الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة0%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 253
المشاهدات: 53473
تحميل: 9017

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53473 / تحميل: 9017
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حكم العُصاة كان لهم شأن في النزاع القائم بين علماء المسلمين في العصرين الأموي والعبّاسي، وأنّهم وصفوا بالأرجاء لأنّهم خالفوا الفريقين المعتزلة والخوارج، وجميع المسلمين إذا صحّ إنّهم يدعون أنّ الإيمان لا تضرّ معه المعاصي، كما لا تنفع مع الكفر الطاعات، وأصبحوا في مقابل غيرهم من المسلمين على اختلاف نزعاتهم وعقائدهم.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الإرجاء بأي معنى أريد منه قد ظهر في القرن الأوّل الهجري، أمّا تحديد الزمان الذي ظهَر فيه فقد اختلفت آراء الكتّاب فيه، فذهب بعضهم إلى أنّه ظهر في عصر الصحابة حينما اختلف المسلمون في عهد عثمان بن عفّان؛ واحتجّوا لذلك بما رواه أبو بكرة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (ستكون بعدي فتنة، القاعد فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي إليها، ألا فإذا نزلتْ فمَن كان له إبل فليلحق بإبِله، ومَن كان له غنَم فليلحق بغنمه، ومَن كانت له أرض فليلحق بأرضه).

فقال له رجلٌ: يا رسول الله، من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدقّ على حدّه بحجَر، ثمّ لينجُ إنْ استطاع النجاة) ، وعملاً بهذا الحديث وقَف جماعة من المسلمين موقفاً حياديّاً من النزاع الذي نشب بين عثمان وخصومه، وبين عليّ (عليه السلام) والخارجين عليه، ولم يحكموا على الجميع بخيرٍ أو شر، فكان هذا الموقف منهم البذرة الأُولى لفكرة الإرجاء (1)، ولمّا اشتدّ النزاع بين الخوارج والمعتزلة في حكْم مرتكب الكبيرة وحكْم الحكّام الأمويّين، وقف جماعة في مقابل الفريقين، وقالوا: إنّ الجميع مؤمنون، وأمرهم في الآخرة يعود إلى الله، إنْ شاء عذبهم وإنْ شاء عفا عنهم.

والإنصاف أنّ موقف الذين اعتزلوا النزاع القائم بين عثمان وجمهور المسلمين، والنزاع الذي أحدَثه الخارجون على خلافة عليّ (عليه السلام) لا ينطبق على الإرجاء بكِلا معنيَيه؛ لأنّ المسلمين كلّهم قد اتفقوا على أنّ عثمان قد أخطأ في سياسته، وتخطّى الحدود التي وضعها الإسلام للحاكم، ولم يتوقّفوا في الحكم عليه بالخطأ والانحراف والخروج عن الخطّ الذي وضعه الإسلام للحاكمين ولسائر الناس ولم يقفوا من هذا النزاع موقفاً حيادياً، بل تركوا الأمر إلى الثوار، كما وأنّ الذين اعتزلوا عليّاً في مواقفه مع أخصامه

____________________

(1) انظر فجر الإسلام ص 280 والمذاهب الإسلامية ص 200.

١٠١

في البصرة وصِفّين والنهروان لم يشتبه عليهم الحال، ولا سيّما وأنّ عليّاً (عليه السلام) هو القائم على أُمور المسلمين، ولكنّ موقفهم منه كان لمرض في نفوسهم، ولأنّهم يعلمون جيّداً أنّ عليّاً سيساوي بينهم وبين سائر الناس ولا يفضّل أولاد إسماعيل على أولاد إسحاق، ولا يُحابي أحداً في دين الله ويؤيّد ذلك ما أورده جماعة من المؤرّخين من أقوال المتخلّفين وآرائهم في معاوية وعثمان.

وكان طلحة والزبير وعائشة من أشدّ الناس على عثمان وأكثرهم تحريضاً عليه، وجاء عن السيّدة عائشة أنّها كانت تقول: أيّها الناس هذا جلباب رسول الله لم يبْلَ، وقد أبلى عثمان سنّته، ولما استنصرها مروان لتدفع عنه الثائرين أجابت: لعلّك ترى أنّي في شكٍّ من صاحبك، أما والله لوددت أنّه مقطّع في غريزة من غرائزي وأنّي أطيق حمله فأطرحه في البحر (1).

وكانت تعبّر عن رأي أكثر المسلمين في موقفها من عثمان، والأحداث التي أدّت إلى قتله؛ لأنّ النقمة عليه كانت عامّة حتى من الذين ناصروه على الوصول إلى الحكم كعبد الرحمان بن عوف وأمثاله، ولا سيّما بعد أنْ فسَح المجال لبني أُميّة وولاّهم جميع المراكز الحسّاسة في الدولة.

ولو فرضنا أنّ الفئة التي اعتزلت القتال الذي نشب بين عليّ من جهة، وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية من جهة ثانية، لو افترضنا أنّ الرشد لم يتّضح لها في أيّ الجانبين، وأنّ تلك الفئة قد اعتزلت القتال لهذه الغاية، لا حسَداً ولا كرهاً لعليّ (عليه السلام) ولا تهرّباً من عدله، فهو لا يتّفق مع الإرجاء بجميع معانيه، سَواء فسّرناه بعدم الحكم على العُصاة باستحقاق العقاب وتركهم إلى الله يصنع بهم ما يشاء، أم فسّرناه بإعطاء الرجاء الذي يتّفق مع قولهم لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة؛ لأنّ المتخلّفين لم يتّضح لهم عصيان أحد الفريقين على حدّ زعمهم.

ومهما كان الحال فما لا شكّ فيه أنّ المرجئة قد ظهروا في أواسط العصر الأموي، وأبدوا نشاطاً في إشاعة هذه الفكرة في الأوساط الإسلامية، وناصرهم الحكّام الأمويّون على إشاعتها وانتشارها؛ لأنّها تثبت إيمانهم وهم في أمسّ الحاجة إلى هذه الصفة، ولا سيّما في تلك الظروف التي كان الخوارج ينادون بكفر الأمويّين وجميع الصحابة، والمعتزلة يرَون أنّ الإسلام

____________________

(1) انظر تاريخ اليعقوبي ص 152 طبع النجف.

١٠٢

عقيدةٌ وعمل بالفرائض وبكلّ ما جاء به الإسلام، فمن لم يعمل يستحق الخلود في جهنّم، ولو كان معتقداً بكلّ أركان الإسلام.

فالأمويّون إمّا كفّار كما يدّعي الخوارج، أو مخلّدون في جهنّم كما يدّعي المعتزلة، أمّا عند المرجئة فهم مؤمنون لم يخرجوا عن الإيمان بالرغم من إسرافهم في المنكرات والمعاصي، بل ذهب بعضهم إلى أنّ الإيمان لا يعتبر فيه أكثر من الاعتقاد بالله ورسوله، وإنْ أعلن الكفر بلسانه وعبَدَ الأوثان، ولازَم اليهودية والنصرانية في دار الإسلام، وأضافوا إلى ذلك أنّه في هذه الحالة يكون من أولياء الله ومن أهل الجنّة (1).

