الصحابة في القرآن والسنة والتاريخ

الصحابة في القرآن والسنة والتاريخ 28%

الصحابة في القرآن والسنة والتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: دراسات
الصفحات: 131

الصحابة في القرآن والسنة والتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 131 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 44108 / تحميل: 7013
الحجم الحجم الحجم
الصحابة في القرآن والسنة والتاريخ

الصحابة في القرآن والسنة والتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك، بل المراد أنّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدّة والقسوة إلى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، وأفئدتهم، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدّة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ ) (١) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى، فدعاهم فلم يؤمنوا، فسأل الله أن يعذّبهم، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس، هل كان ظنّاً قائماً بمشاعره، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردّد في ذهن غيرهم، فكيف الأنبياء ؟! بل المراد أنّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

_____________________

١ - الأنبياء: ٨٧.

٨١

ممثّلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، وبين كون عمله مجسّماً وممثّلاً لهذا الظن في كل مَن رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة، ولمّا خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم، ضيّق عليهم النبي، فلجأوا إلى حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١) .

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنّون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً، فإنّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير أنّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوّته كان يحكى عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية، فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها، والبانين للقصور المشيّدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة، وأنّ الموت كأنّه كتب على غيرهم، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكنّ بالمعنى الذي عرفت: أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

_____________________

١ - الحشر: ٢.

٨٢

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألدّاء، وكان المؤمنون بهم في قلّة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل، والبأساء والضرّاء، مظنّة لأن يتخيّل كل مَن وقف عليها من نبي وغيره، أنّ ما وعدوا به وعد غير صادق، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للمؤمنين، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول:( فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين ) (١) .

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (٢) .

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين، فعندما كانت البأساء والضرّاء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّ-ها كانت تحبس الأنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجّر في شكل ضراعة إلى الله، فيقول الرسول والذين آمنوا معه( متى نصر الله ) ؟ فإنّ كلمة( متى نصر الله ) مقرونة بالضراعة والالتماس، تقع مظنّة تصوّر استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس ممّا ذكرناه.

_____________________

١ - يوسف: ١١٠.

٢ - البقرة: ٢١٤.

٨٣

الآية الثانية:

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١) .

( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (٢) .

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (٣) .

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء، وقد استغلّها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسّر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخّل في الوحي النازل عليه فيغيّره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يُلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلّمين على المصونية في هذا المجال.

وربّما يؤيّد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصّه وما فيه من الإشكال.

_____________________

١ - الحج: ٥٢.

٢ - الحج: ٥٣.

٣ - الحج: ٥٤.

٨٤

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن أنّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدلّ، فنقول: يجب توضيح نقاطٍ في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه:( إذا تمنّى ) ؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه:( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) ؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله:( ثمّ يحكم الله آياته ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين، وإخبات قلوبهم له ؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول:

١ - ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا: القدر، وماء الإنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته والمنيّة: الموت؛ لأنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الإنسان: أمل يقدّره، ومنى مكّة: قال قوم: سمّي به لما قُدّر أن يُذبح فيه، من قولك مناه الله(١) .

_____________________

١ - المقاييس: ٥/٢٧٦.

٨٥

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز، ولا يشك مَن سبر الذكر الحكيم أنّه لم يكن للرسل والأنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً، وكانوا يخطّطون لهذا الأمر، ويفكّرون في الخطّة بعد الخطّة، ويمهّدون له قدر مستطاعهم، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم:( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمِنين َ) (١) .

ويقول أيضاً:( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (٢) .

ويقول أيضاً:( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرينَ ) (٣) .

ويقول سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (٤) .

ويقول سبحانه:( فَذَكّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِرٍ ) (٥) .

هذا كلّه في حق النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته:( وَإِنّي كُلَّما

_____________________

١ - يوسف: ١٠٣.

٢ - فاطر: ٨.

٣ - النحل: ٣٧.

٤ - القصص: ٥٦.

٥ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٨٦

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) (١) .

ويقول سبحانه بعد عدّةٍ من الآيات:( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً * وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً ) (٢) .

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم، وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، وإن منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع؛ فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل، وهلمّ معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني، أعني:

٢ - ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح، فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:

١ - أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم، وأنّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر بسبب

_____________________

١ - نوح: ٧ - ٩.

٢ - نوح: ٢١ - ٢٤.

٨٧

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنصّ القرآن الكريم؛ لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد، والقرآن الكريم ينفي تسلّل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم، ويقول سبحانه:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (١) .

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفيّ بنص الآيات.

٢ - أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياءعليهم‌السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخطّطاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحضّ أقوام الأنبياءعليهم‌السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه:( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً ) (٣) .

_____________________

١ - الحجر: ٤٢، الإسراء: ٦٥.

٢ - ص: ٨٢ - ٨٣.

٣ - النساء: ١٢٠.

٨٨

وقال سبحانه:( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِىَ الأمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدّة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه:( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تمنّى ) أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدّمات( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) (بحضّ الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدّمات عقيمة غير منتجة ).

٣ - ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه: ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) وما معنى هذا النسخ ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر، والعون والإنجاح، قال سبحانه:( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) ، وقال سبحانه:( كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىّ عَزِيزٌ ) (٣) ، وقال سبحانه:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) (٤) .

_____________________

١ - إبراهيم: ٢٢.

٢ - غافر: ٥١.

٣ - المجادلة: ٢١.

٤ - الأنبياء: ١٨.

٨٩

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) (١) .

وقال في حق النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحُونَ ) (٣) .

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

٤ - ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟

إذا تبيّن معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبيّن المراد من قوله سبحانه:( ثمّ يحكم الله آياته ) .

