يتنازعون في القدَر، والفريقان يحتجّان بآيات من الكتاب فأغضبه جدالهما، ثمّ قال لهم: (أبهذا أُمرتم؟! إنّما هلَك مَن كان قبلكم بهذا، لقد ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وقد نزل مصدّقاً بعضه بعضاً، انظروا ما أمرتكم به فافعلوه، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
لقد كان حريصاً على أنْ يباعد بينهم وبين الجدَل الديني، والنزاع العقائدي؛ لأنّ هذا النوع من الجدَل يفرّق كلمتهم، ويضعف قوّتهم ولا يزيدهم إلاّ حيرة وضلالاً، فالإسلام دين عملي واقعي ليس فيه آراء فلسفية شائكة ولا نظريات علمية معقّدة تبعث الشبه والشكوك في العقول، إنّه ينظّم علاقة الإنسان بربّه كما يرشد الإنسان إلى الواجب عليه نحو نفسه وأُسرته، ويحدّد علاقة الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه.
إنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد وجه عنايته إلى إصلاح النفوس ونزع بذور الأحقاد والنفاق منها إصلاحاً عمليّاً على أساس المبادئ التي وضعها له القرآن، فاطمأنت لها قلوبهم وتهذّبت نفوسهم، وبهذا التماسك والترابط الذي أوجده محمّد (صلّى الله عليه وآله) بين أتباعه وأصحابه، استطاعوا أنْ ينشروا الدعوة الإسلامية ويرفعوا لِواء الإسلام عالياً في عواصم الدوَل الكبرى، التي كانت تسيطر على أكبر مجموعة من العالم، أمّا الجدَل الديني، والنزاع العقائدي فلّم يتّجهوا إليه في تلك الفترة من تاريخهم، ولم ينقل عنهم التاريخ في ذلك سِوى بعض الأفكار العابرة التي كانت تعترض بعضهم أحياناً.
وجاء في خطط المقريزي المجلّد الرابع: إنّ مَن أمعَن النظر ووقَف على آثار السلَف، على أنّه لم يرد قط من طريقٍ صحيح أو سقيم، عن أحد من الصحابة على اختلاف طبَقاتهم وكثرة عددهم، أنّهم سألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن معنى شيءٍ ممّا وصَف الربُّ به نفسه في القرآن وعلى لسان محمّد (صلّى الله عليه وآله)، بل كلّهم فهموا معنى ذلك، وسكتوا عن الكلام فيه، ولا فرّق أحدٌ بين كونها صفة ذات أو صفة فِعل، وإنّما أثبتوا له ما أثبته لنفسه بلا جِدال أو نزاع.
وجاء عصر الصحابة بعد عصره، وبالرغم من اتساع رقعة الإسلام وتجدد الحوادث، واتصال العرب بغيرهم من الأُمَم التي خضعت لسلطان الإسلام، بالرغم من ذلك كلّه فقد ساروا على الطريقة التي رسَمَها لهم الرسول، فلَم يتعرّضوا لشيءٍ من العقائد، ولا تنازعوا في أمرٍ من الأُمور التي نهى عن النزاع فيها، ورجعوا إلى الكتاب وأحاديث الرسول لمعرفة أحكام الحوادث، وأضاف بعضهم إليها القياس فيما لا نصّ فيه من كتابٍ