ومن الطبيعي أنْ تجد هذه الفكرة أنصاراً ومؤيّدين من الحكّام؛ لأنّهم لا يجدون فرقة من فِرَق الإسلام تمنحهم هذه الصفات التي تضعهم في صفوف القدّيسين، وتؤكّد لهم شرعيّة مُلكهم وتسلّطهم على رِقاب المسلمين مهما أسرفوا في المعاصي واستهتروا بتعاليم الإسلام ومقدّساته، ومِن الغريب الذي تدعمه الشواهد الكثيرة أنْ يكون الحكّام أنفسهم هم أبطال هذه الفكرة في العصر الذي احتدم فيه الصراع الفكري في العقائد، وشاعت فيه آراء الخوارج والمعتزلة في العُصاة ومرتكبي الكبائر، ومن السهل عليهم شراء الأنصار والدعاة لها من العلماء وغيرهم في ذلك العصر الذي ظهر فيه من يحكم عليهم بالكفر والخلود في نار جهنّم.

أمّا الزمان الذي حدثت فيه هذه الفكرة على التحقيق، فليس في المصادر التي تبحث عن الفرق وتاريخها ما يؤكّد زمان نشأتها على الدقّة ويؤيّد ذلك ما جاء عن بعض المستشرقين: أنّ البحث عن المرجئة وبدء تكوينها وتاريخها محاط بشيء من الغموض، والسبب في ذلك يرجع إلى أنّ الدولة العبّاسية قضت عليهم وأفنت أصحاب هذه المقالة؛ لأنّهم كانوا يناصرون الأمويّين (2) وهذا الرأي لا تؤيّده الأدلّة؛ لأنّ القائلين بالإرجاء قد ابتدعوا هذه المقالة لمصلحة الحاكمين، وحكّام الدولة العبّاسية كانوا في أمسّ الحاجة لمن يضعهم في صفوف المؤمنين؛ لأنّهم مثّلوا أقبح الأدوار التي مثّلها حكّام الأمويّين.

وجاء في التعليقة على كتاب التبصير في الدين، أنّ أوّل من سمّى أهل السنّة والجماعة بالمرجِئة هو نافع بن الأزرق الخارجي، أحد زعماء

____________________

(1) انظر فجر الإسلام ص 271 عن ابن حزم مجلّد 4 ص 204.

(2) المصدر نفسه ص 281.

١٠٣

الخوارج في العصر الأموي، عندما شاع بينهم أنّ الإيمان هو التصديق بما جاء به النبيّ تفصيلاً وإجمالاً، ولا يحتمل الزيادة والنقصان؛ لأنّ الجزم الذي ينعقد القلب عليه إنْ نقَص أصبح جهلاً أو شكّاً أو وهماً، وبذلك يخرج عن حقيقة الإيمان، أمّا العمل فهو خارج عن حقيقته.

وهذا النوع من الإرجاء قد نُسِب إلى أبي حنيفة كما في التعليقة على مقالات الإسلاميّين للأشعري، وقد خالفه بعض الفقهاء والمحدّثين واعتبروا الإيمان مؤلّفاً من ثلاثة أركان: تصديقٌ بالجنان، وإقرارٌ باللسان، وعمَلٌ بالأركان (1)، وقد تبيّن ممّا جاء في التعليقة على التبصير في الدين أنّ اسم المُرجئة لم يكن قبل العصر الأموي، وأنّ أوّل مَن وصَف الجمهور به هو نافع بن الأزرق الخارجي المعاصر لأبي حنيفة، ومعلومٌ أنّ الخوارج يكفّرون في الغالب جميع مخالفيهم، فضلاً عن مرتكبي الكبائر.

والجمهور لا يقولون بمقالة الخوارج ولا بمقالة المعتزلة، وإنّما يذهبون إلى أنّ الإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول، ولا يحكمون على مرتكب الكبيرة بالعقاب ويتركونه إلى الله، إنْ شاء عذّبه وإنْ شاء عفا عنه، فيكون الإرجاء المنسوب إليهم وسَطاً بين رأي المعتزلة والخوارج، وهذا بخلاف الإرجاء عند مَن يقول بأنّ الإيمان لا تضرّ معه المعاصي، كما لا تنفع مع الكفر الطاعات، فإنّ الإرجاء بهذا المعنى يُقابل رأي المعتزلة والخوارج وجميع الفِرَق الإسلامية.

وقد أنهى أبو الحسن الأشعري المُرجئة إلى اثنتي عشرة فرقة، وكلّها تتّفق على أنّ الإيمان اعتقادٌ ويقين والعمَل خارج عن حقيقته، ولم يُخالف في ذلك إلاّ الكرامية ، أتباع محمّد بن كرام، فقد ذهبوا إلى أنّ الإيمان هو الإقرار باللسان دون القلب، ورتّبوا على ذلك أنّ المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أنّهم لم يؤمنوا بقلوبهم كانوا مؤمنين حقيقةً، كما وأنّ الكفر هو الجحود والإنكار باللسان (1).

وفي كتاب التبصير للأسفراييني: أنّ القائلين بالإرجاء قد افترقوا إلى

____________________

(1) انظر التعليقة على التبصير في الدين للأسفراييني ص 91، والتعليقة على مقالات الإسلاميّين ص 203.

(2) انظر مقالات الإسلاميين ص 205.

١٠٤

خمس فِرق، وعدّ منهم اليونسية أتباع يونس بن عون، القائلين أنّ الإيمان بالقلب واللسان، وحقيقته معرفة الله سُبحانه ومحبّته، والتصديق برسله وكتبه.

والغسانية أتباع غسّان المُرجئي القائل بأنّ الإيمان هو الإقرار بالله والمحبّة له، ولكنّه يَقبل الزيادة والنقصان.

والثنويّة أتباع أبي معاذ القائل بأنّ الإيمان ما وقاك من الكفر.

والثوبانية أصحاب أبي ثوبان المرجئي، وهؤلاء قد أضافوا إلى الإقرار بالله ورُسله، الواجبات العقلية، واعتبروا كلّ ما يراه العقل صحيحاً من أركان الإيمان.

والمريسيّة أتباع بشير المريسي الذي أضاف إلى أقوال مَن ذكرناهم القول بخلْق القرآن، ويبدو من ذلك أنّ المرجئة متّفقون على أنّ العمل ليس من أركان الإيمان، وأنّهم بذلك يحاولون تحديد معنى الإيمان في مقابل الخوارج الذين وقفوا في جانب والمسلمون بأجمعهم في جانب آخر، وكفّروا كلّ من يُخالفهم فضلاً عن مرتكبي الكبائر، كما وقفوا في مقابل المعتزلة الذين اعتبروا العمل من أركان الإيمان واثبتوا للعُصاة الخلود في جهنّم وبعد أنْ ظهر رأيهم في مقابل الخوارج الذين احتكروا الإيمان لأنفسهم، والمعتزلة الذين أضافوا إلى التصديق العمل بالأركان، وأصبح من جملة الآراء المنتشرة في ذلك العصر بعد ذلك تطوّر كغيره من الآراء التي تبرز في بدايتها كفكرة، ثمّ تتّسع كلّما اتسع البحث فيها وطال بها الزمن، ولا سيّما والفكرة من أساسها تخدم مصلحة الحكّام كما ذكرنا.

ولابدّ وأنْ يساعدوا على انتشارها وتداولها وتحويرها لصالحهم؛ ولذلك فقد أدعى بعضهم أنّ الإنسان مهما فعل من الذنوب وارتكب من المنكرات لا يعذّب في النار ما دام مؤمناً بالله ورسله بقلبه ولسانه، وأسرف آخرون، فذهبوا إلى أنّه إقرار باللسان، ولو لم يكن معتقداً بما يقول (1).

