الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة0%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 253
المشاهدات: 53492
تحميل: 9017

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53492 / تحميل: 9017
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومجمل القول أنّ الأشاعرة ومعهم المحدّثون والجبائيّان يرَون وجوب نصب الإمام على الأُمّة، والباقون من المعتزلة: بين مَن يقول بوجوب نصبه على الأُمّة بالنص على ذلك من الله وهُم معتزلة البصرة، وبين مَن يقول بوجوبها على الأُمّة بحكم العقل، وهم البغداديّون من المعتزلة، أمّا الإمامية فكلّهم متّفقون على وجوبها من طريق العقل والشرع، وأنّ اختياره يعود إلى الله وحده؛ لأنّ وجود الإمام لطف من الله، يُقرّبهم من الطاعات، ويصدّهم عن المعاصي والمنكرات، واللطف واجب عليه سبحانه بحكم العقل، وقد عين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لهم الإمام من بعده بأمرٍ من ربّه، ونصّ عليه بوصفه واسمه، كما تؤكّده النصوص الإسلامية السنّية والشيعية.

وقال المُنكرون لوجوب نصب الإمام على الله سبحانه، بأنّ الإمام وإنْ كان وجوده مُقرّباً من الطاعة ومُبعّداً عن المعاصي، ولكن ذلك لا يكفي في وجوبه عليه سبحانه، لجواز أنْ يكون في نصبه مَفسدة خافية على العباد، وما لم يحصل العلم بانتفائها لا يكفي مجرّد كونه مقرّباً في وجوب نصبه إماماً.

وأُجيبوا بأنّ الإمام إذا كان مُقرّباً من الطاعات لا يكون في نصبه أيّ نوع من أنواع المفاسد، ومجرّد احتمال المفسدة لا يمنع من وجوب تعيين الإمام، هذا بالإضافة إلى أنّ أصحاب هذا الرأي يذهبون إلى وجوب نصبه على الله سبحانه، ولا تخفى عليه المصالح والمفاسد، ولا يُمكن أنْ يُعيّن للناس إماماً مع هذا الفرض.

ومن جملة الشُبَه التي أبداها الأشاعرة حول هذا الموضوع، أنّ الإمام إنّما يكون لطفاً إذا كان متصرّفاً بالأمر والنهي، وكانت أُمور الناس بيده وليس لأئمّتكم هذا الشأن، فما تدعونه لطفاً لا تقولون بوجوبه، وما تقولون بوجوبه ليس لطفاً، ولا سيّما بالنسبة لقولكم في الإمام الغائب، فإنّ وجوده متخفّياً عن الناس لا يتّصل بهم ولا يرونه ليس فيه فائدةٌ لأحدٍ منهم، وهل يمكن أنْ يكون مجرّد وجوده، مع أنّه لا يقوم بأيّ عمَل مقرّباً من الله ومبعّداً عن المعاصي؟

وأجاب الإمامية بأنّ القائلين بوجوب نصب الإمام على الله سبحانه يدّعون بأنّ وجود الإمام الذي اختاره الله مقرّب من الطاعات، واللطف حاصلٌ بمجرّد وجوده؛ لأنّه مستعدٌّ للقيام بجميع مسؤوليّاته على أكمل الوجوه وأتمّها، وعلى الأمّة أنْ ترجع إليه فإذا لم ترجِع تكون هي المسؤولة عن تقصيرها، وليس معنى اللطف إلاّ تسهيل أسباب الطاعة على

٢٠١

العباد، وهذا الأمر يحصل بنصب الإمام، فلو رجعوا إليه واستمعوا لنصائحه وإرشاداته، لم يقَعوا في المعاصي والمنكرات، ولكنّهم قد فوّتوا على أنفسهم بإرادتهم واختيارهم فكانوا من الهالكين.

وعلى كلّ حال لقد تفرّد الإمامية في وجوب نصب الإمام بوصفه واسمه، واحتجّوا بقاعدة اللطف وغيرها من الأدلّة، ومع أنّ المعتزلة يقولون بوجوب اللطف والأصلح على الله سبحانه، ولكنّهم لم يلتزموا بها في المقام، مع العلم بأنّه المورد من جزئياتها، والظاهر أنّ الذي يمنعهم عن الالتزام بها في المقام، هو أنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزِمَهم أنْ يقولوا بعدم صحّة خلافة المتقدّمين على عليّ (عليه السلام)؛ لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أنْ يكون الخليفة منصوصاً عليه من الله سبحانه، وهذه المسألة من أبرَز المسائل التي كانت محلاًّ للجدَل والخصومة بينهم وبين الإمامية، ولا سيّما مع هشام بن الحكَم أحد أعلام الإمامية المعروف بقوّة الحجّة وشدّة الخصومة، وله معهم مواقف حاسمة فيها.

فلقد جاء في كتب الحديث أنّه التقى بعمرو بن عبيد الزعيم الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وهو يخطب في مسجد البصرة حول الإمامة وآراء المذاهب فيها، ونظراً لأنّ خصومته تنحصر - تقريباً - مع الشيعة في هذه المسألة، فقد هاجمهم وحاول تفنيد آرائهم وأدلّتهم التي يعتمدون عليها في الإمامة، وكان هشام بن الحكَم قد حضر مجلسه يومذاك، فقام إليه وتخطّى تلك الحشود الملتفّة به، وهو شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، فسأله عن فوائد الحواسّ الخمس واحدة واحدة وعمرو بن عبيد يجيبه عنها، ثمّ سأله عن فائدة القلب، فقال له: إنّ الله خلقه ليميّز الإنسان به ما يَرِد على بقيّة الجوارح؛ لأنّها قد تشكّ في أشياء ولم تدرك غايتها، وعندما تشتبه في شيء تعرضه عليه فيرشدها إلى خيره أو شرّه.

ولمّا انتهى بينهما الحديث إلى هذا الحد قال له هشام: إنّ الله لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يكشف لها الحق، وينفي عنها الشك، ويترك هذا الخلق في حيرتهم وضلالهم واختلافهم، بدون إمام يُبيّن لهم ما يختلفون فيه؟! فلَم يستطع عمرو بن عبيد أنْ يردّ عليه بشيء، ولمّا عرفه أدناه من مجلسه، ولم يعد إلى الكلام حتى انصرف عنه.

