البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 139027
تحميل: 6646

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139027 / تحميل: 6646
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

قال الرَّضاعليه‌السلام : هذا قول اليهودِ فكيف قال عزّ وجلّ:( ادعُوني أَستَجِب لَكُم ) (١) قال سليمان: إنَّما عنى بذلك أنَّه قادر عليه.

قالعليه‌السلام : أفيعد ما لا يفي به؟! فكيف قال عزّ وجلّ:( يَزِيدُ في الخَلقِ ما يَشاء ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ:( يَمحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثبتُ وعِندهُ اُمُّ الكِتابِ ) (٣) ، وقد فرغ من الأمر.

فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : يا سليمان هل يعلم أنَّ إنساناً يكون ولا يريد أن يخلق إنساناً أبداً، وأنَّ إنساناً يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم؟ قال سليمان: نعم.

قال الرَّضاعليه‌السلام فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون، أو يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون؟! قال: يعلم أنَّهما يكونان جميعاً.

قال الرضاعليه‌السلام : إذن يعلم أن إنساناً حي، ميِّت، قائم، قاعد، أعمى، بصير في حالٍ واحدةٍ، وهذا هو المحال، قال: جعلت فداك فانَّه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر.

قالعليه‌السلام : لا بأس، فأيهما يكون، الذي أراد أن يكون أو الذي لم يرد أن يكون؟

فضحك الرضاعليه‌السلام ، والمأمون، وأصحاب المقالات.

قال الرضاعليه‌السلام : غلطت وتركت قولك: إنه يعلم أن إنساناً يموت اليوم، وهو لا يريد أن يموتَ اليوم، وَأنه يخلق خلقاً وهو لا يريدُ أن يخلقهم، فإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون، فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون(٤) .

____________________

(١) المؤمن: ٦٠.

(٢) فاطر: ١.

(٣) الرعد: ٣٩.

(٤) حاصل الكلام من قولهعليه‌السلام : يا سليمان هل يعلم أن انساناً يكون إلى هنا أنه هل يتعلق علمه تعالى بنسبة قضية ولا يتعلق ارادته بها، فأقر سليمان بذلك، فثبت مطلوبهعليه‌السلام الذي هو عدم اتحادهما، لكنه أقر بالحق في غير موضعه من حيث لا يشعر (كأنه اختبط واختلط من كثرة الحجاج في المجلس) لان المثالين مجمعهما، إذ علمه تعالى بموت إنسان يستلزم ارادته، وبكون انسان يستلزم إرادة يستلزم إرادة خلقه، ومورد التخلف الامثلة التي ذكرهاعليه‌السلام من قبل، ثم أرادعليه‌السلام أن ينبهه على غلطه فقال: فيعلم أنه يكون ما يريد - الخ، والقسمة لعلمه بكون ما يريد وما لا يريد تقتضي صوراً أربعاً: يعلم أنه يكون ما يريد أن يكون فقط، يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون فقط، يعلمهما جميعاً، لا يعلمهما، والصورة الثانية هي ما ينطبق عليه المثالان، والاخيرة محال، والثالثة محال أيضاً لما قالعليه‌السلام : اذن يعلم أن انساناً حي ميت - الخ، ومنطبقة المثالين أيضاً محال لما قلنا، وسليمان بصرافة فطرته تركها واختار الصورة الاولى حيث قال: «الذي أراد أن يكون» بعد أن قال: «لا باس فأيهما يكون - الخ».

٥٨١

قال سليمان: فانما قولي: إن الإرادة ليست هو ولا غيره.

قال الرضاعليه‌السلام : يا جاهل إذا قلت: ليست هو، فقد جعلتها غيره، وإذا قلت: ليست هي غيره فقد جعلتها هو، قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشيء؟

قالعليه‌السلام : نعم؟ قال سليمان: فإن ذلك إثبات للشيء(١) .

قال الرضاعليه‌السلام : أحلت لأنَّ الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن، ويحسن الخياطة وإن لم يخط، ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبداً، ثم قالعليه‌السلام له: يا سليمان هل يعلم أنه واحد لا شيء معه؟! قال: نعم.

قالعليه‌السلام : أفيكون ذلك إثباتاً للشيء؟! قال سليمان: ليس يعلم أنه واحدٌ لا شيء معه.

قال الرضاعليه‌السلام أفتعلم أنت ذاك؟! قال: نعم.

قالعليه‌السلام : فأنت يا سليمان أعلم منه إذاً، قال سليمانُ: المسألة محالٌ.

قالعليه‌السلام : محال عندكَ أنه واحدٌ لا شيء معه، وأنَّه سميعٌ، بصيرٌ، حكيمٌ، عليمٌ، قادرٌ؟! قال: نعم.

قالعليه‌السلام : فكيف أخبر اللّه عزّ وجلّ أنه واحدٌ حي، سميعٌ، بصيرٌ، عليمٌ، خبيرٌ، وهو لا يعلم ذلك؟! وهذا ردُّ ما قال وتكذيبهُ، تعالى اللّه عن ذلك.

ثمَّ قال الرضاعليه‌السلام : فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو ؟! وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه فانَّما هو متحير، تعالى اللّه عن ذلك.

____________________

(١) المعنى، فان ذلك إثبات للشيء معه في الازل، وذلك ظناً منه أن العلم بالمصنوع يستلزم وجوده، فأجابعليه‌السلام بالفرق بين العلم والارادة بالامثلة، فان العلم لا يستلزم المعلوم بخلاف الارادة فانها تستلزم المراد، وقوله: «يحسن» في المواضع الثلاثة من الاحسان بمعنى العلم.

٥٨٢

قال سليمان: فإنَّ الإرادة القدرةُ.

قال الرِّضاعليه‌السلام : وهو عزّ وجلّ يقدر على ما لا يريده أبداً، ولا بدَّ من ذلك لأنَّه قال تباركَ وتعالى:( وَلَئِن شِئنا لَنَذهَبنَّ بِالَّذِي أَوحينا إليكَ ) (١) ، فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته، فانقطع سليمان.

قال المأمون عند ذلك: يا سليمان هذا أعلم هاشمي. ثم تفرق القومُ.

