الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة0%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 253
المشاهدات: 49893
تحميل: 7699

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49893 / تحميل: 7699
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشّيعةُ بينَ الأشاعرة والمعتَزلة

هَاشِم مَعروف الحَسني

١

٢

الشّيعةُ بينَ الأشاعرة والمعتَزلة

هَاشِم مَعروف الحَسني

يَعرض الفِرَق الإسلامية السياسية والعقائدية مُنذ نشأتها وأسباب حدوثها، والفِرَق الشيعية ومعتقداتها، ويُثبت أنّ أكثر الفرَق المنسوبة إلى الشيعة لا وجود لها في تاريخ التشيّع ولا واقع لها.

ويَبحث في تاريخ المعتزلة والأشاعرة والمرجئة وغيرهم من الفِرَق والمذاهب وآراءهم ومعتقداتهم في أُصول الإسلام، ويُقارن بينها وبين آراء الشيعة الإمامية في هذه المواضيع، ويُعدّد فِرَق المعتزلة ويتعرّض لبعض آرائهم والفوارق بينهم.

يثبت بالأرقام أنّ الإمامية من الشيعة من أبرز الفِرَق الإسلامية في مختلف العلوم الدينيّة وغيرها، وأنّهم مستقلّون عن غيرهم استقلالاً كاملاً في جميع شؤونهم وحالاتهم، ويبحث عدداً من المواضيع التي تتّصل بموضوع الكتاب معتمداً على أوثق المصادر الشيعية والسُنّية.

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

٥

بسم اللّهِ الرحمن الرحيم

( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (1).

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (2) .

( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (3) .

قرآنٌ كريم

____________________

(1) سورة الشورى: آية 13

(2) سورة آل عمران: آية 105

(3)  سورة الأنعام: آية 159.

٦

مقدّمة

بسم اللّهِ الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخاتم أنبيائه الذين اختارهم لرسالته، واصطفاهم على الناس أجمعين، وعلى آله الأئمّة الهُداة، الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده، وتحمّلوا كلّ أنواع الأذى في سبيله، وارتحلوا عن هذه الدنيا من غير أنْ تعلَق بهم آثامها وتخدعهم بمظاهرها وطيّبات عيشها، والسلام على أصحاب رسول الله الطيّبين الذين اتبعوه بإحسان، وكانوا بأمره يعملون وعلى التابعين لرسول الله، ولأهل بيته في كلّ عصرٍ وزمان ورحمة الله وبركاته.

وبعد، لقد اضطرّتني الكتابة في تاريخ الفقه الجعفري إلى المراجعات الواسعة حول التشريع الإسلامي والفِرَق الإسلامية، وآثارها في مختلف النواحي العلمية، وكانت تستوقفني أشياءٌ وأُمور تثير تعجّبي من هذا الإنسان الذي يستهتر بالقيَم والفضائل، ويستهين بأقدَس الحقوق والواجبات في سبيل أغراضه وشهَواته، وإذا تحدّث عن القِيَم والفضائل

٧

والدين، فإنّما يتحدّث ويدافع عنها بقلبه ولسانه حيث لا يجِد سبيلاً للوصول إلى أغراضه إلاّ عن طريقها.

لقد وجدت وأنا أتتبّع المصادر التي تبحث في التشريع والفِرَق والعقائد الإسلامية، أنّ جميع العناصر والأحزاب كانت تقف في اتجاهٍ معاكس للشيعة، وتألّبت عليهم منذ أقدَم العصور الإسلامية، وجرّدتهم من كلّ خصائصهم وميّزاتهم ليكونوا منسيّين خاملين، واستعمل معهم الحكّام حرب الإبادة في أكثر المواقف التي ثاروا فيها لإحقاق الحق، وإحياء العدل، وإنصاف المظلومين، ولمّا لم تُجْدِ جميع هذه المحاولات للقضاء على التشيّع لجأوا إلى الافتراء عليهم، فوضعوا بين أحاديثهم آلاف الأحاديث، ونسبوا إليهم بعض الآراء التي تتنافى مع نصوص القرآن والسنّة، وخلقوا فِرَقاً لا أصل لها ولا وجود إلاّ بين شفاههم وفي كتبهم نسبوها إلى التشيّع، وقالوا عنهم ما شاءت السياسة، وما شاء محترفوها، الذين لا يهمّهم إلاّ أنْ تُبنى عروشهم ولو على جماجم الأنبياء والأولياء والأبرياء.

وجاء الكتاب بعد ذلك فدوّنوا كلّ ما سمِعوه ووجدوه في كتب المتقدّمين بدون تمحيص ولا تحقيق، ولكنّ قافلة التشيّع لم تُثنِ عزيمتها تلك الأراجيف، ولم تقف تلك الصعاب في طريق الركب الشيعي الزاحف نحو المجد والخلود الدائمَين.

إنّهم بالرغم مِن جميع تلك المحاولات لم يستطيعوا إخماد ذلك الضوء الذي يستمدّ من نور النبوّة ووحي القرآن قوّته ومبادئه وتعاليمه مباشرة.

