن تلك الطينة خلق الأشياء!!

قالعليه‌السلام : سبحان اللّه وتعالى!! ما أعجز إِلهاً يوصف بالقدرة، لا يستطيع التفصي من الطينة! إن كانت الطينة حيّة أزلية، فكانا إلهين قديمين فامتزجا ودبّرا العالم من أنفسهما، فان كان ذلك كذلك، فمن أين جاء الموت والفناء؟ وإن كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم، والميت لا يجيء منه حي، وهذه مقالة الديصانية(١) ، أشدّ الزنادقة قولاً وأمهنهم مثلاً، نظروا في كتب قد صنّفتها أوائلهم، وحبروها لهم بألفاظ مزخرفة من غير أصل ثابت، ولا حجّة توجب إثبات ما ادّعوا، كلّ ذلك خلافاً على اللّه وعلى رسله وتكذيباً بما جاءوا به عن اللّه تعالى.

فأمّا من زعم أنَ الأبدان ظلمة، والأرواح نور، وأنَّ النُّور لا يعمل الشر والظلمة لا تعمل الخير، فلا يجب عليهم أن يلوموا أحداً على معصية، ولا ركوب حرمة، ولا إتيان فاحشة، وإنَّ ذلك على الظلمة غير مستنكر، لأنَّ ذلك فعلها ولا له أن يدعو ربّاً، ولا يتضرع إليه، لأنَّ النور ربّ، والرّب لا يتضرع إلى نفسه ولا يستعيذ بغيره، ولا لأحد من أهل هذه المقالة أن يقول: «أحسنت» يا محسن أو «أسأت»، لأنَّ الإساءة من فعل الظلمة وذلك فعلها، والإحسان من النور، ولا يقول النور لنفسه أحسنت يا محسن،

____________________

(١) قال الشهرستاني: أصحاب ديصان، أثبتوا أصلين: نوراً وظلاماً، فالنور يفعل الخير قصداً واختياراً، والظلام يفعل الشرّ طبعاً واضطراراً، فما كان من خير ونفع وطيب وحسن فمن النور، وما كان من شرٌ وضرر ونتن وقبح فمن الظلام. وزعموا أنّ النور حيّ، عالم، قادر، حسّاس، درّاك، ومنه تكون الحركة والحياة.

والظّلام ميّت، جاهل، عاجز، جماد، موات لا فعل له ولا تمييز.

وزعموا انَّ النور جنس واحد، وكذلك الظلام جنس واحد، وأنّ إدراك النور إدراك متفق فإنّ سمعه وبصره وسائر حواسه شيء واحد فسمعه هو بصره، وبصره هو حواسه. الملل والنحل: ١ / ٢٥٠. وانظر: بحار الأنوار: ٣/٢١١.

٥٥٨

وليس هناك ثالث، فكانت الظلمة على قياس قولهم، أحكم فعلاً وأتقن تدبيراً وأعزّ أركاناً من النور، لأنَّ الأبدان محكمة، فمن صور هذا الخلق صورة واحدة على نعوت مختلفة؟

وكل شيء يرى ظاهراً من الزهر والأشجار والثمار والطيور والدواب يجب أن يكون إلهاً، ثمّ حبست النور في حبسها والدولة لها، وأمّا ما ادعوا بأنَّ العاقبة سوف تكون للنور، فدعوى، وينبغي على قياس قولهم أن لا يكون للنور فعل، لأنه اسير، وليس له سلطان، فلا فعل له ولا تدبير، وإن كان له مع الظلمة تدبير، فما هو بأسير، بل هو مطلق عزيز، فان لم يكن كذلك وكان أسير الظلمة، فانه يظهر في هذا العالم إحسان وخير من فساد وشر، فهذا يدل على أنَّ الظلمة تحسن الخير وتفعله، كما تحسن الشرّ وتفعله، فإن قالوا محال ذلك، فلا نور يثبت ولا ظلمة، وبطلت دعواهم، ورجع الأمر إلى أنَّ اللّه واحد وما سواه باطل، فهذه مقالة ماني الزنديق وأصحابه(١) .

وأمّا من قال: النّور والظلمة بينهما حكم، فلا بدّ من أن يكون أكبر الثلاثة الحكم، لأنّه لا يحتاج إلى الحاكم إلا مغلوب، أو جاهل أو مظلوم، وهذه مقالة المانوية والحكاية عنهم تطول.

قال: فما قصة ماني؟

قالعليه‌السلام : متفحص أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية، فأخطأ الملتين، ولم يصب مذهباً واحداً منهما، وزعم أنَّ العالم دبّر من إلهين، نور وظلمة، وأنّ النور في حصار من الظلمة على ما حكينا عنه، فكذَّبته النصارى، وقبلته المجوس.

قال: فأخبرني عن المجوس أبعث اللّه إليهم نبيّاً؟ فإنّي أجد لهم كتباً محكمة

____________________

(١) أصحاب ماني يسمون: المانويّة، وهم أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن اردشير وقتله بهرام بن هرمز بن سابور وذلك بعد عيسى بن مريمعليه‌السلام ، أحدث ديناً بين المجوسيّة والنصرانيّة. وزعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنّهما أزليّان لم يزالا ولن يزالا. انظر: الملل والنحل: ١ / ٢٤٤.

٥٥٩

ومواعظ بليغة، وأمثالاً شافية، يقرّون بالثواب والعقاب، ولهم شرائع يعملون بها.

قالعليه‌السلام : ما من أُمّةإلا خلا فيها نذير، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند اللّه، فأنكروه وجحدوا كتابه.

قال: ومن هو فان النّاس يزعمون أنّه خالد بن سنان؟

قالعليه‌السلام : إنَّ خالداً كان عربياً بدوياً ما كان نبياً، وإنّما ذلك شيء يقوله النّاس.

قال: أفزردشت؟

قالعليه‌السلام : إنَّ زردشت أتاهم بزمزمة، وادّعى النبوّة، فآمن منهم قوم وجحده قوم، فأخرجوه فأكلته السّباع في برية من الأرض.

قال: فأخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دهرهم، أم العرب؟

قالعليه‌السلام : العرب في الجاهلية، كانت أقرب إلى الدين الحنفي من المجوس، وذلك أنَّ المجوس كفرت بكل الأنبياء وجحدت كتبهم، وأنكرت براهينهم ولم تأخذ بشيء من سننهم وآثارهم، وإنّ كيخسرو ملك المجوس في الدهر الأول قتل ثلاثمائة نبي، وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة، والعرب كانت تغتسل، والإغتسال من خالص شرايع الحنيفية، وكانت المجوس لا تختتن، والعرب تختتن، وهو من سنن الأنبياء، وأنّ أوّل من فعل ذلك إبراهيم خليل اللّه، وكانت المجوس لا تغسل موتاها في الصّحارى والنواويس، والعرب تواريها في قبورها وتلحدها، وكذلك السّنة على الرسل، إنَّ أول من حفر له قبر آدم أبو البشر، واُلحد له الحد، وكانت المجوس تأتي الأمهات وتنكح البنات والاخوات، وحرمت ذلك العرب، وأنكرت المجوس بيت اللّه وسمّته بيت الشّيطان، والعرب كانت تحجّه وتعظمه، وتقول: بيت ربنا، وتقرّ بالتوراة والإنجيل، وتسأل أهل الكتاب، وتأخذ عنهم، وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس.

قال: فانّهم احتجوا باتيان الأخوات أنّها سنة من آدم.

قالعليه‌السلام : فما حجّتهم في إِتيان البنات والأمّات، وقد حرّم ذلك آدم، وكذلك نوح

٥٦٠