____________________

(١) الاسراء: ٨٦.

٥٨٣

الملحق الرابع(١) : رسالة الامام علي بن محمد الهاديعليه‌السلام في الجبر و.

التفويض وبيان معنى الامر بين الامرين

روي عن الامام أبي الحسن علي بن محمد الهاديعليه‌السلام (في الرد على أهل الجبر والتفويض وإثباتِ العدل والمنزلةِ بين المنزلتين) انَّه أجاب:

من علي بن محمدِ، سلامٌ عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة اللّه وبركاته، فإنه ورد عليَّ كتابكم(٢) ، وفهمتُ ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر ومقالةِ من يقول منكم بالجبر، ومن يقول بالتفويض، وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم، وفهمت ذلك كله.

اعلموا رحمكم اللّه أنّا نظرنا في الآثار، وكثرة ما جاءت به الأخبارُ، فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممن يعقل عن اللّه جلّ وعزّ لا تخلو من معنيين: إمّا حق فيتبع، وإما باطلٌ فيجتنبُ، وقد اجتمعت الاُمّة قاطبةً لا اختلافَ بينهم أنَّ القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتابِ وتحقيقه، مصيبون مهتدون وذلك بقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع اُمتي على ضلالةٍ» فأخبر أنَّ جميع ما اجتمعت عليه الامّةُ كلها حقٌ، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً. والقرآن حق لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه: فإذا شهد القرآن بتصديق خبرٍ وتحقيقه، وأنكر الخبر طائفةٌ

____________________

(١) نقل نص الحديث عن تحف العقول للحراني، ص: ٤٥٨ - ٤٧٥ بتحقيق: علي أكبر الغفاري، وما ذكر في الحاشية من شروح يعود لمحقق الكتاب.

(٢) رواها الطبرسي في الاحتجاج مجملاً تحت عنوان رسالتهعليه‌السلام إلى أهل الاهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض.

٥٨٤

من الاُمّةِ لزمهم الإِقرار به ضرورةً حين اجتمعت في الأصلِ على تصديقِ الكتاب، فإن (هي) جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملَّةِ.

فأوَّل خبرٍ يعرفُ تحقيقهُ من الكتاب وتصديقه والتماسُ شهادته عليه خبر ورد عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم حيث قال: «إنِّي مخلفٌ فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي - أهل بيتي - لن تضلّوا ما تمسكتم بهما وإنهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوضَ»، فلما وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب اللّه نصاً مثل قوله جلّ وعزّ:( إنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ والّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمونَ الصلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعُونَ* وَمَن يَتَوَلَّ اللّه وَرَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حَزبَ هُمُ الغالِبُونَ ) (١) ، وروت العامة في ذلك أخباراً لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنَّه تَصَدقَ بخاتمه وهو راكعٌ، فشكر اللّه ذلك له، وأنزل الآية فيه. فوجدنا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أتى بقوله: «من كنتُ مولاه فعلي مولاه» وبقوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا إِنه لا نبي بعدي»، ووجدناه يقول: «علي يقضي ديني، وينجز موعدي، وهو خليفتي عليكم من بعدي».

فالخبر الأوَّل الذي استنبطت منه هذه الأخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم، وهو أيضاً موافقٌ للكتاب، فلما شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشواهد الاخر لزم على الامَّةِ الإقرارُ بها ضرورةً، إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقةٌ، ووافقتِ القرآن والقرآن وافقها. ثم وردت حقائق الأخبار من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصادقينعليهما‌السلام ونقلها قوم ثقات معروفون، فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً واجباً على كل مؤمن ومؤمنة لا يتعداه إلا أهل العناد. وذلك أنَّ أقاويل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متصلةٌ بقول اللّه، وذلك مثل قوله في محكم كتابه:( إنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ في

____________________________

(١) المائدة: ٥٥ - ٥٦.

٥٨٥

الدُّنيا وَالآخِرَةَ وَأعَدَّ لَهُم عَذاباً مُهيناً ) (١) ، ووجدنا نظير هذه الآية قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من آذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن آذى اللّه يوشك أن ينتقم منه»، وكذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحب علياً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب اللّه»، ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني وليعةَ: «لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي، يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، قم يا علي فسر إليهم»(٢) . وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يوم خيبر: «لأبعثنَّ إليهم غداً رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، كراراً غير فرارٍ، لا يرجع حتّى يفتح اللّه عليه» فقضى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفتح قبل التوجيه، فاستشرف لكلامه أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما كان من الغد دعا علياًعليه‌السلام ، فبعثه إليهم فاصطفاه بهذه المنقبة(٣) ، وسماه كراراً غير فرارٍ، فسماه اللّه محباً للّه ولرسوله، فأخبر أنَّ اللّه ورسوله يحبانه.

وإنّما قدمنا هذا الشرح والبيان دليلاً على ما أردنا وقوةً لما نحن مبينوه من أمر الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين وباللّه العون والقوة، وعليه نتوكل في جميع أمورنا، فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصادقعليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن منزلةٌ بين المنزلتين وهي صحةُ الخلقة، وتخلية السرب(٤) ، والمهلة في الوقت والزاد مثل الراحلة، والسبب المهيج للفاعل على فعله»، فهذه خمسة أشياء جمع به الصادقعليه‌السلام جوامع الفضل، فإذا نقص العبد منها خلَّةً كان العمل عنه مطروحاً بحسبه، فأخبر الصادقعليه‌السلام بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته، ونطق الكتابُ بتصديقه، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله، لأنَّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآلهعليهم‌السلام لا يعدون شيئاً من قوله، وأقاويلهم حدود القرآن، فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل، فوجد لها موافقاً، وعليها دليلاً

____________________

(١) الاحزاب: ٥٧.

(٢) بنو وليعة - كسفينة -: حي من كندة. وقد مضى هذه القضية أيضاً في احتجاجات الامام الرضاعليه‌السلام في الاصطفاء مع العلماء في مجلس المأمون.

(٣) في بعض النسخ (بهذه الصفة).