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق أضف إليه أنّه ليس كل نبيٍّ ذا كتاب وآيات ،

_____________________

١ - الصافات: ١٧١ - ١٧٣.

٢ - التوبة: ٣٣.

٣ - الأنبياء: ١٠٥.

٩٠

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل: إنّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل، والاندحار والهزيمة للثاني، فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه بإرادة الله سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة، فيصبح الحق قائماً وثابتاً، والباطل داثراً وزاهقاً، قال سبحانه:( وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (١) .

٥ - ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟

قد عرفت أنّ الآية تعلّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:

١ - الذين في قلوبهم مرض.

٢ - ذات القلوب القاسية.

٣ - الذين أُوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

_____________________

١ - الإسراء: ٨١.

٩١

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصموداً.

وهذه النتيجة حاكمة في عامّة اختبارات الله سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ ) (١) ، وإنّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) : ( ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب)(٣) .

وقد وقفت بعد ما حرّرت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدّس الله سرّه - وهو قريب ممّا ذكرناه: قال: المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي، ويشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى، وتأييد شريعة الحق، ونحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى

_____________________

١ - الملك: ١٤.

٢ - الأنفال: ٢٨.

٣ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم: ٩٣.

٩٢

الصالح ما يشوّشه، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم، وأحكام الشريعة بعده، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه، وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله آياته ويؤيّد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم(١) .

وما ذكره - قدّس الله سرّه - كلام لا غبار عليه، وقد شيّدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسّك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام، ومَن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا: بأنّ المراد من الآية هو أنّ ( ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخّل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها ) واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (٢) فقرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا بلغ:( أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرى ) (٣) ألقى عليه الشيطان كلمتين: ( تلك

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٤.

٢ - النجم: ١ - ٢.

٣ - النجم: ١٩ - ٢٠.

٩٣

الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ) فتكلّم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا: إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه:( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ) إلى قوله:

( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (١) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع مَن كان من المهاجرين بأرض الحبشة أنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان(٢) .

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحّة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله ( تمنّى ) بمعنى تلا، وأنّ لفظة ( أُمنيته ) بمعنى تلاوته، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث، ولو صحّ فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

_____________________

١ - الإسراء: ٧٣، ٧٥.

٢ - تفسير الطبري: ١٧/١٣١، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

٩٤

نعم استدلّ بعضهم بقول حسّان على ذاك الاستعمال:

تمنّى كتاب الله أوّل ليلةٍ

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر:

تمنّى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صحّ إسنادهما إلى عربي صميم كحسّان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذّة.

أضف إلى ذلك أنّ البيت غير موجود في ديوان حسّان، وإنّما نقله عنه المفسّرون في تفاسيرهم، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج٦ ص٣٨٢) واستشهد به صاحب المقاييس (ج٥ ص٢٧٧).

ولو صحّ الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصّة.

أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة، وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ(١) .

وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها؛ لأنّها تتضمّن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقيّة السورة إلى آخرها

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٩٥

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكنّ الآيات التي وقعت بعدهما، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه:( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباوَكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (١) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال، وهو أنّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندّد بآلهتهم بشدّة وعنف، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان ؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصّة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصّة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاًّ لها، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً: أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيّه الأكرم بقوله:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (٢) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيّه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيّه ما ينافي هذا التوصيف أشدّ المنافاة، وفي وسعه سبحانه صون نبيّه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!

وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذّبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفّظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٣) .

_____________________

١ - النجم: ٢٢ - ٢٣.

٢ - النجم: ٣ - ٤.

٣ - الجن: ٢٧.

٩٦

وقوله تعالى:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاويل * لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١) .

وسادساً: أنّ علماء الإسلام، وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها(٢) .

وقال النسفي: إنّ القول بها غير مَرْضيّ وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٣) .

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصّة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصّة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا ( فروغ أبديت )(٤) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

_____________________

١ - الحاقة: ٤٤ - ٤٦.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٩.

٣ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٤ - كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد طُبع في جزأين.

٩٧

الطائفة الثانية

ما يمسّ عصمة عدّة خاصّة من الأنبياء

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمسّ بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

- ١ -

عصمة آدمعليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

وجعل الشريك لله

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطّئة في مجال نفي العصمة عن عدّة معيّنة من الأنبياء، وراعينا الترتيب التاريخي لهم، فنقدّم البحث عن عصمة آدمعليه‌السلام على البحث عن عصمة نوحعليه‌السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهيّ عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء، ويعدّ ذلك في منطقهم ( كبيت القصيد ) في ذلك المجال، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول:

٩٨

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه:( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) .

ويقول سبحانه:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُما رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٢) .

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصّة في هذه السورة، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكّيّة وسورة البقرة مدنية، ولمّا توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

____________________

١ - البقرة: ٣٥ - ٣٧.

٢ - الأعراف: ١٩ - ٢٤.

٩٩

ويقول سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيَها ولا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (١) .

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمّات هذه القصّة، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية:

التساؤلات حول الآيات

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن:

١ - ما هي نوعية النهي في قوله تعالى:( لا تقربا ) ؟

٢ - ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته ؟

٣ - ماذا يراد من قوله:( فأزلّهما الشيطان ) ؟

٤ - ماذا يراد من قوله:( فعصى آدم ربّه فغوى ) وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة ؟

٥ - ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله:( ربّنا ظلمنا أنفسنا ) ؟

____________________

١ - طه: ١١٥ - ١٢٣.

١٠٠

وكثر الحديث حول دهاء معاوية فأجاب الإمام علي (عليه السلام) قائلاً:

( والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت مِن أدهى الناس ) (١) .