ومن المعلوم أنّه في مثل هذه المحاورة لم يتخطّ قاعدة اللطف، وإنْ لم ترد باسمها على لسانه؛ لأنّه افترض الإمام بالنسبة إلى الأُمّة كالقلب بالنسبة إلى الإنسان، يرشد الناس إلى الحق والطاعات كما يُرشد القلب الجوارح ويردّها عن حيرتها.

٢٠٢

ولا شكّ، بأنّ هذا النحو من الاستدلال الذي استعمله هشام بن الحكَم مع خصمه المعتزلي قد أخذه عن الأئمّة (عليهم السلام)، فقد جاء عن الإمام جعفر بن محمّد (عليه السلام) أنّه قال له: (لقد نطَق على لسانك روحُ القدس يا هشام)، وبالفعل فإنّ هشاماً في هذه المحاورة كان موفّقاً للغاية، فقد سدّ على خصمه جميع المنافذ، وألزمه بمقالته من حيث لا يشعر.

ومجمل القول أنّ جميع الفِرَق الإسلامية قد خالفت في هذه المسألة، حتى الزيدية، كما يدّعيه بعض الكتّاب في الفِرَق والمذاهب.

وفي أوائل المقالات للمفيد قال: اتفق أهل الإمامة على أنّه لابدّ في كلّ زمان من إمام موجود يحتجّ به الله على عباده المكلّفين، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وجوّزوا خلوّ الأزمان الكثيرة من الإمام، وشاركهم الخوارج والزيدية، والمرجئة والعامّة المنتسبون إلى الحديث (1) .

____________________

(1) لقد اعتمدتُ في هذا البحث على المواقف ص 346 و347، وشرح النهج وشرح التجريد ص 227 وأوائل المقالات ص 8 بالإضافة إلى بعض المصادر الأُخرى

٢٠٣

العصمة

لقد تفرّد الإمامية عن غيرهم من الفِرَق الإسلاميّة في وجوب عصمة الأنبياء والأئمّة جميعهم من الذنوب صغيرها وكبيرها، والسهو والنسيان والخطأ وغير ذلك ممّا يحدث من سائر الناس، قبل بعثة الأنبياء وبعدها، سَواء في ذلك الأحكام وغيرها.

وأكثر المسلمين أثبتوها للأنبياء، ولكنّهم لم يلتزموا بها لهم في جميع الحالات، وعن جميع الذنوب، فالمعتزلة جوّزوا عليهم الصغائر من الذنوب سهواً وتأويلاً، أمّا الأشاعرة فقد جوّزوا عليهم الكبائر والصغائر سهواً إلاّ الكفر والكذب، ووافقهم على ذلك الحشويّة من المحدّثين؛ لأنّ جواز الكذب عليهم يؤدّي إلى إبطال رسالتهم، وإنْ كان المنسوب إلى القاضي أبي

٢٠٤

بكر الباقلاّني جوازه سهواً ونسياناً؛ لأنّ ذلك لا يستلزم جواز كذبهم فيما يخبرون به في حال التفاتهم وتذكرهم.

أمّا الكفر فقد أجمعوا على عصمتهم عنه قبل البعثة وبعدها، ولم يقل بجوازه عليهم سوى الأزارقة من الخوارج، وقد جاء عنهم، أنّه يجوّز على الله أنْ يبعث نبيّاً، يعلم بأنّه سيكفّر بعد بعثته، أمّا بقيّة الذنوب، فما كان منها من الكبائر، فقد منع صدورها منهم الجمهور الأعظم من المسلمين، بما فيهم المعتزلة والأشاعرة، إلاّ أنّ المعتزلة منعوا صدورها منهم بحكم العقل لقاعدة اللطف والأصلح، وغيرهم منع صدورها منهم للنص والإجماع، أمّا صدورها منهم نسياناً، فقد أجازوه عليهم كما أجازوا صدور الصغائر منهم عمداً وسهواً.

والمنسوب إلى الجبائي أنّه أجازها عليهم سهواً لا عمداً، هذا كلّه بعد النبوّة، أمّا قبلها فقد جوز عليهم الأشاعرة وجماعة من المعتزلة الكبائر والصغائر عمداً وسهواً (1) .

وقد استدلّ القائلون بأنّهم معصومون عن الكبائر والصغائر عمداً بالأدلة الكثيرة التي استدلّ بها القائلون بعصمتهم المطلقة، ومجملها أنّه لو صدرت منهم الذنوب لحَرُم اتباعهم فيما يفعلون، مع أنّ الإجماع والنصوص يدلاّن على وجوب متابعتهم في أقوالهم وأفعالهم، ولابدّ من عصمتهم وإلاّ لم تجِز متابعتهم.

ولأنّهم لو أذنبوا لكانوا من جملة الفاسقين الذين لا تُقبل شهادتهم، ومَن لا تقبل شهادته في أُمور الدنيا، لم تقبل في أُمور الدين، ولأنّه لو صدرت منهم المعاصي لكان من اللازم إرشادهم وإرجاعهم إلى الحق، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك قد يؤدّي إلى إيذائهم واستعمال الشدّة معهم حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا بالإضافة إلى أنّه لو وقعت منهم المعاصي لكانوا من مستحقّي النار؛ لقوله تعالى: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ) ، وكانوا ممّن تعنيهم الآية الكريمة: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ، وأيضاً لو صدرت منهم المعاصي،

____________________

(1) انظر المواقف ج 4 ص 265.

٢٠٥

لكانوا من الظالمين لأنفسهم، من حيث مخالفتهم للأوامر والنواهي، والظالم لا يصلح للنبوّة، لقوله تعالى: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، مع أنّ الظالم من أتباع الشيطان وعملائه، والشيطان لا سبيل له على المؤمنين.

قال سبحانه: ( لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

إلى غير ذلك من الأدلّة الكثيرة التي استدلّوا بها على عصمة الأنبياء من الكبائر عمداً وسهواً في حال النبوّة، وعن الصغيرة عمداً، وقد أورد الرازي هذه الأدلّة في الأربعين وغيره مِن كتبه، كما أوردها غيره من القائلين بالعصمة المطلقة في جميع الحالات، كما وأنّ القائلين بجواز الكبائر عليهم سهواً في حال نبوّتهم، وجواز الصغائر عليهم عمداً وسهواً في تلك الحالة، قد استدلّوا ببعض الآيات القرآنية التي تدلّ بظاهرها على صدور الذنب من الأنبياء في حال نبوّتهم، كما ورد بالنسبة لآدم، ويوسف وموسى وغيرهم من الأنبياء الذين قصّ الله أحوالهم ببعض الآيات التي تُوهم صدور الذنب منهم (1).