لقد انتشرت المذاهب الإسلامية في القرن الثاني وما بعده في الأُصول والفروع، وأصبح لكلّ عالم مذهب له أنصار وأتباع، يدافعون عنه ويناضلون من أجل بقائه وانتشاره، وتعدّدت الفِرَق، وتباينت الآراء في أكثر الأصول الإسلامية، فتراشقوا بالتكفير والتفسيق، وشتّى أنواع التُّهَم، وقال المحدّثون والفقهاء عن المعتزلة ما شاءوا، وفي هذا الجوّ المزدحم بالخلافات والمتناقضات، اتّسع المجال للمشكّكين في العقائد الإسلامية أنْ يَظهروا بما عندهم من الشُّبَه والشكوك، وتيسّر للدسّاسين أنْ يبثّوا سمومهم وأباطيلهم لتشويه العقيدة الإسلامية وإبرازها بغير وجهها الصحيح بلا خوفٍ ولا وجَل من الحكّام وغيرهم؛ لأنّ الحكّام يهمّهم أكثر مِن أيّ شيء كان، أنْ ينصرف الناس بكلّ فئاتهم لمثل هذه الأمور، عن تصرّفاتهم وأعمالهم المنافية للإسلام ومبادئه، في هذا الجوّ الذي راجت

٨

فيه الشُبَه وظهَرت فيه انحرافات المعتزلة في تفكيرهم عن المخطّط الإسلامي في أُصول الدين.

واستبد الجمود بالمحدّثين والفقهاء حتى عزَلوا العقل عن الدين، وجرّدوه عن جميع صلاحيّاته التي أقرّت له بها الأديان قبل أيّ شيء، ونتَج من إفراط المعتزلة في تحكيم العقل، وغلو الفقهاء والمحدّثين في الجمود على حرفية النصوص، خلاف بين الفريقين أُريقت فيه الدماء واستُبيحت الأعراض والأموال.

لقد عاش أئمّة الشيعة وأتباعهم الإماميّة في هذه العصور المزدحمة بالخلافات العقائدية، ورافقوا جميع الأدوار التي مرّت بها هذه الفِرَق، وكانت مدارسهم ومجالسهم تعجّ بالطلاب والعلماء من مختلف العواصم الإسلامية، ولا سيّما البصرة والكوفة وبغداد، مقرّ الفِرَق والأحزاب والمذاهب، ولم يكن يعنيهم من أُمور الدنيا وشؤون السلطان شيءٌ، فاتّجهوا بكلّ ما آتاهم الله من عِلم وحكمة وبيان لحماية العقيدة والدفاع عن الدين، وردّ كيد الغزاة وشُبَه المشكّكين وانحرافات الفرق، ووقفوا موقفاً مستقلاًّ عن غيرهم، يستوحون آراءهم ومبادئهم من الكتاب والسُنّة والعقل، وألّف أصحابهم وتلاميذهم مئات الكتب في مختلف المواضيع التي كانت موضع عناية العلماء والمفكّرين.

وفيها اشتدّت الخصومة بين الفِرق وتعدّدت المذاهب، وبالرغم من أنّ الحكّام كانوا من ألدّ أخصامهم، وقرّبوا المعتزلة أوّلاً منهم، وأخيراً تبنَّوا آراء الأشاعرة، وأقرّوا من مذاهب المسلمين الفقهيّة أربعاً، وتجاهلوا المذهب الجعفري يوم ذاك وهو أوسع انتشاراً، وأكثر إنتاجاً من جميع المذاهب الإسلامية الأُخرى، كما أقرّوا مذهب الأشعري في الأُصول، وتجاهلوا آراء الشيعة فيها، ومؤلّفاتهم الواسعة في مختلف العلوم، بالرغم من كلّ ذلك فقد تجاهلهم الذين كتبوا في التشريع الإسلامي من الشيعة، وتحدّثوا عنهم بصورة خاطفة، كما تحدّثوا عن الخوارج والفِرَق الأُخرى التي مرّت في التاريخ، وماتَت في مهدها، وكان ذلك من أقوى الأسباب التي دعتني للكتابة في تاريخ الفقه الجعفري.

وقد وفّقني الله سبحانه لوضع كتابين في هذا الموضوع صدر أحدهما في العام الماضي، والثاني قبل ثلاثة أشهر تقريباً، وقد نفدت أكثر نسخهما، وأرجو أنْ أوفّق لإخراج الكتاب الثالث الذي لا يزال في مرحلة التصميم، أمّا فيما يتعلّق بالمباحث الكلامية وأُصول العقائد، فلم يستطع كتّاب السُنّة