الفواصل السلوكيّة في عهد معاوية بن أبي سفيان:

ثمَّ إنّ الإمام (عليه السلام) قد أوصى بالإمامة من بعده - بأمرٍ من الله ورسوله - إلى ولده الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) وقد بايعه - أيضاً - أهل الكوفة وبعض الأمصار، وعلى الرغم من شرعيّة خلافته إلاّ أنّ معاوية لم يستجب إلى بيعته وتمرّد على شرعيّتة وأعلن العصيان والبغي.

وحينما رأى الإمام الحسن (عليه السلام) أنّه لا يستطيع إخماد التمرّد، وأنّه لا يملك القوّة اللاّزمة في الاستمرار في الخلافة، صالح معاوية(٢) واشترط الإمام الحسن (عليه السلام) شروطاً على معاوية ولكنّه لم يفِ بها(٣) .

وكانت سياسة معاوية - بعد استيلائه على السلطة - المخالفة لسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد اعترض الإمام الحسن (عليه السلام) على معاوية في ذلك قائلاً:

( إنَّ الخلافة لمن سار بسيرة رسول الله وليس الخلافة لمن عمل بالجَوْر وعطّل الحدود ) (٤) .

وفي مجلس معاوية، والحسن حاضر، شَتَمَ جماعةٌ - وهم من الصحابة! -

____________________

١) شرح نهج البلاغة ١٠: ٢١١.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢١٥. والكامل في التأريخ ٣: ٤٠٤. وتاريخ الخميس ٢: ٢٩٠.

٣) الكامل في التاريخ ٣: ٤٠٥.

٤) ربيع الأبرار ٢: ٨٣٧.

١٠١

الإمام عليّاً (عليه السلام) وذكروه بسوءٍ، فأجاب الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية بالقول:

(أمّا بعد يا معاوية، فما هؤلاء شتموني ولكنّك شتمتني، فحشاً ألفته، وسوء رأيٍ عرضت به، وخُلقاً سيئاً ثبتَّ عليه، وبغياً علينا، عداوةً منك لمحمدٍ وأهله ) (١) .

وأغلظ القول لعمرو بن العاص، وقال له:

( فأنت عدوّ بني هاشم في الجاهلية والاِسلام وأما ما ذكرت من أمر عثمان، فأنت سعَّرت عليه الدّنيا ناراً ثم حبست نفسك إلى معاوية، وبعت دينك بدنياه ).

وقال الإمام الحسن (عليه السلام) للوليد بن عقبة:

( فوالله ما ألومك على بغض عليٍّ، وقد جلدك ثمانين في الخمر وأنت الذي سمّاه الله الفاسق، وسمّى عليّاً المؤمن) (٢) .

وقال (عليه السلام) للمغيرة بن شعبة:

( وإنَّ حدَّ الله في الزنا لثابتٌ عليك ) (٣) .

وقال الإمام الحسن (عليه السلام) لمروان:

( لقد لعن الله أباك الحَكَم وأنت في صُلْبِه على لسان نبيّه، فقال: لعن الله الحَكَم وما ولد ) (٤) .

أوامر معاوية في شَتْم الإمام عليٍّ (عليه السلام):

بعد استقرار الأمر لمعاوية، أمر ولاته بلعن وشتم الإمام عليّ بن أبي

____________________

١) شرح نهج البلاغة ٦: ٢٨٨.

٢) شرح نهج البلاغة ٦: ٢٩٢.

٣) شرح نهج البلاغة ٦: ٢٩٤. يشير الإمام (عليه السلام) إلى قيام البيّنة على المغيرة بالزنا في زمن عمر، لكنّ عمر عطّل الحد ولم يُجْرِه في حقّه، انظر: تاريخ اليعقوبي ٢: ١٤٦، الأغاني ١٦: ٩٩، شرح نهج البلاغة ١٢: ٢٤٥.

٤) البداية والنهاية ٨: ٢٥٩.

١٠٢

طالب (عليه السلام) من على منابر المسلمين.

وأوصى معاوية المغيرة بن شعبة: (لا تترك شتم عليٍّ وذمّه)

فقال له المغيرة:

( قد جَرّبتُ وجُرّبتُ، وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني، وستبلو فتحمد أو تذم )، فكان المغيرة (لا يدع شتم عليٍّ والوقوع فيه)(١) .

وكان ينال في خطبته من عليٍّ، وأقام خطباء ينالون منه(٢) .

وكان حجر بن عديّ يردّ اللعن على المغيرة(٣) .

ونتيجةً لاستمرار شتم الإمام عليّ (عليه السلام) وسبّه، كتبت أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة إلى معاوية:

(إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالبٍ ومن أحبّه، وأنا أشهدُ أنَّ الله أحبّه ورسوله)(٤) .

وروي أنّ قوماً من بني أُميّة قالوا لمعاوية:

( إنّك قد بلغت ما أمّلت، فلو كففت عن لعن هذا الرجل، فقال: لا والله حتّى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكرٌ فضلاً)(٥) .

كما وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على ( رواية أخبارٍ قبيحةٍ في الإمام عليّ (عليه السلام)، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وغيرهم.

____________________

١) الكامل في التاريخ ٣: ٤٧٢.

٢) سِيَر أعلام النبلاء ٣: ٣١.

٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٣٠.

٤) العقد الفريد ٥: ١١٥. وبنحوه في مسند أحمد ٧: ٤٥٥. والمعجم الكبير ٢٣: ٣٢٣.

٥) شرح نهج البلاغة ٤: ٥٧.

١٠٣

وروي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب: ( مائة ألف درهم حتّى يروي أنّ هذه الآية نزلت في حق علي،

( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام ) (١)

فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل، وروى ذلك ).

وقام معاوية بقتل أخيار الصحابة الموالين للإمام عليّ بن أبي طالبٍ (عليه السلام) ومنهم حجر بن عدي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(٢) .

