البدعة

البدعة0%

البدعة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 610

البدعة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 610
المشاهدات: 137302
تحميل: 6423

توضيحات:

البدعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 610 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137302 / تحميل: 6423
الحجم الحجم الحجم
البدعة

البدعة

مؤلف:
العربية

وموارده المسموح بها، فابتكر من وحي نفسه عملاً يظنُّ أنه داخل في حيِّز التشريع، وألزم نفسه بتطبيقه، وتحمّلِ آثاره.

ولا شك في انَّ هذا العمل يُعد إدخالاً لشيء من خارج الدين فيه، فيكون من مصاديق الابتداع وموارده.

وبما انَّ هذا العمل قد اشتمل على جزءٍ صحيح ومشروع، فانّا نرى انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فصَّل النهي، ولم يطلق القول بعدم مشروعية العمل كلِّه، فقد نهىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الامور غير المشروعة، وهي نذره للوقوف في الشمس، والقيام، وعدم التكلم، وبيَّن صحة نذره للامر المشروع وهو الصيام، ولذا أمره باتمام صيامه، لأنَّ نذر الصيام جائز من وجهة نظر الفقه الاسلامي.

٢ - جاءَ في (الاعتصام) عن قيس بن حازم أنه قال:

«دخل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على امرأةٍ من قيس يُقال لها زينب، فرآها لا تتكلَّم، فقال: ما لها؟ فقيل: حجة مصمتة، فقال لها: تكلمَّي فانَّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية»(١) .

فنلاحظ هنا أيضاً انَّ هذهِ الحالة تشبه الحالة السابقة، إذ انَّ هذهِ المرأة قد ابتدعت من عند نفسها عملاً دخيلاً على التشريع، وتصورت انه عمل مشروع تريد التقرب به إلى اللّه تعالى، وكان ذلك بسبب الجهل، وعدم الاطلاع على حدود الدين وتعاليمه بدقّة، فنهاها النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك، وعَّد سلوكها هذا من عمل الجاهلية.

٣ - روي عن أنس أنه قال:

«رأى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً يهادي بين ابنين له، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول اللّه، نذر أن يحج ماشياً، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنَّ اللّه لغني عن تعذيبه نفسه، فليركب»(٢) .

____________________

(١) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ٢، ص: ٥٢.

(٢) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٣، ح: ١٣٤٥٤، ص: ٢٧١.

٨١

وهذه الحادثة ناشئة من الجهل بامور التشريع أيضاً، ومتولدة من عدم إدراك أحكام الفقه الاسلامي بالشكل الصحيح، وهذا الجهل يشكل النواة الاولى لنشوء البدع، والخروج إلى حيث الاجتهاد الشخصي في مقابل النص الشرعي، والسلوك الخاطئ الوارد إلى الدين من خارج حدوده.

ولذا نرى أنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر إلى معالجة هذا الموقف، ونبَّه إلى أنّ هذا العمل عمل غير مشروع بصورته الحالية التي توجب مشقة النفس وتعذيبها، وان كان اصل مشروعية الحج مشياً على الاقدام ثابت ومقر من قبل الاسلام، وللانسان أن ينذر ذلك، ولكن لا إلى الدرجة التي تؤدي بالمكلّف إلى المشقة والحرج.

٤ - روي عن رجل من أهل البادية عن أبيه عن جده:

«أنه حجَّ مع ذي قرابة له مقترناً به، فرآه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ما هذا؟قال: أنه نذر. فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقران أن يُقطع»(١) .

وهذه ظاهرة دخيلة على التشريع أيضاً، وهي ان يقترن شخصان بقران يربطهما معاً، ويؤدّيان مناسك الحج بهذه الصورة، وأغلب الظن ان هذه الظاهرة نشأت من حالة العفوية والسذاجة والجهل باحكام الشريعة الاسلامية أيضاً.

وكان موقف الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه هذهِ الحادثة موقفاً حاسماً، إذ بعد أن سأل عن الامر، وتبيَّن له أنه قد بُني على أساس خاطئٍ وتصورٍ موهوم، أمر بقطع القران الذي يربط بين الرجلين.

٥ - قال جابر بن عبد اللّه:

«انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في سفر، فرأى رجلاً عليه زحام قد ظُلل عليه، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا؟ قالوا: صائم! قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من البر الصيام في السفر»(٢) .

____________________

(١) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٥، ح: ٢٠٠٦٦، ص: ٤٨.

(٢) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٣، ح: ١٤٠١٧، ص: ٣١٩.

٨٢

ومن خلال هذهِ الحادثة ندرك أنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي كان يتحرّى ويبادر إلى السؤال والاستفسار عن مختلف الظواهر التي قد تمسّ تعاليم الشريعة الاسلامية، وتتجاوز حدودها، وعندما يرىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ هذا الشخص قد أحدثَ أمراً لا وجود له في الشريعة، بل وارتكب ما ورد النهي بشأنه، معتقداً انَّ ذلك يقرّبه إلى اللّه تعالى، ويصب في طريق طاعته وعبادته، وجَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين إلى عدم مشروعية هذا العمل، وعدم صحة الصيام في السفر.

٦ - عن معاوية السلمي قال:

«صليت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعطس رجل من القوم، فقلت: يرحمكَ اللّه، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُمياه! ما شأنكم تنظرون اليَّ؟! قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتوني، لكنّي سكت!

