الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة23%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56229 / تحميل: 9632
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الأوَّل

نشأةُ التشيّع

٢١

٢٢

تقديمٌ

لقد تناول كثير مِن الباحثين في قضايا الفكر والمذاهب والآراء الإسلامية، الكيان الشيعي بالبحث والدراسة مِن حيث النشأة والبُنية والمحتوى والأثَر السياسي والحضاري في تاريخ الإسلام، غير أنّ مِن المؤسف أنّ معظم تلك الدراسات، لا سيّما دراسات المستشرقين والمتتلمذين على أفكارهم، حملَت الدسّ والتشويه والخلْط بعيداً عن الإنصاف والموضوعية العِلمية، فكانت تعبّر في كثير مِن فصولها عن جهل الكاتب أو تعصّبه، أو تسخير فكره وقلَمِه لخدمة الأغراض الاستعمارية، التي اكتشفت جوانب القوّة والفاعلية في الفكر والموقف الشيعي، على مدى التاريخ الإسلامي.

ويهمّنا في هذا الفصل مِن الكتاب أن نعرّف بنشأة التشيّع، كمصطلحٍ وبذرةٍ في إطار الحياة الإسلامية، وتطوّر هذه البذرة إلى كيانٍ فكريٍّ وسياسيٍّ على يد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؛ ليصبح مِن أكثر الكيانات المذهبيّة والاتّجاهات المدرسيّة الإسلامية أثراً وفاعليةً، في حياة المسلمين وحركة تاريخهم ووضْعهم الحضاري.

٢٣

معنى الشيعة في اللغة:

قال ابن منظور: (والشيعة: القوم الذين يجتمعون على أمْرٍ، وكلّ قومٍ اجتمعوا على أمْرٍ فهُم شيعة، وكلّ قومٍ أمْرهُم واحد يتبع بعضهم رأي بعض...

قال الزجّاج: والشيعة، أتباع الرجُل وأنصاره...

قال الأزهري: والشيعة، قوم يهْوون هوى عترة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ويوالونهم.

وقد غلَب هذا الاسم على مَنْ يتولّى عليّاً وأهل بيته (رضوان الله عليهم أجمعين)، حتّى صار لهم اسماً خاصّاً، فإذا قيل: فلان مِن الشيعة عُرف أنّه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا، أي عندهم، وأصل ذلك مِن المشايعة، وهي المتابعة والمطاوعة) (1) .

وفي قاموس المعجم الوسيط:

(الشيعة: الفرقة والجماعة، والأتباع والأنصار، ويقال هم شيعة فلان، وشيعة كذا مِن الآراء.

والشيعة: فرقة كبيرة مِن المسلمين، اجتمعوا على حبِّ عليٍّ وآله وأحقّيتهم بالإمامة).

ولقد استعمل القرآن الكريم كلمة الشيعة بمعنى الأنصار والأتباع الفِكريّين، فقال: ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ) (2) .

وهكذا نعرف أنّ معنى الشيعة في اللغة: هُم الأتباع المجتمعون على فكرٍ

____________________

(1) لسان العرب 8: 188 - 189 (مادّة شيع).

(2) سورة الصافّات: آية 83.

٢٤

واحدٍ، وموقفٍ موحّد.

وإذا كان هذا هو معنى (الشيعة في اللغة)، وأنّ علماء الأُمّة المنصفين، وأصحاب الفكر والمعرّفين الموضوعيّين للألفاظ والمصطلحات والمعاني قد عرّفوا الشيعة: بأنّهم أتباع أهل البيت وأحباؤهم، فلنتابع التشيّع وتطوّره في الحياة الإسلامية.

٢٥

البذرة الأُولى

لقد تجنّى كثير مِن الباحثين على نشأة التشيّع وبدْء ولادته، حتّى قاد البعض هذا التجنّي إلى اتّهام الشيعة: بأنّهم فِرقة أُسّست بأفكارِ عبد الله بن سَبأ اليهودي الأصل والمحتوى، بينما ذهب بعض الباحثين إلى أنّ التشيّع نشأ في خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

وذهب فريق آخَر إلى أنّ التشيّع وُلِد بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم انعقاد السقيفة، حيث اجتمع عدد بارز مِن الصحابة في بيت عليٍّ وفاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، تؤيّدهم فاطمة بنت محمّد، والعبّاس بن عبد المطّلب عمّ الرسـول (صلّى الله عليه وآله)، فكان هذا الاجتماع أوّل تشيّع ظهر حَول عليٍّ وأهل بيته.

ويذهب فريق آخَر إلى أنّ التشيّع نشأ حَول عليٍّ في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو الذي أطلق هذا الاسم على مؤيّدي عليٍّ وأتباعه.

نذكر مِن تلك الآراء ما نقله السيّد محسن الأمين عن أبي محمّد الحسن بن موسى النوبختي في كتابه الفِرق والمقالات: (الشيعة هُم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون بشيعة عليّ في زمان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وما بعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته) (1) .

أمّا أبو حاتم السجستاني، فيقول: (إنّ لفظ الشيعة كان على عهد رسول الله، لقَبٌ لأربعةٍ مِن الصحابة، سلمان وأبي ذرّ والمقـداد وعمّـار) (2) .

____________________

(1) السيّد محسن الأمين / الشيعة بين الحقائق والأَوهام: ص41.

(2) المصدر السابق.

٢٦

أمّا العالِم المفسّر السيوطي، فيقول في تفسير قوله تعالى: ( أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، يقول: (أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ: والذي نفْسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، قال وأخرج ابن مردويه عن عليٍّ، قال: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألمْ تسمع قول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (1) ، أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين) (2).

ونقل ابن الأثير ما نصّه: (وفي حديث عليّ (عليه السلام): ستقدم على الله أنت وشيعتُك، راضين مرضيّين، ويقدِم عليَّ عدوَّك غِضاباً مقمحين، ثمّ جمَع يده إلى عُنقه، يريهم كيف الإقماح) (3).

ونقل الشبلنجي أنّ ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: (لمّا نزلت هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعليٍّ: هو أنت وشيعتُك تأتي يوم القيامة أنت وهُم راضين مرضيّين، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمَحين) (4).

وتحدّث ابن حجر عن نُطق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بهذا المصطلح، فقال: (الآية الحادية عشرة قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

أخرج الحافظ جمال الدِين الزرندي عن ابن عبّاس: أنّ هذه الآية لمّا نزلت،

____________________

(1) سورة البينة: آية 7.

(2) جلال الدين السيوطي / الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 6: 279.

(3) ابن الأثير / النهاية في غريب الحديث والأثَر 4: 106 (باب القاف مع الميم).

(4) الشبلنجي / نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار: ص80.

٢٧

قال (صلّى الله عليه وآله) لعليٍّ (عليه السلام): هو أنت وشيعتُك يوم القيامة، راضين مرضيّين، ويأتي عدوّك غضاباً مقمَحين) (1) .

أمّا الشهيد الصدر فيتحدّث عن نشأة التشيّع وظهور الشيعة، ككيانٍ حَول عليٍّ (عليه السلام)، فيوضّح أنّ هناك اتّجاهين نشآ في صفوف الصحابة في عهد الرسول الكريم:

الأوّل: اتّجاه يتقيّد بالنصّ في كلّ مجالٍ مِن مجالات الحياة، ولا يرى مِن حقّ أحدٍ بعد البيان النبويّ أن يجتهد مقابل النصّ، سواء في مجال العبادة أو السياسة أو شؤون الحرب... الخ.

الثاني: اتّجاه يؤمن بإمكانية الاجتهاد مقابل النصّ في بعض المجالات.

وهذان الاتّجاهان قد تجسّدا بشكل تيّارَين، عندما واجَها النصّ النبويّ على أطروحة إمامة عليٍّ (عليه السلام)، فاجتهد ذلك الفريق مقابل النصّ، والتزم الفريق الآخَر بالنصّ، وبذا وُلِد الكيان النصّي مِن حَول الإمام عليّ (عليه السلام).

ثمّ يوضّح ذلك بنصّ قوله: (وهذان الاتّجاهان اللذان بدأ الصراع بينهما في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، قد انعكسا على موقف المسلمين مِن أطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام) للدعوة بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فالممثّلون للاتّجاه التعبّدي وجدوا في النصّ النبويّ على هذه الأطروحة سبباً مُلزماً لقبولها دون توقّف أو تعديل.

وأمّا الاتّجاه الثاني، فقد رأى أنّه بإمكانه أن يتحرّر مِن الصيغة المطروحة مِن قِبَل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، إذا أدّى اجتهاده إلى صيغةٍ أُخرى أكثر انسجاماً في تصوّره مع الظروف، وهكذا نرى أنّ الشيعة وُلدوا منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مباشرةً، متمثّلين في المسلمين الذين خضعوا عمليّاً

____________________

(1) ابن حجر / الصواعق المحرقة: 161.

٢٨

لأطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام) وقيادته، التي فرَض النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الابتداء بتنفيذها مِن حين وفاته مباشرةً.

وقد تجسّد الاتّجاه الشيعي منذ اللحظة الأُولى، في إنكار ما اتّجهت إليه السقيفة مِن تجميدٍ لأطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام)، وإسناد السلطة إلى غيره) (1).

وبذا يرى الشهيد الصدر (قدّس سرّه) أنّ المسلمين الذين تحوّلوا عن زعامة الإمام عليّ (عليه السلام)، كان تحوّلهم يعود إلى منهج التفكير وطريقة التعامل مع النصّ، وتجويز الاجتهاد مقابل هذا النصّ الذي تواتر لدى المسلمين على هذه الأطروحة.

وهكذا نصل إلى حقيقةٍ كبرى في معرفة جذور التشّيع، ونشأة المصطلح وميلاده على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ مشاهير علماء المسلمين مِن محدّثين ومفسّرين ولُغَويّين يوضّحون: أنّ الشيعة هُم أتباع أهل البيت وأولياؤهم، وأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي سمّى أتباع عليٍّ بهذا الاسم.