أمّا الشيعة الإمامية فكما ذكرنا، فقد وقفوا من هذه المسألة موقفاً يتناسب مع شرف النبوّة وقداستها، فنزّهوا الأنبياء في جميع أحوالهم عن جميع المعاصي قبل النبوّة وبعدها، واستدلّوا على ذلك - بالإضافة إلى الأدلّة المتقدّمة - بأنّ جواز المعصية عليهم يتنافى مع الغاية التي أُرسلوا من أجلها؛ لأنّ الله سبحانه إنّما أَرسل الرسل لعباده ليعملوا برسالاتهم، ويسيروا على نهجها وهديها قال سُبحانه: ( لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) ، وإذا جاز على الأنبياء أنّ يخالفوا ما يأمرون به وينهون عنه، لم يحصل الوثوق بأقوالهم ما دامت لا توافق أفعالهم.

ولو جاز عليهم السهو والخطأ في أقوالهم وأفعالهم، لم يعد ما يمنع من وقوعهما منهم في التبليغ عن الله سبحانه.

وإذا جاز عليهم الكذِب في أقوالهم وأخبارهم ضعُفت ثقتهم ومكانتهم من النفوس، فلا تحصل الغاية التي من أجلها أَرسل الله أنبياءه ورُسله.

كما استدلّوا بالإضافة إلى ما تقدّم، بأنّ النبيّ لو فعَل المعاصي تجب

____________________

(1) انظر المواقف ج 4 ص 264 إلى ص 280 حيث أورد جميع الآراء في هذه المسألة وأدلّتها.

٢٠٦

إطاعته ومتابعته، لقوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) ، ولقوله: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) ، ومن حيث إنّه بفعله أصبح عاصياً تحرم متابعته في ذلك الفعل، ولازم ذلك اجتماع الوجوب والحرمة في حقّ المكلّفين، وأيضاً لزِم أنْ يكون أسوأ حالاً من سائر أفراد البشر؛ لأنّه أكثر معرفة لله منهم وأكثرهم عِلماً بأحكامه، والله سبحانه يعاقب الناس ويحاسبهم على حسب عقولهم ومعرفتهم، ولذا فقد ضاعف الله سبحانه العقاب للعاصيات من نساء النبيّ، قال سبحانه: ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ) .

ومجمل القول أنّ الذي ذهب إليه الشيعة، هو الذي يتناسب مع مقام النبوّة وعظمتها، ويجب أنْ يكون القائم بهذه المهمّة مثالاً للفضيلة بكلّ أنواعها ليسرع الناس إلى تصديقه والعمل بأوامره ونواهيه، وكيف يجوز على الله سبحانه أنْ يُرسل إلى الناس مَن يأمرهم ولا يأتمر وينهاهم ولا ينتهي؟! مع أنّه قد وبّخ مَن كان بهذه الصفة، قال:

( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) (1).

قال الشيخ المفيد في أوائل المقالات: إنّ جميع الأنبياء معصومون عن الكبائر قبل النبوّة وبعدها، وممّا يستخفّ فاعله من الصغائر كلّها (2) وأمّا ما كان من صغير لا يستخفّ فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة وعلى غيرِ عمد، وممتنع منهم بعدها، وأضاف إلى ذلك أنّ هذا هو مذهب جمهور الإمامية، والمعتزلة بأسرها تُخالف في ذلك (3)، وهذه العبارة مِن الشيخ المفيد تؤكّد أنّ المعتزلة لا يلتقون مع الإمامية في مسألة العصمة، وكان على صلة بهم، وله معهم مواقف كثيرة حول الأُصول الإسلاميّة، وقلّما يخلو مجلسه من المناظرات معهم وقد جمع السيّد المرتضى كتاباً أكثره في المناظرات التي كانت تجري بين المفيد وخصومه، وأكثرهم من المعتزلة يوم ذاك، وإنْ كان الذي نقله عنهم مؤلّف المواقف، أنّهم لا يجيزون على

____________________

(1) انظر كشف الحق ونهج الصدق ص 81 و82 وشرح التجريد للعلاّمة ص 217.

(2) وقد مثّلوا لذلك بسرقة الأشياء الحقيرة، كلقمة من الطعام، أو الأكل في السوق وغير ذلك ممّا يُعَد فاعله خسيساً وضيعاً عند الناس، وعلّلوا استثناء هذا النوع من الصغائر، بأنّه يوجب الاستخفاف به.

(3) انظر أوائل المقالات ص 30.

٢٠٧

الأنبياء الكبائر عمداً، وأنّ ذلك ممتنع منهم عقلاً؛ لأنّه يوجب سقوط هيبتهم من القلوب وانحطاطهم من أعيُن الناس (1).

وعلى كلّ حال فالذي يدّعيه الإمامية في هذه المسألة، هو الذي يتناسب مع مقام النبوّة والرسالة، كما ذكرنا، ويُساعد على تحقيق الأغراض التي بُعِثوا من أجلها؛ لأنّه مكلّف بإصلاح النفوس وتطهيرها من الرذائل، ووضع الحلول الصالحة لمشاكل المجتمع، وإذا كان طاهر النفس صدوقاً أميناً يصدّق أقواله بأفعاله، تسرع النفوس إلى تلبيته والقلوب إلى محبّته، ويكون لأقواله من الآثار ما لا يكون لأقوال العشرات مجتمعين من سائر الناس.