اعتراض الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) على معاوية:

ارتكب معاوية أعمالاً مخالفةً لكتاب الله وسنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ووجد في ذلك اعتراضاً من قِبَل الصحابة.

ومن أعماله إدّعاؤه زياد بن سمية واستلحاقه بأبي سفيان خلافاً لسُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(٣) .

واعترض الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) على مجمل أعماله، فقد جاء في كتابه (عليه السلام) إلى معاوية بعد أن وصفه وأصحابه بالقاسطين الملحدين، حزب الظالمين وأولياء الشياطين:

( ألستَ قاتل حجر بن عدي وأصحابه المصلّين العابدين، الذين ينكرون الظلم ويستعظمون البدع أولستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - الذي أبلته العبادة أولستَ المدّعي زياد بن سميّة..؟! فتركت سُنّة رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وخالفت أمره متعمدّاً، واتّبعت هواك مكذِّباً بغير هُدىً من الله.. فلا أعلم فتنة على الأُمّة

____________________

١) سورة البقرة ٢: ٢٠٤ وما بعدها.

٢) الكامل في التاريخ ٣: ٤٧٣. وتاريخ اليعقوبي ٢: ٢٣١.

٣) سِيَر أعلام النبلاء ٣: ٤٩٥.

١٠٤

أعظم من ولايتك عليها.. وأخذك بالبيعة لابنك غلامٍ سفيه يشرب الشراب ويلعب بالكلاب، ولا أعلمك إلاّ خسرت نفسك، وأوبقت دينك، وأكلت أمانتك، وغششت رعيّتك، وتبوّأت مقعدك من النار، فبعداً للقوم الظالمين) (١) .

ففي هذا الكتاب بيّن الإمام الحسين (عليه السلام) لمعاوية خلافه لسُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وابتعاده عن هدى الله تعالى، وجعله في صف الظالمين، ليتبوأ مقعده من النار.

ما جرى بين الصحابة في بيعة يزيد:

شجّع المغيرة بن شعبة معاوية على تولية يزيد العهد من بعده، حينما علم أنّ معاوية سيعزله عن إمرة الكوفة، وحينما رجع من معاوية قال:

( ...فوالله لقد وضعت رِجْل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلاّ سفك الدماء)(٢).

وفي روايةٍ أنّه قال:

(لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أُمّة محمّدٍ، وفتقت عليهم فتقاً لا يُرتق أبداً)(٣) .

وحينما أراد مروان أن يدعو إلى بيعة يزيد، قال له عبدالرحمان بن أبي بكر:

(كذبت والله يا مروان، وكذب معاوية! ما الخيار أردتما لاُمّة محمّد ...)

فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه:(والذي قال لوالديه أُفٍّ لكما)

فسمعت عائشة مقالته فقالت:

(يا مروان أنت القائل لعبدالرحمان

____________________

١) أنساب الأشراف ١: ١٢٠ - ١٢٢. وبنحوه في الإمامة والسياسة ١: ١٨١.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٢٠.

٣) الكامل في التاريخ ٣: ٥٠٤.

١٠٥

إنّه نزل فيه القرآن؟ كذبت! والله ما هو به.. ولكنّك أنت فضض من لعنة نبي الله)(١) .

ودخل معاوية على عائشة فأخبرها عن موقفه من الإمام الحسين وعبدالرحمان بن أبي بكر وعبدالله بن الزبير، فقال:

(لأقتلنّهم إن لم يبايعوا)(٢) .

وهكذا استباح دم الصحابة، لرفضهم بيعة ابنه يزيد.

____________________

١) الكامل في التاريخ ٣: ٥٠٦ - ٥٠٧.

٢) الكامل في التاريخ ٣: ٥٠٩.

١٠٦

الفصل الخامس: الآراء في تقييم الصحابة

اختلف العلماء والمؤرخون في تقييم الصحابة، من حيثُ درجات قربهم وبعدهم عن العقيدة والشريعة الإسلامية، فمن العلماء من ذهب إلى أنَّ جميع الصحابة قد جسّدوا المفاهيم والقيم الإسلامية في سلوكهم ومواقفهم إلى آخر حياتهم، ومنهم من ذهب إلى ذلك مقيّداً بظهور الفتن، فالداخلون في الفتنة صُنِّفوا إلى صنفين، فمنهم العدول، ومنهم غير العدول.

ومن العلماء من اختار أوسط الآراء، بعد تتبعهم للسيرة الذاتية للصحابة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبعده، فكانوا عدة أصناف:

فمنهم العدول، ومنهم غير العدول، ومنهم المنافقون الذين انكشفت حقيقتهم، ومنافقون أسرّوا النفاق فلم يعلمهم إلاّ القليل من بقيّة الصحابة.

ذكر الآمدي هذه الآراء ورجَّح الرأي الأوّل، قال:

(اتفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة.

وقال قومٌ:

إنَّ حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية.

ومنهم من قال:

إنّهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع من الاختلاف

١٠٧

والفتن فيما بينهم، وبعد ذلك فلا بدَّ من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر العدالة.

ومنهم من قال:

بأنَّ كلّ من قاتل عليّاً عالماً منهم، فهو فاسق مردود الرواية والشهادة لخروجهم على الإمام الحق.

والمختار: إنّما هو مذهب الجمهور من الأئمة)(١) .

الرأي الأوّل: عدالة جميع الصحابة:

وهو رأي جمهور العلماء من العامّة المتفقين على عدالة جميع الصحابة، قال ابن حجر العسقلاني:

(اتفق أهل السُنّة على أنّ الجميع عدولٌ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذٌ من المبتدعة)(٢) .

واستشهد بما قاله الخطيب البغدادي في ذلك:

( وإنّه لا يحتاج إلى سؤالٍ عنهم، وإنّما يجب فيمن دونهم لأنّ عدالة الصحابة ثابتةٌ معلومةٌ بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم)(٣) .