مِن ذلك نفْهم أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يمهّد للتعريف، وإلفات النظر إلى مستقبل الأحداث والتطوّرات في حياة أُمّته مِن بعده، كجزءٍ مِن البيان والتبليغ؛ ليحدّد للمتنازعين مِن بعده أين يجب أنْ يقفوا، ولمَن يشايعون، ومَن يتّبعون.

إنّ هذه الحقائق العلميّة تلغي كلّ تفسيرٍ وتخرّصٍ وتشويهٍ لنشأة التشيّع وهويّته الحقيقية. فالبذرة الأُولى لنشأة التشيّع إذن، نشأتْ على عهد رسول الله

____________________

(1) الشهيد الفقيه السيّد محمّد باقر الصدر / بحث حَول الولاية: ص78 - 79.

٢٩

(صلّى الله عليه وآله)، غير أنّه تطوّر يوم وفاته (صلّى الله عليه وآله) إلى تكتّلٍ سياسيٍّ، وخطٍّ فكريٍّ حَول الإمام عليّ (عليه السلام) يستلهم مِن ذلك البيان النبويّ فِكرَه وموقفَه، فسمّي هذا التكتّل بالشيعة.

٣٠

ظهور التكتّل الشيعي

بدأ اسم عليٍّ يظهر خارج السقيفة كمرشّح للخلافة، وكأحقِّ شخصٍ بها، كما ظهر في داخل السقيفة، وفي وسط المتحاورين، فبعد أن خرج المهاجرون والأنصار المجتمعون في دار رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لانتشار خبر السقيفة، قام الفضل بن العبّاس، فخطَب الناس المجتمعين هناك قائلاً: (يا معشر قريش، إنّه ما حقّت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم وصاحبنا(*) أَولى بها منكم) (1) .

وهكذا بدأ التكتّل حَول عليٍّ، والمناداة بإمامته في اليوم الأوّل مِن وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبدأ التشيّع الفكري والسياسي يظهر ككُتلةٍ وكيانٍ، يحدّثنا اليعقوبي عن ذلك بقوله:

(وتخلّف عن بيعة أبي بكرٍ قوم مِن المهاجرين والأنصار، ومالوا مع عليّ بن أبي طالب، منهم العبّاس بن عبد المطّلب، والفضل بن العبّاس، والزبير بن العوّام بن العاصّ، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذرّ الغفاري، وعمّار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبيّ بن كعب) (2) .

وبدأ هذا التكتّل المتشيّع لعليٍّ يواصل مساعيه السياسية واجتماعاته، ويطالب بإعادة النظر فيما جرى في السقيفة. ويحدّثنا المؤرّخون عن الاجتماع السياسي، الذي جرى في بيت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ للتباحث في موضوع الخلافة والإمامة بعد الذي جرى في سقيفة بني ساعدة، فقد نقل

____________________

(*) وصاحبنا: يعني عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 124.

(2) المصدر السابق.

٣١

اليعقوبي ذلك بقوله:

(وبلَغ أبا بكر وعُمَر أنَّ جماعة مِن المهاجرين والأنصار، قد اجتمعوا مع عليِّ ابن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتَوا في جماعةٍ، حتّى هجموا الدار..) (1).

أمّا ابن قتيبة، فقد روى خبر هذا الاجتماع السياسي بالنصّ التالي:

(وإنّ أبا بكر (رضي الله عنه) تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليٍّ (كرَّم الله وجهه)، فبعث إليهم عمَر، فجاء فناداهم، وهُم في دار علـيٍّ، فأبَوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب، وقال: والذي نفْس عمَر بيده لتخرُجُنَّ أو لأحرقَنّها على مَن فيها) (2) .

وإذن، نستطيع أن نؤرّخ لظهور التشيّع ككيانٍ سياسيٍّ وفكريٍّ متميّز منذ الساعات الأُولى، التي تلَت وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حينما احتدم الجدَل حَول المرشّح للخلافة والإمامة، وبذا نفْهم أنّ التشيّع وُلِد في صفوف الصحابة في المدينة المنوّرة؛ وحفظاً لوحدة المسلمين وتماسكهم آثَر عليّ (عليه السلام) الانسحاب مِن المواجهة السياسية، ومال إلى العزلة أيّام الخليفتَين أبي بكرٍ وعمَر، واكتفى بإبداء النُّصح والمشورة، والمشاركة في تسديد المسيرة الإسلامية.

ولقد سجّل له التاريخ أروَع تعبيرٍ عن التضحية والإيثار، حين عَبّر عن موقفه بقوله: (والله لأسلمنّ ما سلِمت أمور المسلمين) (3) .

غير أنَّ الاتّجاه والرؤى والجماعة المُشايعة لعليٍّ بدأت بالظهور، كقوّةٍ سياسيةٍ وفكريةٍ، وكحزبٍ له وجْهات نظرٍ في سياسة الدولة وجهازها الحاكم، عندما تسلّم عثمان الخلافة، وتسلّط الحزب الأمويّ على السلطة، فاستأثر بخيرات الأُمّة

____________________

(1) المصدر السابق: ص126.

(2) ابن قتيبة الدينوري / الإمامة والسياسة 1: 19.

(3) نهج البلاغة / الخطبة 74.

٣٢

وكوّن طبَقةً متميّزةً، وبدأ النقْد مِن الصحابة في المدينة المنوّرة، وبقية المسلمين في الأقطار الإسلامية كمصر والعراق، فانضمّ إلى موقف النقْد والمعارضة لسياسة عثمان: كتلةُ عائشة زوج الرسول، وطلحة والزبير، فكانوا أشدّ الناس نقْداً لسياسة عثمان وتحريضاً عليه، وقد ذكَر اليعقوبي ذلك بقوله: (وكان أكثر مَن يؤلِّب عليه طلحة والزبير وعائشة) (1).

وروي أيضاً: (فإنَّ عثمان يوماً ليخطب، إذ دلّت عائشة قميص رسول الله، ونادت يا معشر المسلمين: هذا جلباب رسول الله لمْ يَبْلَ، وقد أبلى عثمان سنّته) (2) .

وكانت تقول لمروان، عندما طلب منها أن تتدخّل لإصلاح الأمْر بين عثمان وحركة المعارضة الواسعة، التي اشترك فيها أهل المدينة ومصر والعراق يقودهم طلائع الصّحابة، وفيهم الأنصار والمهاجرون، ردّت عليه قائلة: (لعلّك ترى أنّي في شكٍّ مِن صاحبك، أما والله لوَددتُ أنّه مقطّعٌ في غرارة مِن غرائري، وأنّي أُطيق حمْله، فأطرحه في البحر) (3) .

وهكذا كان الجوّ السياسي مكْفَهرّاً، والصراع محتدماً بين عثمان والحزب الأمويّ مِن جهةٍ، وبقيّة المسلمين مِن جهةٍ أُخرى، وكان طوال فترة حُكم عثمان التي ظهر فيها التراجع عن التطبيق الإسلامي، وعبَث الحزب الأمويّ بشؤون المسلمين، كان أبو ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي والمقداد ابن عمرو ومحمّد بن أبي بكر ومالك الأشتر، وهُم مِن أركان المتشيّعين للإمام عليّ، كانوا مِن قادة المعارضة السياسية لعثمان والتسلّط الأمويّ على شؤون الأُمّة، فنفى

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 175.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق: 176.

٣٣

عثمان أبا ذرّ الغفاري إلى الربذة، ومات هناك وحيداً إلى جوار ابنته.

ومع اشتداد المعارضة ازداد تجمّع الصحابة وتشيُّعهم لعليٍّ (عليه السلام)، وقد وَصف اليعقوبي تلك الظاهرة بقوله: (ومالَ قوم مع عليِّ بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان) (1) .

وصوّر ابن الأثير اجتماع المعارضة، ولجوءها إلى عليٍّ بقوله:

(فاجتمع الناس فكلّموا عليَّ بن أبي طالب، فدخَل على عثمان، فقال له: الناس ورائي، وقد كلّموني فيك) (2) .

غير أنّ الإمام عليّاً لمْ يشارك في عملية الصراع هذه، وحاول أن ينصح عثمان، ويدفع محنة الصراع الدموي، والتمزّق عن وحدة الأمّة.

إنّ دراسة وتحليل بُنية المرتكزات الأساسيّة للتشيّع والمتشيّعين لعليٍّ (عليه السلام) في تلك المرحلة، توصلنا إلى أنّ هذه المرتكزات تتلخّص في:

1 - الإيمان بأحقّية عليّ بالخلافة والإمامة، ووجوب البيعة له.

2 - الدعوة إلى العمل بكتاب الله وسنّة رسول الله، ويمثّل هذان المبدآن المرتكز الأساس للمعتقد الشيعي على امتداد التاريخ، وهما خلاصة التشيّع وجوهره.

وقد ظهر ذلك واضحاً جليّاً في تصريحات وجوه الصحابة، الذين أجمعوا على البيعة لعليٍّ بعد مقتل عثمان، وفي تصريحات عليٍّ وولَديه الحسن والحسين مِن بعده ومَن شايعهم مِن الصحابة والتابعين.

____________________

(1) المصدر السابق: ص163.

(2) ابن الأثير / الكامل في التاريخ 2: 275.

٣٤

مصطلح التشيُّع في لُغة السياسة

وبعد مقتل عثمان، واندفاع الأُمّة بالبيعة لعليٍّ، وإجماع الصحابة والأقطار الإسلامية على ذلك، عدا معاوية الذي انفرد بالشام وشقَّ عصا الطاعة على إمام المسلمين، الذي تمَّت له البيعة والخلافة. بعد ذلك تميّزَت (شيعتان)، هما: شيعة (أتباع) بني أميّة، وشيعة آل البيت، وكثُر استعمال كلمة (شيعة) لكِلا الفريقين، نذكر فيما يلي بعضاً مِن هذه الاستعمالات التاريخية:

وقع حوار بين معاوية بن أبي سفيان، وبين الإمام السبط الشهيد الحسين بن عليّ بن أبي طالب [ عليه السلام ]، وكان كلٌّ منهما يستعمل كلمة (شيعة):

(وقال معاوية للحسين بن عليّ: يا أبا عبد الله، أعلمتَ أنّا قتلنا شيعة أبيك، فحنّطناهم، وكفّنّاهم وصلّينا عليهم، ودفنّاهم؟

فقال الحسين (عليه السلام): حِجرك وربِّ الكعبة، لكنّا والله إنْ قتلنا شيعتك ما كفّنّاهم، ولا حنّطناهم، ولا صلّينا عليهـم، ولا دفنّاهم) (1) .