وجاء في فجر الإسلام: وقد اشتهر من شعراء بني أُمية بالقول بالإرجاء ثابت بن قطنة ، وكان من أصحاب يزيد بن المهلّب وأعوانه، وله قصيدة توضّح مذهبه في الإرجاء، ويستفاد منها أنّه لا يحكم على أحد بالكفر مهما ارتكب من الذنوب، وأنّ المسلمين إذا اختلفوا وكفّرت كلّ

____________________

(1) وهؤلاء هم الكرامية كما ذكرنا.

١٠٥

طائفة منهم الأُخرى تركناهم إلى الله يحكم عليهم يوم القيامة بما يستحقّون، وإلى ذلك يشير بقوله:

ولا أرى أنّ ذنـبـاً بـالغاً أحـداً

بالناس شِركاً إذا ما وحّدوا الصمدا

يـجزي عـليّاً وعـثماناً بسعيهما

ولـستُ أدري بـحقٍّ أيـة وردا

الله  يـعلم مـاذا يـحضران بـه

وكـلّ عـبدٍ سـيلقى الله منفردا

والإرجاء الذي يدين به صاحب هذه الأبيات هو الإرجاء الذي يقول به جمهور الفقهاء، وهو من أقرب المرجئة إلى الواقع؛ لأنّه لا ينفي العذاب عن العُصاة، ولا يقطع بعقوبتهم، ويترك الحكم عليها إلى الله وحده (1) .

ومجمل القول إنّ الإرجاء الذي شاع القول به في العصرين الأموي والعبّاسي، وأصبح مذهباً لفريق من الناس في مقابل غيرهم من أصحاب المذاهب، لا يقول به الإمامية؛ لأنّ المرجئة لا يحكمون على العُصاة بأيّ حكم من الأحكام، وبعضهم يدّعي بأنّهم مؤمنون منعّمون في الجنّة، والإمامية مجمعون على أنّهم فسّاق معذّبون بذنوبهم، وجاء عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: صنفان من أُمتي ليس لهم في الآخرة نصيب المرجئة والقدرية (2).

وجاء عن زيد بن عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: لعن الله المرجئة؛ لأنّهم أطمعوا الفُسّاد في عفو الله.

____________________

(1) انظر الإمام الصادق لأبي زهرة ص 143.

(2) انظر كنز الفوائد للكراجكي المتوفّى في القرن الرابع ص 51.

١٠٦

المعتزلة

لقد بدأ بين المعتزلة والمحدّثين في مطلع القرن الثاني الهجري، وبلغ الصراع أشدّه بعد أن وجد المعتزلة من يناصرهم ويتبنّى بعض آرائهم من الحكّام العبّاسيين، وكما ذكرنا أنّ النزعة العقلية هي التي كانت تسيطر على بحوث المعتزلة، حتى في قضايا الدين، بينما تمسّك المحدّثون بحرفيّة النصوص، سَواء في ذلك القرآنية والنبوية، والطرفان أسرفا في تعصّبهما لهاتين النزعتين وجرّهما هذا التعصّب إلى الأخطاء الكثيرة التي ظهرت في آرائهم في التوحيد والصفات والجبر والاختيار، وغير ذلك من المباحث التي كانت مسرحاً للجدَل والنزاع بين الفريقين، وترك الطرفان مجموعة من المؤلّفات حول معتقداتهم في الأُصول الإسلامية وغيرها، وكتب عنهم مؤلّفو الفِرَق والكتّاب عشرات الكتب.

ويبدو من تلك المؤلّفات التي صدرت حول المعتزلة وآرائهم ومعتقداتهم، أنّ السبب في وصف أصحاب تلك الأفكار بالاعتزال لا يعدو واحداً من أُمورٍ ثلاثة:

الأوّل: أنّ واصل بن عطاء الغزال كان يتبنّى رأي معبد الجهني وغيلان الدمشقي في أفعال الإنسان، وأنّه هو وحده الذي يصنع أفعاله بدون أنْ يكون لله أيُّ أثر في ذلك، وهما أوّل من أظهَر القول بالقدر بمعنى الاختيار المطلق في مقابل الجهمية أتباع الجهم بن صفوان الذين قالوا بالقدر المرادف للجبر، وهم الجبرية الخالصة، وقد أضمر واصل هذه العقيدة وأخفاها عن رفقائه، وحتى عن أُستاذه الحسن البصري، بينما يرى الجمهور الأكبر من المسلمين أنّ أفعال الإنسان مخلوقة لله سبحانه، فيكون وصفه بالاعتزال؛ لأنّه اعتزل رأي الجمهور الأكبر من المسلمين، وتبنّى رأي معبد الجهني وغيلان الدمشقي.

الثاني: إنّ هذا الوصف غلب عليهم لأنّهم اعتزلوا قول الخوارج والمرجئة والفقهاء في مرتكب الكبيرة، حيث إنّ الخوارج يرونه كافراً، والمرجئة يرونه مؤمناً مستحقّاً للنعيم، والفقهاء يرونه منافقاً، ولمّا سُئل الحسن البصري عن رأيه في أصحاب الكبائر في الوقت الذي كان الخوارج ينادون بكفرهم، والمرجئة ينادون بإيمانهم، وقف واصل بن عطاء في مجلس أُستاذه وأجاب السائل بأنّهم بين المنزلتين، الإيمان والكفر، ويستحقّون الخلود في جهنّم، فطرده الحسن البصري من مجلسه، فاعتزله واصل وجلس في ناحية من نواحي المسجد، وانضمّ إليه جماعة منهم صِهْره عمرو بن عبيد وغيره (1) .

____________________

(1) انظر التبصير في الدين ص 64 وفجر الإسلام ص 298.

١٠٧

الثالث: إنّهم أنّما وصفوا بالاعتزال؛ لأنّهم عزلوا مرتكب الكبيرة عن المؤمنين والكافرين كما يظهر ذلك من المسعودي في مروج الذهب.

ويرى بعض المؤرّخين أنّ وصف الاعتزال كان أسبَق من تاريخ واصل بن عطاء، وأنّه وصف لجماعة من المسلمين قد لزموا منازلهم عندما صالح الحسن بن عليّ (عليه السلام) معاوية واعتزلوا الفريقين الحسن ومعاوية.

ويرى بعض المستشرقين أنّ جماعة من المسلمين كانوا أتقياء للغاية أعرضوا عن ملاذّ الحياة وزهدوا في الدنيا فسمّاهم الناس معتزلة بهذا الاعتبار.

ومن الجائز القريب أنّ يكون هذا الوصف أصبح علَماً على الفرقة المعروفة بمبادئها ومناهجها في وقتٍ متأخّر عن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وذلك بعد أنْ اشتهرت في آرائها ومواقفها في مقابل العلماء والمحدّثين الذين تمسّكوا بظواهر النصوص، ولم يعتمدوا على العقل في شيءٍ من أُمور دينهم، بينما اعتمد هؤلاء على العقل وحده، وتأوّلوا الأحاديث المخالفة له، ويكون وصفهم بالاعتزال؛ لأنّهم اعتزلوا طريقة العلماء والمحدّثين، واعتمدوا على العقل وحده في أبحاثهم ومناظراتهم، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الوصف قد أطلق على جماعة من المسلمين قد اعتزلوا الفريقين عليّاً (عليه السلام) ومعاوية.