فلما قضى النبي الصلاة - بأبي هو وامي، ما شتمني، ولا كرهني، ولا ضربني - فقال: إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس هذا! إنّما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن»(١) .

ولعلَّ هذه الحادثة تكشف لنا بوضوح كامل عن طبيعة التفكير الساذج الذي كان يحمله بعض المسلمين آنذاك، والطريقة السطحية والعفوية التي يتعاملون بها مَعَ الامور التشريعية التوقيفية، التي لا يصح فيها الزيادة ولا النقصان، وخصوصاً مثل الصلاة التي تمثل عمود الدين وأساسه.

فنرى من خلال الحديث المذكور انَّ هذا الشخص الذي جاءَ يصلي خلف رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بدأ بالحديث والحوار مَعَ بقية المصلّين، من غير أن يكثرث بما أوجبه اللّه تعالى في هذهِ العبادة التوقيفية من تعاليم وحدود، لا بد من الالتزام بها ومراعاتها، والتي

____________________

(١) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٥، ح: ٢٣٢٥٣، ص: ٤٤٨.

٨٣

من أهمها أن يقتصر المصلّي على أذكارها وأفعالها المخصوصة، ولا يتجاوز ذلك إلى حيث الامور غير المشروعة، ولكنَّ هذا الرجل كان يتعامل مَع الصلاة وكأنَّه متحرر من كلِّ إلزام شرعي.

ومن الطبيعي انَّ هذا الأمر إذا لم يُعالج ولم يُستأصل منذ البدايات، فانَّه سوف يكون منشأً لدخول ما ليس من الدين فيه، واختلاط المحللات بالمحرَّمات، وهو يعني الابتداع.

ولذا نرى انَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بادر إلى معالجة الموقف واستدراكه بهدوء كامل، وتوجيه رسالي مثالي رفيع، فوجَّه الرجل إلي حيث الالتزام بالحدود المشروعة للصلاة والتقيّد بها، وعدم الخروج من ذلك إلى حيث التصرفات المحرَّمة والمبطلة لها.

٧ - ذكر ابن سيرين:

«ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج فلقيه حذيفة، فحاد عنه، فاغتسل ثم جاء، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لكَ؟ قال: يا رسول اللّه كنت جنباً! فقال: رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنَّ المسلم لا ينجس»(١) .

فبدافع من الجهل هنا نرى انَّ هذا الصحابي يبتدع من عند نفسه حكماً خاصاً، ليس له أي أساس في التشريع، فيدرك النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك منه، ويأمره بالعودة إلى حيث تعاليم السنة الناصعة وترك ما ظن أنه من المحظورات الشرعية، ولو استمر هذا الصحابي على ما كان عليه من الاعتقاد بنجاسة الجنب، لكان ذلك يعني تشريع وتأسيس حكم جديد في مقابل التشريع الالهي الثابت.

٨ - روى (ابن وضاح) عن أبي اسحاق أنه قال:

«انَّ الناس نودي فيهم بعدَ نومة: انه مَن صلّى في المسجد الأعظم دخل الجنة، فانطلق النساء والرجال حتى امتلأ المسجد قياماً يصلّون، قال أبو اسحاق: انَّ امي

____________________

(١) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٥، ح: ٢٢٩٠٧، ص: ٤٠٢.

٨٤

وجدتي فيهم.

فاُتي بن مسعود فقيل له: أدرك الناس، فقال: ما لهم، قيل: نودي فيهم بعد نومة أنه مَن صلّى في المسجد الأعظم دخل الجنّة.

فخرج ابن مسعود يشير بثوبه: ويلكم اخرجوا لا تُعذَّبوا، انما هي نفخة من الشيطان، أنه لم يُنزل كتاباً بعد نبيكم، ولا ينزل بعد نبيكم.

فخرجوا، وجلسنا إلى عبد اللّه فقال: انَّ الشيطان إذا أراد أن يوقع الكذب، انطلق فتمثل رجلاً، فيلقى آخر فيقول له: أما بلغكَ الخبر؟ فيقول الرجل: وما ذاك، فيقول: كان من الأمر كذا وكذا، فانطلق فحدِّث أصحابك، قال: فينطلق الآخر فيقول: لقد لقينا رجلاً إني لا أتوهمه أعرف وجهه، زعم أنه كان من الامر كذا وكذا، وما هو إلا الشيطان»(١) .

فعلى تقدير صحة هذه الرواية نجد انَّ الاعداد الكبيرة من الناس قد انجرفت مَعَ دعاية لا أساس لها بدافع من الجهل أيضاً، وعدم التمعّن في اصول الشريعة وأحكامها، والسير على نهجها بوعي.

ومن غير شك ان هذا الانجراف العفوي، والمبادرة إلى ذلك العمل المزعوم، تعدّ من مصاديق الابتداع ومن الموارد التي دخلت إلى الدين عن طريق التسامح والجهل واللامبالاة.

٩ - ما روي في (الاعتصام) عن الزبير بن بكار أنَّه قال:

«سمعت مالكَ بنَ أنس وقد أتاه رجل فقال: يا أبا عبد اللّه من أين اُحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: إني اُريد أن اُحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فاني أخشى عليكَ الفتنة. قال وأي فتنة هذه؟ انما هي أميال

____________________

(١) ابن وضاح القرطبي، البدع والنهي عنها، تصحيح وتعليق: محمد أحمد دهمان، ص: ٩ - ٨.