ومِن هذه الاستعمالات:

(وروي أنّه - أي زياد بن أبيه - كان أحضر قوماً، بَلَغَهُ أنّهم شيعة لعليٍّ؛ ليدعوهم إلى لعْن عليٍّ والبراءة منه، أو يضرب أعناقهم، وكانوا سبعين رجُلاً) (2) .

ومِن الاستعمالات التاريخية لهذا المصطلح، ما ورَد في كتاب أهل العراق سنة (50 هـ) إلى الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام)، قال اليعقوبي:

____________________

(1) المصدر السابق: ص231.

(2) المصدر السابق: ص235.

٣٥

(ولمّا توفّيَ الحسن بن عليّ وبلَغ الشيعة ذلك، اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صُرَد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة، فكتبوا إلى الحسين بن عليّ يعزّونه على مصابه بالحسن: بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليّ، مِن شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين، سلام عليك، فإنّا نحمَد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد:

فقد بلَغَنا وفاة الحسن بن عليّ، يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيّاً، غفر الله ذنبه، وتقبّل حسناته، وألحقه بنبيِّه، وضاعف لك الأجْر في المُصاب به، وجبَر بك المصيبة مِن بعده، فعند الله نحتسبه، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ما أعظم ما أصيب به هذه الأُمّة عامّة، وأنت وهذه الشيعة خاصّة...) (1) .

وعندما تولّى يزيد بن معاوية الخلافة بالقوّة والوراثة خلافاً لمبدأ الحُكم في الشريعة، ورفض الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) والشخصيّات الإسلامية البارزة آنذاك، بيعة يزيد؛ لعدم أهليته للخلافة، وانحرافه عن الخطّ الإسلامي القويم، اجتمع زعماء أتباع أهل البيت في العراق، فكتبوا للإمام الحسين (عليه السلام):

(بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليٍّ، مِن شيعته المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد فحيّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجَل ثمّ العجَل والسّلام) (2) .

وتحدّث ابن الأثير عن تلك الأحداث، فقال:

(ولمّا بلَغَ أهل الكوفة موت معاوية، وامتناع الحسين وابن عُمَر وابن الزبير عن البيعة، أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فذكروا مسير الحسين إلى مكّة، وكتبوا إليه عن نفرٍ، منهم: سليمان بن صُرَد الخزاعي،

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 228.

(2) المصدر السابق: ص 242.

٣٦

والمسيّب بن نَجَبة، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وغيرهم) (1) .

وفي كتاب عبد الله بن مسلم الذي كتَبه إلى يزيد بن معاوية، وهو مِن أنصار بني أُميّة، نقرأ في هذا الكتاب استعمال مصطلح (شيعة)، وهو يُطلقه على ذلك الكيان والتكتّل الذي بايع الحسين.. جاء في الكتاب:

(وأمّا بعد فإنّ مسلم بن عقيل قد قدِم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكُ لك في الكوفة حاجة، فابعث إليها رجُلاً قويّاً...) (2) .

وهذا معاوية بن أبي سفيان يستعمل كلمة (شيعة)، ويصف أتباع عثمان بأنّهم شيعته، عندما أوصى المغيرة بن شعبة يوم ولاّه الكوفة سنة (41هـ)، جاء في تلك الوصيّة:

(... ولست تاركاً إيصاءك بخصلةٍ: لا تتحامَ عن شتْم عليٍّ وذمّه، والتّرحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب عليّ، والإقصاء لهم، وترْك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان (رضوان الله عليه) والإدناء لهم، والاستماع منهم) (3) .

وهذا يزيد بن معاوية عندما كتب إلى عبيد الله بن زياد، وعيّنه والياً على الكوفة، نجده يستعمل كلمة (شيعة) معبّراً بها عن أتباعه وشيعته (شيعة بني أُمية)، ممّا يؤيّد استعمال هذا المصطلح في تلك الفترة، بمعنى التكتّل السياسي والأنصار العقائديّين، جاء في هذا الكتاب:

(أمّا بعد، فإنّه كتَب إليّ شيعتي مِن أهل الكوفة، يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها يجمع الجموع...).

____________________

(1) ابن الأثير / الكامل في التاريخ 2: 533.

(2) الشيخ المفيد / الإرشاد: ص 205.

(3) تاريخ الطبري 4: 188 / حوادث سنة 51 هـ.

٣٧

وجاء في نصّ اليعقوبي: (وخلّف أهل الشام عبد الملك، فأقبل مسرعاً إلى دمشق؛ خوفاً مِن وثوب عمرو بن سعيد، واجتمع الناس عليه، فقال لهم: إنّي أخاف أن يكون في أنفسكم منّي شيء، فقام جماعة مِن شيعة مروان، فقالوا: والله لتقومَنَّ إلى المنبر، أو لنضربَنَّ عُنقك، فصعد المنبر وبايعوه) (1) .

وهكذا يتّضح لنا أنّ معنى التشيّع: هو متابعة أهل البيت (عليّ وبَنِيه)، وأنّ بذرته الأُولى قد وُلدَت على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ ظهر في المدينة المنوّرة في صفوف الصحابة الأوائل، حَول عليّ وفاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كتكتّل يدعو إلى أحقّية عليّ بالخلافة، بعد أن كان حبّاً ووَلاءً لشخصه في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ امتدّ مذهباً عقيدياً وفقهيّاً وسياسيّاً؛ نتيجةً لِما يحمِل مِن فهْمٍ ووعْيٍ متميّزٍ للإسلام، استمدّه مِن فهْم ووعي الإمام عليّ وبَنِيـه (عليهم السلام)، فتبلوَر هذا المنهج العقيدي والفقهي، على يد الإمامين محمّد الباقر وولده جعفر الصادق (عليهما السلام)، المعاصرَين لأبي حنيفة ومالك بن أنس وغيرهما مِن أصحاب المذاهب الفقهية.

وينبغي أنْ نشير هنا إلى أنّ المذهب: هو عبارة عن طريقةٍ ومنهجٍ لفَهْم الإسلام، والكشف عن محتواه في المجالات العقيدية والتشريعية والسياسية.

وعندما تبلور هذا الكيان الشيعي، واتّسع عند اشتداد الصراع بين عليٍّ (عليه السلام) ومعاوية، انضمّ إلى صفوف عليٍّ البدريون والمهاجرون والأنصار، وأصحاب بيعة الرضوان، وقاتلوا معه معاوية بن أبي سفيان في معركة صِفّين... ذكَر اليعقوبي ذلك بقوله: (وكان مع عليٍّ يوم صِفّين مِن أهل بدْر سبعون رجُلاً، وممّن بايع تحت الشجرة سبعمئة رجُل، ومِن سائر المهاجرين والأنصار أربعمئة رجُل، ولمْ يكن مع

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 258.

٣٨

معاوية مِن الأنصار إلاّ النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلّد...) (1) .

وقد انقسم الصفّ الإسلامي آنذاك إلى أربعة أحزاب سياسية هي:

1 - الحزب الأُمَويّ، ويقوده معاوية بن أبي سفيان.

2 - حزب عائشة وطلحة والزبير بن العوّام.

3 - حزب الخوارج الذين انفصلوا عن جيش الإمام عليٍّ؛ ولذا عدّهم أصحاب الفِرق مِن الشيعة.

4 - حزب عليّ بن أبي طالب، الذي كان يمثّل الخلافة الشرعية ويقود الأُمّة.

وبعد استشهاد عليٍّ (عليه السلام) استمرّ التشيّع كحزبٍ سياسيٍّ، وخطٍّ فكريٍّ حَول الحسن بن عليّ (عليه السلام)، فبايعه المسلمون، وتجمّعوا حَوله، غير أنّ الظروف السياسية اضطرّت الإمام الحسن إلى مصالحة معاوية، والتنازل عن الخلافة له (2) ، وفْق شروطٍ ومبادئ اتّفق عليها الطرفان، فنكث معاوية عهده هذا، ونصّب ابنه يزيد خليفةً للمسلمين، خلافاً للعهد الذي أبرمه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، وخلافاً لمبدأ الحُكم الذي نصَّت عليه الشريعة الإسلامية.

ونقرأ في كتاب الصُلح بين الحسن بن عليّ ومعاوية بن أبي سفيان شرطاً، اشترطه الحسن لحماية شيعة آل البيت، ودفْع التسلّط الأمويّ عنهم، ويكشف هذا الكتاب امتداد كتلة التشيّع، كقوّة سياسية وفكرية يحرص أهل البيت على حمايتها، والحفاظ عليها؛ لأنّها كانت قوّة المعارضة المستهدَفة مِن قِبَل الحزب الأمويّ.

غير أنّ معاوية لمْ يفِ بذلك، وعانت شيعة أهل البيت أشدّ المعاناة مِن الإهانة والقتْل والتعذيب والملاحقة والحرمان، ما ضجَّ به التاريخ... فقد قتَل معاوية عدداً

____________________

(1) المصدر السابق 2: 188.

(2) جلال الدِين السيوطي / تاريخ الخلفاء، اشترط الإمام الحسن على معاوية (على أن تكون له الخلافة مِن بعده... فأجابه معاوية إلى ما طلب): ص179.

٣٩

مِن طلائع شيعة عليّ (عليه السلام) الذين كانوا مِن أفضل الصحابة والتابعين، نذكر منهم حجْر بن عدي وستة معه مِن أصحابه، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الله بن يحيى الحضرمي، ورشيد الهجري، وجويرية بن مهر العبدي، وأوفر بن حصين، وكثير غيرهم.