أمّا عصمة الأئمّة فهي من مختصّات الإمامية، ولابدّ من القول بها بعد أنْ قالوا بأنّ نصب الإمام واجب على الله من باب اللطف، كما يجب عليه إرسال الرسُل؛ لأنّه منفّذٌ لما جاء به الرسول وحافظٌ للشرع، وقائمٌ بمهام الرسول كلّها، فلو جاز عليه الخطأ والكذِب لا يحصل الغرض من إمامته، ولأنّ الله جعله إماماً ليهدي الناس إلى الحق، ويصلح أخطاءهم، فلو كان كغيره وجَب على الله أنْ يجعل عليه إماماً يرشده إلى الحق والهدى، وهكذا الكلام بالنسبة إلى الإمام الثاني ولابدّ وأنْ ينتهي الحال إلى إمامٍ لا يجوز عليه الخطأ، وأيضاً لو وقع منه الخطأ لوجَب الإنكار عليه وإرجاعه إلى الحق من باب الأمر بالمعروف، ولَما جاز الاعتماد على أقواله مع أنّه سبحانه قد أمر بإطاعته كما ينصّ على ذلك قوله:

( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، ولا تجب إطاعته إلاّ إذا كانت أقواله وأفعاله موافقة لأوامر الله ورسوله.

وممّا يدلّ على عصمة الإمام قوله تعالى لإبراهيم: ( إنّي جاعلك للناس إماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، والإمامة عهدٌ من الله فلا يستحقّها الظالم بنصّ الآية، وغير المعصوم ظالم لنفسه ولغيره، والظالم كما يصدق على المتلبّس فعلاً بالمعصية، يصدق على من تلبّس بها في الماضي كما هو الثابت في مباحث المشتق من أُصول الفقه الجعفري، وقد استفاد المتكلّمون الشيعة من هذه الآية مبدأ عاماً في الحاكم الذي يحقّ له أنْ يتولّى أُمور الأُمّة، وهو ليس ببعيد عمّا هو ثابت في القوانين الحديثة،

____________________

(1) انظر المواقف ص 264.

٢٠٨

حيث إنّهم يعتبرون كلّ من يرتكب جريمة، أو يعمل عملاً مُشيناً ساقطاً عن الحقوق المدنية كتولّي مناصب الدولة، وغيرهما من الشؤون العامّة (1).

والمراد من العصمة التي يدّعيها الشيعة الإمامية للأئمّة، هي عدَم صدور الكبائر والصغائر منهم عمداً وسهواً، بلا فرْق بين المُشينة وغيرها.

قال المفيد في أوائل المقالات: إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء، ولا تجوز عليهم صغيرةٌ إلاّ ما قدّمْتُ ذكر جوازه على الأنبياء، ولا يحدث لهم سهوٌ في شيءٍ من الدين، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، وعلى هذا المذهب سائر الإمامية إلاّ من شذّ منهم (2)، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلبُ القدرة على المعاصي، ولا كون المعصوم مُلجأ على فعل الطاعات، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب.

قال صاحب كتاب الياقوت - من قدماء الإمامية ـ: (العصمة لطفٌ يمتنع مَن يختصّ بها من فعل المعصية، لا على وجه القهر بنحوٍ لا تكون له قدرة عليها، بل يكون امتناعه عنها لعدَم الداعي إليها (3)) .

وليس المراد من عدَم الداعي هو انتفاء القابلية، فإنّ ذلك مرجعه إلى الإلجاء وإنّما المراد منه، أنّ القوّة الخيّرة في الأنبياء والأولياء هي التي تسيطر على شهَوات النفس وأهوائها، مع كونها مقدورةً له.

ولقد بالغ مَن فسّرها باستحالة صدور الذنب؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى الإلجاء، وعدَم استحقاقه للمدح والثواب على أفعاله؛ لأنّها لم تصدر عن إرادة واختيار، هذا بالإضافة إلى أنّها لو كانت بهذا المعنى لم يبقَ لتعلّق النهي بالمحرّمات أثر؛ لأنّ الأفعال المنهي عنها لا تدخل تحت قدرة المعصوم

____________________

(1) انظر شرح التجريد ص 227، وكشف الحق ونهج الصدق للعلاّمة ص 85.

(2) وقد أشار بقوله (إلاّ من شذّ منهم)، إلى الشيخ الصدوق محمّد بن بابويه القمّي، حيث جوّز عليهم السهو والنسيان حتى في الأحكام، كما جوّزه على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) اعتماداً على ما ورد في أحاديث السنّة من سهو النبيّ في الصلاة، وقد روى عنه أبو هريرة أنّه صلّى بالناس العصر ركعتين، وانصرف إلى ناحيةٍ في المسجد، وتبعه الناس وفيهم أبو بكر وعمر، وظنّوا أنّ الصلاة قد قصرت، فلم يجرأ أحد على سؤاله غير رجلٍ يدعى ذا اليدين، فلمّا سأله تذكّر النبيّ ورجَع فأتمّ صلاته من حيث سلّم.

(3) انظر أوائل المقالات للمفيد.

٢٠٩

بناءً على هذا التفسير.

هذا بالإضافة إلى أنّ الصفات التي منها ينطلق الإنسان إلى المعاصي كالرضا والغضب والشهوة وغير ذلك موجودة في الأئمّة والأنبياء، كما هي في سائر الناس، وجاء في الآية الكريمة: ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) ، ولكن تلك الصفات تسيطر على غيرهم من الناس وتسوقهم إلى معصية الله سبحانه، أمّا الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، فمع أنّهم يحبّون ويكرهون ويرضون ويغضبون، ولكن في حدود أوامر الله ونواهيه، فحبّهم للدنيا ومظاهرها وشهَواتها مغلوبٌ دائماً لرضا الله المسيطر على نفوسهم وقلوبهم، الذي حبّب إليهم الإيمان والطاعات، وأبعدهم عن الفسوق والنفاق.

وجاء عن محمّد بن أبي عُمير - أحد تلامذة الأئمّة المقرّبين منهم - أنّه قال: ما سمِعت ولا استفدت من هشام بن الحكم، على طول صحبتي له، أحسن من كلامه في صفة عصمة الإمام، فلقد سألته يوماً من الأيّام عن الإمام أهو معصوم أم لا؟ قال: نعم، قلت له: فما هي العصمة وبماذا تُعرف؟ قال: إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجُه لا خامس لها: الحرْص والحسَد والغضَب والشهوة، وكلّها منتفية عنه، فلا يجوز أنْ يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت يده فعلى ماذا يحرص؟ ولا يجوز أنْ يكون حسوداً؛ لأنّ الإنسان إنّما يحسد مَن هو فوقه وليس فوقه أحد، فكيف يحسد من هو دونه؟!