(٤) السرب - بالفتح -: الطريق والصدر. - وبالكسر - أيضاً: الطريق والقلب. - وبالتحريك -: الماء السائل. وسيأتي بيان هذه الخمسة عن الامامعليه‌السلام بعد شرح الجبر والتفويض وانهما خلاف العدل والعقل.

٥٨٦

كان الاقتداء بها فرضاً لا يتعداه إلا أهل العناد كما ذكرنا في أوَّل الكتابِ. ولما التمسنا تحقيق ما قاله الصادقعليه‌السلام من المنزلة بين المنزلتين وإنكاره الجبر والتفويض، وجدنا الكتاب قد شهد له، وصدق مقالته في هذا، وخبر عنه أيضاً موافقٌ لهذا، أن الصادقعليه‌السلام سئل هل أجبر اللّه العباد على المعاصي؟ فقال الصادقعليه‌السلام : هو أعدلُ من ذلك. فقيل له: فهل فوض إليهم؟ فقالعليه‌السلام : هو أعز وأقهر لهم من ذلك.

وروي عنه أنه قال: الناس في القدر على ثلاثةِ أوجهٍ: رجل يزعم أنَّ الأمر مفوضٌ إليه، فقد وهن اللّه في سلطانه، فهو هالكٌ. ورجل يزعم أن اللّه جلّ وعزّ أجبر العباد على المعاصي، وكلَّفهم ما لا يطيقون، فقد ظلم اللّه في حكمه، فهو هالكٌ، ورجل يزعم أنَّ اللّه كلَّف العباد ما يطيقونَ، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد اللّه، وإذا أساء استغفر اللّه، فهذا مسلمٌ بالغٌ، فأخبرعليه‌السلام أنَّ من تقلَّد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلافِ الحقِّ، فقد شرحتُ الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ، وأنَّ الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل، فصارتِ المنزلةُ بين المنزلتينِ بينهما.

ثم قالعليه‌السلام : وأضربُ لِكلِّ بابٍ من هذه الأبواب مثلاً يقرِّب المعنى للطالب، ويسهل له البحث عن شرحه، تشهد به محكمات آياتِ الكتابِ، وتحقق تصديقه عند ذوي الألبابِ، وباللّه التوفيق والعصمةُ.

فأمّا الجبر الذي يلزمُ من دان به الخطأُ فهو قول من زعم ان اللّه جل وعزَّ أجبر العباد على المعاصي، وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلم اللّه في حكمه، وكذَّبه وردَّ عليه قوله:( وَلا يظلِمُ رَبُّكَ أحَداً ) (١) ، وقوله:( ذلِكَ بِما قَدَّمَت يَداكَ وَأَنَّ اللّه لَيسَ بِظَلامٍ للعبيدِ ) (٢) . وقوله:( إنَّ اللّه لا يَظلِمُ النّاسَ شَيئاً وَلكِنَّ النّاسَ أنفُسَهُم يَظلِمُون ) (٣) .

____________________

(١) الكهف: ٤٩.

(٢) الحج: ١٠.

(٣) يونس: ٤٤.

٥٨٧

مع آي كثيرةٍ في ذكرِ هذا. فمن زعم أنَّه مجبرٌ على المعاصي فقد أحال بذنبه على اللّه، وقد ظلمهُ في عقوبته. ومن ظلم اللّه فقد كذَّبَ كتابه. ومن كذَّبَ كِتابهُ فقد لزمه الكفرُ باجتماع الاُمَّةِ. ومثل ذلك مثل رجلٍ ملك عبداً مملوكاً لا يملكُ نفسه، ولا يملك عرضاً من عرض الدُّنيا، ويَعلم مولاه ذلك منهُ فأَمَرَه على علم منه بالمصير الى السوقِ لحاجةٍ يأتيه بها، ولم يُملِّكه ثمن ما يأتيه به من حاجته وعلم المالك أنَّ على الحاجة رقيباً لا يطمع أحدٌ في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثَّمَن، وقد وصفَ مالكُ هذا العبد نفسهُ بالعدل والنصفةِ وإظهارِ الحكمةِ ونفي الجور، وأَوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه، وعلم أنَّ المملوك لا يملكُ ثمنها، ولم يملكه ذلك، فلما صار العبد إلى السوق، وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها، وجد عليها مانعاً منها إلا بشراءٍ، وليس يملك العبد ثمنها، فانصرف إلى مولاهُ خائباً بغير قضاءِ حاجته، فاغتاظ مولاه من ذلك، وعاقبه عليه، أليس يجب في عدله وحكمه أن لا يعاقبه، وهو يعلم أنَّ عبدهُ لا يملك عرضاً من عروضِ الدُّنيا، ولم يملّكه ثمن حاجته؟ فإن عاقبه عاقبه ظالماً متعدِّياً عليه، مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونَصِفَتِه، وإن لم يعاقبه كذَّب نفسه في وعيده إيّاه حين أوعده بالكذبِ والظلمِ اللذين ينفيان العدل والحكمة، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، فمن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظَلَّم اللّهَ، ونسبه العقوبة، ومن زعم أنَّ اللّه إلى الجور والعدوان، إذ أوجب على من أجبر فقد أوجب على قياس قوله (هُ) أجبر العباد إنَّ اللّه يدفع عنهم العقوبةَ، ومن زعم أنَّ اللّهَ يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذَّبَ اللّه في وعيده حيث يقولُ:( بَلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأحاطَت بِه خَطيئتُهُ فأولئكَ أصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدُونَ ) (١) ، وقوله:( إنَّ الَّذينَ يأكُلونَ أموالَ الَيتامى ظُلماً إنَّما يأكُلونَ في بُطُونِهِم ناراً وَسَيَصلَونَ سَعيراً ) (٢) ، وقوله:

____________________

(١) البقرة، ٨١.

(٢) النساء: ١٠.