وعندما بدأ الحزب الأمويّ يُسلِّط الإرهاب على شيعة آل البيت في عهد الحسن والحسين، كان الاحتجاج يصدر مِن السبطين، ولكن دون جدوى... فلمّا استشهد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) مسموماً على يد معاوية بن أبي سفيان، تجمّع الشيعة حَول الإمام الحسين، وطالبوه بالثورة على معاوية، إلاّ أنّه رفض ذلك، وطلب منهم الالتزام بعهد الصُلح، حتّى موت معاوية، غير أنّ معاوية خالف ميثاق الصلح، وعقد البيعة لابنه يزيد، وحوّل الحُكم الإسلامي إلى حُكمٍ ملَكيٍّ وراثي في الحزب الأمويّ، فرفض الحسين ووجوه الصحابة والتابعون بيعة يزيد.

وبدأت المواجهة المسلّحة، وأعلن الحسين بن عليّ (عليهما السلام) الثورة على حكومة يزيد بعد موت معاوية، وقاد الكفاح كإمامٍ للمسلمين ومسؤولٍ عن حفظ الأُمّة والرسالة.

ونشاهد مصطلح الشيعة يتكرّر في هذه الحقبة، ويبرز التشيّع كتكتّلٍ سياسيٍّ وخطٍّ فكريٍّ معارض مِن حَول الإمام الحسين بن عليّ، كما كان يتحرّك مِن حَول أبيه عليٍّ وأخيه الحسن (عليهم السلام)، ويجسّد هذا الوجود السياسي الكتاب الذي وجّهه أهل العراق إلى الإمام الحسين بن عليّ، فقد جاء فيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، مِن شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام): فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجَل يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجَنَاب، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدِم علينا إذا شئت، فإنّما تقدِم على جُندٍ مجنَّدة لك، والسّلام

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

سبحانه، فقد أوجد للعبد قدرة على اختيار الفعل المخلوق له، وبهذه القدرة يستطيع أنْ يكسب الفعل المخلوق فيه ويستطيع أنْ لا يكسبه، فيكون مختاراً في هذا الكسب، ويستحقّ بسببها الثواب والعقاب، أمّا القدرة عند الأشعري فلا أثر لها في وجود الفعل، وإنّما تكون مقارنة لوجوده، ولذا قيل في مقام الردّ عليه، أنّ هذا لا يخرج الإنسان عن كونه مجبوراً في أفعاله، ووجود قدرة من هذا النوع عاطلة عن العمل لا يُصحّح الثواب ولا العقاب على الأفعال (١).

ومهما كان الحال فقد استدلّ القائلون بأنّ الأفعال مخلوقة لله بأمور، منها أنّ فعل العبد مقدور لله؛ لأنّ قدرته تشمل الكائنات كلّها، وما كان مقدوراً لله لابدّ وأنْ يقع بقدرة الله وحده، وإنْ وقع بقدرة العبد لزِم تعطيل قدرته تعالى، وإنْ وقَع بهما معاً، لزِم اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدورٍ واحد.

والجواب أنّ مجرّد كون الفعل مقدوراً له سبحانه لا يستلزم كونه من أفعاله، إذ ليس كلّ مقدور له يجب أنْ يكون من فعله.

الثاني: لو كان العبد موجداً لأفعاله باختياره واستقلاله، لوجَب أنْ يعلم تفاصيلها، بيان ذلك أنّ الأفعال المتفاوتة كيفية وكمّية إذا صدرت من الفاعل لابدّ وأنْ تكون مقصودة له؛ لأنّ وقوع ذلك الفعل دون غيره لابدّ وأنْ يكون بالقصد إليه بخصوصه، واختياره دون غيره يتوقّف على العلم به، فصدور الأفعال يتوقّف على العلم بها مع أنّ النائم قد تصدر منه بعض الأفعال بدون أنْ يشعر بها ويدرك كمّية ذلك الفعل وكيفيّته، وكذلك قد تصدر بعض الحركات الجزئية من الإنسان من دون تصوّرٍ لها، ومن ذلك يتبيّن أنّ الفاعل هو الله لتخلّف العلم بالفعل عن الفعل بالنسبة إلى الإنسان.

والجواب أنّ إيجاد الفعل لا يستلزم العلم به، فإنّ الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمقتضى طبيعته، كالإحراق الصادر عن النار بمقتضى طبيعتها، من غير أنْ توصف بالعلم وعدمه، والذي لابدّ من العلم معه هو إيجاد الفعل مع القصد إليه، ويكفي فيه العلم الإجمالي الحاصل بين

____________________

(١) انظر المواقف المجلّد الرابع ص ١٤٦، والمذاهب الإسلامية ص ٣٠٢، وشرح التجريد ص ١٨٩.

١٨١

الابتداء بالفعل والانتهاء منه، بالنسبة إلى حركاته الجزئية التي يتكوّن منها الفعل (١).

الثالث: إنّ الإنسان لو كان موجِداً لأفعاله بقدرته واختياره لابدّ وأنْ يكون متمكّناً من فعلها وتركها، وترجيح فعلها على تركها، لابدّ وأنْ يكون لمرجّح وذلك المرجّح يجب أنْ لا يكون من العبد؛ لأنّه لو كان منه احتاج إلى مرجّح أيضاً، وهكذا فيلزم التسلسل، فلابدّ وأنْ يكون المرجّح من الله وإذا كان منه كان واجب الصدور؛ لأنّه إذا لم يجب منه الفعل مع انتهاء المرجّح إلى الله سبحانه، جاز إيجاد الفعل وعدمه فإذا أوجده الإنسان في وقتٍ دون آخر، لزِم أنْ يكون له مرجّح، اقتضى وجوده في ذلك الوقت دون غيره، فيلزم أنْ لا يكون المرجّح الأوّل تاماً ومقتضياً لوجود الفعل، وذلك يقتضي عدم كونه مرجّحاً.

والجواب أنّ الأفعال بلحاظ قدرة العبد لا تتّصف بغير الإمكان، فإذا وجِدت جميع الدواعي للفعل يكون واجباً، وهذا لا يُوجب خروج الفعل عن كونه مقدوراً؛ لأنّ كلّ قادر لابدّ من صدور الفعل عنه عند صدور دواعيه، ويجري ذلك بالنسبة إليه تعالى، ولو قلنا أنّ وجود الداعي يجعل الفعل واجباً، يلزم أنْ تكون أفعاله غير اختيارية، وقد تخلّص الأشاعرة عن هذا النقض بأنّ ترجيح الفعل على الترك لا يحتاج إلى مرجّح آخر، بل يكون بمجرّد اختيار أحد طرفَي المقدور، الذي يلازم عدَم وجود الداعي إلى الطرف الآخر، وهذا الجواب بعينه يجري في أفعال الإنسان أيضاً (٢).

الرابع: لو كان الإنسان قادراً على أفعاله وموجداً لها، لزِم اجتماع قادرين على مقدورٍ واحد؛ لأنّ الله قادر على كلّ شيء، فلو كان العبد قادراً أيضاً، اجتمعت القدرتان فلو أراد العبد إيجاد فعل وأراد الله عدمه، فلو وقع مرادهما اجتمع النقيضان، وإنْ وقَع أحدهما لزِم الترجيح بدون مرجّح.

والجواب: إنّا نلتزم في مثل ذلك بوقوع مراد الله؛ لأنّ قدرته أقوى

____________________

(١) انظر المواقف ص ١٤٨ وشرح التجريد ص ١٩٠.

(٢) المصدر السابق ص ١٩٠ وص ١٥١ وما بعدها من المواقف.

١٨٢

من قدرة العبد، ولا نحتاج إلى فرضِ مرجّحٍ آخر في مثل ذلك.

ومن جملة أدلّتهم أنّه لو كان الإنسان موجِداً للإيمان، لكانت بعض أفعال العباد خيراً من فعل الله تعالى؛ لأنّه أوجد القِرَدَة والخنازير، والإيمان خيرٌ منهما.

والجواب: إنّ الإيمان إنّما كان خيراً باعتبار ما يترتّب عليه من الثواب والمدح لا باعتبار ذاته، والمدْح والثواب من فعل الله سبحانه (١).

واستدلّ المعتزلة على أنّ الأعمال من فعل العباد بأنّه إذا لم يكن الإنسان موجِداً لأفعاله، لا يصحّ التكليف بالأمر والنهي، ولا التأديب الذي وعَدَت به الشرائع والأديان ولا المدح والذم، ويلزم أنْ لا يبقى فرقٌ بين مَن أحسن ومَن أساء؛ لعدم صدور الأفعال الحسَنَة والسيّئة من العباد، ويلزم أنْ يكون الله ظالماً لعباده لأنّه خلق فيهم المعاصي وعذّبهم عليها، كما احتجّوا ببعض الآيات الكريمة الدالّة على أنّ الإنسان خالقٌ لأفعاله، ويدلّ بعضها دلالة صريحة على صدور الفعل منه مباشرة.

قال سبحانه: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ) ، ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) ، ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ) ، ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) ، كما يدلّ بعضها الآخر على أنّ المطيع سيُلاقي نتيجةَ أعماله الطيّبة والعاصي يُعاقَب بمعصيته.

قال سبحانه: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا ) .

وفي قسم منها ما يؤكّد أنّ الإنسان يفعل باختياره من غير أنْ يكون مسيّراً لإرادة قاهرة له على العمل، قال تعالى: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ، ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

وتنصّ جملة أُخرى من الآيات على اعتراف الإنسان بمعاصيه وصدورها منه بمحض اختياره، ولو كانت من فعل الله، لكان للعصاة الحجّة البالغة على الله، إذا أراد أنْ يحاسبهم على سيّئات أعمالهم، قال سبحانه: ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) ، وفي آية

____________________

(١) انظر المصدرين السابقين.

١٨٣

أُخرى: ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ) ، إلى غير ذلك من النصوص القرآنية التي تُفيد بمنطوقها ولوازمها أنّ الإنسان وحده يصنع أعماله، ويقدر على خلقها وإبداعها.

