من الإدراك والشوق، والقدرة على إيجاده في الخارج وغير ذلك ممّا لابدّ منه من المقدّمات التي يتوقّف عليها وجود الفعل، هذه المقدّمات من صنع الله سبحانه، والعبد قادر على إيجاد الفعل وتركه، إلاّ أنّ قدرته وجميع مباديه مخلوقة لله سبحانه فالفعل يستند إلى العبد كما يستند الإحراق إلى النار، مع أنّ النار لم تؤثّر الإحراق إلاّ بعد وجود بقيّة المقدّمات، وهذا هو المراد من الوسَط الذي عناه الإمام بقوله: (لا جبرَ ولا تفويض ولكن أمر بين بين).
أمّا الوعد والوعيد، فقد ذكرنا سابقاً أنّ الخلاف بين المعتزلة والإمامية في الوعيد، وأنّ المعتزلة قالوا بوجوب الوفاء به، وقال الإمامية بعدم وجوبه، وقال الإمام الرضا (عليه السلام) في ذلك: (لقد نزَل القرآن بخلاف قولِ المعتزلة في هذه المسألة، قال تعالى:
(
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ
)
)
.
وأمّا مرتكب الكبيرة فقد ذكرنا أنّ الإمامية يرَونه مؤمناً فاسقاً مستحقّاً للعقاب بمقدار جرمه، والمعتزلة يقولون بأنّه بين الإيمان والكفر، ويخلّد في نار جهنّم، هذا بالإضافة إلى بقيّة المسائل التي كانت محلاًّ لاختلاف آراء الفِرَق الإسلامية، كالصفات والحُسن والقُبح العقليّين، ووجوب اللطف والأصلح على الله وعصمة الأنبياء، والإمامة وخلق الجنّة والنار والإحباط والشفاعة وغير ذلك من المباحث الكلامية، هذه المسائل لا يجد الباحث مسألةً منها يتّفق عليها الفريقان اتفاقاً كلّياً.
وإذا أضفنا إلى ذلك بعض الآراء التي نسبها إليهم ابن الراوندي في كتابه
(فضائح المعتزلة)
، وغيره من كتّاب الفِرَق وأوردنا قِسماً منها في الفصول السابقة، يتبيّن للقارئ أنّ المسافة بين المعتزلة والإمامية أبعد منها بينهم وبين سائر الفِرَق، وربّما يلتقون مع الأشاعرة والمُرجئة أكثر ممّا يلتقون معهم.
والذي تؤكّده المصادر الشيعية أنّ الخصومة كانت بين علماء الإمامية وبين المعتزلة على أشدّها، وعلى الأخص في القرن الثالث والرابع الذي برَزت فيه معتقدات الإمامية، وانتشرت مؤلّفاتهم في مختلف المواضيع، ذلك العصر الذي تفرّغ فيه العلماء لتصفية الحديث من الموضوعات التي دسّها الحاقدون على أهل البيت بين أحاديثهم في الأصول والفروع، وكانت مجالس المفيد والمرتضى لا تخلو من مُناظرٍ، أو سائلٍ مستعلم فيما يتعلّق بمعتقدات الإمامية، وإذا رجعنا إلى مؤلّفاتهما نجد قسماً كبيراً منها في نقضِ آراء المعتزلة، فلقد ألّف الشيخ المفيد المتوفّى سنة 413 كتاباً في الردّ على الجاحظ المعتزلي، وكتاباً آخر في نقض فضائل المعتزلة، وله كتاب الفصول المختارة من العيون والمحاسن أكثر فيه من