٩

أنْ يتجاهلوا رأي الأئمّة من أهل البيت ولا رأي الإمامية في هذه المواضيع، ولا تزال آثارهم وكتبهم، وعلى الأخص الكتب التي ألّفها الإمامية في القرن الثالث وما بعده، حيث اتسع المجال للإمامية أكثر من أيّ وقت مضى، فكانت مجالس المفيد والمرتضى والطوسي وغيرهم من علماء الإمامية المنتشرين في العواصم الإسلامية تعجّ بالمناظرات بينهم وبين المعتزلة؛ الذين تحرّروا من الجمود وتقليد المحدّثين، وبين الأشاعرة الذين تبنّت السلطات الحاكمة آراءهم وفرضتها على الناس بحدّ السيوف، لا تزال تلك الآثار والكتب بين أيديهم، فلم يستطيعوا أنْ يتجاهلوهم في هذه الناحية كما تجاهلوهم في عالم التشريع، ولا استطاعوا أنْ يعترفوا بأنّهم مستقلّون عن غيرهم في آرائهم وتفكيرهم؛ لأنّ النزعات الموروثة والأحقاد الكامنة من مئات السنين تأبى لهم الاعتراف بالواقع والاستسلام له، فقالوا:

إنّ الشيعة في عقائدهم وأُصولهم أتباع للمعتزلة وعيال عليهم في هذه المواضيع، وجاء المتأخّرون من كتاب العرب والمستشرقين الأجانب يجترون هذه المقالة بدون تمحيص وتحقيق، وكأنّها من الضروريات التي لا تقبل التشكيك، لقد سرّت هذه المقالة فيما بينهم مع أنْ كتب الإمامية في هذه المواضيع منتشرة في جميع المكاتب العامّة والخاصّة، وهي تعبّر عن آرائهم بكلّ صراحة ووضوح، تلك الآراء التي يخالفون فيها المعتزلة أكثر من جميع الفِرَق.

وقد يلتقون معهم أحياناً كما يلتقون مع الأشاعرة والمُرجِئة في بعض المسائل، هذا بالإضافة إلى أنّ الإمامية أسبق الفِرَق الإسلامية، وتاريخهم يتّصل بتاريخ الإسلام منذ فجره الأوّل، وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي إليه يرجع التشيع قد تكلّم في التوحيد والصفات والعدل والقدر وغير ذلك من المواضيع الكلامية والفلسفية، قبل مولد الاعتزال بعشرات السنين.

قال السيّد المرتضى: إنّ أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجميع من جاء بعده من المتكلّمين قد اعتمدوا عليه وشرحوا أقواله وآراءه، وروي عن الأئمّة من أبنائه في ذلك ما لا يحصى (1)

____________________

(1) انظر الجزء الأول من الأمالي للسيّد المرتضى ص 102، وانظر المجلّد الرابع من شرح النهج ص 522 قال: وجملة الأمر أنّ مذهب أصحابنا في العدل والتوحيد مأخوذ عن أمير المؤمنين، ومضى يقول: وهذا الموضع مِن المواضع التي صرّح فيها بمذهب أصحابنا بعينه.

١٠

وذكر هذه الحقيقة ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة، وأضاف إلى ذلك أنّ واصل بن عطاء الزعيم الأول للمعتزلة المؤسّس لمذهب الاعتزال، تلمذ على أبي هاشم، وأبو هاشم كان تلميذاً لأبيه محمّد بن الحنفية، ومحمّد تلمذ على أبيه عليّ (عليه السلام) (1) ، ومع ذلك فأكثر المؤلّفين في الفِرَق والعقائد يدّعون أنّ الإمامية قد قلّدوا المعتزلة في عقائدهم، ولم يكوّنوا لأنفسهم رأياً مستقلاًّ فيها.

ويؤكّد ابن المرتضى في كتابه (المنيّة والأمل) أنّ الأئمّة من أهل البيت كالحسن والحسين وعليّ بن الحسين ومحمّد الباقر (عليهم السلام)، كانوا على رأي المعتزلة في أُصول العقائد، ويميل إلى هذا الرأي الشيخ محمّد أبو زهرة في كتابه (الإمام زيد) صفحة 40، وقد ذكرنا أنّ الأئمّة من أهل البيت قد أخذوا عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) هذه المواضيع، وذلك قبل أنْ يولد واصل بن عطاء بخمسين عاماً، وقبل أنْ يكون للمعتزلة ومبادئهم وجود في دنيا المسلمين.

ومهما كان الحال فإنّ الذي دعاني لتأليف هذا الكتاب هو تلك الحملات المركّزة ضدّ الإمامية، والافتراءات السافرة، والفِرَق المنسوبة إلى التشيّع، وغير ذلك ممّا أُلصق بهم زوراً وبهتاناً، وكان من أقوى هذه الدواعي في نفسي، ما شاع بين الكتّاب والمؤلّفين في تاريخ الفرَق والمذاهب الإسلامية من أنّ الإمامية تبَع للمعتزلة في أُصول الإسلام، ومقلّدة لهم في ذلك.