ووردت في كتاب قيس بن سعد بن عبادة، وكان والياً لعليّ (عليه السلام) على مصر، قال في كتاب أرسله إلى عليّ (عليه السلام): (إنّ قِبَلي قوماً معتزلين، وقد سألوني أنْ أكفّ عنهم)، كما وردَت في كلام غيره لمناسبات مختلفة، ولكن ذلك لا يثبت تسمية هؤلاء بالمعتزلة، وأنّ هذا الاسم قد أطلق على الذين اعتزلوا قيساً في مصر، أو الحسن ومعاوية بعد الصلح، وأصبح علَماً عليهم، ولا يُستفاد من وصفهم بالاعتزال أكثر من أنّهم لم يُساهموا في القتال الذي وقع بين الفريقين في تلك الفترة من تاريخ المسلمين، وذلك لا يعني أنّ الفرقة التي غلَب عليها هذا الاسم كانت قبل واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وغيرهما من مؤسّسي مبادئ المعتزلة.

وأخيراً فالرأي الشائع بين المؤرّخين وكتّاب الفِرَق، أنّ واصل بن عطاء قد اعتزل مجلس أُستاذه الحسن البصري بعد أنْ كان أحد تلامذته المختصّين به، واتّخذ مركزاً مستقلاًّ للبحث والجدل والمناظرة ووزّع دعاته وأنصاره في البلاد، فأرسل عبد الله بن الحارث إلى المغرب، وحفص بن

١٠٨

سالم إلى خراسان لمناظرة الجهم بن صفوان، وألّف كتاباً فيه ألف مسألة للردّ على المانوية ، وانصرف أتباعه عمرو بن عبيد وأشباهه إلى الدعوة لمبادئهم (1) هذا الرأي تؤيّده أكثر المصادر التاريخية، بالإضافة إلى أنّه أكثر شيوعاً وانتشاراً بين كتّاب الفِرَق والمذاهب من المتقدّمين، وأصبح بعد ذلك علَماً لكلّ من يرى رأي واصل وأتباعه في المبادئ الخمسة التي لابدّ منها في صدق الاعتزال كما سيأتي في المباحث الآتية.

وممّا يؤيّد ذلك ما جاء في أوائل المقالات للشيخ المفيد حول هذا الموضوع - قال: (وأمّا المعتزلة وما وسِمَت به من اسم الاعتزال، فهو لقبٌ حدَث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين، وما أحدَثه واصل بن عطاء من المذهب في ذلك هو وصاحبه عمرو بن عبيد ومن وافقهما على التديّن بذلك، وأدّى بهم الإصرار على رأيهم إلى اعتزال الحسَن البصري وأصحابه، وتحيّزهم إلى مجلسهم الذي اختصوا به، فسمّاهم الناس عند ذلك معتزلة؛ لاعتزالهم مجلس أُستاذهم بعد أنْ كانوا من أهله ولم يكن قبل ذلك يُعرف الاعتزال ولا كان علَماً على فريق من الناس) (2).

ـ وكان على صلةٍ أكيدة بهم، وله مناظرات كثيرة معهم كما يبدو ذلك من كتابه العيون والمحاسن، ويؤكّد ذلك ابن خلكان في كتابه وفيّات الأعيان عن السمعاني المتوفّى سنة 562هـ، ونشوان بن سعيد في كتابه شرح رسالة الحور العين، فقد ذهبا في كتابيهما، الأنساب وشرح الرسالة، إلى أنّ المعتزلة إنّما غلَب عليهم هذا الاسم؛ لقولهم بالمنزلة بين المنزلتين بالنسبة لمرتكب الكبيرة، في مقابل الخوارج القائلين بكفره، والمرجئة القائلين بإيمانه؛ لإقراره بالله ورسوله وكتابه، وبما جاء به الرسول من عند الله (3) .

____________________

(1) انظر أبا حنيفة للشيخ محمّد أبي زهرة ص 156، وفجر الإسلام لأحمد أمين ص 300.

(2) انظر أوائل المقالات للشيخ المفيد محمّد بن النعمان المتوفّى سنة 413 ص 5 و6، وقد عاصر المفيد جماعة من عظمائهم كأبي القاسم البلخي، والقاضي عبد الجبّار الرازي، وأبي سعيد الإصطخري وأبي الحسين البصري وغيرهم.

(3) انظر المصدر السابق ص 5 من التعليقة على الكتاب المذكور، والمواقف للقاضي عبد الرحمان بن أحمد الإيجي، وأضاف إلى ذلك أنّهم لا يصفون الفاسق بالإيمان؛ لأنّه مدح والفاسق لا يستحقّ المدح، ولا بالكفر لأنّه مُقرٌّ بالشهادتين.

١٠٩

وجميع فِرق المعتزلة، البالغة اثنتي عشرة فرقة، كما أنهاها الأُستاذ أبو زهرة في كتابه أبي حنيفة، والشهرستاني في الملل والنحل، وغيرهما متّفقون على خمسة مبادئ: التوحيد، والعدل، والوعيد والوعد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأُصول الخمسة هي الأركان التي لابدّ منها في وصفهم بالاعتزال، ولا يستحقّ أحد هذا الوصف إذا لم يلتزم بها، وكل من يتحيّف طريقها، ويسلك غير سبيلها لا يتحمّلون إثمه ولا تلقى عليهم تبعته.

وإنْ كانوا قد اتفقوا على بعض المسائل الأُخرى، إلاّ أنّ اتفاقهم على غير الأركان الخمسة لا أثر له في وصفهم بالاعتزال، كما وأنّ الخلاف الواقع بين شيوخهم في كثير من المسائل الكلامية والفلسفية لا يسلبهم صفة الاعتزال، وقد بدأ المعتزلة نشاطهم في مطلع القرن الثاني حينما ظهر واصل بن عطاء بآرائه التي تفرّد بها عن أَساتذته الفقهاء، وأسّس مدرسة الاعتزال التي كانت تضمّ جماعة من المفكّرين كعمرو بن عبيد وأمثاله.

ثمّ بدأت تنشط وتنتشر بمبادئها ومناهجها بمناصرة الحكّام العبّاسيّين إلى أوائل القرن الرابع الهجري سنة 331هـ في السنة التي توفّي فيها الجبائي الزعيم الأخير لتلك المدرسة، وفي خلال هذه المدّة بلغ عدد المتزعّمين من المعتزلة عشرين شيخاً، وإلى كلّ واحد أتباع ومؤيّدون لأفكاره ونظرياته، كما أنهاهم الأسفرائيني في كتابه التبصير في الدين، وبموت الجبائي وظهور الأشعري خفَت صوت المعتزلة بعد أنْ كان عالياً، وبدأ الضعف يسري فيهم، ولا سيّما بعد أنْ لقي الأشعري من الحكّام ما يشجّعه على المضي في الطريق الذي اختطّه لنفسه بعد أنْ لازمهم زمناً طويلاً، وتلقّى عنهم أكثر معلوماته.

ومع ذلك فلَم ينته الاعتزال بالرغم من مساندة الحكّام للمحدّثين، ولكنّه بقي محدوداً في نطاق الفرق التي أنهاها الأسفرائيني إلى عشرين فرقة، وحول آراء هذه الفِرَق كانت تنشط المناظرات والمجادلات أحياناً، وربّما كانت تنتهي بالتكفير والتفسيق من كِلا الفريقين.