٥٨٨

( إنَّ الذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوفَ نُصليهِم ناراً كُلَّما نَضِجت جُلوُدُهُم بَدَّلناهُم جُلُوداً غَيرَها لِيذُوقوا العَذابَ إنَّ اللّه كانَ عَزِيزاً حَكيماً ) (١) ، مَعَ آي كثيرةٍ في هذا الفنِّ ممن كذَّب وَعيد اللّهِ ويلزَمُهُ في تكذيبه آيةً من كتابِ اللّه الكفرُ وهو ممن قال اللّهُ:( أفتؤمنونَ ببعضِ الكِتابِ وَتَكفُرُونَ بِبعضٍ فَما جَزاءُ من يَفعل ذلِكَ مِنكُم إلا خِزيٌ فِي الحَيوةِ الدُّنيا وَيَوم الَقيمَةِ يُرَدُّونَ إلى أشدِّ العذابِ وَمَا اللّهُ بغافِلٍ عَمّا تَعمَلُون ) (٢) بَل نقول: إن اللّه جلّ وعزّ جازى العباد على أعمالهم، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملَّكهم إيّاها، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه:( مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أمثالِها وَمَن جاءَ بالسَّيِّئةِ فَلا يُجزى إلا مِثلها وَهُم لا يُظلمونَ ) (٣) ، وقال جلّ ذكره:( يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت مِن خَيرٍ مُحضَراً ومَا عَمِلت مِن سُوءٍ تَودُّ لو أنَّ بَينَها وَبَينَهُ أمَداً بَعيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفسهُ ) (٤) وقال:( اليومَ تُجزى كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت لا ظُلمَ اليومَ ) (٥) .

فهذه آياتٌ محكماتٌ تنفي الجبر ومن دانَ بِه، ومثلها فِي القُرآنِ كثيرٌ، اختصرنا ذلك لئلا يطُول الكِتابُ، وَبِاللّهِ التَّوفيقُ.

وأمّا التفويضُ الَّذي أبطَلَهُ الصادقعليه‌السلام ، وأَخطَأَ(٦) من دانَ به وتقلَّدهُ فهو قَولُ القائِلِ: إنَّ اللّه جلَّ ذكره فوَّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلامٌ دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودِقَّته، وإلى هذا ذهبت الأئِمَّةُ المهتديةُ من عترةِ الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانَّهم قالوا: لو فوَّض إليهم على جهةِ الاهمال لكان لازماً له رضا ما اختاروه واستوجبوا

____________________

(١) النساء: ٥٦.

(٢) البقرة: ٨٥.

(٣) الأنعام: ١٦٠.

(٤) آل عمران: ٣٠.

(٥) المؤمن: ١٧.

(٦) في بعض النسخ (وخطأ).

٥٨٩

منهُ الثوابَ(١) ، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمالُ واقعاً، وتنصرفُ هذه المقالةُ على معنيين: إمّا أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول إختيارهم بآرائهم ضرورة كَره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهنُ، أو يكون جلّ وعزّ عجز عن تَعبُّدهِم بالأمر والنهي على إرادته كرهوا أو أحبوا، ففوض أمره ونهيه إليهم، وأجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بإرادته فجعل الاختيار اليهم في الكفر والإيمان، ومثل ذلك مثل رجلٍ ملك عبداً ابتاعهُ ليخدمه، ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمره ونهيه، وادّعى مالك العبد أنَّه قاهرٌ، عزيز، حَكيمٌ، فَأمر عبده ونهاه، ووعده على اتباع أمره عظيم الثوابِ، وأوعده على معصيته أليم العقاب، فخالف العبدُ إرادة مالكه، ولم يقف عند أمره ونهيه، فأي أمرٍ أمرهُ أو أيَّ نهي نهاه عنه لم يأته على إرادةِ المولى، بل كان العبد يتَّبعُ إرادة نفسه واتباع هواه، ولا يطيقُ المولى أن يردَّهُ إلى اتِّباع أمره ونهيه، والوقوف على إرادته، ففوض اختيار أمره ونهيه إليه، ورضي منه بكل ما فعله على إرادة العبد لا على إرادةِ المالك، وبعثه في بعض حوائجه، وسمى له الحاجة، فخالف على مولاه، وقصد لارادةِ نفسه واتَّبع هواهُ، فلمّا رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به، فإذا هو خلافُ ما أمره به، فقال له: لم أتيتني بخلافِ ما أمرتكَ؟ فقال العبدُ: اتكلت على تفويضك الأمر إليَّ، فاتبعتُ هواي وإرادتي، لانَّ المفوَّضَ إليه غير محظورٍ عليه، فاستحال التفويضُ.

أو ليس يجب على هذا السبب إمّا أن يكون المالكُ للعبدِ قادراً يأمر عبده باتباع أمره ونهيه على إرادته لا على إرادة العبد، ويملّكه من الطّاقة بقدرِ ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا أمره بأمرٍ ونهاه عن نهي عرَّفه الثواب والعقاب عليهما، وحذَّره ورغَّبه بصفة ثوابه وعقابه، ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملّكَهُ من الطاقة(٢) لامرِه ونهيه وترغيبه وترهيبه، فيكون عدله وإنصافه شاملاً له، وحجته واضحةً عليه للإعذار والإنذار، فإذا اتبَّع العبدُ

____________________

(١) في بعض النسخ (به الثواب).

(٢) في بعض النسخ (من الطاعة).

٥٩٠

أمر مولاه جازاه، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبهُ، أو يكون عاجزاً غير قادرِ ففوّض أمره إليه أحسن أم أساء، أطاع أم عصى، عاجز عن عقوبته وردِّه إلى اتباع أمره. وفي إثباتِ العجز نفي القدرة والتَّأَلُّهِ، وإبطال الامر والنهي والثواب والعقاب، ومخالفةُ الكتاب إذا يقول:( وَلا يَرضى لِعبادهِ الكُفر وإن تَشكُروا يرضَهُ لَكُم ) (١) ، وقوله عزّ وجلّ:( اتقُوا اللّهَ حَقَّ تقُاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنتُم مُسلِمونَ ) (٢) ، وقوله:( وَما خَلَقتُ الجِنَّ والإِنس إِلا لِيَعبُدونِ* ما أُريدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَما أُريدُ أن يُطعمُونِ ) (٣) ، وقوله:( واُعبُدُوا اللّهَ وَلا تُشركوا بِه شَيئاً ) (٤) ، وقوله:( أَطيعُوا اللّه (وَرَسولَهُ) وَلا تَوَلَّوا عَنهُ وَأَنتُم تَسمَعُونَ ) (٥) .