٨٥

أزيدها! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى انكَ سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ إني سمعتُ اللّه يقول:( فَليَحذرِ الّذينَ يُحالِفُونَ عَن أمِرِه أن تُصيبَهُم فِتنة أو يُصيبَهُم عَذاب أليم ) (١) (٢) .

وفي الحقيقة ان توجيه مالك بن أنس لهذا الرجل لم يبتعد عن الصواب، فانَّ الرجل يرى أنَّ الأمر لا يعدو أن يكون قضية ذوقية، يستطيع أن يزيد منها أو ينقص ما يشاء! لا سيما وأنه يعطي لنفسه المبرر المشروع، وينتحل لها العذر، لأنَّه يريد أن يتطوّع بأكثر من المطلوب! وهذا أيضاً من قبيل الابتداع المحرَّم الذي ينشأ عن حالة الجهل والتسامح في أمر الدين.

٢ - النظرة البتراء للدين

رافقت الاديان السماوية بشكل عام ظاهرة خطيرة تجنح إلى فصل الدين عن الحياة، والاقتصار على الامور العبادية الفردية التي لا علاقة لها بالمجتمع والامور التي تحيط بالانسان.

وقد أخذت هذهِ الظاهرة المجال الاوسع لها من الدين الاسلامي أيضاً، ومنذ بدايات التشريع، من خلال ظهور دعوات متعددة ومتكررة، لا زال الواقع الاسلامي يعاني من رواسبها ومخلفّاتها الشيء الكثير.

وكان للظروف السياسية والحكومات التي تآمرت على الاسلام الدخل الكبير في تشجيع هذه الظاهرة، والايحاء إلى المسلمين بأنَّ الدين لا يعني أكثر من الصلاة والدعاء وإقامة الشعائر العبادية الاخرى، وأما شؤون المجتمع والحياة والادارة والحكم فهي من

____________________

(١) النور: ٦٣.

(٢) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ١٣٢.

٨٦

وظائف الحكام والامراء، ولا دخل للتشريع بها، ولا يحق لهم التدخل فيها.

ولذا نجد انَّ هذا السلوك الديني الشاذ، يجد في مختلف العصور الدعم السياسي الكامل، والارضية المهيئة لانتشاره، واتساع نطاق تأثيره من قبل حكومات الجور والضلال، لأنَّ الامر لا يقتصر فيه على عدم التقاطع مَعَ تلك الحكومات، وعدم تهديد مصالحها من قريب أو بعيد فحسب، وانما نجد أنَّه يقدم الخدمات الكبيرة لها في أغلب الأحيان.

ومن غير شك انَّ الدين الاسلامي الذي يدعو الفرد إلى أن يدخل في غمار الحياة، ويتفاعل مع المجتمع بالأخذ والعطاء، ويغيِّر وجه الحياة إلى ما هو أفضل دائماً، ويوجهها نحو الفضيلة والطهر والصفاء. يحارب هذهِ الظاهرة بقوة، ويؤكد على استئصالها وقلعها من الجذور، ويعدّها من أخطر الظواهر التي تهدد الشريعة بالانزواء والتلاشي والاضمحلال.

ولذا نجد أنَّ الاسلام قد دعا إلى أن يأخذ الانسان نصيبه من هذه الحياة، عن طريق السلوك المحلّل، وأن يعطي لكل عضوٍ من أعضائه حظّاً من الراحة، وأن يهب لنفسه حقها من الالتذاذ بما أباحه اللّه لعباده من طيبات الرزق، وجعله بذلك مقوماً لحركة الانسان التكاملية نحوه عزَّ وجلَّ، قال اللّه تعالى:

( يا بَنِي آدمَ خُذُوا رينَتَكم عِندَ كلِّ مسجدٍ ) (١) .

وقال تعالى( قل مَن حرَّم زينةَ اللّهِ الّتي أخرَجَ لعبادِهِ والطيباتِ منَ الرزقِ قُل هيَ للّذينَ آمنُوا في الحياةِ الدُّنيا خالصةً يَومَ الِقيامَةِ ) (٢) .

فشجب الاسلام حالة الرهبنة، والقسوة بحق النفس، وتحميلها المشاق

____________________

(١) الاعراف: ٣١.

(٢) الاعراف: ٣٢.

٨٧

والصعوبات البالغة، ووجَّه المجتمع نحو السلوك المتوازن، الذي يحفظ حقَّ اللّه تعالى وحقَّ النفس معاً، ولا ينأى عن الحياة الاجتماعية، ويغرق في الاذكار والاوراد والعبادات المحضة، الخالية من النفع والعطاء.

وفي الحقيقة انِّ هذه التوسعة تعبِّر عن أحد المقومات الاساسية التي تساهم في إثراء حركة الانسان التكاملية نحو اللّه تعالى، وإعطائها صورة متكافئة، لا تتحجم في الجانب العبادي وتنعزل عن دورها في الحياة بشكل مطلق، ولا تنساب مع الزخارف والملاذ من دون قيود.

