الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة23%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56239 / تحميل: 9636
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بين المسلمين وغيرهم وبين المسلمين أنفسهم، وفي عصر المأمون أنشأ داراً للتأليف والترجمة والمناظرة سمّاها (دار الحكمة) (١) .

وعلى كلّ حال فلقد استفاد المسلمون وغيرهم من النظام الإسلامي الذي يسمَح لغير المسلمين بالإقامة معهم في بلدٍ واحد إذا خضعوا لنظام الحُكم الإسلامي، وكان السرْيان من أهمّ العوامل التي ساعدت المسلمين على التعرّف على الفلسفة اليونانية، بعد أنْ نقلها السرْيان إلى لُغتهم، وانتشرت بواسطتهم في سوريا والعراق، وأنشأوا فيهما مدارس لنشرها وتدريسها، ولمّا فتح المسلمون هذه البلاد كانت تلك المدارس قائمةً بها والفلسفة اليونانية منتشرة فيها، فوجد المسلمون ضرورةً ملحّة لتعلّمها، ولم يكن لديهم مِن سبيل إلاّ استخدام السريان لهذه الغاية، فعلّموها أبناء المسلمين بعد أنْ أفتاهم يعقوب الرهاوي بجواز ذلك.

ثمّ نقلوها من السريانية واليونانية إلى العربية، والذي أخذه المسلمون العرَب من السريان هو الفلسفة اليونانية التي امتزجت بشروح الكتّاب المتأخّرين من رجال الأفلاطونية الحديثة، وهذا النوع من الفلسفة كان مزيجاً من الفلسفة والدين، وأوّل مَن مزج الفلسفة اليونانية بالدين هو (فيلوت) اليهودي، الذي وجِد في أواخر القرن الأوّل قبل الميلاد، وقد رأى هو وجماعة من الفلاسفة اليونانيّين بعد أنْ اختلطوا بعلماء الدين اليهود، أنْ يوفّقوا بين معتقداتهم الفلسفية والقضايا الدينية، وكان من نتيجة ذلك أنْ خرَج بشرحٍ كبير عن الإله والعالَم وعلاقة الله سُبحانه بهذا العالم، وعن الملائكة والجنّ وغير ذلك، وقد شرَح هذه المواضيع شروحاً فلسفية وفّق فيها بين الدين والعلم (٢) .

وخلاصة البحث أنّ اختلاط المسلمين بغيرهم من أصحاب الديانات الذين لم يدخلوا في الدين الإسلامي، هذا الاختلاط قد نتج منه إثارة الشكوك حول العقائد الإسلامية وانتشار الإلحاد في البلاد الإسلامية، ممّا اضطرّ المسلمين إلى دراسة الفلسفة اليونانية بواسطة السريان من المسيحيّين المنتشرين في العراق وسوريا، تلك الفلسفة التي كانت مزيجاً من المعتقدات الفلسفية والقضايا الدينية التي تبحث عن الإله والعالم، وعلاقته بمخلوقاته وغير ذلك من المواضيع الدينية الأُخرى، فكان ذلك عاملاً قويّاً لانتشار

____________________

(١) انظر الفِرق الإسلامية لعلي الفارابي ص ١٣٦.

(٢) المصدر نفسه ص ١٣٨ و١٣٩.

٢١

الإلحاد والتشكيك في بعض المواضيع الإسلامية التي لم يَعرِف المسلمون خلافاً بها قبل هذا التاريخ، وفي وسط هذا الجوّ المزدحم بالآراء والأفكار الغريبة عن الإسلام والمسلمين، انتشر عِلم الكلام انتشاراً واسعاً بين العلماء لحماية العقيدة الإسلامية من غزو أعداء الإسلام، الذين حاولوا تشكيك المسلمين بأُصوله ومبادئه، ولكنّ المتكلّمين من المسلمين الذين أرادوا حماية العقيدة الإسلامية - على حدّ زعمهم وزعم الكتّاب المتأخّرين (١) - قد تأثّروا بغيرهم وشذّوا في تفكيرهم وآرائهم عن منهج القرآن والرسول؛ ونتَج عن ذلك تعدّد الفِرَق واختلاف الآراء اختلافاً باعَد بينهم إلى أبعد الحدود، وفرّقَهم شِيَعاً وأحزاباً لا يتعارفون.