فمن زعم انَّ اللّه تعالى فوَّض أمرهُ ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليهِ العجز وأوجب عليه قبول كلِّ ما عملوا من خير وشر، وأبطل أمر اللّه ونهيه ووعدَه ووعيده، لعلَّةِ ما زعم أن اللّه فوضها إليه، لأنَّ المفوَّض إليه يعمل بمشئيته، فإن شاء الكفر أو الايمان كان غير مردودٍ عليه ولا محظورٍ، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده، وأَمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية( أفَتُؤمِنُونَ بِبِعضِ الكِتابِ وَتَكفُرُونَ بِبعضٍ فَما جَزاءُ مَن يفعلُ ذلِكَ مِنكُم إلا خزيٌ فِي الحيوةِ الدُّنيا ويَومَ القيامَةِ يُردُّون إلى أشدِّ العَذابِ وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَما تَعمَلونَ ) (٦) ، تعالى اللّه عما يَدِينُ به أهل التفويضِ علواً كبيراً.

لكن نقُولُ: إنَّ اللّه جلَّ وعزَّ خلق الخلق بقدرته، وملَّكهم استطاعةً تعبّدهُم بها،

____________________

(١) الزمر: ٧.

(٢) آل عمران: ١٠٢.

(٣) الذاريات: ٥٦ - ٥٧.

(٤) النساء: ٣٦.

(٥) الانفال: ٢٠ وفي المصدر بدل (ورسوله): وأطيعوا الرسول وهو اشتباه على الظاهر.

(٦) البقرة: ٨٦.

٥٩١

فأَمَرَهُم ونهاهم بما أراد(١) ، فَقَبِلَ منهم اتِّباع أمره، ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته، وذم من عصاه وعاقبه عليها، وللّهِ الخيرةُ في الامر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به، وينهى عما يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملّكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه، لأنه ظاهر العدل والنَّصَفة والحكمة البالغة، بالغ الحجةَ بالاعذار والانذار، وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته، واحتجاجه على عباده، اصطفى محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعثه برسالاته الى خلقه، فقال من قال من كفّار قومه حسداً واستكباراً:( لَو لا نُزِّلَ هذَا القُرءانُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَريَتَينِ عَظيم ) (٢) يعني اُمية بن أبي الصلت وأبا مسعودٍ الثقفيَّ(٣) ، فأبطلَ اللّه اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم، حيث يقول:

____________________

(١) في الاحتجاج (وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الامر والنهي).

(٢) الزخرف٣١. وقال الطبرسي في تفسيره: «يعنون بالقريتين مكة والطائف وتقدير الآية على رجل عظيم من القريتين أي من إحدى القريتين فحذف المضاف».

(٣) وكذا في الاحتجاج ولكن الظاهر أن المراد بالرجل العظيم هو الذي كان من إحدى القريتين كالوليد بن المغيرة من مكة، وأبي مسعود الثقفي من الطائف كما في التفسير، فليس أمية بن أبي الصلت وأبو مسعود الثقفي من القريتين لانهما كانا من أهل الطائف، فيكون كلاهما مثالاً للرجل العظيم الذي كان من إحدى القريتين أي الطائف، لا من القريتين يعني مكة والطائف. فعلى أي نحو كان فالرجلان كانا عظيمي القدر عند قومهما وذوي الاموال الجسيمة فيهما فزعموا أن من كان كذلك أولى بالنبوة من غيره. وكان الوليد بن المغيرة عمّ أبي جهل كان شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب، يتحاكمون إليه في الامور، وينشدونه الاشعار، فما اختاره من الشعر كان مختاراً، وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها، وملك القنطار أي جلد ثور مملوّ ذهباً. كان الوليد أحد المستهزئين الخمسة الذين كفى اللّه شرهم، وهو الذي جاء قريش عنده فقالوا له: يا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد أسحر أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جالس في الحجر، فقال: يا محمد أنشدني شعرك؟ فقال: ما هو بشعر ولكنه كلام اللّه الذي به بعث أنبياءه ورسله، فقال: اتل، فقرأ: بسم اللّه الرحمن الرحيم. فلما سمع الرحمن استهزأ منه وقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرّحمن، قال: لا ولكني ادعو إلى اللّه وهو الرّحمن الرّحيم، ثم افتتح حم السجدة فلمّا بلغ إلى قوله:( فَإن أعرَضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثلَ صاعِقةِ عادٍ وثمود ) وسمعه اقشعرّ جلده، وقامت كل شعرة في بدنه، وقام ومشى إلي بيته ولم يرجع إلى قريش، فقيل: صبا عبد شمس إلى دين محمد، فاغتمت قريش وغدا عليه أبو جهل فقال: فضحتنا يا عم، قال: يا ابن أخ ما ذاك واني على دين قومي ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود، قال: أَفَشعر هو؟ قال: ما هو بشعر. قال: فخطب؟ قال: لا، ان الخُطبَ كلام متصل وهذا كلام منثور لا يشبه بعضه بعضاً له طلاوة، قال: فكهانة هو؟ قال: لا، قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه، فلما كان من العد، قالوا: يا عبد شمس ما تقول؟ قال قولوا: هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه تعالى: (ذَرني وَمن خلقتُ وحيداً - إلى قوله -: عليها تسعة عشر). وجاء يوماً إلىرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: اقرأ عليّ، فقال: (إن اللّه يأمر بالعدلِ والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)، فقال: أعد؟ فأعاد، فقال: واللّه له الحلاوة والطلاوة وإن اعلاه لمثمر وإن أسفله لمعذق وماهذا بقول بشر. وأما امّية بن أبي الصلت الثقفي كان من أهل الطائف وكان من أكبر شعراء الجاهلية وأغلب شعره متعلّق بالآخرة، وكان ينظر في الكتب المتقدمة ويقرؤها، وحرم الخمر وشك في الاوثان ورغب عن عبادتها، والتمس الدين، وأخبر أن نبياً يخرج. قد أظل زمانه وكان يؤمّل أن يكون ذلك النبي فلما بعث النبي وبلغ خبره كفر به حسداً وقال: كنت أرجو أن اكونه. كان ابوه عبيد اللّه بن ربيعة المكنّى بأبي الصلت وأمه رقية بنت عبد الشمس. مات في الطائف، وممّا قال في مرض موته:

٥٩٢

____________________

كل عيش وإن تطاول دهراً

منتهى أمره إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي

في رؤوس الجبال أرعى الوعولا

وروي أنه استنشد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخته شعره من بعد موته فأنشدته:

لك الحمد والنعماء والفضل ربنا

ولا شيء أعلى منك جداً وأمجداً

وهي قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها، ثم أنشدته قصيدته التي فيها:

وقف الناس للحساب جميعاً

فشقيّ معذب وسعيد

إلى غير ذلك فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آمَن شعره وكفر قلبه. وأنزل فيه (واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناهُ آياتنا فانسَلخَ مِنها فأتبعه الشيطانُ فكانَ من الغاوينَ* ولَو شئنا لرفعناه بِها ولكِنه أخلدَ إلي الأرِضِ واتَّبع هواهُ فمثلُه كَمَثلِ الكلبِ إن تحمل عليه يلَهث أو تتركه يَلهَث ذلكَ مَثلَ القوم الذين كذبوا بآياتنا - إلى قوله -: وأنفسهم كانوا يظلمون).

وأبو مسعود هو عروة بن مسعود الثقفي كان من أهل الطائف وأحد السادة الاربعة في الاسلام: «بشر بن هلال العبدي، عدي بن حاتم الطائي، سراقة بن مالك المدلجي، عروة بن مسعود الثقفي».

كان أبو مسعود عاقلاً لبيباً، وهو الذي أرسلته قريش يوم الحديبية، فعقد معه الصلح وهو كافر، ثم أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الطائف، واستأذن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرجوع الى قومه، فقال: انّي أخاف أن يقتلوك، فقال: ان وجدوني نائماً ما أيقظوني، فأذن له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرجع الى الطائف ودعا قومه الى الاسلام ونصح لهم فعصوه واسمعوه الأذى، حتى إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذن وتشهد فرماه رجل بسهم فقتله، ولما بلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتله قال: مَثَلُ عروة مثل صاحب يس دعا قومه الى اللّه فقتلوه، وهو جدّ أعلى لعليّ بن الحسينعليهما‌السلام المقتول بكربلا من قِبل امّه، كان امّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي. وهو الذي روى عنه تعظيم الصحابة للنبي حين رجع من عند النبي الى أصحابه يوم الحديبية، فقال: يا قوم لقد وفدتُ على الملوك وفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي واللّه ان رأيت ملكاً قط يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كانوا يقتتلون على وضوئه، واذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له.

٥٩٣

( أهُم يَقسِمُونَ رَحمَتَ رَبِّكَ نَحنُ قَسَمنا بَينُهم مَعيشَتَهُم في الحَيوةِ الدُّنيا وَرَفَعنَا بَعضهُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِيتَّخِذ بَعضُهُم بَعضاً سُخريّاً ورَحمتُ ربِّكَ خَيرٌ مِمّا يَجمعُون ) (١) .

ولذلك اختار مَن الامور ما أحب ونهى عما كره، فمن أطاعه أثابه، ومن عصاه

____________________

(١) الزخرف: ٣٢.

٥٩٤

عاقبهُ، ولو فوض اختيار امره إلى عباده لأجاز لقريشٍ اختيار أميةَ بن أبي الصلت وأبي مسعودٍ الثقفي، إذ كانا عندهم أفضل من محمدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلما أدَّب اللّه المؤمنين بقوله:( وَما كانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إذا قَضى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمراً أن يَكُونَ لَهُمُ الخِيرةُ مِن أمرِهِم ) (١) ، فلم يُجز لهم الاختيار بأهوائهم، ولم يقبل منهم إلا اتِّباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاهُ، فمن أطاعهُ رشد، ومن عصاه ضلَّ وغوى، ولزمته الحجةُ بما ملَّكه من الاستطاعه لاتباع أمره، واجتناب نهيه، فمن أجل ذلك حرمهُ ثوابه وأنزل به عقابهُ.

وهذا القول بين القولين ليس بجبرٍ ولا تفويضٍ، وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عباية بن ربعيّ الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل، فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام : سألت عن الاستطاعة تملكها من دون اللّه أو مع الله؟ فسكت عباية، فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام : قل يا عباية، قال وما أقول؟ قالعليه‌السلام : إن قلت: انك تملكها مع اللّه قتلتك وإن قلت: تملكها دون اللّه قتلتك، قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قالعليه‌السلام : تقول إنَّك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فان يملِّكها إياك كان ذلك من عطائه، وان يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون: لا حول ولا قوَّة إلا باللّه، قال عباية: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قالعليه‌السلام : لا حول عن معاصي اللّه إلا بعصمة اللّه، ولا قوَّة لنا على طاعة اللّه إلا بعون اللّه، قال: فوثب عباية فقبل يديه ورجليه.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة اللّه، قال يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قالعليه‌السلام : بالتمييز الَّذي خولني والعقل الذي دلني، قال: أفمجبول أنت عليه؟ قال: لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً على إحسانٍ ولا مذموماً على

____________________

(١) الاحزاب، ٣٦.