واستثنى ابن الأثير الصحابةَ من الجرح والتعديل فقال:

(والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاّ في الجرح والتعديل، فإنّهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح، لأنّ الله - عزَّ وجل - ورسوله زكياهم وعدَّلاهم، وذلك مشهورٌ لا نحتاج لذكره)(٤) .

____________________

١) الإحكام في أصول الأحكام ٢: ٣٢٠.

٢) الإصابة ١: ٦.

٣) الكفاية في علم الرواية: ٤٦.

٤) أُسد الغابة ١: ١٠.

١٠٨

ويرى الشوكاني (استواء الكل في العدالة)(١) .

ونسب محمد الفتوحي المعروف بابن النجار إلى ابن الصلاح وغيره القول بأنّ:

(الاُمّة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ولا يعتدّ بخلاف من خالفهم)(٢) .

الأدلة على عدالة جميع الصحابة:

١ - الآيات القرآنية:

استدل القائلون بعدالة جميع الصحابة ببعض الآيات القرآنية، وقد سبق أن ذكرناها في الفصل الثاني، وأثبتنا أنّها لاتدل على عدالة جميع الصحابة فرداً فرداً، وإنّما تدل على مدح الله وثنائه على الصحابة بما هم مجموع، ولا يسري هذا المدح والثناء إلى الأفراد.

وإضافةً إلى ذلك، أنّ المدح والثناء أو الرضى من قبل الله - تعالى - مشروطٌ بالوفاء بالعهد والاستمرار على الاستقامة وحسن العاقبة، كما تقدّم.

والآيات القرآنية لا تقتصر على المدح والثناء، فهنالك آياتٌ وردت في ذمِّ بعض الصحابة لما ارتكبوه من أعمالٍ ومواقفَ مخلّةٍ بالعدالة، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في محلّه.

٢ - الروايات:

استدل بعض القائلين بعدالة جميع الصحابة بعددٍ من الروايات، ومنها:

الرواية الأُولى :

نُسب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال:

( إنَّ أصحابي بمنزلة

____________________

١) إرشاد الفحول، للشوكاني: ٧٠ مطبعة البابي الحلبي - مصر ١٣٥٨ هـ.

٢) شرح الكوكب المنير ٢: ٤٧٣.

١٠٩

النجوم في السماء، فأيِّها أخذتم به اهتديتم ) (١) .

وهذه الرواية غير تامة السند عند كثيرٍ من الفقهاء والعلماء بما فيهم بعض المؤمنين بعدالة جميع الصحابة.

قال أبو عمر يوسف بن عبدالبر القرطبي:

(وهذا مذهبٌ ضعيفٌ عند جماعةٍ من أهل العلم، وقد رفضه أكثر الفقهاء وأهل النظر)(٢) .

وذكر ابن حزم الأندلسي أسماء الرواة الضعاف والكذّابين والمجهولين في أسانيد هذه الرواية، ثم أبرز رأيه من خلال تلك المقدّمات فقال:

(فقد ظهر أنّ هذه الرواية لا تثبت أصلاً، وبلا شك أنّها مكذوبة فمن المحال أن يأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باتّباع كلِّ قائلٍ من الصحابة، وفيهم من يحلّل الشيء، وغيره من يحرِّمه، ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالاً اقتداءً بسمرة بن جندب)(٣) .

وضعّف ابن قيم الجوزية إسناد الرواية، ثم ناقش الدلالة فقال:

(إنَّ هذا يوجب عليكم تقليد الجميع، فإن سوّغتم هذا، فلا تحتجّوا لقولٍ على قول، ومذهبٍ على مذهب ولا تنكروا على من خالف مذهبكم واتّبع قول أحدهم، وإن لم تسوّغوه فأنتم أوّل مبطلٍ لهذا الحديث ومخالفٍ له)(٤) .

وفي معرض تقييم الذهبي لجعفر بن عبدالواحد الهاشمي، قال: (ومن

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٨.

٢) جامع بيان العلم وفضله ٢: ٣٠٠ مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت ١٤١٥ هـ.

٣) الإحكام في أُصول الأحكام ٦: ٢٤٤.

٤) إعلام الموقعين ٢: ٢٣٤ دار الجيل - بيروت.

١١٠

بلاياه.. عن النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم -:

( أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيءٍ منها اهتدى) )(١) .

ومن الذين ضعفّوا إسناد الرواية الأسفَرَايني(٢) ، وأبو حيان الأندلسي وتلميذه تاج الدين الحنفي(٣) واعتبروها مكذوبةً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ومنهم: (أحمد بن حنبل، البزّار، ابن عَدِيّ، الدارقطني، ابن حزْم، البيهقي، ابن عبدالبر، ابن عساكر، ابن الجوزي، ابن دِحْية، الذهبي، الزين العراقي، ابن حَجَر العسقلاني، السخاوي، السيوطي، المتقي، القاري)(٤) .

ويمكن مناقشة الرواية من حيث الدلالة ومن حيث نتائج الأخذ بها من الناحية العملية والواقعية.

فالأمر بالاقتداء موجّهٌ إلى الصحابة، فكيف يأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصحابة بالاقتداء بالصحابة وهذا يعني أنّه أمرٌ للصحابة بالاقتداء بأنفسهم، وهذا محال.

ولو فرضنا صحته، فإنّه مختصٌ بالاقتداء ببعض الصحابة لا جميعهم، وقد وردت رواياتٌ مستفيضةٌ يأمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصحابة بالاقتداء بأهل البيت: كما ورد في رواية التمسُّك بالثقلين وهما: الكتاب والعترة

____________________

١) ميزان الاعتدال، للذهبي ١: ٤١٣ دار المعرفة - بيروت.

٢) التبصير في الدين: ١٧٩.