وكما ذكرنا سابقاً أنّ أصحاب هذه المقالات قد وجدوا في النصوص الإسلامية ما يؤيّد آراءهم ومذاهبهم في أُصول العقائد، ولذلك فإنّهم أوّل ما يعتمدون عليها في إثبات مذاهبهم وآرائهم لإعطاء نظريّاتهم وفلسفتهم الصبغة الدينية.

وقد أضاف الأشاعرة والجهمية إلى أدلّتهم السابقة أدلّة أُخرى من الكتّاب تؤيّد مذهبهم في أفعال العباد، منها قوله تعالى: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) وقوله: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجاً ) ، وقوله: ( يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ، وأمثال هذه الآيات التي لو نظرنا إليها مجرّدةً عن القرائن والملابسات المحيطة بها، لم تكن بعيدة عن هذه الفكرة، ولكن بعد التثبّت في معانيها وملاحظة سياقها ومواردها يتكشّف المراد منها ويبتعد عمّا ذهبوا إليه، هذا بالإضافة إلى أنّ الآيات التي تعارض هذا الرأي أكثر وأصرح في الدلالة على اختيار الإنسان في جميع أعماله وتصرّفاته، ولو تغاضينا عن كلّ ذلك، وافترضنا تُساوي الآيات القرآنية من حيث الدلالة على المذهبين عدداً ودلالة، فلابدّ من تأويل الطائفة التي تؤيّد بظاهرها رأي الأشاعرة؛ لأنّ تلك الطائفة تتّفق مع العقل والوجدان الحاكمَين بأنّ الإنسان هو الفاعل لإعماله.

والبرهان مهما بلَغ في قوّته ونتائجه لا يُمكن أنْ يقوى على الوجدان أو يتغلّب عليه، والإنسان يرى ويعلم من نفسه أنّه إذا أراد أمراً وانتفت الموانع عن وجوده يتحقّق منه باختياره وإرادته، ولا يرى نفسه مسيراً على عمل من أعماله.

ومُجمَل القول أنّ أصحاب هذا الرأي لم يخالفوا الوجدان وحُكم العقل فحسب، بل جوّزوا على الله الظلم والجور على عباده، مع أنّه لعن الظالمين وتوعّد الجائرين والعابثين بالعذاب والعقاب، وأيّ ظلم أفحش وأفظع من أنْ يعذّب عباده على عمل يصدر منه مباشرة أو تسبيباً، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فلو افترضنا صراحة الآيات فيما ذهبوا إليه، لابدّ مِن تأويلها بما يتناسب مع عدالة الله سبحانه ولطفه بعباده، ومع حُكم العقل الذي لا يقرّ الظلم من العباد فضلاً عن الله تعالى، كما وأنّ

١٨٤

الآيات التي استدلّ بها المعتزلة ليست صريحة في القول الذي ذهبوا إليه؛ لأنّهم يرون رأي معبد الجهمي وغيلان الدمشقي، وهما من القائلين بأنّ للإنسان الاختيار المطلق في أفعاله وأعماله (١)، لأنّها لا تدلّ على أكثر من أنّ الإنسان هو الفاعل وعنه تصدّر جميع أعماله، أمّا التفويض الكلّي المقابل للجبر فليس فيها ما يشير إلى ذلك، وقد ذكرنا أنّ القول بالجبر ليس بأسوأ حالاً من هذا القول؛ لأنّه يؤدّي إلى تعدّد الشركاء وعزل الله عن سلطانه.

أمّا الإمامية، وهم أسبَق الفرق الإسلامية السياسية والعقائدية، فقد وقفوا موقفاً وسَطاً بين المعتزلة والأشاعرة، فلَم يذهبوا إلى رأي الأشاعرة ولا إلى رأي المعتزلة وأتباعهم القدرية، فقالوا: إنّ الإنسان موجد لأفعاله، ولكن بالقدرة التي أودعها الله فيه، وبتلك القدرة بعد وجود الدواعي للفعل وانتفاء الموانع عنه يصدر الفعل من الفاعل، ويُنسب إليه مباشرةً كما يُنسب الإحراق إلى النار، في حين أنّها لا تؤثّر الإحراق إلاّ بعد اتصالها بالجسم وانتفاء الموانع عن تأثيرها فيه.

ولا يكون مجبوراً في هذه الحالة؛ لأنّ قدرته لم تتعلّق بطرفِ الوجود فقط أو بالطرف الآخر، بل هي بالنسبة إلى الطرفين متساوية، كما لا يصحّ نسبة الفعل إلى الله تعالى لمجرّد أنّه أوجد في الإنسان القدرة على فعل الشيء وتركه؛ لأنّ القدرة على فعل الشيء وتركه ليست سبباً تامّاً لإيجاد الفعل أو لتركه، وإنّما هي من قبيل المُعِد أو قابلية المحل الذي يتوقّف عليه تأثير العلّة كما ذكرنا بالنسبة إلى مُحرِقيّة النار.

فمَن دفع إلى شخصٍ مالاً ومكّنه من التصرّف فيه لا يكون هو الفاعل للحرام، فيما إذا استعمله ذلك الشخص في المحرّمات، ليكون ملجأ على فعله، ولا يصحّ نسبة الفعل إلى مَن دفع المال؛ لأنّ تمكينه إيّاه من التصرّف ليس سبباً تامّاً في إيجاد الفعل ليكون منسوباً إليه، بل هو أشبه بالشرائط التي تقتضيها طبيعة العلّة المؤثّرة والتي لا تمنع من نسبة الفعل إلى تلك العلّة.

ولو كلّف الله عباده بدون أنْ يخلق فيهم القدرة على الفعل وعدمه،

____________________

(١) كما يدّعي بعض كتّاب الفِرَق ومنهم الأسفراييني في التبصير، وعليّ الغرابي في كتابه الفِرَق.

١٨٥

لزِم التكليف بغير المقدور وهو قبيح عقلاً وشرعاً وبذلك لا يكون الإنسان مجبوراً في أفعاله، كما يدّعي الجهمية وأتباعهم الأشاعرة القائلون بأنّ نسبة الأفعال إلى الإنسان أشبه ما تكون بنسبة الجريان إلى النهر، في قولنا جرى النهر. وغير ذلك من القضايا التي ينسب فيها الفعل إلى غير فاعله تجوّزاً.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الكسب الذي ادعاه الأشاعرة لتصحيح التكليف والثواب والعقاب لا ينفع في المقام، ما دامت القدرة التي يدّعيها الأشعري غير مؤثّرة في إيجاد الفعل كما ذكرنا (١) كما لا يكون مختاراً بالمعنى الذي ذهب إليه القدرية الخالصة، كمعبد الجهمي وأتباعه المعتزلة، كما يدّعي مؤلّف التبصير في الدين صفحة ٦١ من كتابه التبصير في الدين، حيث ادعى إجماع المعتزلة على أنّ الله لا يقدر على شيء من أفعالهم.

ومجمل القول أنّ مذهب الإمامية في هذه المسألة مستقلٌّ بنفسه عن جميع المذاهب فيها، فالجهمية والأشاعرة ينسبون الأفعال إلى الله من غير أنْ يكون للإنسان أيُّ أثرٍ في إيجادها، والقدرية لم يجعلوا لله أثَراً في أفعال الإنسان، ونفوا عنه العلم الأزَلي والإرادة الأزَلية المتعلّقين بالأفعال.

والذي نقله جماعة من المؤلّفين عن المعتزلة إنّهم يذهبون إلى أنّ الأفعال تصدر عن العباد بالقدرة المتعلّقة بالأفعال، بعد تعلّق إرادته بالفعل، فإنْ كان طاعة كان الله مريداً له بمعنى أنّه طلب من عباده اتباعه على وجه الاختيار، وليست إرادته تعالى موجبة لوقوع أحد طرَفَي المقدور؛ لأنّه بناءً على ذلك يكون العبد ملجأ على فعله، وإنْ كان فعل العبد معصية لم يكن مريداً له بكلا معنيَيّ الإرادة المتقدّمتين،؛ لأنّه على الأوّل يكون الفعل واجباً،

____________________

(١) لقد جوّز الأشاعرة التكليف بغير المقدور، حيث ذهبوا إلى أنّ القدرة على الفعل لا تتقدّم عليه، بل توجد معه بنحو المقارنة، ويلزمهم على ذلك تعلّق التكليف بغير المقدور، كما يلزمهم الاستغناء عن القدرة في هذا الحال؛ لأنّ الحاجة إلى القدرة هي لإخراج الفعل من حيّز العَدَم إلى حيّز الوجود، ولابدّ منها قبل وجوده، أمّا حال وجوده فإنّه يصبح واجباً فلا يبقى للقدرة تأثير في إيجاده، وهذا القول قد أورده عنهم العلاّمة في كشف الحقّ ونهج الصدْق ص ٦٨ و٦٩ كما أورده الكراجكي في كتابه كنز الفوائد ص ٤٣.

١٨٦

وعلى الثاني يلزم تعلّق طلبه بالمعصية (١).

ولهم آراء أُخرى حول هذا الموضوع قد تعرّض في المواقف لها كما تعرّض لها غيره من المؤلّفين في كُتب الكلام (٢). ونحن لا يعنينا استقصاء جميع الآراء ولا تحقيق الصحيح منها، وإنّما الذي يهمّنا المقارنة بين آراء هذه الفِرَق من حيث مجموعها وبين رأي الإمامية، وإذا كانت نسبة الأفعال إلى العباد عند المعتزلة بهذا النحو، فيلتقون مع الإمامية في هذه المسألة إلى حدٍّ ما، ومهما كان الحال فسَواء قالوا بمقالة القدرية أم بغيرها، فالأمامية يقولون بأنّ الأفعال من صنع الإنسان بعد أنْ أقدره الله على فعلها وتركها، والخير والشر واقعان باختيار الإنسان، لأنّه يقدر على وجودهما وتركهما، والقدرة التي وهبها الله للإنسان لم تتعلّق بأحد الطرفين، كما وأنّ إرادة الله ليس معناها ترجيح أحدهما على الآخر، وإنّما هي بالنسبة إلى الخير لا تتعدّى تعلّق الطلب به، وبالنسبة إلى الشر طلب تركه.