ولعب الأشاعرة دوراً بارزاً في الصراع الذي حدَث بين المعتزلة والمحدّثين أدّى إلى حرق كتبهم، وتشريدهم في البلاد، شرقها وغربها، وأصبَح المسلمون ينظرون إلى مذهب المعتزلة بعين الريبة والحذر، ومهما كان الحال، ففِرَق الاعتزال التي أحصاها بعض المؤلّفين في المذاهب

١١٠

الإسلامية ليس بينها من يُخالف في الأُصول الخمسة التي لابدّ منها لكلّ من يوصف بالاعتزال، وإنْ بلغ الخلاف أقصى حدوده في كثير من المسائل والنظريات، ولكنّ خلافهم في تلك المسائل، لمّا لم يُمِسّ الأُصول الخمسة التي يقوم عليها مذهب الاعتزال لم يخرجوا عن الاعتزال بسببه.

كما وأنّ اتفاقهم على بعض المسائل والنظريات: مثل قولهم أنّ الحيوانات والحشرات خالقة لأفعال نفسها، وأنّ الله لم يرد المعاصي كالزنا واللواط والكفر وغير ذلك، وأنّ العقل يدرك الحسن والقبيح، وأنّ ما يراه حسناً لابدّ وأنْ يلتزم به الشارع، وما يراه قبيحاً لابدّ وأنْ ينهى عنه، ويجب فعل الحسن وترك القبيح، حتى إذا لم يرد النص الشرعي عليهما، إلى غير ذلك ممّا أورده مؤلّف التبصير في الدين، من المسائل التي اتفقوا عليها واعتبرها مؤلّف الكتاب المذكور من فضائحهم وعيوبهم (1).

هذا التوافق بينهم في الرأي على تلك المسائل، كما يدّعي كتاب الفرق والمذاهب لا أثر له في صحّة تسميتهم بهذا الاسم. وكما ذكرنا فلقد أجمع المؤلفون في الفرق الإسلامية أنّ المعتزلة لم يكونوا فرقة واحدة، وأنّ فرقهم تتراوح بين الاثنتي عشرة فرقة وبين العشرين على اختلاف المؤلّفين في إحصائهم.

وأوّل هذه الفِرَق الواصلية أتباع واصل بن عطاء الغزال تلميذ الحسن البصري، وأوّل مَن لُقّب بهذا اللقب على أشهر الروايات كما ذكرنا، كان مولده بالمدينة سنة ثمانين من الهجرة، وقد نشأ في أحضان مواليه الهاشميّين كما جاء في بعض الروايات (2)، ويظهر ممّا رواه المؤرّخون أنّه كان واسع العلم قويّ الحجّة محيطاً بمذاهب العصر الذي عاش فيه، وكان مع ذلك لا يتكلّم إلاّ بمقدار الحاجة، حتى أتُّهم بالخرس من طول صمته، كما اتهمه أخصامه بالكفر والزندقة، وبقيَت صِلاته طيّبة بأُستاذه الحسَن البصري، إلى أنْ خالفه في مرتكِب الكبيرة، فانقطع بينهما حبل المودّة،

____________________

(1) انظر التبصير في الدين ص 61 وما بعدها.

(2) وقيل: إنّه مولى لبني ضبّة كما قيل: إنّه كان من موالي بني مخزوم، ويُكنّى بأبي حنيفة وقد نسبه إسحق بن سويد إلى الخوارج وفي ذلك يقول:

برئت من الخوارج لست منهم          من الغزال منهم وابن باب

١١١

وبعد حوارٍ طويل بينه وبين رفيقه عمرو بن عبيد اعتنق عمرو بن عبيد مذهبه، وقال: (ما بيني وبين الحقّ من عداوة) (1).

وشاع في عصره النزاع في مسألة الجبر والاختيار، فذهب إلى القول بأنّ الإنسان هو الذي يصنع أفعاله مختاراً بدون أنْ يكون لله رأيٌ في ذلك، فقال الناس فيه: (إنه مع كفره قدري)، وشاع في عصره (كلّ كافر قدري) وقد أخذ القول بالقدر عن معبد الجهني، وغيلان الدمشقي كما يرى ذلك بعضُ المؤلّفين في الفِرَق والمعتقدات (2).

على أنّ واصلاً قد تفرّد عن غيره من شيوخ المعتزلة بأُمور، منها أنّه أحدَث قولاً ثالثاً بالنسبة للفريقين المتخاصمين في الفترة الأولى من تاريخ الإسلام، فقال: (إنّ أحدهما لا بعينه فاسق لا تُقبَل شهادته في شيءٍ، حتى ولو كان الشاهد عليّاً وبنيه (عليه السلام)).

وجاء عنه أنّه قال لو شهدوا بأجمعهم على باقة بَقْل لم أقبَل شهادتهم (3)، ولعلّ الذين ألصقوا في أفكار الخوارج قد اعتمدوا على هذه المقالة وأمثالها من آرائه، التي تبدو وكأنّها أقرب إلى آرائهم منها إلى سائر الِفرََََََََََق الإسلامية، وإنْ لم يلتقِ معهم التقاءً كلّياً في أكثر آرائه ومعتقداته؛ لأنّ المسلمين الذين لم يوالوا عليّاً كانوا على قولَين في النزاع الذي حدَث بينه وبين طلحة والزبير ومعاوية، فالخوارج حكموا عليه بالكفر لأنّه حكّم الرجال في دين الله - على حدّ زعمهم - وبقيّة المسلمين بين من يقول بأنّ جميع أفعاله تفرضها المصلحة وتمليها مصلحة الإسلام العُليا، وبين من يقول بأنّه مجتهد في الدين، والمجتهد معذور في كلّ أفعاله حتى ولو كان مخطئاً، أمّا التكفير والتفسيق فلَم يذهب إليه إلاّ الخوارج والواصلية.

الفرقة الثانية: العمرية ، أتباع عمرو بن عبيد (4)، وكما ذكرنا فقد كان

____________________

(1) انظر تاريخ الفِرََََََق الإسلامية لعليّ الغرابي ص75 وما بعدها، وانظر الفَرْق بين الفِرَق لعبد القاهر البغدادي ص98.

(2) انظر المواقف، المجلّد الرابع ص 379 لعبد الرحمان بن أحمد الايجي.

(3) وُلد هو وواصل بن عطاء في سنة واحدة، وكان والده عبيد نسّاجاً في بداية أمره، ثمّ أصبح من شرَطَة الحجّاج الثقفي وبطانته، ولسوء سمعة أبيه في البصرة كان الناس يقولون بعد أنْ نبَغ ولده عمرو: خير الناس ابن شرّ الناس، يعنون بذلك عمرواً ووالده.

١١٢

قويّ الجدَل بارعاً فيه؛ لأنّ العصر الذي وجِد فيه عصر جدلٍ ونقاش، وانتصارٍ لرأي، وإبطالٍ لآخر، في هذا الوسط الفكري المتضارب بشتّى النزعات والأهواء والآراء المتباينة، نشأ أبو الهذيل أحد أعلام الطبقة الثانية من طبقات المعتزلة، واستمع إلى علماء عصره، وعرَف ما بينهم من خلافات في مختلف النواحي والجهات، ووقف على آرائهم في مختلف المسائل، حتى أصبح من البارعين في مختلف العلوم، واختاره المأمون رئيساً لمجلس مناظراته، وحكى عنه ابن خلكان أنّ صالح بن عبد القدّوس (1) مات وله ولد فحزَن عليه واشتدّ جزعه.