وقد استعرضت فيه الفرَق المنسوبة إلى الشيعة وتاريخ مولدها ومعتقداتها، وآراء الفرَق الثلاث الإمامية والمعتزلة الأشاعرة، وعرضْتُها عرضاً موجزاً تارة، ومسهباً أُخرى حسَب المناسبات وبقصد المقارنة بين آراء هذه الفِرَق الثلاث، واشتمل على عدد من المواضيع الأُخرى التي تتّصل بموضوعه، معتمداً على أوثق المصادر السنّية والشيعيّة، وبعد التتبّع الواسع أحسب أنّي استطعت بتوفيق الله أنْ أُثبت أنّ

____________________

(1) انظر المجلّد الثاني من شرح النهج ص 128، لقد أوردنا هذه المقالة عن ابن أبي الحديد؛ لتأييد ما قُلناه من أنّ الإمامية أسبق من غيرهم في هذه المواضيع، وإنْ كنا لا نقرّ ما يقوله ابن أبي الحديد من أنّ المعتزلة أخذوا مذهبهم عنه (عليه السلام)، لا نقرّ ذلك على إطلاقه؛ لأنّ آراء المعتزلة في أُصول العقائد لا تلتقي مع آراء الإماميّة إلاّ في بعض المسائل كما يبدو ذلك للمتتبّع في فصول هذا الكتاب.

١١

الإمامية مستقلّون في تفكيرهم وآرائهم استقلالاً كاملاً في جميع الأدوار والمراحل التي مرّوا بها، ولا يعتمدون على غير كتاب الله وسنّة نبيّه وعقولهم فيما يعتقدون به ويعملون من أُصولٍ وفروع، ويبدو ذلك للقارئ، بعد قراءة هذا الكتاب واستقصاء مواضيعه استقصاءً كاملاً.

وأرجو أنْ أكون قد وفِّقت لإثبات هذه الحقيقة، ومنه سبحانه استمدّ العون والهِداية والعصمة في القول والعمَل، إنّه أكرمُ مسؤول.

المؤلّف

١٢

تمهيد

لقد كان أوّل شيء قام به النبيّ (صلّى عليه وآله وسلّم) في السنين الأولى من بعثته، هو تأسيس المبادئ الثلاثة التالية:

1 - توجيه الناس إلى إله واحد أحد، وبطلان عبادة الأصنام التي اتخذوها أرباباً من دون الله.

2 - إنّه عبد الله ورسوله إلى الناس أجمعين، أرسله لينقذ الناس من الجهالة والعمى، ويُمهّد لهم الطريق الذي يضمن لهم الخير والسعادة في الدنيا، والفوز بالنعيم الدائم في الآخرة.

3 - الإيمان بحياة ثانية بعد هذه الحياة؛ لينال كل إنسان جزاء أعماله: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) .

هذه المبادئ الثلاثة هي الأساس الذي بُني عليه صرح الإسلام، وتركّزت عليها جميع أُصوله وفروعه، وبقي النبيّ (صلّى عليه وآله وسلّم) في مكّة بعد أنْ حمل أعباء الرسالة ثلاثة عشَر عاماً، يدعو الناس إلى هذه الأُصول الثلاثة بكلّ ما أُوتي من حكمة ومنطق وبيان وخلق كريم، والقرآن يوحى إليه داعياً لتلك الأُصول بالأساليب التي تألفها طباعهم، وتلتذّ ببيانها الساحر نفوسهم، وقلّما تخلو سورة من سور القرآن عن تأكيد هذه المبادئ بالأساليب المختلفة التي اقتضتها حكمته تعالى، ومع كلّ ذلك فلَم يجد من مشركي قومه إقبالاً

١٣

على دعوته، وإصغاء لنصائحه وتعاليمه، وبالرغم من أنّهم قابلوه بكلّ أنواع الأذى، وتآمروا على حياته مرّاتٍ عديدة، فلم تلن عزيمته، ولم يتردّد لحظة في المضيّ برسالته إلى النهاية، حتى ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر بشماله ثمناً لتركها.

ولمّا هاجر إلى المدينة وجَد فيها بيئةً صالحة لقبول تلك المبادئ وقُلوباً رأت الله يتجلّى في وحي القرآن وتعاليم محمّد وخُلقه وحكمته، فآمَن به أكثر أهل المدينة، وتقبّلوا دعوته بدون تردّد أو تشكيك فاطمأنّ إليهم واطمأنّوا إليه، ومضى يتابع مهمّته بلهفة وإخلاص حتى ملأت القلوب والعقول، فأصبحت عقيدة العرب أجمعين، أُولئك الذين كانوا بالأمس القريب من ألدّ أعدائها، وأشرس خصومها.

ومع أنّ الآيات التي تعرّضت لتلك المبادئ الثلاثة لم تكن متّفقة من حيث تصويرها لله سُبحانه، ففي الآية من سورة الشورى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وفي سورة الإخلاص لم يلِد ولم يولد وفي آيةٍ أُخرى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وفي غيرها الله نور السموات والأرض مثَل نوره كمشكاة فيها مصباح، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تؤكّد أنّه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته وليس كسائر المحسوسات التي تدركها الحواس، بينما نجد بعض الآيات التي تعرّضت له سُبحانه قد وصفته بما يوهم أنه شبيه بمخلوقاته.