٣) البحر المحيط ٥: ٥٢٨ دار الفكر - بيروت ١٤٠٣ هـ ط٢.

٤) الإمامة في أهم الكتب الكلامية، للسيد علي الميلاني: ٤٦١ - ٥١٤.

١١١

الطاهرة(١) .

والأعراف المتَّبعة عند العرب آنذاك إنّهم لا يهتدون بأيِّ نجمٍ كان، وإنّما كانوا يهتدون بنجوم معينة ومحدّدة في مسيرهم، والاطلاق الذي في الحديث لا يتناسب مع علومهم ومعارفهم الدارجة آنذاك.

ولو تتبعنا سيرة الصحابة وأخذنا بها، لوقعنا في تناقضٍ حتميٍّ، كما تراه في قول ابن حزم و ابن القيّم، وقد تكفَّل الفصل السابق بعرض الكثير من اسئلة التناقض.

وإذا قيل: إنّ المراد هو الاقتداء ببعض المواقف دون بعض، فلا بدَّ من مخصِّصٍ لهذا الاقتداء، ولا مخصص له، لأنَّ الرواية مطلقة.

فالرواية إذاً لا يصحّ الاستدلال بها على عدالة جميع الصحابة، فهي غير تامة السند ولا الدلالة.

الرواية الثانية:

نُسب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال:

( إنَّ الله اختارني، واختار أصحابي فجعلهم أصهاري، وجعلهم أنصاري، وإنّه سيجيء في آخر الزمان قومٌ ينتقصوهم، ألا فلا تناكحوهم، ألا فلا تنكحوا إليهم، ألا فلا تصلّوا معهم، ألا فلا تصلّوا عليهم، عليهم حلّت اللعنة ) (٢) .

والرواية غير تامة السند، فلا يصح نسبتها إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وفي

____________________

١) صحيح مسلم ٤: ١٨٧٣ و ١٨٧٤. وسنن الترمذي ٥: ٦٦٢ / ٣٧٨٦. ومسند أحمد ٣: ١٤ و١٧، ٤: ٣٦٧ و ٣٧، ٥: ١٨٢ و ١٨٩. وسنن الدارمي ٢: ٤٣٢. ومصابيح السُنّة ٤: ١٨٥ / ٤٨٠٠.

٢) الكفاية في علم الرواية: ٤٨ ووردت الرواية في تعابير مختلفة.

١١٢

هذا الصدد قال الدكتور عبدالكريم النملة(١):

(فهذا حديثٌ لا يصلح الاستدلال به، لأنَّ فيه بشير بن عبيدالله، وهو غير معروف.

قال ابن حبّان: والحديث باطلٌ لا أصل له، نقل ذلك أبو الفضل محمد ابن طاهر المقدسي في تذكرة الموضوعات)(٢) .

وقال الدكتور عطيّة بن عتيق الزهراني: (هذا الحديث لا يصح)(٣) .

ومن ناحية الواقع نرى أنّ الذي ابتدأ بانتقاص الصحابة أو سبّهم - كما في رواية الطبراني والهيثمي - هم بعض الصحابة، وهذا يستلزم التناقض، فاللعنة تكون شاملةً لبعض الصحابة الذين انتقصوا وسبّوا غيرهم من الصحابة، وتشمل من لعنهم أيضاً، وهذا ممّا لا يصحُّ التمسُّك بدلالته.

ووردت رواياتٌ أُخرى في استدلال القائلين بعدالة جميع الصحابة، وهي غير تامة السند والدلالة معاً، أو أحدهما، أو تدل على عدالة بعض الصحابة دون الجميع، كرواية:

( خيرُ أُمتي قرني ) و( لا تسبّوا أصحابي) (٤) وغيرهما.

وذهب أصحاب هذا الرأي إلى نسبة الزندقة لمن لا يرى عدالة جميع الصحابة، قال أبو زرعة:

(إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - فاعلم أنّه زنديق وذلك أنّ رسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنّما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -

____________________

١) أُستاذ بكليّة الشريعة في الرياض.

٢) مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف، لعبدالكريم النملة: ٨٣.

٣) السُنّة، لأبي بكر الخلال ١: ٤٨٣ في الهامش دار الراية - الرياض ١٤١٥ هـ - ط٢.

٤) الكفاية في علم الرواية: ٤٧.

١١٣

وإنّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُنّة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة)(١) .

ونحن لا نتفق مع أبي زرعة وغيره من القائلين بهذا الرأي من عدَّة جهات:

الجهة الأُولى:

إنّ الذي أدّى إلينا القرآن والسنن بعض الصحابة وليس جميعهم.

الجهة الثانية:

ليس لجرح الشهود دخالةٌ في إبطال الكتاب والسُنّة، وإنّما يكون غالباً مصحوباً بالتثبُّت والاحتياط في الدين، من أجل الوصول إلى العقيدة الحقّة والشريعة الحقّة، ليكون السلوك مطابقاً للكتاب والسُنّة.

الجهة الثالثة:

إنَّ الجرح لا يشمل جميع الصحابة بل بعضهم

الجهة الرابعة:

إنَّ بعض الصحابة استتروا على نفاقهم فلم يظهروه، فمن العقل والمنطق السليم أن نبحث عن عدالتهم

الجهة الخامسة:

إنَّ بعض الصحابة انتقصوا وسبّوا وجرحوا غيرهم من الصحابة، وخصوصاً الصحابة الذين انتقصوا وسبّوا وجرحوا الإمام عليّاً (عليه السلام)، وهو الأقرب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان على رأس الصحابة الذين أدّوا إلينا القرآن والسُنّة، وهو الأعلم بكتاب الله وسُنّة رسوله كما تظافرت على ذلك الروايات(٢) .

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٩.