وسلام الله على أمير المؤمنين (عليه السلام) القائل في جواب من سأله عن التوحيد والعدل: (التوحيد أنْ لا تتوهّمه والعدل أنْ لا تتّهمه)، فالقائل بأنّه خالقٌ للأفعال، فقد اتهمه بالظلم، والقائل بأنّه يكلّف العباد ما لا يطيقون فقد نسَب إليه القبيح، والقائل بأنّه لا يقدر على أعمال عباده، وأنّ كلّ أعمالهم بإرادتهم ولا شأن له فيها قد اتهمه بالعجز.

وروى سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنّه قال في جواب مَن سأله عن الجبْر والتفويض: (ألا أعطيكم في ذلك أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه؟ إنّ الله عزّ وجل لم يُطَع بالإكراه، ولم يُعصَ بغَلَبَة، ولم يَهمِل العباد في ملكه، فهو المالك لِما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه، فإنْ ائتمر العباد بطاعته، لم

____________________

(١) انظر كشف الفوائد للعلامة الحلّي في شرح قواعد العقائد لنصير الدين الطوسي ص ٤٤.

(٢) ومن جملتها ما ذهب إليه أبو بكر الباقلاني الأشعري، وهو أنّ ذات الأفعال تقَع بقدرة الله وتكون من فعله، أمّا صفات الأفعال فهي بقدرة العبد، فضرب اليتيم يقع بقدرة الله وهو الموجَِد له، وكونه تأديباً ليكون طاعة يستحقّ الثواب عليه، أو إيذاء يستحقّ عليه العقاب من فعل العبد، وبذلك يصح الثواب والعقاب.

١٨٧

يكن عنها صاداً، ولا منها مانعاً، وإنْ ائتمروا بمعصيته فشاء أنْ يحول بينهم وبين ذلك فعل، وأنْ لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه).

وهذه الرواية تنصّ على أنّه سبحانه هو الذي أقدر عباده على أفعالهم، كما تنصّ على أنّهم في أفعالهم مختارون، ولم يحلّ الله بينهم وبين معاصيهم مع قدرته على ذلك كي لا يكونوا ملجئين في أفعالهم.

وجاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام): (لا جبرَ ولا تفويض ولكن أمرٌ بين الأمرين) وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في شرح هذه الكلمة (القائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك، والمراد من (الأمر بين الأمرين) ، هو وجود السبيل إلى إتيان ما أُمِروا وترك ما نُهوا عنه، والإرادة والمشيئة من الله في ذلك: بالنسبة إلى الطاعات الأمر بها والرضا لها، وبالنسبة إلى المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها، وما مِن فعلٍ يفعله العباد من خيرٍ أو شرٍّ إلاّ ولله فيه قضاء، والقضاء هو الحُكم عليهم بما يستحقّونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة (١).

والمراد من وجود السبيل الذي ورد في كلام الإمام (عليه السلام)، هو إيجاد القدرة في الإنسان على وجود الفعل وعدمه، وبذلك يصحّ الثواب والعقاب وتندَفع جميع الشُبَه الواردة حول هذه المسألة.

____________________

(١) انظر الاحتجاج للطبرسي ص ٢٢٥.

١٨٨

الحُسن والقُبح العقليّان

اتفق الأشاعرة والمحدّثون والفقهاء من السنّة على أنّ القبيح هو المنهي عنه شرعاً، والحُسن الذي لم يرد عنه نهي من الشارع، سَواء ورَد به أمرٌ إلزامي أم لم يرد، فتدخل فيه حتى المباحات، أمّا الإمامية ومَن وافقهم من المعتزلة، فقد ذهبوا إلى أنّ الأشياء منها ما هو حسِن لذاته،

١٨٩

وإنْ لم يرد به أمرٌ شرعي ومنها ما هو قبيحٌ لذاته، ويستحقّ فاعله اللوم والذم وإنْ لم يرِد به نهيٌ من الشارع، وقبل بيان أدلّة الطرفين لابدّ من بيان المراد من الحُسن والقُبح اللذين ادعاهما الإمامية وأتباعهم، وأنكرهما الأشاعرة وعموم أهل السنّة، وقد ذكروا للحُسن والقُبح معاني ثلاثة:

الأوّل: صفتا الكمال والنقص، فحسن الشيء كماله وقبحه نقصانه.

الثاني: الموافقة لغرض الآمر وعدمها، فإذا وافق مطلوب الآمر كان حسناً وإلا كان قبيحاً.

الثالث : ما يترتّب على الشيء من مَدْحٍ وذم.

أمّا الحُسن والقبح بالمعنى الأوّل والثاني فليسا محلاًّ للخلاف بين جميع الفِرَق، وكلّهم متّفقون على أنّ العقل يحكم بالحُسن والقبح بهذين الاعتبارين، وأمّا المعنى الثالث للحسن والقبح فهو الذي ادعاه الإمامية وأتباعهم وأنكره الأشاعرة وغيرهم من فقهاء أهل السنّة ومحدّثيهم، فالإمامية والمعتزلة يدّعون أنّ في بعض الأفعال حُسناً ذاتياً أمَر بها الشارع أو لَم يأمر، وفي بعضها قبحاً ذاتياً يستحقّ فاعلها اللوم والذم نهى عنها الشارع أو لم يَنه، ومثّلوا للحسن الذاتي بالصدق والإحسان، وللقبح الذاتي بالكذِب والظلم وغيرهما ممّا يراه العُقلاء قبيحاً حتى ولو لم ترِد به الشرائع والأديان، ولو كان الحسن والقبح موقوفين على أوامر الشارع ونواهيه، لَما حكم بحسن الصدق والإحسان وقبح الكذب والظلم مَن ينكر الشرائع والأديان.

هذا بالإضافة إلى أنّه يلزم أنْ لا يقبح من الله شيء حتى إظهار المعجزة على أيدي الكذابين، وذلك يؤدّي إلى عدَم معرفة الأنبياء، ولجاز على الله أنْ يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء وغير ذلك، لدوران القبح والحسن مدار الأمر والنهي الشرعيّين، فإذا أمَر بهذه الأشياء كان أمره مقتضياً لحسنها، وإذا نهى عن الصدق وردّ الوديعة والإحسان إلى اليتيم كانت هذه الأُمور قبيحة، إلى غير ذلك من اللوازم الفاسدة التي لا يمكن للأشاعرة الالتزام بها.

ثمّ إنّ المعتزلة القائلين بالحسن والقبح في الأفعال: بين من يقول بأنّهما ذاتيان وهم المتقدّمون منهم، وبين مَن يقول بثبوتهما في الأشياء لوجود صفة في الأفعال تقتضي حسنها أو قبحها، وهم المتأخّرون من المعتزلة، ويدّعي الجبائي - أحد أعلامهم المتأخّرين - أنّ حُسن الأشياء وقُبحِها بالوجوه والاعتبارات، فضرْب اليتيم بذاته لا يتّصف بأيّ صفة منهما ولكنّه يكون

١٩٠

حُسناً إذا وقَع بقصد تأديب اليتيم، وقبيحاً إذا وقع بقصد الإساءة إليه، واحتجّ الأشاعرة وأتباعهم على إنكارهما بأنّ الإنسان ليس مختاراً في أفعاله، والفعل إذا لم يكن اختيارياً لا يوصف بالحسن والقبح، وبأنّهما لو كانا ذاتيّين للأفعال يلزم أنْ لا يتغيّر الفعل بالوجوه والاعتبارات؛ لأنْ ما بالذات لا يتغّير مع أنّ القبيح قد يصبح حسناً والحسن قد يصبح قبيحاً، فالكذب يحسن إذا منع عن قتل نبي أو ولي مثلاً، بل قد يجِب أحياناً لبعض الأغراض والمصالح العامّة التي اهتمّ بها الشارع وأولاها المزيد من عنايته، ومن ذلك يتبيّن أنّهما ليسا ذاتيّين في الأفعال.

والجواب أنّ القائلين بالحسن والقبح الذاتيّين، إنّما يقولان بهما بلحاظ ذوات الأفعال مع قطع النظر عن العناوين الأُخرى الطارئة التي تبدّل وجه الشيء وتشتمل على مصلحة أقوى من المفسدة القائمة بذاته، وتختلف الأشياء في ذلك اختلافاً بيناً، فبعضها يكون علّة للقبح بحيث لا يختلف مهما اختلفت عناوينه واعتباراته كالظلم، فإنّه أينما وجِد وكيفما اتفق حصوله لا يمكن أنْ يكون حسناً، وبعض الأشياء ليست بذاته علّة للقبح والحسن، وإنّما تكون بذواتها مقتضية له كالكذب مثلاً، فإنّ ذات الكذِب مع قطع النظر عن جميع العناوين مقتضية للقبح، كما وأنّ الصدق مقتضٍ للحسن، ولا ينافي ذلك أنْ يطرأ عليهما عنوانٌ آخر يمنَع عن تأثير ذلك المقتضى في الجهة التي يقتضيها، وليس ذلك إلاّ لأنّ اقتضاءهما للحسن والقبح، ليس كاقتضاء العلّة لمعلولها (١) .

وللأشاعرة أدلّة أُخرى موجودة في كتب الكلام، وكلّها مغالطة لا ترتكز على المنطق الصحيح، ولا يؤيّدها الدليل والبرهان، فإنكار الحسن والقبح في الأفعال إنكارٌ للضروريات ومغالطة سافرة للوجدان، فإنّ الصدق والكذِب والظلم والإحسان إلى الضعفاء والأيتام وأشباه ذلك لا يرتاب العقل بحسن بعضها وقبح البعض الآخر، وبمدح المحسن وذمّ المسيء، سَواء ورد الشرع بذلك أو لم يرد، كما وأنّ العقل لا مجال له في كثير من الأُمور التي شرّعها الإسلام، كوجوب الوفاء بالعقود وأكل الميتة، والصلاة والصيام، وغير ذلك من الواجبات والمحرّمات الشرعية، فإنّ العقل في هذه وأمثالها لا

____________________

(١) انظر كفاية الشيخ كاظم الخراساني في أُصول الفقه الجعفري، ووسائل الشيخ الأنصاري.