٥٩٥

إساءةٍ، وكان المحسن أولى باللائمة من المسيء فعلمت أن اللّه قائم باقٍ، وما دونه حدث حائل زائل، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل، قال نجدةُ: أجدك أصبحت حكيماً يا أمير المؤمنين، قال: أصبحت مخيراً، فإن أتيت السِّيئة (ب) مكان الحسنةِ فأنا المعاقب عليها.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال لرجلٍ سأَلَه بعد انصرافه من الشام، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاءٍ وقدر؟ قالعليه‌السلام : نعم يا شيخ، ما علوتم تلعةً(١) ولا هبطتم وادياً إلا بقضاءٍ وقدرٍ من اللّه، فقال الشيخ: عندَ اللّه أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟ فقالعليه‌السلام مه يا شيخ، فانَّ اللّه قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيءٍ من اُموركم مكرهين، ولا إليه مضطرِّين، لعلكَ ظننت أنَّه قضاءٌ حتمٌ، وقدرٌ لازمٌ، لو كانَ ذلك كذلك لبطل الثوابُ والعقابُ، ولسقط الوعدُ والوعيد، ولما الزمت الاشياءُ أهلها(٢) على الحقائق، ذلك مقالةُ عبدةِ الأَوثانِ وأَولياء الشيطان، إنَّ اللّه جل وعزَّ أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يعصَ مغلوباً، ولم يخلقِ السمواتِ والأرضَ وما بينهما باطلاً، ذلك ظنُّ الذين كفروُا فويلٌ للذين كفرُوا من النار، فقام الشيخ فقبَّل رأس أمير المؤمنينعليه‌السلام وأنشأ يقول:

أنت الإمامُ الَّذي نرجو بطاعته

يوم النجاةِ منَ الرَّحمنِ غفراناً

أوضحتَ من ديننا ما كانَ مُلتبساً

جزاك ربكَ عنّا فيه رضواناً(٣)

فليس معذرةٌ في فعل فاحشةٍ

قد كنتُ راكبها ظلماً وعصياناً(٤)

فقد دلَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام على موافقة الكتاب، ونفي الجبر والتفويضِ اللَّذين

____________________

(١) التلعة: ما علا من الارض.

(٢) في بعض النسخ (الاسماء أهلها).

(٣) رواه الكليني في الكافي ج ١ ص ١٥٦ وفيه (جزاك ربك بالاحسان احساناً).

(٤) في بعض النسخ (عندي لراكبها ظلماً وعصياناً).

٥٩٦

يلزمان من دان بهما وتقلَّدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتابِ، ونعوذ باللّه من الضلالةِ والكفرِ، ولسنا ندين بجبرٍ ولا تفويضٍ، لكنّا نقولُ بمنزلةٍ بين المنزلتينِ وهو الامتحانُ والاختبارُ بالاستطاعةِ التي ملَّكنا اللّه، وتعبدنا بها على ما شهد به الكتابُ، ودان به الأئمةُ الأَبرارُ من آل الرسول صلوات اللّه عليهم.

ومثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجلٍ ملك عبداً وملكَ مالاً كثيراً أحبَّ أن يختبر عبده على علم منه بما يؤل إليه، فملَّكه من ماله بعض ما أحب ووقفه(١) على اُمورٍ عرفها العبد، فأمره أن يصرف ذلك المال فيها، ونهاهُ عن أسبابٍ لم يحبها، وتقدَّم إليه أن يجتنبها ولا ينفق من ماله فيها، والمال يتصرَّف في أي الوجهين، فصرف المال(٢) أحدهما في اتَّباع أمر المولى ورضاهُ، والآخر صرفه في اتِّباع نهيه وسخطه، وأسكنه دار اختبارٍ أعلمه أنه غير دائم له السكنى في الدار، وأنَّ له داراً غيرها وهو مخرجه إليها، فيها ثواب وعقابٌ دائمانِ، فإن أنفذ العبد المال الذي ملكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنه مخرجه إليها، وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود، وقد حد المولى في ذلك حدّاً معروفاً وهو والمسكن الذي أسكنه في الدار الاولى، فإذا بلغ الحد استبدل المولى بالمال وبالعبد على أنه لم يزل مالكاً للمال والعبد في الأوقات كلها إلا أنه وعد أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الاولى إلى أن يستتم سكناه فيها، فوفى له، لأنَّ من صفات المولى العدل والوفاء والنصفة والحكمة، أو ليس يجب أن كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب، وتفضل عليه بأن استعمله في دار فانيةٍ، وأثابه على طاعته فيها نعيماً دائماً في دارٍ باقيةٍ دائمة، وان صرف العبد المال الذي ملكه مولاه أيام سكناه تلك الدار الاولى في الوجه المنهي عنه، وخالف أمر مولاه كذلك

____________________

(١) في بعض النسخ (ووافقه).

(٢) في بعض النسخ (فصرف الآن).

٥٩٧

تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذَّره إياها، غير ظالم له لما تقدم إليه وأعلمه وعرفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده، بذلك يوصف القادر القاهر، وأمّا المولى فهو اللّه جلَّ وعزَّ، وأما العبد فهو ابن آدم المخلوق، والمال قدرة اللّهِ الواسعةُ، ومحنتهُ(١) إظهار (هُ) الحكمة والقدرة، والدار الفانية هي الدنيا، وبعض المال الَّذي ملَّكه مولاه هو الاستطاعة التي ملَّك ابن آدم، والاُمور التي أمر اللّه بصرف المال إليها هو الاستطاعة لاتباع الانبياء والاقرارِ بما أوردوه عن اللّه جلَّ وعزَّ، واجتناب الاسباب التي نهى عنها هي طرقُ إبليس. وأمّا وعده فالنعيم الدائم وهي الجنةُ، وأما الدار الفانية فهي الدنيا. واما الدار الاُخرى فهي الدار الباقية وهي الآخرةُ. والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوى بالاستطاعة التي ملَّك العبد.

وشرحها في الخمسة الامثال التي ذكرها الصادقعليه‌السلام (٢) أنها جمعت جوامع الفضل وأنا مفسرها بشواهد من القرآن والبيان إن شاء اللّه

تفسير صحَّة الخلقةِ

أما قول الصادقعليه‌السلام فإن معناه كمال الخلق للإنسان وكمال الحواس وثبات العقل والتمييز واطلاق اللسان بالنطق، وذلك قول اللّه:( وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ والبَحرِ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّبات وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ ممَّن خَلَقنا تَفضيلاً ) (٣) .

فقد أخبر عزَّ وجلَّ عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع ودواب البحر والطير وكل ذي حركةٍ تدركه حواس بني آدم بتمييز العقل والنطقِ وذلك قوله:( لَقَد خَلَقنَا الإنسانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ ) (٤) ، وقوله:( يا أيُّها الإِنسانَ ما غَرَّكَ

____________________

(١) أي اختباره وامتحانه.