فقال له أبو الهذيل: لا أعرف لجزعك وجهاً! إذا كان الإنسان عندك كالزرع، فقال له صالح: إنّي لأجزع عليه لأنّي قد ألّفت كتاباً اسمه كتاب الشكوك ولم يقرأه، وهو كتاب يشكّ كلُّ من قرأه فيما كان حتّى يتوهّم أنّه لم يكن، وفيما لم يكن حتّى يتوهّم أنّه قد كان، فقال أبو الهذيل: فشُكّ أنتَ في موت ابنك، واعمل على أنّه لم يمُت وإنْ كان قد مات، وشُكّ في قراءته لكتاب الشكوك وإنْ كان لم يقرأه (2) ، وممّا اختصّ به من بين شيوخ المعتزلة أنّه كان يذهب إلى أنّ مقدورات الله سبحانه لابدّ وأنْ تنتهي بحيث يصبح عاجزاً عن كلّ شيء، وعندها لم يستطع أنْ يزيد في نعيم أهل الجنّة ولا في عذاب أهل النار، وينقطع عذاب أهل النار، ولم يبقَ لأهل الجنّة قدرة على أنْ يتنعّموا بنعيم الجنّة.

وذهب إلى أنّ أهل الآخرة مضطرّون إلى ما يكون منهم، وأهل النار يتكلّمون بدون إرادة واختيار، وليس لأحدٍ في الآخرة قدرة على اكتساب فعلٍ أو قول، وليس في الأرض دهري ولا زنديق إلاّ وهو مطيع لله في أشياء كثيرة، وإنْ عصاه من جهة كفره، واستدلّ على ذلك بأنّ كلّ أمرٍ من أوامر الله سُبحانه في مقابله نهي، فلو كان مَن لا يعرفه قد فعل جميع أوامره، وجَب أنْ يكون تاركاً لجميع زواجره، وأنْ يكون قد ترك الطاعات فعلاً لجميع المعاصي.

____________________

(1) كان صالح بن عبد القدّوس على مذهب الثنوية القائلين بتعدّد الآلهة، وقد صلّى يوماً الصلاة التي يُصلّيها المسلمون فقيل له ما هذه الصلاة ومذهبك معروف؟ قال: أُصلّيها؛ لأنّها سُنّة أهل البلد. انظر الأمالي للسيّد المرتضى ج(1) ص100.

(2) انظر الفرق لعليّ الغرابي ص 155.

١١٣

تتلمذ على الحسن البصري هو وواصل بن عطاء، ولازمه زمناً طويلاً، ولمّا انفرد واصل عن أُستاذه، واستقلّ في زاوية من زوايا المسجد مع جماعة كانوا يرون رأيه انضمّ إليه عمرو بن عبيد، بعد محاورة جرت بينهما بالنسبة لمرتكب الكبيرة، وقال: (ما بيني وبين الحق عداوة)، واتّفق هو وواصل على أُصول الاعتزال الخمسة، ويحكى عنه أنّه كان متصلّباً في اعتناق مذهب القدرية، فقد ادعى أنْ لا سيطرة على الإنسان في أفعاله، والإنسان وحده مستقل هو الذي يصنع ويفعل.

وخالف زميله في الحكم على عليّ (عليه السلام) وطلحة والزبير ومعاوية، وذهب إلى أنّ كل واحد منهم فاسق بعينه ظالم للآخر، بينما كان واصل بن عطاء يدّعي أنّ أحد الفريقين لا بعينه ظالم للآخر، والحقّ في جانب أحدهما، ولكنّهما قد اتفقا على تفسيق معاوية ومن معه (1) ويُنسب إليه أنّه قال: إنّ الآية ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) ليست هكذا في اللوح المحفوظ؛ لهذا، ولأنّه كان مغالياً في القدر على مذهب معبد الجهني وغيلان الدمشقي لم يكن موثوقاً عند المحدّثين، ومتّهماً بوضع الحديث على رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وتؤكّد المصادر التاريخية أنّه لم يقبل صلة من المنصور العبّاسي، ولا باشر له عملاً، مع أنّه ألحّ عليه بذلك وأهدى إليه الأموال والنفائس، وله مع ذلك مع المنصور مجالس كان يعظه بها ويوجه إليه الانتقادات اللاذعة، وجاء عنه أنّه مرّ على سارق قد أمر الحاكم بقطع يده، فقال: لا إله إلاّ الله، سارق السِر يقطعه سارق العلانية.

ومجمل القول أنّ عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء كانا على اتفاق في أكثر المبادئ التي دعا إليها واصل، ولم يختلفا إلا في تصلّب عمرو في الحكم على عليّ (عليه السلام) وطلحة والزبير، وفي مغالاته في مذهب القدرية الراجع إلى التفويض المطلق.

الفرقة الثالثة: الهذيلية ، أتباع محمّد بن الهذيل المعروف بالعلاّف (2) المولود في البصرة سنة 135هـ، ولم يرتحل عنها قبل سنة 204هـ بعد أنْ استدعاه المأمون لبغداد، وسمّي بالعلاّف؛ لأنّ داره في البصرة في محلّة العلاّفين، وكان

____________________

(1) انظر المصدر السابق نفس الصفحة، والتبصير في الدين.

(2) لقد عاش أبو الهذيل مِئة سنة، وتوفّي سنة 227هـ، كما في رواية المسعودي في مروج الذهب.

١١٤

قد ذهب إلى أنّ الله سُبحانه لا يقدِر أنْ يعطي عباده القدرة على الإحياء والإماتة، وغيرهما من الأعراض التي لا يعرفون كيفيتها، كالألوان والطعوم وأمثال ذلك، واستدلّ على ذلك بأنّ ذلك يؤدّي إلى عبث الإنسان في الأرض؛ لأنّ الإنسان إذا قدر على الإحياء والإماتة كان إلهاً، وشريك الباري محال، وقدرة الله كما أنّها لا تتعلّق بالمحال، لا تتعلّق بما يؤدّي إلى المحال.

ومِن آرائه أنّ الله لا يقدر على ما أقدر عليه عباده ولا يوصف بالقدرة على الصلاة والصيام وغيرهما من موضوعات التكاليف؛ لأنّها أعمال جسميّة، وهو منزّه عن كلّ ما هو من لوازم الجسم (1) وقد نسَب إليه الراوندي في كتابه فضائح المعتزلة آراء أُخرى، وقد أوردها كتاب الفِرَق في مؤلّفاتهم، ويدّعي الشهرستاني أنّه انفرد عن أُستاذه واصل بن عطاء (2) بعشرِ قواعد، وعدّ منها هو وغيره ما ذكرناه، وقد برأه ابن الخيّاط المعتزلي في كتابه الانتصار من جميع هذه المقالات المنسوبة إليه (3).

النظامية: أتباع إبراهيم بن سيّار النظام المتوفّى سنة 221هـ وله من العمر خمس وثلاثون سنة كما جاء في ترجمته، وكان من مشاهير العلماء البارعين في علم الكلام والفلسفة بقسمَيهما، وقد حفظ القرآن والإنجيل والتوراة، بالإضافة إلى ما كان يحفظه من أشعار العرب وتاريخ الأُمم وفتاوى الفقهاء المتقدّمين عليه والمعاصرين له، واختلفت آراء الكتّاب والمؤرّخين فيه وتناقضت.. فبينما نرى جماعة يصفونه بالكفرِ والإلحاد ويذهبون إلى أنّه مات وهو سكران، وآخر ما تكلّم به:

اشرب على طرَبٍ وقل لمهدّد

هوّن عليك يكون ما هو كائن

____________________

(1) انظر المقالات الإسلامية لعليّ الغرابي ص 164 و174، والملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 69، والتبصير في الدين ص 66.