قال سبحانه: ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) ، وقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) ، إلى غير ذلك ممّا يوهم التشبيه والتجسيم، ولكن بالرغم من تلك الآيات التي يتراءى منها لأوّل نظرة عدَم التوافق في ظواهرها، لم يكن للتردّد أو التشكيك في ذلك أثر بينهم، ولا للنزاع الذي حدَث بين المسلمين في القرن الثاني الهجري في صفاته وتحديد ذاته، وخلق الأفعال وغير ذلك من النزاعات التي شاعت بينهم، ومزّقت شملهم وأصبحوا فِرَقاً وأحزاباً لا يتعارفون، كل ذلك لم يكن في حياة الرسول؛ ذلك لأنّهم تقبّلوا ما جاء به القرآن أصلاً كان أو حكماً، وفهموا بفطرتهم السليمة منها المعنى المقصود، ولم يقابلوا بين آيةٍ وآية لمجرّد ذلك الاختلاف اللفظي الذي اقتضته مصلحة البيان والمناسبات الأُخرى، وكان (عليه السلام) حريصاً على أنْ يرجعوا إليه في كلّ ما يعترضهم من الشُبَه والشكوك، ويدعوهم إلى ترك الجدَل والنزاع في هذه المواضيع، وقد جاء في بعض المرويّات عنه أنّه خرَج على أصحابه في بعض الأيّام فوجدهم

١٤

يتنازعون في القدَر، والفريقان يحتجّان بآيات من الكتاب فأغضبه جدالهما، ثمّ قال لهم: (أبهذا أُمرتم؟! إنّما هلَك مَن كان قبلكم بهذا، لقد ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وقد نزل مصدّقاً بعضه بعضاً، انظروا ما أمرتكم به فافعلوه، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).

لقد كان حريصاً على أنْ يباعد بينهم وبين الجدَل الديني، والنزاع العقائدي؛ لأنّ هذا النوع من الجدَل يفرّق كلمتهم، ويضعف قوّتهم ولا يزيدهم إلاّ حيرة وضلالاً، فالإسلام دين عملي واقعي ليس فيه آراء فلسفية شائكة ولا نظريات علمية معقّدة تبعث الشبه والشكوك في العقول، إنّه ينظّم علاقة الإنسان بربّه كما يرشد الإنسان إلى الواجب عليه نحو نفسه وأُسرته، ويحدّد علاقة الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه.

إنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد وجه عنايته إلى إصلاح النفوس ونزع بذور الأحقاد والنفاق منها إصلاحاً عمليّاً على أساس المبادئ التي وضعها له القرآن، فاطمأنت لها قلوبهم وتهذّبت نفوسهم، وبهذا التماسك والترابط الذي أوجده محمّد (صلّى الله عليه وآله) بين أتباعه وأصحابه، استطاعوا أنْ ينشروا الدعوة الإسلامية ويرفعوا لِواء الإسلام عالياً في عواصم الدوَل الكبرى، التي كانت تسيطر على أكبر مجموعة من العالم، أمّا الجدَل الديني، والنزاع العقائدي فلّم يتّجهوا إليه في تلك الفترة من تاريخهم، ولم ينقل عنهم التاريخ في ذلك سِوى بعض الأفكار العابرة التي كانت تعترض بعضهم أحياناً.

وجاء في خطط المقريزي المجلّد الرابع: إنّ مَن أمعَن النظر ووقَف على آثار السلَف، على أنّه لم يرد قط من طريقٍ صحيح أو سقيم، عن أحد من الصحابة على اختلاف طبَقاتهم وكثرة عددهم، أنّهم سألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن معنى شيءٍ ممّا وصَف الربُّ به نفسه في القرآن وعلى لسان محمّد (صلّى الله عليه وآله)، بل كلّهم فهموا معنى ذلك، وسكتوا عن الكلام فيه، ولا فرّق أحدٌ بين كونها صفة ذات أو صفة فِعل، وإنّما أثبتوا له ما أثبته لنفسه بلا جِدال أو نزاع.

وجاء عصر الصحابة بعد عصره، وبالرغم من اتساع رقعة الإسلام وتجدد الحوادث، واتصال العرب بغيرهم من الأُمَم التي خضعت لسلطان الإسلام، بالرغم من ذلك كلّه فقد ساروا على الطريقة التي رسَمَها لهم الرسول، فلَم يتعرّضوا لشيءٍ من العقائد، ولا تنازعوا في أمرٍ من الأُمور التي نهى عن النزاع فيها، ورجعوا إلى الكتاب وأحاديث الرسول لمعرفة أحكام الحوادث، وأضاف بعضهم إليها القياس فيما لا نصّ فيه من كتابٍ

١٥

أو سنّة، ولَم تظهر بوادر هذا النوع من الصراع الفكري في العقائد بين المسلمين إلاّ بعد انتهاء عصر الصحابة، واتسع مع الزمن تدريجياً حتى بلَغ أقصى حدوده في العصر العبّاسي، فتباينت الآراء واختلفت المذاهب، وأصبحوا أحزاباً وفِرَقاً يتراشقون بالتكفير والتفسيق.

ويعزو ذلك بعضُ الكتّاب إلى أفراد ليسوا من عرَب الجزيرة، دخلوا في الإسلام وفي أذهانهم صور عمّا كان يدور حول أديانهم ومعتقداتهم مِن نِزاع وجدَل حول بعض المعتقدات، فسرَت بعضُ تلك المخلّفات إلى المسلمين؛ ونتيجةً لذلك كانت تُثار بعض الشُبُهات أحياناً، فمِن ذلك ما جاء في شرح النهج: إنّ شيخاً سأل عليّاً (عليه السلام) بعد أنْ رجَع من صِفّين: أكان مسيرنا بقضاء الله وقدره؟ فقال عليّ (عليه السلام): (والذي فلَق الحبّة وبرأ النسمة ما هبطنا وادياً ولا علَونا جبَلاً إلاّ بقضاء الله وقدره).