وهناك دواعٍ عديدة تؤدي إلى نشوء حالة (الرهبنة)، والانقطاع للعبادة، والانزواء عن الحياة، من أبرزها الخوف من الدخول في شؤون الحكم والسياسة، والتجبجب عن ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، والابتعاد عن سطوة الظالمين، وبطشهم، وارهابهم، ومما يصلح أن يكون مؤشراً على ذلك ما رواه الطبرسي في (مجمع البيان) عن ابن مسعود أنه قال:

«كنت رديف رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حمار، فقال: يا ابن ام عبد! هل تدري من أين أحدثت بنو اسرائيل الرهبانية؟ فقلت: اللّه ورسوله أعلم، فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى، يعملون بمعاصي اللّه، فغضب أهل الايمان، فقاتلوهم، فهُزم أهل الايمان ثلاث مرات، فلم يبقَ منهم إلا القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في الارض، إلى أن يبعث اللّه النبي الذي وعدنا به عيسى - يعنون محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم مَن تمسكَ بدينه، ومنهم مَن كف، ثم تلا هذهِ الآية:( ورهبانيةً ابتَدَعوُها ما كَتبناها عَليهِم إلا ابتِغاءَ رضوانِ اللّهِ فَما رَعَوها حَقَّ رعايَتِها فآتَينا الّذينَ آمنُوا مِنهُم أجرَهُم وَكَثير مِنهُم

٨٨

فاسِقُون ) ، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابنَ ام عبد! أتدري ما رهبانية امتي؟ قلت: اللّه ورسوله أعلم، قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة.».

ومن الدواعي الاخرى لنشوء الرهبانية، المشاكل النفسية، والازمات الروحية، أو الانتكاسات الاجتماعية التي قد يصاب بها الانسان في حياته، فقد يضطره ذلك إلى الانزواء، وملء الفراغ الذي يعيش فيه، بالذكر والعبادة والدعاء، وقد روي في هذا الشأن عن أنس أنه قال:

«توفي ابن لعثمان بن مظغون، فاشتد حزنه عليه، حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له: يا عثمان إنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنَّما رهبانية امتي الجهاد في سبيل اللّه».

وذكر الكراجكي في كنز الفوائد ما يشير إلى هذا المعنى أيضاً حيث يقول:

«لقد اضطررتُ يوماً إلى الحضور مع قومٍ من المتصوفين، فلما ضمهم المجلس، أخذوا فيما جرت به عادتهم من الغناء والرقص، فاعتزلتهم إلى احدى الجهات، وانضاف إليَّ رجل من أهل الفضل والديانات، فتحادثنا ذم الصوفية على ما يصنعون، وفساد أغراضهم فيما يتناولون، وقبح ما يفعلون من الحركة والقيام، وما يدخلون على أنفسهم في الرقص من الآلام، فكان الرجل لقولي مصوِّباً، وللقوم في فعلهم مخطّئاً.

ولم نزل كذلكَ إلى أن غنّى مغنّي القوم هذهِ الأبيات:

وما اُمُّ مكحول المدامع ترتعى

ترى الاُنس وحشاً وهي تأنسُ بالوحش

غدت فارتعت ثم انتشت لرضاعه

فلم تلف شيئاً من قوائمه الخمشِ

فطافت بذاك القاع ولهاً فصادمت

سباع الفلا ينهشنه أيّما نهشِ

____________________

(١) الحديد: ٢٧.

(٢) الفضل بن الحسن الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج: ٩، ص: ٣٠٨.

(٣) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٦٧، باب: ٥١، ح: ١، ص: ١١٤ - ١١٥، عن أمالي الصدوق ص: ٤٠.

٨٩

بأوجع منّي يوم ظلّت أنامل

تودّعني بالدرِّ من شبكِ النقشِ

فلما سمع صاحبي ذلك نهض مسرعاً مبادراً، ففعل من القفز والرقص والبكاء واللطم ما يزيد على ما فعله مَن قبله ممن كان يخطئه ويستهجنه، وأخذ يستعيد من الشعر ما لا يحسن استعادته، ولا جرت عادتهم بالطرب على مثله وهو قوله:

فاطفت بذاك القاع ولهاً فصادفت

سباع الفلا ينهشنه أيّما نهشِ

حتى بلغ من نفسه المجهود، ووقع كالمغشي عليه من الموت، فحيَّرني ما رأيت من حاله، واخذتُ افكر في أفعاله المضادة، لما سمعت من أقواله، فلما أفاق من غشيته، لم أملك الصبر دون سؤاله عن أمره، وسبب ما صنعه بنفسه، مع تجهيله من قبل لفاعله، وعن وجه استعادته من الشعر ما لم تجرِ عادتهم باستعادة مثله، فقال لي: لستُ أجهل ما ذكرت، ولي عذر واضح فيما صنعت، اعلمكَ أنَّ أبي كان كاتباً، وكان بي برّاً وعليَّ شفيقاً، فسخط السلطان عيه فقتله، فخرجت إلى الصحراء لشدة ما لحقني من الحزن عليه، فوجدته ملقى والكلاب ينهشون لحمه، فلما سمعت المغنّي يقول:

فطافت بذاك القاع ولهاً فصادفت

سباع الفلا ينهشنه أيّما نهش

ذكرت ما لحق أبي، وتصور شخصه بين عيني، وتجدد حزنه عليَّ، ففعلتُ الذي رأيتَ بنفسي».