(2) الظاهر أنّ واصل بن عطاء ليس من أساتذته؛ لأنّه ولد سنة 135هـ، وتوفّي واصل سنة 131هـ.

(3) انظر الانتصار لابن الخيّاط ص 71 و73 وما بعدهما.

١١٥

وينسبون إليه أنّه كان ينشد:

ما زلت آخذ روح الزق في لطف

واستبيح دماً من غير مجروح

حتى انثنيتُ ولي روحانِ في جسدي

والزق مطرح جسم بلا روح

بينما نرى جماعة يصفونه بهذه الصفات وبأقبَح منها (1) ، نرى آخرين يصفونه بالإيمان والاستقامة في دينه، والدفاع عن الدين وردّ كيد الملاحدة (2).

ومهما كان فقد نُسِب إليه أنّه كان يقول إنّ القرآن لا إعجاز في نَظمه، وينكر جميع المعجزات التي رواها المحدّثون عن الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان يتأوّل صفات الله سُبحانه تأويلاً سلبياً، فعلْمُ الله عنده معناه نفي الجهل عنه، وقدرته هي عدم عجزه، وهكذا الحال في بقيّة الصفات، وله آراء أُخرى خالَف فيها أسلافه المعتزلة كانت من جملة المآخذ عليه عند متأخّري المعتزلة، حتى ألّف بعضهم كتاباً في تكفيره (3).

وفي كتاب التبصير في الدين، أنّه كان يصاحب ملاحدة الفلاسفة، وعنهم أخذ القول بأنّ أجزاء الجزء لا تتناهى، ولزمه على هذا القول قِدَم العالَم، كما نُسِب إليه أنّه يذهب إلى أنّ الله سُبحانه خلَق الناس والحيوان وجميع الكائنات على اختلاف أنواعها في وقتٍ واحد، ولم يتقدّم خلقٌ آدم على خلق ولده، ولا خلق الأُمّهات خلق أولادهن، والتقدّم والتأخّر إنّما هو في ظهورها من أماكنها دون خلْقها واختراعها، ومحال عنده أنْ يزيد في الخلْق شيئاً، أو ينقص منه شيئاً، ويدّعي النظّام أنّ القرآن غير القراءة المتعارفة، فهو لا يوجَد في مكانين، ولا يزال في المكان الذي خلق فيه (4).

____________________

(1) ومن هؤلاء عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفّى سنة 276هـ.

(2) انظر الفِرَق الإسلامية لعليّ الغرابي ص 190 و191 تجد طائفة من الآراء المتناقضة فيه من الناحية الدينية.

(3) نفس المصدر، والملل والنحل للشهرستاني، والتبصير في الدين، ومقالات الإسلاميّين لأبي الحسن الأشعري.

(4) انظر الانتصار لأبي الحسين الخياط المعتزلي ص 44، وإذا صحّ عنه ذلك يكون من القائلين بنظرية الكمون وأنّ العالم مخلوق دفعةً واحدة، والتقدّم والتأخّر في الظهور لا في الخلق، وأضاف إلى ذلك في المواقف المجلّد الرابع ص 380: أنّ الله لا يقدر أنْ يزيد أو ينقص من ثواب أهل الجنّة وعقاب أهل النار، ولا يقدر على الشرور والقبائح.

١١٦

الأسوارية: أتباع عليّ الأسواري من تلامذة أبي الهذيل والنظّام؛ ولذا فإنّه يتبنّى آراءهما، وأضاف إليها أنّ الأشياء التي يعلم الله بعدَم وجودها ليست مقدورة له، وهي مقدورةٌ للإنسان؛ لأنّ قدرة الإنسان تتعلّق بالوجود والعدم، فإذا اتصف بالقدرة على أحدهما لابدّ وأنْ يتّصف بالقدرة على الطرف الآخر (1) .

المعمرية: أتباع معمر بن عباد، وقد تفرّد عن شيوخ المعتزلة بأُمور منها: أنّ الإنسان ليس الصورة التي نشاهدها، وإنّما هو شيء في هذه الصورة، عالمٌ قادرٌ مختارٌ يدبّر، بلا حركة ولا سكون، ولا تدركه الحواس ولم يخلق غير الأجسام، أمّا الأعراض فهي من مخترعات الأجسام تقتضيها طبيعتها كما تقتضي النار الإحراق، والله سبحانه لا يوصف بالقِدَم؛ لأنّ وصفه بالقِدَم يدلّ على التقادم الزماني وهو ليس بزماني، كما وأنّه لا يعلم نفسه، وإلاّ اتحد العالِم والمعلوم (2).

الجعفرية: أتباع جعفر بن بشير المتوفّى سنة 234هـ، وجعفر بن حرب المتوفّى سنة 236هـ، وقد ذهبا إلى أنّ الله لا يقدر على ظلم الأطفال والمجانين، ولا يوصف بأنّه متكلّم، وأضافوا إلى ذلك أنّ فسّاق المسلمين أشرّ من اليهود والمجوس، وأنّ الإجماع الذي تمّ بين المسلمين على حدّ شارب الخمر ليس حجّة شرعية؛ لعدَم ورود النص بذلك (3).

الإسكافية: أتباع محمّد بن عبد الله الإسكافي، وقد وافق الجعفرية فيما ذهبوا إليه (4).

البِشرية: أتباع بِشر بن المعتمر، وقد ذهَب إلى أنّ الإنسان يخلق اللون والطعم والرائحة والسمع والبصر على سبيل التولّد، وأنّ الله قادر

____________________

(1) انظر التبصير ص 70، والمواقف ص 381.

(2) المواقف ص 383 والتبصير ص 70، وفرق الشهرستاني ص 90.

(3) انظر التبصير في الدين ص 73، والمواقف ج 4 ص 381.

(4) انظر المصدر السابق ص 74، والمواقف ص 381.

١١٧

على تعذيب الأطفال ولو عذّبهم كان ظالماً لهم، وحيث لا يستحسن منه ذلك يجب أنْ نقول لو عذّبهم كانوا بالغين عاقلين مستحقّين العذاب والعقاب، وأنّ الله إذا غفر ذنبَ عبدٍ من عباده، ثمّ ارتكب العبد ذنباً استحقّ العقاب على الذنب الأوّل (1).

المزدارية: أتباع عيسى بن صبيح المزدار من أعاظم معتزلة بغداد وزهّادهم، وقد سمّي راهب المعتزلة، وقد ذهب إلى أنّ الله يقدر على الظلم والكذِب، ولو فعل كان إلهاً ظالماً كاذباً، وأنّ الناس قادرون على الإتيان بمثل القرآن وأحسَن منه نظماً، وكفّر مَن عاشر السلطان، ومَن قال بخلق الأفعال، وحكَم بعدم التوارث بينه وبين أقربائه (2).