ومُذ سمِع السائل بذلك قال: عند الله احتسب عنائي، ما ليَ من الأجر شيء، ولمّا شرح له الإمام القضاء والقدَر اللذين لا يُمكن للإنسان أنْ يتهرّب منهما ارتاحت نفسه، وقام من مجلسه مستبشراً مطمئناً بحُسن الجزاء، وجاء في بعض الروايات: إنّ عمر بن الخطّاب أُتي بسارقٍ فقال له: لِمَ سرقت؟ قال: قضى الله علَيّ بذلك، فقطَع يده وضربه أسواطاً؛ لأنّه كذَب على الله، فمِن هذين المثالين وغيرهما ندرك أنّ بعض المسلمين قد تفتّحت لهم أبواب جديدة للتفكير في هذه الأُمور، ولكن هذه الأفكار لم تتجاوز أفراداً منهم كانت هذه الانتباهات تبدو منهم أحياناً، ثمّ تكمن في نفوسهم؛ لأنّها لم تجِد أعواناً ولا تجاوباً من أحد، لانصراف المسلمين إلى ما اعتادوا عليه من التسليم والانقياد لكلّ ما جاء به القرآن والرسول.

ومن ناحيةٍ أُخرى لقد انصرفوا في عصر الخلفاء الأربعة بكلّ فئاتهم إلى العمل في الفتوحات، وتوسيع رقعة الدولة، وألّفوا هذه الحياة ولا سيّما بعد أنْ درّت عليهم الخيرات وفتحت في وجوههم أبواباً من ملاذّ الحياة ومُتَع الدنيا، فالمسلمون كلّهم جنودٌ في الدولة، والحروب لم تخمد نارها بينهم وبين الدولتين المجاروتين للجزيرة العربية، مقرّ الدولة الناشئة نحواً من عشرِ سنَوات تقريباً، حتى إذا ما تمّ لهم بسط نفوذهم على البلدان التي كانت تخضَع للفُرس والرومان، اتجهوا إلى غيرها، فلَم تتّسع حياتهم للتفكير في مسائل الدين، ولا للنزاع والجدَل في المسائل التي أصبحت بعد عصرهم موضع عناية العلماء، وقادة الفكر الإسلامي، وعلى أساسها قد تعدّدت الفِرَق الاعتقادية وتباينت فيها آراء العلماء، وأصبحوا فِرَقاً وأحزاباً، ألحّت عليهم الخصومات والخلافات إلى

١٦

حدّ الإسراف والغلوّ في كثير من آرائهم ومعتقداتهم، كما سنُبيّن ذلك في الفصول الآتية، ومجمل القول أنّ عصر الصحابة كان أشبه بعصر الرسول من حيث انصراف المسلمين إلى الناحية العملية فيما يعود إلى الدين، ولم تقَع أيُّ خصومةٍ بينهم في هذه النواحي، وإذا رأينا أفراداً تعلّلوا بالقدَر تهرباً من مسؤوليّات المعاصي أو تكلّموا به، فلا يعني ذلك أنّ البحث في القدر والاختيار كان شائعاً بينهم في تِلك الفترة من تاريخهم، وإنّما هي أفكار كانت تعبر في أذهان فريقٍ من الناس وتموت في مهدها، أو تبقى كامنة في نفوسهم.

أمّا حالة المسلمين في العصر الأموي، فمّما لا شكّ فيه أنّها قد تغيّرت عن عصر الرسول والخلفاء من بعده، فلقد كثُر فيه العلماء وانتشروا في البلاد الإسلامية شرقها وغربها، وتفرّغوا لدراسة الدين عن طريق الحديث والقرآن ليتعرّفوا على أحكام الحوادث التي تجدّدت بسبب اتساع الإسلام واتصالهم بالأُمم التي خضعت للدولة الفاتحة، تلك الأُمم التي كانت تتميّز بخصائصها وأديانها وعاداتها ممّا اضطر المسلمين والعلماء إلى التوسّع في البحث ودراسة القرآن والحديث واللغة؛ ليستعينوا بذلك على معرفة أحكام الجزئيّات التي اقتضتها طبيعة الزمن، لا سيّما وأنّ الكثير منها لا يشبه ما كان في عصر الرسول.

ومِن تلك الدراسة الواسعة للقرآن والحديث انتقل العلماء إلى مرحلة جديدة لم تكن شائعة في العصرَين اللذين سبَقا هذا العصر، واستطاعوا حلّ جملةٍ من المشاكل التي كانوا يبحثون عن أحكامها.