وقد يكون في نفس هذه الاتجاه ما رواه أبو سلمان الداراني عن الربيع بن خيثم: «أنه كان جالساً على باب داره إذا جاءه حجر فصكَّ جبهته فشجه فجعل يمسح الدم ويقول: لقد وُعظت يا ربيع، فقام ودخل داره، فما جلس بعد ذلك على باب داره حتى اُخرجت جنازته».

____________________

(١) أبو الفتح الكراجكي، كنز الفوائد، تحقيق: عبد اللّه بن نعمة، ج: ٢، ص: ٧٨ - ٨٠.

(٢) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٤٣.

٩٠

وقد تُبطَّن ظاهرة الاعتزال والرهبنة برغبة الخلوة باللّه تعالى، والانفراد به، الفرار من مخالطة الناس، التي تكدِّر - على زعمهم - صفو هذا الانفراد، وتقطع الانسان عن مزاولة عباداته بالشكل المطلوب.

ولعلَّ أكثر ظواهر الرهبنة والاعتزال تبتني أساساً على هذا الهدف، وترفع شعار الدعوة إليه وتبرير الموقف من خلاله.

فيذكر الغزالي في (الاحياء) عن بعض الصالحين أنه قال: «بينما أنا أسير في بعض بلاد الشام، إذا أنا بعابد خادج من بعض تلك الجبال، فلّما نظر اليَّ تنحّى إلى أصل شجرة، وتستَّر بها، فقلت: سبحان اللّه! تبخل عليَّ بالنظر اليك؟ فقال: يا هذا إني أقمت في هذا الجبل دهراً طويلاً، اُعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها، فطال في ذلك بقائي، وفني فيه عمري، فسألت اللّه تعالى أن لا يجعل حظّي من أيامي في مجاهدة قلبي، فسكّنه اللّه عن الاضطراب، وألفه الوحدة والانفراد، فلما نظرت اليكَ خفت أن اوقع في الأمر الأمل: فاليكَ عني، فاني أعوذ من شرِّك بربِّ العارفين وحبيب القانتين.».

ولمّا بنى عروة قصره بالعقيق، ولزمه، ولم يخرج منه، قيل له: «لزمت القصر، وتركت مسجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: رأيت مساجدكم لاهية، وأسواقكم لاغية، والفاحشة في فجاجكم عالية، وفيما هنالك عمّا أنتم فيه عافية».

وينُقل عن سفيان بن عيينة انه قال: «لقيت ابراهيم بن أدهم في بلاد الشام فقلت له: يا ابراهيم تركت خراسان، فقال: ما تهنأت بالعيش إلا هنا، أفرُّ بديني من شاهق إلى شاهق، فمن رآني يقول: موسوس أو حمّال أو فلاح».

وقال الفضيل: «إذا رأيتُ الليل مقبلاً فرحتُ به، وقلت: أخلو بربّي، وإذا رأيت

____________________

(١) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٤٩.

(٢) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٥٥.

(٣) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٤٨.

٩١

الصبح أدركني، استرجعت كراهية لقاء الناس، وأن يجيء من يشغلني عن ربّي»(١) .

وقال الربيع بن خثيم: «إن استطعت أن تكون في موضع لا تَعرف ولا تُعرف فافعل»(٢) .

وقال وهيب بن الورد: «بلغنا أنَّ الحكمة عشرة أجزاء، فتسعة منها في الصمت، والعاشرة في عزلة الناس»(٣) .

وقال الفضيل أيضاً: «إني لأجد للرجل عندي يداً، إذا لقيته أن لا يسلِّم عليَّ، وإذا مرضتُ أن لا يعودني»(٤) .

وقد تعود ظاهرة الرهبنة والاعتزال في بعض مظاهرها وحالاتها إلى الجهل الذي تمت الاشارة إليه عند ذكر العامل الاول من العوامل التي أدَّت إلى نشوء البدع في حياة المسلمين، أو إلى غير ما ذكرناه من دواعٍ ومسببات.

وعلى أية حال فنحن في غنى لأن نستغرق في الرد على هذا النمط من التفكير والسلوك، المخالف لصريح النصوص الشرعية القطعية، الواردة بشأن حث الانسان على التعامل والاختلاط مع باقي أبناء البشر، وأداء الدور الرسالي الملقى على عاتقه، ومواصلة الناس، وبرِّهم، والاحسان اليهم، والصبر على أذاهم، ومداراتهم بالخلق الحسن، والهدي الطيب، والتأثير فيم بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة. كما انَّ هذا السلوك المتطرف يخالف الاهداف العليا لايجاد الانسان على وجه هذهِ الأرض، والغايات التي من اجلها اُنزلت الشرائع، وبعث الأنبياء، وتظافرت الاديان، فكيف يمكن للانسان الذي يمثل المخلوق المنتقى لخلافة اللّه على وجه الارض ووراثتها أن يمارس

____________________

(١) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٤٩.

(٢) محسن الكاشاني، المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء، تعليق علي أكبر الغفاري، ج: ٤، كتاب العزلة، ص: ٤.

(٣) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٤٣.

(٤) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٤٣.