الهشامية: أتباع هشام بن عمر الغوطي من معتزلة القرن الثاني المعاصرين للمأمون العبّاسي، وكان لا يجيز لأحدٍ من المسلمين أنْ يقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، بالرغم من وجود الآيات التي تنصّ على ذلك، كما في الآية 173 من سورة آل عمران، والآية 9 من سورة المزمّل، مدّعياً عدم جواز إطلاق الوكيل عليه تعالى (3)، وذهب أيضاً إلى أنّ الله سُبحانه لم يؤلّف بين قلوب المؤمنين ولم يضل الكافرين، وأنّ الجنّة والنار ليستا بمخلوقتين، وأنّ من قال: بأنّهما مخلوقتان، كافر لعدَم الفائدة من خلقهما قبل الحشر، إلى غير ذلك من الآراء الشاذّة التي أوردها الشهرستاني والايجي وأبو حامد الإسفراييني (4).

الحابطية: أتباع أحمد بن حابط، وهو من تلامذة النظام، وقد نسب إليه الشهرستاني القول بالتناسخ، وادّعى مؤلّف المواقف أنّ القائلين بالتناسخ من المعتزلة هم الحدثية أتباع الفضل بن الحدثي، أحد تلامذة النظام، ونسب إلى الحابطية القول بأنّ للعالم إلهين: أحدهما قديم وهو الله، والثاني محدث وهو السيّد المسيح؛ واستدلّوا على ذلك بالآية، ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) ، وأضاف في المواقف أنهم يذهبون إلى أنّ

____________________

(1) المصدر السابق نفس الصفحة والتبصير ص 71.

(2) انظر المصدرين السابقين.

(3) وهذا جهل منه بالمعنى المراد من الوكيل، إذ ليس المراد منها هو الوكالة بالمعنى المتعارف، بل المراد منها الكافي أو الحافظ.

(4) انظر التبصير في الدين ص 72 والمواقف وغيرهما من كتب الفِرَق والمذاهب.

١١٨

الله أبدَع الحيوانات عقلاء بالغين في غير هذه الدار، وخلَق فيهم معرفته وأسبَغ عليهم نعمته، ثمّ ابتلاهم وكلّفهم شكر نعمته، فمَن عصاه في الجميع أخرجه إلى دار العذاب وهي النار، ومن أطاعه في البعض دون البعض أخرجه إلى هذه الدنيا وكساه هذا الجسد بأشكاله المختلفة، ولا يزال الحيوان في هذه الدنيا في صورة بعد صورة ما دامت معه ذنوبه (1) .

الثمامية: أتباع ثمامة بن الأشرس النميري (2) وقد ذهب إلى أنّ اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة يصبحون في الآخرة تراباً لا يدخلون الجنّة ولا النار، وكذا البهائم والأطفال، وأضاف إلى ذلك أنّ مَن لا يعلم خالقه من الكفّار معذور، وأنّ الأفعال المتولّدة لا فاعل لها؛ لعدَم إمكان إسنادها إلى فاعلي السبب، لاستلزام ذلك إسناد الفعل إلى الميّت، كما إذا رمى إنسان سهماً ومات قبل وصوله للغرض، فيلزم من إسناده إلى الرامي إسناد الفعل إلى الميّت، وإسناده إلى الله لا يصح؛ للزوم صدور القبيح منه (3).

ويبدو من الآراء التي نسبها المؤلّفون في المذاهب إليه أنّه كان متأثّراً بتعاليم ملاحدة الفلاسفة ومستهتراً في دينه، وروى عنه ابن قتيبة في كتابه (مختلف الحديث): أنّه رأى يوماً جماعة يتسابقون إلى صلاة الجمعة، فأقبل على عبدٍ كان معه، وقال له: انظر إلى هؤلاء الحمير ما فعل فيهم هذا العربي! وروى عنه الجاحظ أنّ المأمون قد رآه سكران يتمرّغ في الوحل فقال له: أنت ثمامة؟ فقال: أي والله، فقال له: ألا تستحي؟ قال: لا والله، فقال له: عليك لعنة الله، فأجابه تترى ثمّ تترى (4).

الخياطية: أتباع عبد الرحيم بن محمّد المعروف بأبي الحسين

____________________

(1) انظر ما كتبه عنهم الشهرستاني ص 583، ومؤلف المواقف ص 382.

(2) المتوفى سنة 213هـ.

(3) وقد علّق مؤلّف التبصير والشهرستاني وغيرهما على هذه النظرية بأنّها تؤدّي إلى نفي الصانع؛ إذ لو جاز وقوع فعل بلا فاعل، لجاز ذلك في جميع الأفعال.

(4) انظر المواقف ج 4 ص 383، والتبصير ص 75، والشهرستاني المجلّد الأوّل.

١١٩

الخيّاط المتوفّى سنة 290هـ من تلامذة جعفر بن مبشر، وهو من القائلين بالقدر بمعنى أنّ الإنسان خالقٌ لأفعاله، وأنّ المعدوم جسم يتّصف بالأعراض حالة العدم، ولازم هذا القول أنْ تكون الأجسام قديمة؛ وذلك يؤدّي إلى تعدّد القديم، وله آراء أُخرى يُخالف بها مَن تقدّمه مِن المعتزلة (1).

الجاحظية: أتباع عمرو بن بحر الجاحظ المتوفّى سنة 256هـ، عاصر المعتصم العبّاسي والمتوكّل، وله مؤلّفات كثيرة من جملتها طبائع الحيوان، يدّعي فيه أنّ المعارف كلّها من لوازم الطبيعة، ومَن عرف شيئاً عرفه بطبعه لا بتعليم، ولم يخلق الله له علماً به، وقد ذهب إلى أنّ الله لا يدخل العُصاة النار، بل هي تجذبهم إليها، وأنّ القرآن جسد ينقلب تارةً رجُلاً وأُخرى امرأة، وله شهرة واسعة في العلم والأدب والفلسفة ومؤلّفاته الكثيرة في مختلف المواضيع أكبر شاهد على سِعة علمه وتبحّره في مختلف العلوم (2) .

الجبائية: أتباع محمّد بن عبد الوهاب الجبائي المتوفّى سنة 303هـ، وهو الزعيم الأوّل للطبقة الثالثة من طبقات المعتزلة حسب تصنيف بعض المؤلّفين في المذاهب الإسلامية، وقد عُرِف بالذكاء منذ كان صغيراً، واشتهر بالذكاء وقوّة الإقناع عندما اكتملت رجولته، ونبَغ في عِلم الكلام حتى بلغ ما أملاه على تلامذته مِئة وخمسين ألف ورَقة، ومن أشهرهم وأكثرهم اتصالاً به عليّ بن إسماعيل الأشعري، فقَد لازمه أربعين سنة، وتفّهم آراء المعتزلة وعقائدهم وأصبَح من أعلامهم المتبحّرين، وبعد أنْ لمّع وانتشر صيته انفصل عنهم وتراجع عن مذهب الاعتزال، وألّف في الردّ عليهم، وذلك عندما اتسعت آفاقه، ولم يعد باستطاعة أُستاذه أنْ يدفع الشُبه التي كان يوردها عليه.

وقد ذكروا في ترجمته بعض المناظرات التي كانت تجري بينهما وأدّت إلى انفراد الأشعري عنه، وسنذكر بعضها في ترجمة الأشعري، وكان من جملتها أنّ رجلاً دخَل على الجبائي وقال له: هل يجوز أنْ يسمّى الله عاقلاً؟ فقال الجبائي: لا! لأنّ العقل مشتقٌّ من العقال،

____________________

(1) انظر المصادر السابقة ص 383 من المواقف وص 78 من التبصير في الدين وغيرهما.

(2) انظر المواقف وغيره من كتب الفِرَق.

١٢٠