٢) الطبقات الكبرى ٢: ٣٣٨. ومناقب علي بن أبي طالب، لابن المغازلي: ٨٢. وحلية الأولياء ١: ٥. وكفاية الطالب: ١٩٧. وتذكرة الخواص: ٢٥. والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٢٧. ومختصر تاريخ دمشق ١٨: ١٧. ومجمع الزوائد ٩: ١١٤. والصواعق المحرقة: ١٨٩.

١١٤

فهل يحقُّ لنا جرحهم؟

طبقاً لهذا الرأي، فإذا قيل يحقُّ فقد انخرمت القاعدة، وإذا قيل لا يحقّ جرحهم فكيف كان لهم الحقّ في جرح الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟

تقييدات المازري:

حاول المازري التخفيف من الإفراط في تقييم الصحابة، فلم ينسب الجميع إلى العدالة، وإنّما وضع قيوداً لتقليل عدد الصحابة، وتقييد الإطلاق في العدالة، فقال:

(لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول، كل من رآه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - يوماً، أو زاره لماماً، أو اجتمع به لغرضٍ وانصرف عن كثب، وإنّما نعني به الذين لازموه وعزّروه ونصروه واتّبعوا النور الذي أُنزل معه، أُولئك هم المفلحون)(١) .

وهذه المحاولة هي تراجعٌ موضوعي عن الأصل الذي تبنّاه الجمهور، وهي قائمةٌ على أُسس موضوعيّة من خلال تتبّع حياة الصحابة وسيرتهم الذاتية، وما نزل فيهم من آيات، وما قيل فيهم من روايات.

الرأي الثاني: ثبوت العدالة في الواقع الخارجي:

يتبنّى هذا الرأي ثبوت العدالة في الواقع الخارجي لجميع الصحابة، فلا يوجد من بينهم من ارتكب ما يؤدي إلى فسقه، قال الغزالي:

(والذي عليه سلف الأُمّة وجماهير الخلف: أنّ عدالتهم معلومة.. إلاّ أن يثبت بطريقٍ قاطعٍ إرتكاب واحد لفسقٍ مع علمه به، وذلك مما لا يثبت،

____________________

١) الإصابة ١: ٧.

١١٥

فلاحاجة لهم إلى التعديل)(١) .

ولا دليل على هذا الرأي، والواقع الخارجي مليءٌ بالأدلة والشواهد النافية لعدالة بعض أو كثير من الصحابة.

وإذا تتبعنا سيرة الصحابة نجدهم لا يتبنّون هذا الرأي، بل يتثبّتون في الحكم على بعضهم البعض جرحاً أو تعديلاً، وكان بعضهم يجوّز الفسق على نفسه أو على غيره، والأمثلة على ذلك مستفيضة. وقد تكرّر بحثه والاشارة إليه مراراً.

عدم التكلّف في البحث عن عدالة الصحابة:

ذهب جماعةٌ إلى تجويز المعصية على الصحابة، ولكنّهم توقفوا في البحث عن عدالتهم وطلب التزكية لهم، ونُسب هذا الرأي إلى ابن الأنباري وغيره، حيث قالوا:

(وليس المراد بكونهم عدولاً: العصمة واستحالة المعصية عليهم، إنّما المراد أن لا نتكلّف البحث عن عدالتهم ولا طلب التزكية لهم)(٢) .

وهذا الرأي غير تام، فلو جوّزنا على الصحابة المعصية، فإنّ هذا يستلزم البحث عن عدالتهم وطلب التزكية لهم، لمعرفة العادل منهم والفاسق، وهذه المعرفة ضرورية لتحديد معالم الدين في التفسير وفي السُنّة، وتشخيص صحة الرواية بلحاظ رواتها، وهي ضرورية في كتابة التاريخ وأخذ العبر والتجارب منه، وقد أُلّفت الكتب في الجرح والتعديل

____________________

١) المستصفى، للغزالي ٢: ٢٥٧ - المدينة المنورة ١٤١٣ هـ.

٢) شرح الكوكب المنير ٢: ٤٧٧ في الهامش هذا القول لابن الانباري وغيره.

١١٦

في جميع مراحل المسيرة الإسلامية، وهو أمرٌ مألوفٌ إلى يومنا هذا.

الرأي الثالث: عدالة جميع الصحابة قبل دخولهم في الفتنة:

ذهب البعض إلى عدالة جميع الصحابة إلى حين وقوع الاختلاف والفتن فيما بينهم، فلا بدَّ من البحث في العدالة عن الصحابي إذا لم يكن ظاهر العدالة(١) .

وذهب المعتزلة إلى عدالة الجميع باستثناء من قاتل الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فهو فاسقٌ مردود الشهادة(٢) .

ورأي المعتزلة غير مقبولٍ عند الجمهور الذين يرون عدالة جميع الصحابة حتّى من قاتل الإمام عليّ (عليه السلام)، قال ابن كثير:

(وقول المعتزلة: الصحابة عدولٌ إلاّ من قاتل علياً، قولٌ باطلٌ مرذول ومردود، وقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - أنّه قال: عن ابن بنته الحسن بن علي

( إنّ ابني هذا سيّدٌ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )

وظهر مصداق ذلك في نزول الحسن لمعاوية عن الأمر وسُمّي عام الجماعة فسمّى الجميع مسلمين ...)(٣) .

وهذا الوجه لا يصحُّ الاستدلال به على عدالة جميع الصحابة، وغاية ما يدل عليه أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سمّى الفئتين بالمسلمين، وإطلاق اسم المسلم على فردٍ أو جماعةٍ لا يستفاد منه العدالة، فليس كلُّ مسلمٍ عادلاً، لأنّ التسمية تُطلق على من شهد الشهادتين، وإن كان فاسقاً، أو كان منافقاً مستتراً، بل إنّ كلمة الإسلام تُطلق حتّى على مرتكب الكبائر ماعدا الشرك

____________________

١) الإحكام في أصول الأحكام ٢: ٣٢٠.