٩٢

سلوكه في الحياة، ويدرك هذه الاهداف، وهو يعيش في زوايا المجتمع، ويسير على هامش الزمن، ولا يُحسن من الدين إلا الاذكار والاوراد المجرَّدة، ولا يمنح المجتمع الذي يعيش فيه أملاً يُرتجى، أو عطاءاً يُذكر؟

وهل يمكن أن يكون هناك مَن هو أكثر قداسةً وأشدّ قرباً إلى اللّه تعالى من صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يجسِّد السلوك الامثل، ويمارس كل ما يمكن أن تترقبه الشريعة من أهداف وأبعاد، ولا يتسنى لنا أن نتصور أنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تخطّى طموحاً قد أمرت به الشريعة، أو تجاوز كمالاً من كمالاتها وقيمها بشكل مطلق، فسيرة النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حافلة بالممارسات الاجتماعية المتنوعة، كما هي حافلة كذلك بالابعاد الروحية والعبادية المثلى، وهو يمثل بجمعه بين هذين الجانبين السلوك الامثل الذي أمرت الشريعة به، وحثَّت عليه.

أضف إلى أنَّ الشريعة الاسلامية لم تلغِ الخلوة والانفراد للعبادة بشكل كامل، وانّما ندبت الانسان المسلم إلى بعض الممارسات العبادية التي تسير به في اتجاه تربية الروح وتهذيبها وتعريضها للنفحات الالهية، ويعد (الاعتكاف) من أبرز العبادات التي تلبّي هذه الغاية، وتعكس هذا الاهتمام، فهو يمثل في مرتكزاته التشريعية وفلسفته الدينية النقاط المضئية التي تتخلل مسيرة الانسان الروحية نحو اللّه سبحانه وتعالى، فتمنح سلوكه عزماً مستأنفاً، ونشاطاً ودأباً جديدين.

والآن نحاول أن نستعرض جملة من البدع والمواقف المحدثة التي ظهرت في الحياة الاسلامية بسبب هذه النظرة القاصرة إلى الدين:

١ - «روي أنَّ سلمان الفارسيرضي‌الله‌عنه جاءَ زائراً لأبي الدرداء فوجد ام الدرداء مبتذلة، فقال: ما شأنكِ؟ قالت: إنَّ أخاكَ ليست له حاجة في شيء من أمر الدنيا.

فلما جاءَ أبو الدرداء رحَّب بسلمان وقرَّب إليه طعاماً، فقال لسلمان أطعم، فقال:

٩٣

إني صائم، قال (أبو الدرداء): أقسمت عليكَ إلا ما طعمت، فقال (سلمان): ما أنا بآكل حتى تأكل.

وبات عنده، فلما جاءَ الليل قام أبو الدرداء، فحبسه سلمان، وقال: يا أبا الدرداء، إنَّ لربكَ عليكَ حقاً، وانَّ لجسدكَ عليكَ حقاً، ولأهلكَ عليكَ حقاً، فصم وافطر، وصلِّ ونم، وأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتى أبو الدرداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبره بما قال سلمان، فقال له مثل قول سلمان»(١) .

٢ - روي عن جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام أنه قال:

«كان رسول اللّه يأتي أهل الصُّفّة، وكانوا ضِيفان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا هاجروا من أهاليهم وأموالهم إلى المدينة، فأسكنهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صفّة المسجد، وهم أربعمائة رجل، فكان يسلِّم عليهم بالغداة والعشي، فأتاهم ذات يوم، فمنهم مَن يخصف نعله، ومنهم مَن يرقع ثوبه، ومنهم مَن يتلّفى، وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرزقهم مداً مداً من تمرٍ في كل يوم.

فقام رجل منهم فقال: يا رسول اللّه! التمر الذي ترزقنا قد أحرقَ بطوننا، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما اني لو استطعت أن اُطعمكم الدنيا لاطعمتكم، ولكن مَن عاش منكم من بعدي، يُغدى عليه بالجفان، ويُراح عليه بالجفان، ويغدو أحدكم في قميصه، ويروح في اخرى، وتنجّدونَ بيوتكم، كما تنجّد الكعبة.

فقام رجل فقال: يا رسول اللّه إنّا إلى ذلكَ الزمان بالأشواق! فمتى هو؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زمانكم هذا خير من ذلك الزمان، إنَّكم إن ملأتم بطونكم من الحلال، توشكون أن تملؤوها من الحرام.

فقام سعد بن أشج فقال: يا رسول اللّه ما يفعل بنا بعد الموت؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحساب

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٦٧، باب:٥١، ح: ١٤، ص: ١٢٨، عن تنبيه الخواطر، ج: ١، ص:٢.

٩٤

والقبر، ثم ضيقه بعد ذلك، أو سعته، فقال: يا رسول اللّه هل تخاف أنت ذلك؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ولكن أستحي من النعم المتظاهرة التي لا اُجازيها ولا جزءاً من سبعة، فقال سعد بن أشج: اني اُشهد اللّه، واُشهد رسوله، ومَن حضرني، أنَّ نوم الليل عليَّ حرام، والأكل بالنهار عليّ حرام، ولباس الليل عليَّ حرام، ومخالطة الناس عليَّ حرام واتيان النساء عليَّ حرام، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سعد لم تصنع شيئاً، كيف تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، إذا لم تخالط الناس، وسكونُ البرية بعد الحضر كفر للنعمة، نَم بالليل، وكل بالنهار، والبس ما لم يكن ذهباً، أو حريراً، أو معصفراً، وأتِ النساء»(١) .