ولا يجوز أنْ يغضب لشيء من أُمور الدنيا، إلاّ أنْ يكون غضبه لله عزّ وجل، فإنّ الله قد فرَض عليه إقامة الحدود، وأنّ لا تأخذه في الله لومةُ لائم، ولا رأفة في دنياه حتى يُقيم حدود الله عزّ وجل، ولا يجوز أنْ يتّبع الشهَوات ويُؤثر الدنيا على الآخرة؛ لأنّ الله عزّ وجل حبّب إليه الآخرة كما حبّب إلينا الدنيا، فهو ينظر إليها كما ننظر إلى الدنيا، فهل رأيت أحداً ترَك وجهاً حسَناً لوجهٍ قبيح، وطعاماً طيّباً لطعامٍ مُر، وثوباً ليّناً لثوبٍ خشِن، ونعمةً باقية لِدُنيا زائلة (1)؟ !

وهُشام بن الحكَم بهذا التحديد لمفهوم العصمة قرّر أنّها لا تكون إلاّ إذا استطاع الإمام أنْ يتغلّب على هذه الأُصول الأربعة، التي تتفرّع عنها جميع المفاسد، ومنها ينطلق الإنسان إلى المعاصي والمنكرات، وليس في كلامه ما يُشير إلى أنّ هذه الأربعة ليست مقدورة له، بل كل ما يدلّ عليه هذا

____________________

(1) انظر هشام بن الحكم للشيخ عبد الله نعمة ص 202.

٢١٠

الكلام إنّ الدواعي التي تثير الحسَد والغضب والشهوة والحرص إلى الوقوع في الرذيلة، لا وجود لها عند الإمام (عليه السلام) بمعنى أنّها مغلوبةٌ لقوةِ الخير الموجودة فيه.

ومجمل القول أنّ العصمة ليس لها مفهوم يتخطّى إمكانيّات الإنسان، بنحوٍ يكون هذا المخلوق البشَري إنساناً آخر له طبيعة غير طبائع الناس. إنّ المعصوم في رأي هشام بن الحكَم ورأي جميع الشيعة إنسانٌ يغضب ويرضى ويحزن ويفرَح ويتلذّذ ويتألّم ويحبّ ويكره إلى غير ذلك من صفات الإنسان، وهذه الحالات وإنْ كانت من شأنها أنْ تسيطر على الإنسان، وتسوقه إلى المعاصي والمنكرات واتباع الشهوات والملذّات، إلاّ أنّها في الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) تكون مغلوبة للقوة الخيّرة التي تصرفهم إلى الطاعات وتسيطر على الدواعي التي تحرّك إلى المعصية بنحوٍ تصبح تلك الدواعي معدومةَ التأثير وكأنّها لم تكن.

وقد ذهب الإمامية إلى أنّ الإمام لابدّ وأنْ يكون أفضل الناس وأكملهم؛ لأنّ ترجيحه على غيره وتعيينه إماماً من بين سائر الناس لابدّ وأنْ يكون لأمرٍ لا يوجد في غيره، وإلاّ كان ترجيحه بلا مُرجّح.

ولأنّ تقديم المفضول على الفاضل لا يقرّه العقل؛ لأنّ الأفضل أعرَف بالواقع وأهدى إلى الحق، ومحلّ للثقة والاطمئنان مِِن جميع الطبَقات قال سبحانه: ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

وهذا الشرط من مختصّات الإمامية، فالأشاعرة والمحدّثون من أهل السنّة وأكثر المعتزلة، وإنْ ذهبوا إلى أنّ المتقدّم من الخلفاء الأربعة أفضل من المتأخّر اعتماداً على بعض المرويّات عندهم (1) إلاّ أنّهم لا يعتبرون الأفضلية شرطاً في الخلافة؛ لأنّ أمر الإمام عندهم يرجع إلى الأُمّة وحدها وليس لله أمرٌ أو نهي في ذلك، فهي التي تقرّر مصيرها وتختار مَن تراه.

____________________

(1) فلقد رووا أنّ الرسول (صلّى اّلله عليه وآله) قال: ما ينبغي لقومٍ فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره، وأنّه قال: ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيّين والرُسُل على رجلٍ أفضل من أبي بكر، وأنّ الآية الكريمة ( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) نزَلَت في أبي بكر.

كما رووا في عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان أحاديث تنصّ على أفضليّتهما على سائر الخلق.

٢١١

وأمّا المعتزلة، فقد ذهَب المتقدّمون منهم كعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار المعروف بالنظّام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وثمامة بن أشرس، وهشام بن عمر الغوطي، ويوسف بن عبد الله الشحّام، وغيرهم من معتزلة البصرة إلى أنّ أبا بكر أفضل من غيره، وقد ذكرنا سابقاً أنّ عمرو بن عبيد كان يدّعي أنّ عليّاً قد فسَق بسبب القتال الذي دار بينه وبين أهل البصرة وأهل الشام، بينما كان يرى زميله واصل بن عطاء فسق أحد اثنين عليّ ومعاوية، ولا يجيز لهما شهادةً على باقة بقل، أمّا الباقون من المعتزلة وهُم معتزلة بغداد، فقد ادعى ابن أبي الحديد في شرح النهج أنّهم يقولون بأفضليّة عليّ (عليه السلام) عن أبي بكر وعثمان وأنّ الأفضلية ليست من شروط الخلافة (1).

ويؤكّد الشيخ أبو زهرة أنّ الزيدية وعلى رأسهم الإمام زيد بن عليّ يرون هذا الرأي، وينكرون النصّ على عليّ (عليه السلام) (2) وقد ذكرنا سابقاً في حديثنا عن الزيدية، أنّ المنسوب إلى زيد بن عليّ لا تؤيّده النصوص التاريخية، وقد نصّ المسعودي في مروج الذهب، وأبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميّين أنّ الجارودية أتباع زياد بن المنذر الجارود، وهم الفرقة الأُولى من الزيدية الذين عاصروا زيداً، هؤلاء كانوا يذهبون إلى النص على عليّ (عليه السلام) وقد نصّ هو على إمامة ولَدَيه الحسن والحسين (عليهما السلام)، والناس قد ضلّوا بعدولهم عنه (3).

وزياد بن المنذر كان من المعاصرين لزيد بن عليّ، ولم يكن بعيداً عنه وعلى تقدير أنّه كان من القائلين بإمامته، فلابدّ وأنْ يكون قد استوحى شروط الإمامة ووظائف الإمام منه، ومن المستبعد أنْ يُخالف رأيه في إمامة جدّه عليّ (عليه السلام).