١٩١

يحكم بحسن ولا بقبح، بل يكون مقلّداً للشرع فيها.

ويدّعي الأشاعرة وأتباعهم أنّ استقباح الظلم والكذب، واستحسان مكارم الأخلاق وأطايب الصفات، وإنْ كان بحكم العقل، إلاّ أنّ المنشأ في ذلك هو التديّن بالشرائع التي كانت تحرِص على التديّن بهذه المبادئ وانتشارها بين الناس، أو لما يترتّب عليها من الأغراض عند العقلاء، ولا دليل على استقباحها واستحسانها لذاتها مجرّدة عن هذه الاعتبارات (١).

وقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الإمامية لم يتّفقوا مع المعتزلة في هذه المسألة اتفاقاً كلّياً؛ لأنّ المعتزلة بين موافق للإمامية، وبين من يقول بهما ولكن بالوجوه والاعتبارات كالجبائي وأتباعه، كما وأنّ بعضهم يلتزم بالحسن والقبح قبل ورود الشرع لصفة في الأفعال تقتضيهما، ومردّ ذلك إلى عدَم كونهما ذاتيّين في الأفعال.

____________________

(١) انظر المستصفى للغزالي ص ٣٦.

١٩٢

وجوب اللطف والأصلح على الله سبحانه

اللطف: هو ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعات وأبعَد عن فعل المعاصي، على نحوٍ لا يبلِغ حدّ الإلجاء من الله سُبحانه، وهو بهذا المعنى لابدّ منه عند الإمامية؛ لأنّه لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح والأنفع لهم، ولا يدّخر عنهم شيئاً ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، وقد أنكره الأشاعرة وقالوا: إنّ كلّ ما يفعله بعباده أو يأمرهم به يكون حسناً منه، أمّا المعتزلة فقد أوجبه أكثرهم؛ لأنّه من مقتضيات العدل الواجب في حقّه تعالى، فترك اللطف المقرّب من طاعته، والأصلح لهم يتنافى مع كونه عادلاً، ويلتقي معهم الإمامية في أصلِ وجوبه، ولكنّه عند المعتزلة من موجبات عدله ولو فعل بعباده خلافه كان ظالماً لهم، أمّا عند الإمامية فلأنّه متّصف بالجود والكرم، ومِن لوازم هذَين الوصفين أنْ لا يمنع عن عباده صلاحاً ولا نفعاً، وأضاف

١٩٣

الكراجكي المتوفّى في أوائل القرن الخامس الهجري فرْقاً آخر بين الإمامية ومتأخّري المعتزلة، فقال: إنّه عند المعتزلة إنّما يجب من جهة العدل، والعدل لا يقتضي أكثر من وجوب الصلاح والنافع عليه تعالى لعباده، أمّا الأصلح والأنفع فلا يجبان عليه، وعند الإمامية لا يتمّ اللطف إلاّ بالأصلح والأنفع، وإذا لم يفعل بهم لم يكن جواداً ولا كريماً (١).

وقد أنكر أصل وجوبه بشر بن المعتمر - أحد أقطاب المعتزلة - واستدلّ القائلون بوجوبه بأنّ اللطف يسهّل لهم إطاعة الأوامر والنواهي؛ لأنّ الغاية من التكليف إيجاد المأمور به وترك المنهي عنه، وإذا لم يسهّل الآمر لعباده أسباب الامتثال كان ناقضاً لغرضه، وكان كمَن دعا إنساناً إلى أمرٍ وهو يعلم بأنّه لا يطيعه فيه.

واللطف المقرّب من الطاعة مرّة يكون من فعل الآمر وأُخرى يكون من فعل المكلّف، وثالثة يكون خارجاً عنهما: أمّا ما كان من فعل الله سبحانه، فيجب على الله بمقتضى جوده وكرمه أنْ يبذله لهم؛ تسهيلاً لإطاعة أوامره واجتناب نواهيه، ليكون المكلّف أقرب إلى الطاعة مع تساوي قدرته لها ولعدمها، وأمّا ما يكون من فعل المكلّف فالله سبحانه من حيث إنّه عالمٌ بما تتوقّف عليه الإطاعة، وامتثاله أوامره وتحصيل أغراضه، لابدّ وأنْ يُكلّفهم تحصيل ذلك الشيء ويُعلمهم به؛ لأنّ امتثال أوامره وتحصيل أغراضه لا يكون بدونه، فيكون إعلامهم به أو إيجابه عليهم من المقدّمات التي تسهّل لهم الإطاعة، وتحصيل أغراضه ومقاصده.

وأمّا الذي لا يكون من فعل الآمر ولا من فعل المكلّف المأمور، فلا يجب عليه؛ لأنّه ليس من فعله ولا من فعل المكلّف ليلزمه به، ولا هو داخل تحت قدرته ليتعلّق به التكليف، وفي مثل ذلك يكون التكليف بالمأمور به مشروطاً بحصول ذلك الشيء، فيما إذا كان الغرض من التكليف لا يحصل بدونه (٢) ، ويكون أشبه بالمقدّمات الوجوبيّة التي لا يجب تحصيلها كما هو مقرّر في محلّه.

واستدلّ الأشاعرة على عدَم وجوب اللطف على الله بأنّه لو قلنا بوجوبه،

____________________

(١) انظر كنز الفوائد للكراجكي ص ٥٢.

(٢) انظر أوائل المقالات للمفيد ص ٢٦ وشرح التجريد للعلامة الحلي ص ٢٠٢ وما بعدها والمواقف المجلد الرابع الجزء الثامن ص ١٩٦.

١٩٤

للزم أنْ يكون في كلّ عصر نبيّ، وفي كلّ بلدٍ معصوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لأنّ اللطف عند القائلين به هو المقرّب من الطاعة، ومن أظهر مصاديقه الأنبياء والأولياء، مع أنّ القائلين بوجوبه لا يلتزمون بذلك.

وقد أجاب القائلون باللطف عن ذلك بأنّ الأنبياء الذين أرسلهم الله لهداية البشر وإنقاذهم من الضلالة، قد أرشدوا إلى الطاعات ونهوا عن المنكرات، ووعدوا المطيعين بالنعيم الدائم، والعاصين بالعذاب الأليم، وتركوا من النصائح والتعاليم ما هو كفيل لأنْ يقرّبهم من طاعته، وامتثال أحكامه والقائلون باللطف لا يدّعون بأنّ عليه أنْ يوفّر لهم جميع أنواع المقرّبات من الطاعة والمرغّبات فيها.

على أنّ هذا النقض لا يتوجّه على الإمامية؛ لأنّهم يدّعون أنّ الإمام موجود في كلّ عصر وزمان، ووجوده بين الناس وأنّ لم يكن معروفاً بشخصه من جملة أقسام اللطف المقرّب منه سبحانه، هذا بالإضافة إلى أنّهم يرون أنّ الحكّام في كلّ عصر لابدّ وأنّ تتوفّر فيهم صفات الحاكم العادل العالم بالإحكام، ولا شكّ بأنّ هذه الصفات لو توفّرت بالحكّام لسهّلت على الناس فعل الطاعات، وأبعدتهم عن المعاصي والمنكرات.

وقال الأشاعرة: إنّ الكفّار حينما كُلّفوا بالإيمان، إمّا أنْ يُكلّفوا به مع وجود اللطف أو مع عدمه، ولا مجال لدعوى أنّهم قد كُلّفوا بالإيمان مع وجود اللطف؛ لأنّهم لو كلّفوا به مع وجود اللطف لحصل منهم الإيمان حتماً، فلابدّ وأنْ يكون تكليفهم في حال عدمه، وعدم اللطف منه سبحانه في ظرف تكليفهم، إمّا لأنّه غير قادر عليه ولازم ذلك نسبة العجز إليه سبحانه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فلابدّ وأنْ يكون مع فرض قدرته عليه، ولازم ذلك إخلاله بالواجب عليه بناءً على وجوب اللطف عليه سبحانه كما يزعم القائلون بذلك؛ لأنّا قد فرضنا كونه قادراً عليه، ومع ذلك كلّف الكفّار بالإيمان بدون أنْ يوجد اللطف المقرّب لهم من طاعته.

والجواب: إنّ الله سبحانه حينما كلّف الكفّار بالإيمان لم يكلّفهم به إلاّ بعد أنْ سهّل لهم طريق الطاعة، ووعَدَهم بالثواب الجزيل والعطاء الكريم وأوجَد لهم المقرِّبات من طاعته، وما يبعدهم عن معصيته، وهذا المقدار من التسهيل للطاعة هو اللطف الواجب عليه سبحانه، وقد بينّا أنّ معنى اللطف هو المقرّب من الطاعة، والمرجِّح لوجود المكلّف به على عدَمِِِه على نحوٍ يُصبح المكلّف أقرب إلى الطاعة منه إلى المعصية، وهذا المعنى متحقّق منه سبحانه.

١٩٥

أمّا حصول المكلّف به فليس داخلاً في مفهوم اللطف، ولا شرطاً فيه؛ لأنّه بهذا الشرط يكون العبدُ ملجأ على فعله، وقد ذكرنا أنّ اللطف لا يسلب اختيار الإنسان (١)، وقد جرَت محاورة حول وجوب اللطف والأصلح على الله بين الجبائي وتلميذه أبي الحسن الأشعري، ويدّعي كتّاب الفِرَق والمذاهب أنّ لهذه المحاورة أثراً في انفصال التلميذ عن أُستاذه، وإعلانه الحرب عليه وعلى أسلافه من شيوخ المعتزلة.