٣ - «روي انَّ رجلاً أتى الجبل ليتعبد به، فجيء به إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تفعل أنت، ولا أحد منكم، لصبر أحدكم في بعض مواطن الاسلام خير من عبادة أحدكم أربعين عاماً»(٢) .

٤ - ورد في (الاحياء) عن أبي هريرة أنه قال:

«غزونا على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمررنا بشعب فيه عُيينة طيبةُ الماءِ، فقال واحد من القوم: لو اعتزلتُ النساء في هذا الشعب، ولن أفعل ذلك حتى أذكر لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذكر له، فقال (رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لا تفعل، فانَّ مقام أحدكم في سبيل اللّه، خير من صلاته في أهله ستين عاماً، ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم، وتدخلون الجنة؟ اغزوا في سبيل اللّه، فانَّه مَن قاتل في سبيل اللّه فواقَ ناقة، أدخله اللّه الجنة»(٣) .

____________________

(١) محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج: ٦٧، باب: ٥١، ح: ١٥، ص: ١٢٨ - ١٢٩، عن نوادر الراوندي، ص: ٢٥ - ٢٦.

(٢) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٤٥.

(٣) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: ٢، كتاب العزلة، ص: ٢٤٥.

٩٥

٥ - روي عن أنس أنَّه قال:

«جاءَ ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألون عن عبادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما اُخبروا، كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،. وقد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فاُصلي الليل أبداً، وقال الآخر، اني اُصوم الدهر ولا افطر، وقال الآخر: إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللّه اني لأخشاكم للّه، وأتقاكم له، لكنّي أصوم، وأفطر، واصلي وارقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(١) .

٦ - خرَّج اسماعيل القاضي من حديث أبي قلابة أنه قال:

«أراد ناس من أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرفضوا الدنيا، وتركوا النساء، وترهبوا، فقام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فغلَّظ فيهم المقالة، وقال: إنما هلك مَن كان قبلكم بالتشديد، شدَّدوا على أنفسهم، فشدَّد اللّه عليهم، فاولئكَ بقاياهم في الديار والصوامع، اُعبدوا اللّه، ولا تشركوا به شيئاً، وحجّوا، واعتمروا، واستقيموا، يُستقم بكم، قال: ونزلت فيهم:( يا أيُّها الّذيَن آمنُوا لا تُحرِّمُوا طيِّباتِ ما أحَلَّ اللّهُ لَكُم ولا تَعتَدوا إنّ اللّهَ لا يُحبُّ المُعتَدينَ ) (٢)(٣) .

٧ - ذكر اسماعيل عن يحيى بن يعمر:

«انَّ عثمان بن مظعون همَّ بالسياحة، وهو يصوم النهار، ويقوم الليل، وكانت امرأته امرأةً عطرة، فتركت الكحل والخضاب، فقالت لها امرأة من ازواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشهيد أنتِ أم مغيَّب؟ قالت: بل شهيد، غير انَّ عثمان لا يريد النساء، فذكرت ذلك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلقيه رسول اللّه، فقال له: أتؤمن بما نؤمن به؟ قال: نعم، قال: فاصنع مثل

____________________

(١) البخاري، صحيح البخاري، ج: ٦، كتاب النكاح، ح: ١، ص: ١١٦.

(٢) المائدة: ٨٧.

(٣) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٣٢٣.

٩٦

ما نصنع، ولا تحرّموا طيبات ما أحلَّ اللّهُ لكم»(١) .

٨ - خرَّج ابن المبارك:

«انَّ عثمان بن مظعون أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ائذن لي في الاختصاء، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس منّا مَن خصي ولا اختصى، إنَّ اختصاء امتي الصيام، قال: يا رسول اللّه! ائذن لي في الترهب، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ ترهب اُمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة»(٢) .

٩ - عن أنس بن مالك قال:

«دخل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد، وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ماهذا؟ قالوا: لزينب تصلّي، فاذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلّوه، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليقعد»(٣) .

١٠ - روي عن عليعليه‌السلام أنه قال:

«انَّ جماعة من الصحابة كانوا حرّموا على أنفسهم النساء، والافطار بالنهار، والنوم بالليل، فأخبرت اُم سلمة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إلى أصحابه، فقال: أترغبونَ عن النساء، إني آتي النساء، وآكل بالنهار، وأنام بالليل، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(٤) .

١١ - روي أنَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مرَّ على رجل يصلّى على صخرة بمكة، فأتى ناحية مكة، فمكث مليّاً، ثم انصرف فوجد الرجل يصلّي على حاله فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيها

____________________

(١) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٣٢٥.

(٢) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٣٢٥.

(٣) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٣، ح: ١١٥٧٥، ص: ١٠١.

(٤) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج: ١٤، كتاب النكاح، باب كراهة العزوبة، ح: ٩، ص: ٨.

٩٧

الناس عليكم بالقصد والقسط - ثلاثاً - فانَّ اللّه لن يملَّ حتى تملّوا»(١) .

٣ - السؤال عن المعضلات والخوض في المحظورات

جرت عادة البشر على أن يرجع الأدنى إلى الاعلى في مختلف الحقول والميادين، بما في ذلك حقل العلم والمعرفة. وكان (السؤال) يمثل الوسيلة الاساسية التي تفي بهذا الغرض، وتعبِّر عنه، فيُستعان عادة بالسؤال لغرض التعرف على خصوصيات الامور، واستجلاء حقائقها، وسبر أغوارها المختلفة.