وقد أثبتنا سابقاً أنّ زيداً لم يخرج في مبادئه وآرائه عن المخطّط الذي رأسه آباؤه لشيعتهم وأتباعهم، ولم يكن في ثورته على الأمويّين داعياً لنفسه، ولا مخالفاً للأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام).

ومن مجموع ما تقدّم يتبيّن أنّ المسلمين على اختلاف فِرَقهم ومذاهبهم متّفقون على أنّه لابدّ للمسلمين من إمام يقوم مقام الرسول (صلّى الله عليه وآله) في تنظيم

____________________

(1) انظر شرح النهج لابن أبي الحديد المجلّد الأوّل ص 13.

(2) انظر الإمام زيد ص 188 و189.

(3) انظر مقالات الإسلاميّين ج 1 ص 133، ومروج الذهب للمسعودي.

٢١٢

أُمورهم وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، وغير ذلك من المصالح التي لابدّ من رعايتها، ولم يُخالف بذلك سوى العجاردة من الخوارج، ومحلّ الخلاف بينهم في أنّ نصبه واجب على الله كما يدّعي الإمامية، أو على الأُمة بحكم العقل كما يدّعي القسم الأكبر من المعتزلة، أو بطريق النقل كما يدّعي الأشاعرة وبعض المعتزلة، كما تبيّن أنّ الإمامية يُخالفون جميع الفِرَق في مسألتي العصمة والأفضلية، واعتبروهما وصفين لازِمَين للإمام، أمّا أهل السنّة فقد ذهبوا إلى أنّ الإمام لا يكون إماماً شرعياً إلاّ بشروطٍ أربعة:

الأوّل: أنْ يكون قرشيّاً، واحتجّوا لذلك ببعض المرويّات عن الرسول في فضل قريش، واختصاصهم بهذا الأمر، فلقد رووا عنه أنّه قال: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقيَ فيهم اثنان، وروى معاوية بن أبي سفيان عنه أنّه قال: إنّ هذا الأمر في قريش لا يُعاديهم أحد إلاّ أكبّه الله على وجهه، وقد خالف في ذلك الخوارج وجماعة من المعتزلة، وجوّزوا إمامة المَوالي والعبيد، كما ذكرنا سابقاً.

وعلى كلّ حال فالنصوص التي أوردها المحدّثون والأشاعرة لانحصار الخلافة في القرشيّين ليست واردة في مقام الجعل، ولا يُستفاد منها تأسيسَ أصلٍ عام لتكون مرجعاً في هذه المسألة، وكلّ ما يُستفاد منها الأخبار عمّا سيقع في المستقبل، فلا تصلح دليلاً على أنّها حقٌّ من حقوقهم، ولا محلّ لهذا الشرط عند الإمامية؛ لأنّها من الحقوق المجعولة لعليّ ووُلْده على مذهبهم، كما لا محلّ له عند الزيدية، لاختصاصها بولد فاطمة (عليها السلام) كما هو المنسوب إليهم، ولأنّها بالنصّ من الله عند الشيعة، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

الشرط الثاني: البيعة العامّة التي تشمل الموجّهين من أهل الرأي والعلماء، والجنود والجمهور الأعظم من المسلمين، ولابدّ فيها من الرضا والاختيار، فلا تنعقد مع الإكراه والإجبار، وهي معاهدة قائمة بين الشعب والحاكم المختار، فعلى الشعب أنْ يسمع ويطيع، وعلى الحاكم أنْ يقيم الحدود والفرائض ويسير على النهج المستفاد من الكتاب والسنّة، وهؤلاء يدّعون بأنّ الصحابة والبقيّة من المسلمين قد تسابقوا إلى بيعة أبي بكر، ولم يتخلّف أحد من أولي الرأي والصحابة عنه (1)، مع أنّ الحوادث التي رافقت بيعة أبي بكر تؤكّد أنّ المتخلّفين عنه كانوا من أبرز صحابة الرسول، وأقربهم إليه، وقد تصلّبوا في موقفهم بالرغم من موجة الإرهاب التي رافقت

____________________

(1) انظر المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص 132 والمواقف ص 350.

٢١٣

استخلافه في بداية الأمر، كما ذكرنا في الفصل الأول من هذا الكتاب.

وجاء في المواقف أنّ إجماع أهل الحلّ والعقد، لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، فيكفي فيها الواحد والاثنان، ويجب أتّباع الإمام على أهل الإسلام، وذلك لعلمنا أنّ الصحابة مع صلابتهم في الدين قد اكتفوا بذلك، فقد عقدها أبو بكر لعمر، وعبد الرحمان بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا اجتماع مَن في المدينة (1).

الشرط الثالث: الشورى، والمراد بها أنْ يكون اختياره نتيجةً للتشاور وتمحيص الآراء بنحوٍ لا تستقل بتعيينه فِئة دون أُخرى ولا فرد أو أفراد مخصوصون، وقد ادعوا أنّ استخلاف أبي بكر وعمر وعثمان كان نتيجةً لتداول المسلمين فيما بينهم، واتّفاقهم على هؤلاء الأشخاص (2)، مع أنّه من الثابت تاريخيّاً أنّ أبا بكر عيّن عمر بن الخطّاب في حياته، وفرضه على المسلمين فرضاً، واعترضه جماعة فلَم يتراجع، كما وأنّ عمر بن الخطّاب جعل أمرها لواحد من ستّة أشخاص، ولم يترك لهم الاختيار المطلق، بل وضَع لهم القيود والشروط التي تنتهي بها إلى الشخص الذي أراده، وقد وقع الأمر كذلك، حينما رفض عليّ (عليه السلام) التقيّد برأي الشيخين أبي بكر وعمر.