(٢) أي صحة الخلقة. وتخلية السرب. والمهلة في الوقت. والزاد. والسبب المهيج.

(٣) الاسراء: ٧٠.

(٤) التين: ٤.

٥٩٨

بِرَبِّكَ الكَرِيم* الَّذي خَلَقَكَ فَسَواكَ فَعَدَلَك* في أيَّ صورَةٍ ما شاءَ ركَّبَكَ ) (١) ، وفي آيات كثيرةٍ، فأوَّل نعمةِ اللّه على الإنسان صحةُ عقله، وتفضيله على كثيرٍ من خلقه بكمالِ العقلِ وتمييزِ البيانِ، وذلك أن كلَّ ذي حركةٍ على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسِّه، مستكملٌ في ذاته، ففضَّل بني آدم بالنطق الَّذي ليس في غيره من الخلق المدركِ بالحواسِّ، فمن أجل النطق ملَّك اللّه ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمراً ناهياً وغيره مُسخرٌ له كما قال اللّه:( كَذلكَ سَخَّرها لكُم لتُكبِّروا اللّه عَلى ما هَداكُم ) (٢) ، وقال:( وَهُوَ الَّذي سَخَّرَ البَحر لَتأكُلُوا مَنهُ لَحماً طرياً وَتستَخرجوا حليةً تلبسُونها ) (٣) . وقال:( وَالأَنعامَ خَلَقَها لَكُم فيها دِفءٌ ومنافعُ وَمِنها تَأكُلُونَ* وَلَكُم فيها جَمالٌ حينَ تُريحُونَ وَحينَ تَسرحُون* وَتَحملُ أَثقالكُم إِلى بَلَدٍ لم تكُونُوا بالِغيه إلا بِشِقِّ الأَنفُس ) (٤) ، فمن أجل ذلك دعا اللّه الانسان الى اتّباع أمره، والى طاعته بتفضيله إيّاه باستواءِ الخلقِ وكمال النطق والمعرفة، بعد أن ملَّكهم استطاعة ما كان تعبدهم به بقوله:( فاتَّقُوا اللّه مَا استَطعتُم وَاسمعُوا وَأطيعُوا ) (٥) ، وقوله:( لا يُكلِّفُ اللّهُ نَفساً إلا وُسعَها ) (٦) ، وقوله:( لا يُكلفُ اللّهُ نفساً إلا ما آتيها ) (٧) ، وفي آياتٍ كثيرةٍ، فإذا سلب من العبد حاسةً من حواسه رفع العمل عنه بحاسته كقوله:( لَيسَ عَلَى الأعمى

____________________

(١) الانفطار: ٦ و ٧ و ٨.

(٢) الحج: ٣٧.

(٣) النحل: ١٤. وقوله «لتأكلوا. ا ه‍» أي لتصطادوا منه السمك وتأكلوا لحمه. وقوله: «حلية تلبسونها» أي اللؤلؤ والمرجان أنتم ونساؤكم تزينون بها.

(٤) النحل ٥، ٦، ٧ والدفء: السخانة وهي ما يُستدفَأ به من اللباس المعمول من الصوف والوبر فيقي البرد. وقوله: «ولكم فيها جمال» أي لكم فيها مع ما تقدم ذكره تجمّل وتزيُّن عند الناظرين اليها حين تريحون وحين تسرحون أي في هذين الوقتين وقت ردّها من مراعيها ووقت تسريحها اليها فالرواح: رجوعها بالعشي من المراعي، والسراح: مسيرها الى مراعيها بالغداة.

(٥) التغابن: ١٦.

(٦) البقرة: ٢٨٦.

(٧) الطلاق: ٧.

٥٩٩

حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعرجِ حَرَجٌ ) (١) ، فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد، وجميع الأعمال التي لا يقوم بها، وكذلك أوجب على ذي اليسار الحجَّ والزكاة لما ملَّكهُ من استطاعة ذلك، ولم يوجب على الفقير الزكاة والحج، قولهُ:( وَللّه النَّاس حِج البيتِ مَنِ استَطاع إليه سَبيلاً ) (٢) ، وقوله في الظهار:( والَّذين يُظاهِرُون مِن نِسائِهِم ثُم يَعُودُون لِما قالُوا فتَحريُر رَقَبةٍ - الى قوله - فَمَن لَم يستطِع فإطعامُ سِتِّينَ مِسكيناً ) (٣) .

كل ذلك دليلٌ على أنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يكلّف عبادَهُ إلا ما ملَّكهم استطاعتهُ بقُوَّةِ العمل به ونهاهم عن مثل ذلك، فهذه صحة الخلقة.

وأما قوله: تخلية السربِ(٤) . فهو الَّذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره اللّه به، وذلك قوله فيمن استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلةً ولا يهتدي سبيلاً، كما قال اللّه تعالى:( إلا المُستَضعفينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلدانِ لا يَستطيعُون حيلَةً ولا يَهتدُون سَبيلاً ) (٥) ، فأخبر أنَّ المستضعف لم يخل سربه، وليس عليه من القول شيءٌ إذا كان مطمئنَّ القلبِ بالإيمانِ.

وأمَّا المهلةُ في الوقت فهو العمر الذي يُمتَّع الإنسان من حدِّ ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقتِ، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله. فمن مات على طلب الحقِّ ولم يدرك كماله فهو على خيرٍ، وذلك قوله:( وَمَن يَخرُج مِن بَيتِه مُهاجِراً إِلى اللّهِ وَرَسُولِه ) (٦) ، وإن كانَ يعمل بكمال شرايعه لعلَّه ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره. وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطِّفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله:( وَقُل

____________________

(١) النور: ٦٠ - الفتح: ١٧.

(٢) آل عمران: ٩٧.

(٣) المجادلة ٣ - ٤.

(٤) السرب - بالفتح والكسون -: الطريق، يقال: «فلان مخلّى السّرب» أي غير مضيق عليه.

(٥) النساء: ٩٨.

(٦) النساء: ١٠٠.

٦٠٠