وفي حقيقة الأمر انَّ السؤالَ ولد في نفس الانسان منذ اللحظات الاولى التي وُجد فيها على وجه هذه الارض، ورافقه في لحظات مسيرته الاولى في هذا الوجود، فهو، لكي يلبّي غريزة حُبِّ الاستطلاع المغروسة في نفسه يسأل عن كل ما يحيط به من ظواهر ووقائع وأحداث. ومن هذه النقطة بدأ الانسان سيره العلمي الطويل، وعلى هذا الاساس انبثق في داخله كيان المعرفة الجبّار.

ف‍(السؤال) إذن مظهر من مظاهر التطلّع نحو الكمال، والتزود من العلم، وسبر الحقائق واكتشافها.

وانطلاقاً من هذهِ الأهمية التي يتخذها السؤال في حياة الانسان، أكدت الشريعة الاسلامية على ضرورة ممارسة الانسان المسلم لهذه الظاهرة باستمرار، واستجلاء المعارف الدينية عن هذا الطريق، قال تعالى:

( فَاسئَلُوا أهلَ الذِّكرِ إن كُنتُم لا تَعلَمونَ ) (٢) .

وعن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال:

____________________

(١) أبو اسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج: ١، ص: ٣٠٤.

(٢) النحل: ٤٣.

٩٨

«العلم مخزون عند أهله، وقد اُمرتم بطلبه منهم»(١) .

وروى عن أبي موسى أنه قال:

«كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلّى الفجر، انحرفنا إليه، فمنّا مَن يسأله عن القرآن، ومنّا مَن يسأله عن الفرائض، ومنّا مَن يسأله عن الرؤيا»(٢) .

وورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقول:

«لا تسألوني عن شيءٍ إلى يوم القيامة، إلا حدثتكم»(٣) .

وورد في (الكافي) وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام أنَّه قال:

«إنّما يهلك الناس، لانَّهم لا يسألون»(٤) .

وفيه أيضاً عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا قال:

«سألت أبا عبد اللّهعليه‌السلام عن مجدور أصابته جنابة، فغسلوه، فمات، قالعليه‌السلام : قتلوه! ألا سألوا، فانَّ داء العيِّ السؤال»(٥)

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

«القلوب أقفال، ومفاتيحها السؤال»(٦) .

وعن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«العلم خزائن، ومفاتيحه السؤال، فاسألوا رحمكم اللّه، فانَّه يؤجر أربعة: السائل، والمتكلم، والمستمع، والمحب لهم»(٧) .

____________________

(١) ابن جمهور، غوالي اللئالي، ج: ٤، الجملة الثانية، ح: ٨، ص: ٦١.

(٢) نور الدين الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج: ١، ص: ١٥٩.

(٣) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج: ٣، ح: ١١٦٣٣، ص: ١٠٧.

(٤) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: سؤال العالم، ح: ٢، ص: ٤٠.

(٥) محمد بن يعقوب الكليني، الاصول من الكافي، ج: ١، باب: سؤال العالم، ح: ١، ص: ٤٠.

(٦) غرر الحكم: الحكمة / ١٤٢٦.

(٧) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٠، ح: ٢٨٦٦٢، ص: ١٣٣.

٩٩

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«السؤال نصف العلم»(١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

«سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء، أعلم منّي بطرق الأرض»(٢) .

وقد كان النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحث المسلمين على ضرورة تتبع أمر الدين، وتحرّي أحكامه وتعاليمه، عن طريق السؤال، ويشجعهم على ممارسة هذا السلوك النافع، من خلال اصغائه العميق لهم، واهتمامه البالغ بما يبثوه إليه من مسائل استفسارات، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتوانى، ولا يصيبه الضجر، من الاستماع إلى أية مسئلة شرعية، صغيرة كانت أم كبيرة، وانما كان من خُلقه العظيم، وهديه الرفيع، أن يعير حواسه باهتمام إلى مَن يقصده بالسؤال والحديث، ويستمع لهذا، ويجيب ذاك، من دون أي ملَل أو امتعاض، يقول اللّه تعالى مبيّناً هذه الصفة القيادية الفذة في شخصية الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( وَمنهُم الذينَ يُؤذُونَ النَبيَّ ويَقُولُون هُوَ اُذُن قُل هو اُذنُ خيرٍ لَكُم يُؤمنُ باللّهِ ويُؤمُن للمؤمنينَ ورحمة للَّذينَ آمنُوا منكُم والَّذينَ يُؤذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُم عَذاب أليم ) (٣) .

وقد تحدَّث القرآن الكريم عن موارده متعددة، كان يسأل الاصحابُ عنها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيرجئ النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاجابة عنها إلى حين نزول الوحي، وينتظر بشأنها أمر السماء، ومن تلك النماذج قوله تعالى:

( يَسألونَكَ عَنِ الشَّهرِ الحَرام قتالٍ فيه ) (٤) .

____________________

(١) علاء الدين الهندي، كنز العمال، ج: ١٠، ح: ٢٩٢٦٠، ص: ٢٣٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة / ١٨٩.

(٣) التوبة: ٦١.

(٤) البقرة: ٢١٧.

١٠٠