الشرط الرابع: أنْ يكون الخليفة عادلاً لا يندفع مع أهوائه، ولا يؤثّر أحداً على آخر لهوى في نفسه، يعامل الناس بالعدل ولو كانوا من أعدائه، ويطبّق القانون على الجميع بدون محاباةٍ لأحد، ومع أنّهم يعتبرون هذا الشرط في الحاكم، فقد ذهبوا إلى أنّه لو خرَج على القانون الإسلامي فلا يجوز الخروج عليه، ولو كان ظالماً فاسقاً، وأنّ طاعته أولى من الخروج عليه، وقال أحمد بن حنبل: لا يجوز الخروج على الأُمراء بالسيف وأنْ جاروا، وإلى ذلك ذهب مالك في موطئه، والشافعي في كتبه، وقد رووا عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (مَن ولّي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصيته، ولا ينزعنّ يداً عن طاعة) ، وأنّه قال: (أفضل الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين) .

أمّا الإمامية وبعض المعتزلة والخوارج، فإنّهم يرَون جهاده إذا خرَج

____________________

(1) انظر ص 353 من الكتاب المذكور.

(2) انظر المذاهب الإسلامية، ص 153 والمواقف ص 353.

٢١٤

على المبادئ الإسلامية واجباً، ولا يجوز السكوت عليه إذا أمكَن مقاومته ولو أدّى إلى إراقة الدماء، وعند الإمامية أنّ جهاد الظالمين من أفضل الطاعات وأكثرها ثواباً وأجراً، ومرويّاتهم عن الأئمّة تؤكّد وجوب جهادهم ومقاومتهم، وهذا المبدأ من الضرورات عند الشيعة كما وأنّ القرآن الكريم لم يجعل للظالمين سلطاناً على أحدٍ من الناس، قال تعالى: ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ) .

وفي الآية من سورة التوبة: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ) .

ومجمل القول أنّ الأشاعرة والمُحدّثين والفقهاء وفريقاً من المعتزلة مع أنّهم يشترطون عدالة الحاكم، يقولون بأنّ ولايتهِ ماضية حتى ولو كان فاسقاً ظالماً جائراً، فلا يجوز الخروج عليه ولو توفّرت القوّة الكافية لإراحة العباد منه، ولا فَرْقَ عندهم بين الخليفة المختار، وبين مَن استولى على الأُمور بالقوّة والغلَبة أمثال يزيد بن معاوية وغيره من الحكّام الجائرين، والخارجين في سيرتهم على المبادئ الإسلامية، ونصوص القرآن؛ لأنّ الخروج عليه يؤدّي إلى الفتنة وإراقة الدماء، ولأنّ الصبر عليه أولى من الدخول في فتنةٍ جديدة، ولو ترتّب على بقائه إراقة الدماء وانتهاك الحُرُمات.

الجنّة والنار

لقد اتفق الأشاعرة والمحدّثون وعبد السلام الجبائي، وبشر بن المعتمر وأبو الحسين البصري، على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان، واستدلّوا على ذلك بالآيات الكريمة التي تنصّ على وجودهما، ومن ذلك الآيات التي تنصّ على أنّ آدم وحوّاء قد سكنا الجنّة وأكلا من ثمارها، قال تعالى: ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ

٢١٥

الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) .

وذهب أكثر المعتزلة إلى أنّهما سيُخلقان يوم يَحشر الله الناس للجزاء، لعدَم الفائدة من خلقهما قبل ذلك اليوم، كما استدلّوا أيضاً بقوله تعالى:

( أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) ، والجمع بين هذه الآية وقوله تعالى: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) ، حيث إنّ مفاد الأوّل أنّ مأكولها دائم، والثانية تفيد أنّ لا شيء يسلم من الفناء، فلو قلنا بأنّهما مخلوقتان لزِم تناقض الآيتين، فلابدّ وأنْ نلتزم بعدم وجودهما فعلاً، وأنّهما سيوجدان في يوم الجزاء.

وأجاب الأشاعرة عن هذه الشبهة، إنّ دوام أُكلها لا يُراد منه دوام الشيء بعينه، ليحصل التعارض بين الآيتين المذكورتين؛ لأنّ الشيء الشخصي إذا أكلته النار لا يتّصف بالبقاء، وإنّما يُراد به الدوام النوعي، أي كلّما أكلت شيئاً يحل محلّه شيء آخر، وبهذا الاعتبار يستمر أُكلها، ويتحقّق المراد من الآية الثانية.

واستدلّوا أيضاً بقوله تعالى: ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ، وكون السموات والأرض عرضاً لها لا يتصوّر إلاّ بعد فناء العالم بأسره، وإلاّ لزِم تداخل الأجسام بعضها ببعض؛ لأنّ وجودَ جرمٍ في جرمٍ بمقداره، يقتضي كون الجُرمين واحداً أو وجود الخلاء بينهما.

والجواب أنّ الآية في مقام التشبيه، والمراد أنّ عرضها كعرض السموات والأرض، بدليل ورود هذا التشبيه في بعض الآيات الأخرى، وليس المراد أنّ السموات والأرض عرضاً لها بنحو تكون الجنّة خالية فيهما، ويلزم بناء على ذلك أنّ تكون المخلوقات الموجودة فيهما، يلزم أنْ تكون في الجنّة بناء على وجودها فيهما.

أمّا الإمامية فقد اجمعوا على خلقهما، قال العلاّمة في شرح التجريد: وقد دلّ السمع على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن وجميع المعارضات متأوّلة، والنصوص التي تصرّح بوجودهما تبلغ حدّ التواتر.

وجاء في أوائل المقالات، أنّ الإجماع قائم على أنّهما مخلوقتان، بالإضافة إلى الأخبار الكثيرة، وقد خالَف في ذلك الخوارج والمعتزلة وبعض الزيدية، واستطرد يقول: إنّ المتأخّرين من المعتزلة كأبي هاشم يدّعون أنّ خلقهما عبَث قبل المحشر، والله لا يعبث في فعله (1) .

____________________

(1) انظر شرح التجريد ص 270 وأوائل المقالات ص 103، والمواقف ص 301.

٢١٦

وقد دلّت النصوص من القرآن والحديث على وجودهما، فمِن النصوص القرآنية قوله تعالى: ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) ، وفي كثير من الآيات ورَد التعبير عنهما بصيغة الماضي التي تدلّ على وجودهما كقوله: ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ، وقوله في آيةٍ أُخرى: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تؤكّد وجودهما.