ومُجملها أنّ الأشعري سأل أُستاذه، عن إخوة ثلاثة عاش أحدهم مطيعاً والآخر عاصياً، والثالث مات صغيراً.

فقال الجبائي: المطيع في الجنّة، والعاصي في النار، والصغير لا له ولا عليه.

فقال الأشعري: لو قال الثالث لربّه: لو أبقيتني لأكبر فأطيعك وأدخل الجنّة.

قال الجبائي: يُقال له لو كبرت اخترت المعصية ودخلت النار بسببها.

قال الأشعري: لو قال له الثاني: لِمَ لَم تمتني صغيراً كي لا أعصيك، فأستحقّ النار.

فوقف الجبائي عن جوابه، وقد أبدينا رأينا سابقاً حول الأسباب التي دعت الأشعري إلى التراجع عن مذهب الاعتزال بعد تلك الدراسة الطويلة التي استمرت نحواً من أربعين عاماً في أثناء حديثنا عن الأشاعرة ومناهجهم، وذكرنا أنّ الاختلاف في الرأي أحياناً لا يؤدّي إلى هذا البُعد الشاسع بين التلميذ وأُستاذه، ولا يوجب تأسيس جبهتين متقابلتين بهذا النحو من التقابل الذي كان بينهما.

____________________

(١) انظر شرح التجريد ص ٢٠٢، والمواقف ص ١٩٦ من المجلّد الرابع الجزء الثامن.

١٩٦

النبوّة

اتفق المسلمون والفلاسفة وغيرهم من أهل الأديان على وجوب بعثة الرسُل على الله سبحانه عقلاً ونقلاً، ولم يُخالف في وجوبها عقلاً سِوى الأشاعرة وأتباعهم؛ لأنّ العقل وحده لا يكفي لإدراك كلّ ما هو حسن وقبيح واقعاً، وقد بينّا أنّ القائلين بالحسن والقبح العقليّين لم يثبتوا للعقل الإحاطة بكلّ شيء، وانّ كثيراً من الأشياء لم يدرك من أمرها شيئاً إلاّ بعد أنْ كشف الشارع بواسطة التكليف، عن حسنها أو قبحها، وقد دلّت النصوص القرآنية على أنّه سبحانه لا يُعذّب أحداً إلاّ بعد إتمام الحجّة عليه، بإرسال الرسل وتسهيل أسباب الطاعة، قال سبحانه:

( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ، والرسول لُطفٌ من الله سبحانه، أمّا لأنّه من مقتضيات عدله أو لأنّه من آثار كرَمِه وجوده كما يدّعي الإمامية، وممّا لا شكّ فيه أنّ الرسول الذي يبلّغ عن الله، ويبيّن للناس ما يترتّب على الطاعات من الجزاء، وعلى المعاصي من العقاب من أظهر مصاديق اللطف الواجب على الله سبحانه، هذا بالإضافة إلى أنّ التكاليف السمعية ألطاف في الواجبات العقلية؛ لأنّها تقرّب الإنسان من امتثال أحكام العقل، ولا سيّما إذا واظب الإنسان على امتثال الواجبات السمعية، ولا تتمّ الواجبات السمعية إلاّ بالرسُل، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به يكون واجباً.

أمّا الأشاعرة وأتباعهم القائلون بأنّ العقل لا يُدرك حُسناً ولا قبحاً، ولا يستقل في أحكامه، فينحصر وجوبها عندهم بطريق النقل، ومهما كان الحال فلَم يخالف في وجوبها سوى البراهمة وقالوا: إنّ الرسول إنْ جاء بما يوافق العقل، لم يكن له فائدة، وإنْ خالفه فيجب طرحه والأخذ بحكم العقل، وقد وافقهم على ذلك الصابئة، والقائلون بالتناسخ (١)، وجواب هؤلاء، أنّ العقل وإنْ كان يُدرك حسن بعض الأفعال وقبح بعضها، ولكنّه يجهل كثيراً من أحكام العبادات والمعاملات، والميراث والأحوال الشخصية، وغير ذلك ممّا شرّعه الإسلام، ولا يُمكن معرفة تلك الأحكام إلاّ بواسطة الرسُل، وادّعى بعض المعتزلة بأنّ البعثة إنّما تجب على الله سبحانه إذا عُلِم من حال البشر أنّهم يؤمنون بالرسول المرسَل، و‘نْ علم أنّهم لا يؤمنون به لا تجب عليه، وتكون مستحسنة منه لإتمام الحجّة؛ كي لا يقول أحدٌ: ( لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ) .

____________________

(١) وذهب بعض البراهمة إلى نبوّة آدم لا غير، وأضاف بعضهم إليه إبراهيم، كما يدّعي الصابئة نبوّة إدريس وشيث لا غير.

١٩٧

وقال أبو هاشم الجبائي: لا تجِب إلاّ إذا أراد تشريع أُمور لا يستقلّ بها العقل، أمّا والده الجبائي فقد أوجبها حتى ولو لم يأت الرسول إلاّ بما حكم به العقل، وقال: إنّه يكفي من فوائدها أنْ تؤكّد أحكام العقل (١) وبعض المنكرين للنبوّات قالوا: إنّها لا تكون إلاّ بالمعجزة، وهي مستحيلة عادةً، وادعى آخرون بأنّ المعجزة وإنْ لم تكن مستحيلة، لكنّها لا تدلّ على صدق مدعيها، وبالغ آخرون فقالوا بأنّها حجّة على مَن شاهدها لأنّها تفيده العلم، أمّا الغائبون فلا تفيدهم العلم، ولو تواترت فالتواتر لا يفيد إلاّ الظن، والظن لا يكفي في العقليات، إلى غير ذلك من المذاهب والآراء الفاسدة، ولا يعنينا أنْ نستقصي كل ما قيل حول هذا الموضوع (٢).

____________________

(١) وقال جماعة من المعتزلة: إنّها لا تجب على الله دائماً، وإنّما تجب عندما تقتضيها المصلحة.

(٢) انظر المواقف ص ٢٣٠ وما بعدها، وشرح التجريد ص ١١٧، ومعالم الفلسفة ص ١٦٠ وما بعدها.

١٩٨

الإمامة

من المعلوم أنّ النزاع في الإمامة بين المسلمين كان ولا يزال من أبرَز ما حدَث في تاريخ الإسلام، ونتَج عنه انحراف فئات من المسلمين عن الطريق القويم منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فانقسموا بسبب نزاعهم في الإمامة إلى طوائف وأحزاب، وقامت بينهم المعارك والحروب أُريقت فيها الدماء، واستُبيحت الأعراض وتبدلّت المفاهيم، واختلفت القِيَم، وما زال المسلمون يُعانون من آثار هذا الانحراف، المتاعب والانقسامات التي تجاوزت أبعد الحدود، وتخطّت مسألة الإمامة إلى غيرها من المسائل المتعلّقة بأُصول الدين وفروعه، وأصبح من المتعسّر تقريباً على أيٍّ كان إصلاح ما حدث، وسدّ تلك الفجوة العميقة التي حدَثت نتيجة لذلك الصراع الذي دام طوال هذه

١٩٩

القرون، ما دام كلّ فريق يحرص بكلّ ما أُوتي من قوّة وتفكير لتأييد مذهبه وانتشاره.

ولابدّ لنا من الإشارة إلى آراء الفِرَق الإسلامية الكبرى في الإمامة، وصِلة كلّ واحدٍ منها بالآخر، فالإمام والخليفة لفظتان تعبّران عن معنىً واحد، وهو الرياسة العامّة في أُمور الدين والدنيا نيابة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وسمّي القائم بهذه المهمّات إماماً؛ لأنّ الناس يسيرون وراءه فيما يُشرّع لهم ويرشدهم إليه، وسُمّيَ بالخليفة، كما كان الشائع في عصر الراشدين وما بعده؛ لأنّه يخلف الرسول في إدارة شؤون الأُمّة وقيادتها.

وكما كان تعيين الخليفة بعد الرسول موضعَ جدَلٍ وخلاف أدّى إلى انقسامهم وتمزيق وحدتهم، كذلك حصلت بينهم أنواع أُخرى من الجدَل والنزاع، وتطوّر بعد ذلك إلى النزاع في وجوب نصب الإمام على الله سبحانه وعدمه، فأنكره جماعة وأثبته آخرون، والقائلون بوجوبه بين مَن يقول بوجوبه على الله سبحانه عقلاً، وبين من يقول بوجوبه على الأُمّة بحكم العقل.

أمّا الأشاعرة ومعهم المحدّثون والجبائيّان من المعتزلة (١) فقد قالوا بعدم وجوبه بالنصّ الشرعي على الأُمّة، والباقون من المعتزلة أوجبوه عقلاً، على الأُمّة أيضاً، وذهب الإمامية إلى وجوبه على الله بحكم العقل، ولم يُعارض في أصل وجوب نصب الإمام سِوى العجاردة من الخوارج، ومعهم حاتم الأصم أحد شيوخ المعتزلة (٢)، وادعى هؤلاء بأنّ الواجب على الأُمّة التعاون والتعاضد لإحياء الحق وإماتة الباطل، ومع قيام الأُمّة بهذا الواجب لا يبقى للإمام فائدة تستدعي تسلّطه على العباد.

أمّا إذا اختلفت الأُمّة ولم تتعاون على نشرِ العدل وإحقاق الحق، فيجب عليها تعيين مَن يقوم بهذه المهمّات، وبالتالي فإنّ الإمامة لا تجب بالشرع ولا بالعقل، وإنّما تجب للمصلحة أحياناً، أمّا بقيّة الخوارج فهم كغيرهم من المسلمين، يرونَها من الضرورات التي لابدّ منها لحفظ النظام وإحقاق الحق، ولكنّها لا تجب على غير الأُمّة، ويتعيّن بإجماع أهل الحلّ والعقد على شخصٍ منهم، كما فعل المسلمون الأوّلون في تعيين أبي بكر وعمر على حدّ تعبيرهم.

____________________

(١) وهما الجبائي وولده أبو هاشم.

(٢) المتوفّى سنة ٢٣٧.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253