كما استعانوا بالقياس فيما استعصى عليهم حكمه من نصوص الكتاب، بعد الفحص عن أوجه الشبه بين الحوادث المتجدّدة والتي لم تكن على عهد الرسول، وأصبح القياس دليلاً على التشريع عند بعض الفقهاء بالإضافة إلى كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم، وممّا لا شكّ فيه أنّ تعمّقهم في دراسة القرآن والحديث كان لها أكبر الأثر في النزاع العقائدي الذي بدَأ في العصر الأموي، واتّسع حتى بلَغ ذروته في العصر العبّاسي، ويبدو ذلك عندما نلاحظ أنّ الخوارج والمُرجِئة والمعتزلة، والأشاعرة وأتباعهم على ما بينهم مِن تباعد في الرأي بلَغ حدّ الإسراف في بعض المسائل، كانوا يحتجّون لآرائهم ومعتقداتهم بالقرآن والحديث، وما ذاك إلاّ؛ لأنّهم وجدوا فيهما ما يصلح أنْ يكون سنَداً لأكثر تلك المباحث التي اختلفت فيها آراء تلك الفِرَق، فالقائلون بأنّ الله يرى بالأبصار، وأنّه جسمٌ كبقيّة الأجسام مثلاً، اعتمدوا على ظواهر بعض الآيات التي يؤدّي الجمود على ظاهرها إلى

١٧

هذه النتيجة، كما وأنّ القائلين بأنّ الأفعال من صنع الله، والقائلين بأنّها من صنع الإنسان قد اعتمدوا على بعض الآيات، واتّخذ منها كلُّ واحدٍ من الفريقين مؤيّداً لرأيه؛ ولذا فإنّ المُجبّرة يحتجّون بقوله تعالى: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ، وبقوله: ( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، وبقوله: ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) ، وبقوله: ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ ) .

كما وأنّ القدرية قد احتجّوا قبل كلِّ شيء بقوله تعالى: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ، وبقوله: ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ) ، وبالآيات الكثيرة التي أسندت الأفعال إلى الإنسان مباشرةً، مثل قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، وقوله: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) ، وقوله: ( وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) .

كما وانّ الأحاديث التي وصلَت إلى المسلمين في ذلك العصر لَم تخلُ من التلميح إلى هذه المواضيع، فلقد جاء عن جابر أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (لا يؤمن عبدٌ حتّى يؤمِن بالقدَر خيره وشرّه، وحتى يعلَم أنّ ما أصابه لم يكُن ليُخطِئه، وما أخطأه لم يكُن ليصيبه)، فدراسة القرآن والحديث لابدّ وأنْ تنتهي بالمسلمين إلى إثارة هذه المواضيع، واختلاف الآراء فيها؛ لأنّ الآيات لم تكن على نسَقٍ واحد في التعبير عن الواقع، وإنّما يختلف التعبير عنه حسب الموارد والمناسبات بالنسبة للمعنى الواحد؛ ولذا جاء في الحديث: (إنّ القرآن يُصدّق بعضه بعضاً).

ومجمل القول إنّ المسلمين الذين عاصروا الرسول والخلفاء الأربعة مِن بعده، آمنوا بكلّ ما جاء به الرسول ونصّ عليه القرآن، واتّجهوا وجهةً عملية أكثر منها علمية، ولم يكُن للجدَل والنزاع بينهم وجود في شيءٍ من صفات الله سبحانه، ولا في اختيار الإنسان وعدمه، ولا من المسائل التي شغلَت تفكيرهم وبدّلَت اتجاههم وعقليّتهم في القرن الثاني من الهجرة؛ ومَرَدّ ذلك إلى الأسباب التالية:

الأول: إنّ المسلمين كانوا يرجعون إلى الرسول في جميع أُمورهم،

١٨

وقد حدّد لهم النواحي العملية فاتّجهوا إلى العمل وصدّقوا بكلّ ما أخبرهم به، وقد أحسّوا منه رغبةً إلى الانصراف عن التفكير والبحث في هذه المواضيع، وفي جملة من المناسبات قال لهم: (ما أمرتكم به فافعلوه، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، وكان في جملة ما نهاهم عنه الجدَل والنزاع في ذات الله وصفاته، وأفعال الإنسان وغيرها من المسائل التي انصرفوا بكلّ قواهم في العصر العبّاسي إلى النزاع فيها.

الثاني: إنّ المسلمين بمختلف طبقاتهم قد انصرفوا إلى تأسيس الدولة الإسلامية، ومُنذ أنْ هاجر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة وقد شغلتهم الحروب والفتوحات عن دراسة القرآن، والتفكير في كلّ شيء عدا ما يرجع إلى تشريع الأحكام، ومعرفة أحكام الحوادث التي تجدّدت بعد التطوّر الذي طرأ على حياتهم بسبب اتساع الإسلام إلى خارج بلاد العرب؛ وبسبب المغانم التي كانت تدرّها عليهم الحروب والفتوحات، وقد جنّدوا كلّ إمكانيّاتهم للقضاء على الدولتين الكبيرتين الواقعتين على مقربة من مقرّ دولتهم الفتيّة الناشئة، وكانت المصلحة تحتّم عليهم المبادرة إلى غزوها؛ لأنّ الدعوة الإسلامية لا ينتظم أمرها ما دام الفُرس والرومان العدوّان القويّان، على مقربةٍ من حدودها، وفي مثل هذه الظروف التي أحاطت بالمسلمين في عصر الصحابة، يتحتّم عليهم الانصراف عن كّل شيءٍ إلاّ عن درء تلك الأخطار الجسيمة التي كانت تحيط بهم.