٢) المصدر السابق نفسه.

٣) الباعث الحثيث في شرح علوم الحديث: ١٧٧.

١١٧

بالله تعالى.

ومثل ذلك ما قاله محمّد بن إسحاق، كما حكى عنه البيهقي: (وكلُّ من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إمارته فهو باغ)، وأضاف البهيقي:

(على هذا عهدت مشايخنا وبه قال ابن إدريس الشافعي ثم لم يخرج من خرج عليه ببغيه عن الإسلام)(١) .

وغاية ما يستدل بهذا القول: إنّ الباغين على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لم يخرجوا عن الإسلام، وعدم الخروج عن الإسلام لا يستلزم العدالة.

الرأي الرابع: تأويل مواقف الصحابة:

إنّ عدالة جميع الصحابة لم تثبت حسب موازين الجرح والتعديل، فقد ارتكب بعضهم أفعالاً ظاهرة الانحراف والفسق، ومن أجل الحفاظ على نظرية عدالة الجميع، ذهب جمهورٌ من علماء العامّة إلى ضرورة تأويل مواقفهم بما ينسجم مع القول بالعدالة.

قال ابن حجر الهيتمي:

( إعلم أنَّ الذي أجمع عليه أهل السُنّة والجماعة: أنّه يجب على كلِّ مسلمٍ تزكية جميع الصحابة بإثبات العدالة لهم، والكفّ عن الطعن فيهم والواجب أن يلتمس لهم أحسن التأويلات، وأصوب المخارج، إذ هم أهلٌ لذلك )(٢) .

ولهذا أوّلوا ما ارتكبه بعض الصحابة من معاصي وإن كانت من الكبائر،

____________________

١) الاعتقاد على مذهب السلف، للبيهقي: ٢١٩ دار الكتب العلمية - بيروت ١٤٠٦ هـ ط٢.

٢) الصواعق المحرقة: ٣٢٥.

١١٨

بأنّ ما ارتكبوه قد صدر منهم عن اجتهادٍ وتأويل، ومن ذلك بغي معاوية وعمرو بن العاص على الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما رافق ذلك البغي من سفك الدماء، وقتل خيرة الصحابة:

كعمّار وخزيمة بن ثابت وحجر بن عدي وآخرين.

قال ابن حجر:

(وفئة معاوية وإن كانت هي الباغية، لكنّه بغي لا فسق به، لأنّه صدر عن تأويل يعذر به أصحابه)(١) .

ولم يكتف القائلون بالتأويل بذلك، فترقّى بهم الحال ليدّعوا أنّ للبغاة أجراً على بغيهم:

قال ابن كثير:

( لأنّهم وإن كانوا بغاةً في نفس الأمر، فإنّهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كلُّ مجتهدٍ مصيباً، بل المصيب له أجران، والمخطيء له أجر)(٢) .

وقال ابن حزم:

( وعمّار - رضي الله عنه - قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي، وقد شهد بيعة الرضوان، فهو من شهداء الله له بأنّه علم ما في قلبه، وأنزل السكينة عليه، ورضي عنه، فأبو العادية متأولٌ مجتهد مخطيء فيه باغٍ عليه مأجوراً أجراً واحداً )(٣) .

وذكر ابن حجر الرواية المشهورة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قوله لعمّار بن ياسر:

( تقتلك الفئة الباغية)

وأردفها بالقول: (إخبار من الصادق المصدّق - رضي الله عنه - أنّ معاوية باغ على عليّ، وأنّ عليّاً هو الخليفة الحق).

____________________

١)الصواعق المحرقة: ٣٢٨.

٢) السيرة النبوية، لابن كثير ٢: ٣٠٨.

٣) الفصل في الأهواء والملل والنحل ٤: ١٦١.

١١٩

وقال: وجوابه أنّ غاية ما يدل عليه هذا الحديث أنّ معاوية وأصحابه بغاة ذلك لا نقص فيه، وأنّهم مع ذلك مأجورين غير مأزورين ...)(١) .

وعلى الرغم من القول بالتأويل، إلاّ أنّهم خرموا القاعدة في رأيهم بقتلة عثمان بن عفّان، قال ابن حجر:

( إنَّ الذي ذهب إليه كثيرون من العلماء أنّ قتلة عثمان لم يكونوا بغاةً، وإنّما كانوا ظلمةً وعتاةً لعدم الاعتداد بشبههم، ولأنّهم أصرّوا على الباطل بعد كشف الشبهة وإيضاح الحقّ لهم)(٢) ).

والرأي في قتلة عثمان ينقض قاعدة التأويل، بل ينقض عدالة جميع الصحابة، لأنَّ بعض الصحابة قد فسقوا بقتلهم عثمان كما يدّعون، فما هو الملاك في التأويل؟!

فإذا كان قَتَلَة عثمان قد قتلوا شخصاً واحداً، فإنّ معاوية ومن معه قتلوا آلاف المسلمين، وعشرات الصحابة، بل استمرّ معاوية على هذا النهج وقتل جماعةً من أخيار الصحابة حينما تسلّط على المسلمين بقوّة السيف.

فلماذا نبرّر لمعاوية بغيه على الخليفة الحق، وسفكه الدماء، ولا نبرّر لبعض الصحابة مشاركتهم في قتل عثمان؟

فما هو المرجّح في التبرير؟

ولماذا يبرّر لابن ملجم قتله الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كما ورد عن البيهقي أنّه قال:

(ولا خلاف بين أحدٍ من الأُمة أنّ ابن ملجم قتل علياً متأولاً مجتهداً مقدّراً على أنّه على صواب)(٣) .

____________________

١) تطهير الجنان: ٤٢.

٢) الصواعق المحرقة: ٣٢٦.

٣) السنن الكبرى ٨: ٥٨.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131