وجاء في رواية عبد السلام بن صالح الهِرَوِي، المعروف بأبي الصلْت، أنّ رسول الله قد دخل الجنّة ورأى النار حينما عرَج إلى السماء، قال أبو الصلْت: فقلت للإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام): أهُما اليوم مخلوقتان؟ قال: (نعم، وأنّ رسول الله قد دخل الجنّة ورأى النار). قال: فقلت له: إنّ قوماً يقولون إنّهما مقدّرتان وغير مخلوقتين. فقال (عليه السلام): (ما أُولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكَر خلق الجنّة والنار فقد كذّب النبيّ وكذّبنا، وليس مِن ولايتنا على شيء، ويُخلّد في نار جهنّم) (1) .

____________________

(1) انظر الاحتجاج للطبرسي ص 222.

٢١٧

الشفاعة

لقد ورَد ذكر الشفاعة في بعض آيات الكتاب الكريم، ووَرَدت جملة من الأحاديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) مؤكِّدة لِما جاء في القرآن، ولأجل ذلك فقد ذهب الإمامية إلى أنّ النبيّ والأئمّة يشفعون، يوم يقوم الناس للحساب، لبعض المؤمنين ممّن ارتكبوا بعض المخالفات، وقد دلّت النصوص على أنّ الله يقبل شفاعتهم، منها ما جاء عن الرسول أنّه قال: (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي)، وجاء عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (إنّ قوله تعالى: ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يدلّ على الشفاعة وذلك أنّ أهل النار لو لم يرَوا يوم القيامة

٢١٨

شافعين يشفعون لبعض من استحقّوا العقاب، فيشفعون ويخرجون بشفاعتهم من النار، أو يُعفَون منها بعد الاستحقاق لما عظمت حسراتهم، ولا صدر عنهم هذا المقال، ولكنّهم لمّا رأوا شافعاً يشفع فيُشفّع، وصديقاً حميماً يشفع لصديقه عظمت حسراتهم عند ذلك، فقالوا: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) (1).

وجاء في أوائل المقالات للشيخ المفيد: اتفقت الإمامية أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته، وأنّ أمير المؤمنين يشفَع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأنّ أئمّة آل محمّد (عليه السلام) يشفعون كذلك ويُنجّي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ووافقهم على ذلك المرجئة وجماعة من المحدّثين.

وجاء عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليّ فيُشفّع، وأنّ أدنى المؤمنين شفاعة يوم القيامة يشفع في أربعين من إخوانه)، وأجمعت المعتزلة على خلافهم، وزعَمت أنّ شفاعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للمطيعين دون العاصين، وأنّه لا يشفع في مستحقّ العقاب من الخلق أجمعين (2).

وقال في المواقف: إنّ المسلمين قد اتّفقوا على الشفاعة، ولكنّهم قد اختلفوا في المشفوع له، فالمحدّثون والأشاعرة والإمامية، ذهبوا إلى أنّها لأهل الكبائر من المسلمين، أمّا المعتزلة فقد ذهبوا إلى أنّها لزيادة ثواب المؤمنين المستحقّين للجنّة، واستدلّوا على أنّها ليست ماحية للذنوب عن العُصاة بقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) وبقوله: ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) وبقوله: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) ، إلى غيره ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ الإنسان لا ينفعه إلاّ عمله وإطاعته لله سبحانه.

وجاء عن أبي الحسن الخيّاط - أحد أعلام المعتزلة - أنّه كان يحتجّ على القائلين بالشفاعة بقوله تعالى: ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ

____________________

(1) انظر الفصول المختارة من كتاب العيون والمحاسن للمفيد ص 52.

(2) انظر أوائل المقالات ص 51 و 53.

٢١٩

مَنْ فِي النَّارِ ) ، قال: إّن الآية تنصّ على أنّ من استحقّ العذاب لا يُمكن للرسول أنْ ينقذه من جهنّم، وقال المفيد في جوابه: إنّ القائلين بالشفاعة لا يدّعون بأنّ الرسول هو المُنقذ للمستحقّين النار، وإنّما الذي يدّعونه أنّ الله سبحانه ينقذهم منها إكراماً لنبيّه والطيّبين من أهل بيته (عليهم السلام).

هذا بالإضافة إلى أنّ مَن حقّت عليهم كلمة العذاب هُم الكفّار، وليس في المسلمين مَن يدّعي أنّ الرسول وغيره يشفعون لهم (1)، وأمّا بقية الآيات التي استدلّ بها المعتزلة على إبطال الشفاعة، فقد أجاب القائلون بالشفاعة عنها، بأنّها مختصّة بالكفّار كما تدلّ على ذلك أكثر التفاسير، ولابدّ من حملها على ذلك، بعد ملاحظة النصوص الكثيرة التي تؤكّد أنّ النبيّ والأئمّة يشفعون للمذنبين من المؤمنين.

وقال في شرح التجريد: إنّ قوله تعالى: ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) لا يدلّ على نفي الشفاعة؛ لأنّ نفي المُطاع لا يستلزم نفي المُجاب؛ وذلك لأنّ المراد من الشفاعة غنّ النبيّ مثلاً يرجو الله في العفو عن بعض المذنبين فيُجاب إلى ذلك، ولا يكون بذلك مطاعاً، والآية لا تدلّ على أكثر مِن أنّ الظالم ليس له شفيعٌ مطاع، والقائلون بالشفاعة لا يدّعون ذلك (2).

هذا بالإضافة إلى أنّ قوله تعالى: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى ) ، يقرّ مبدأ الشفاعة لِمَن ارتضاه الله، وأهل الذنوب لا يخرجون عن الإيمان بذنوبهم، ولا سيّما إذا ندموا على فعلها، وقد جاء عن محمّد بن أبي عُمير أنّ الإمام موسى بن جعفر قال: (حدّثني أبي عن آبائه عن عليّ (عليه السلام) أنّه قال: سمِعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي)، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، ثمّ قال: مَن سرّته حسنة وساءته سيّئة فهو مؤمن، ومَن لم يندَم على ذنبٍ ارتكبه فليس بمؤمن ولم تجِب له الشفاعة) (3).

على أنّه لو كان المراد منها زيادة الثواب كما يدّعيه المعتزلة، لزِم أنْ يكون جميع المؤمنين شُفَعاء للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّهم يطلبون له من الله ذلك.

____________________

(1) انظر الفصول المختارة ص 50.

(2) انظر شرح التجريد ص 263، والمواقف ص 213.

(3) انظر توحيد الصدوق ص 419.

٢٢٠