أمّا بعد أنْ اطمأنّوا على مصيرهم وانتهوا من الفتوحات واحتاجوا إلى دراسة واسعة للقرآن والحديث، واتّجهوا إلى العلم وأسّسوا المدارس في مختلف البلدان والعواصم، اتجهت الأفكار إلى هذه المسائل بجانب غيرها من المسائل الفقهية والعلمية من مختلف المواضيع، واختلفت فيها الآراء كما اختلفت في مسائل الحلال والحرام، وأحكام الحوادث.

الثالث: إنّ العرب الفاتحين قد اتصلوا بغيرهم من الأُمَم التي غزاها الإسلام وخضعت لسلطانه، وأكثر أولئك من الديانات التي كانت منتشرة هنا وهناك قبل الإسلام، وهؤلاء وإنْ دخلوا في الإسلام وخضعوا لأنظمته ومبادئه، إلاّ أنّ ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم في الآراء والمعتقدات لا يُمكن أنْ يزول من أذهانهم بتلك السرعة الخاطفة، ولابدّ وأنْ يقارنوا بين عقيدتهم الجديدة وبين ما استقرّ في أذهانهم من عقائد آبائهم وأجدادهم، وأنْ يُحاكموا بين ما دخلوا فيه مكرهين أو طائعين وبين الأديان التي خرجوا منها، ومعلوم أنّ النزاع في الصفات وحرّية الإرادة والجنّة والنار وغير ذلك لم يكُن من

١٩

مبتكرات المسلمين، وقد تكلّم به فلاسفة اليونان والفرس والنصارى واليهود وغيرهم من الأُمم الأُخرى، وقد شاع بين المؤرّخين أنّ أوّل مَن تكلّم بالقدر في الإسلام رجلٌ نصراني أسلَم ثمّ رجَع عن الإسلام، وعنه أخذ معبد الجهني، وغيلان الدمشقي (1) وهذا مّما يؤيّد أنّ شيوع البحث في المسائل التي اختلفت فيها الآراء وتعددت المذاهب كان منشأه اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى، هذا بالإضافة إلى أنّ الذين دخلوا في الإسلام من تلك الأُمم لم يكونوا نمطاً واحداً من حيث إيمانهم بالدين الجديد واطمئنانهم لأُصوله، ففيهم من أظهَر الإسلام وأبطن النفاق والكفر، وهؤلاء كانوا يعملون بالخفاء لتشوبه تعاليمه وطمس أضوائه، فدسّوا في أحاديث الرسول طائفةً من الروايات في الأُصول والفروع، وروّجوا تلك المقالات التي كانت في أذهانهم بين المسلمين فتلقّاها المسلمون بالقبول، ولاسيّما بعد أنْ وجدوا في الكتاب والسنّة ما يُمكن أنْ يكون سنَداً لها.

أمّا في عصر الرسول والخلفاء الأربعة، فلم توجد هذه المفارقات، ولم يتهيّأ للمنافقين أنْ يبثّوا سمومهم، لقُرب عهد الصحابة من نبيّهم (صلّى الله عليه وآله)؛ ولذا فإنْ مرويّات كعب الأحبار وأبي هريرة وأشباههما من الدسّاسين لم تجِد رواجاً إلاّ بعد أنْ انقرض عصر الصحابة الأوّل، وقد روى جماعة من المحدّثين أنّ عمر بن الخطّاب ضرَب أبا هريرة في درّته؛ لأنّه أكثر في الرواية عن الرسول، وتجنّب حديثه جماعة من أعلام الصحابة، وكان كعب الأحبار أسوأ حالاً منه، على أنّ هناك سبباً آخر لا يقلّ خطورةً عمّا ذكرناه؛ وهو ترجمة الكتب الفارسيّة واليونانيّة إلى العربيّة في أوائل القرن الثاني الهجري.

وفي العصر العبّاسي انتشرت الفلسفة اليونانية بين العرب، واختلط المسلمون بغيرهم اختلاطاً واسعاً، وأخذ كلُّ فريقٍ يُعبّر عن نِحْلته وعقيدته من غير حرَج، فانتشر الإلحاد والشكّ بين المسلمين والنزاع بينهم وبين الطوائف الأُخرى، فأمَر المهدي العبّاسي عُلماء الكلام بتأليف الكُتب في الردّ على المُلحدين الذين كانوا يُجادلون بما أخذوه عن اليونانيّين والسريان، والزرادشتية، فاضطرّ المسلمون إلى دراسة كتب الفلسفة؛ ليعرفوا عنها ما ينفعهم في ردودهم ومناظراتهم لأهل تلك الديانات، التي كانت تُحاول وضع الشكوك في الأُصول الإسلامية، وازدادت ترجمة الكتب شيئاً فشيئاً، كما اتسع الجدال والنزاع

____________________

(1) انظر فجر الإسلام لأحمد أمين ص 285.

٢٠