وفي ذلك الجوّ العلمي المزدحم بالآراء والأفكار المتضاربة، وقف أئمّة الشيعة وتلامذتهم موقفهم الذي اعتادوا أنْ يقِفوه في وجه أعداء الدين، يُناظرون المُشكّكين ويَدحضون آراء الملاحدة والزنادقة، كما ناظروا الفِرَق الإسلاميّة الذين تخطّوا في آرائهم وتفكيرهم النهج الإسلامي الصحيح، والأُصول التي وضعها القرآن والرسول (صلّى الله عليه وآله)، وسنعرض في الفصول الآتية آراء الفِرَق الإسلامية في العقائد ومدى تأثّرها بالفكر الأجنبي والفلسفة اليونانية التي انتشرت بينهم في تلك الفترة من تاريخهم، ومع أنّ الإمامية قد نبغ منهم الكثيرون في عِلم الكلام، وكانوا في طليعة من أخذ من السريان الفلسفة الأفلاطونية الحديثة كما ذكرنا، وعاشوا في وسط ذلك المعترك العلمي، مع ذلك كلّه فلم يتخطّوا في آرائهم في الأُصول وبقيّة المعتقدات الإسلامية، منهج القرآن وتعاليم الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وسيجد القارئ في الفصول الآتية ما يؤكّد هذه الحقيقة..

____________________

(١) المصدر السابق ص ١٣٨ و١٣٩.

٢٢

الفَصل الأول: الفِرَق الإسلامية الأُولى

وأسباب حدوثها وتاريخ التشيّع ومعناه

ولا بدّ لنا بعد هذا التمهيد - وقبل الدخول في موضوع الكتاب - من عرضٍ لتاريخ بعض الفِرق الإسلامية، التي حدَثت في عهدٍ مبكّر من تاريخ الإسلام، ذلك العهد الذي انقسم المسلمون فيه إلى شيعة وغيرهم، ومِن هاتين الفرقتين تشعّبت الفِرَق الإسلامية التي أنهاها بعضهم إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، وقد روى المحدّثون عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) حديثاً يؤيّد هذا الإحصاء جاء فيه: (ستفترق أُمتي من بعدي إلى ثلاث وسبعين فرقة كما افترقت أُمّة موسى وعيسى (عليهما السلام) (١) وكما ذكرنا أنّ الانقسام الأُوّل

____________________

(١) إنّ الذين وضعوا هذا الحديث، وضعوه ليثبتوا أنّ تلك الفِرَق لم تخرج عن الإسلام على ما بينها مِن تباعد وتضارب في الآراء والمعتقدات، في حين أنّ أكثر تلك الفِرَق قد خرجت عن الإسلام في كثير من آرائها ومعتقداتها، كالقرامطة والإسماعيلية السبعية والغُلاة وغيرهم، كما يبدو ذلك ممّا سنعرضه من آراء تلك الفِرَق في الفصول الآتية من هذا الكتاب.

٢٣

بين المسلمين كان مصدراً للانقسامات التي تلَت في العصور المتأخّرة، وإلى هذين الفريقين ترجع سائر الفِرق والمذاهب الإسلامية السياسية وغيرها، وسنتحدّث عن بعض هذه الفرق تمهيداً لموضوع الكتاب، ولعلاقة بعضها بالتشيّع.

ويدّعي أكثر الكتاب من السنّة والمستشرقين: أنّ تاريخ التشيّع يرجع إلى عهد متأخّر عن وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهم بين قائلٍ برجوعه إلى العصر الأموي الأوّل، وأنّه كان نتيجةً للاضطهاد والتنكيل الذي لحِق أنصار عليّ وبَنيه (عليهم السلام) من الأمويّين، وبين قائلٍ برجوعه إلى العصر الذي بدأ المسلمون فيه يُحاسبون عثمان وأنصاره على تصرّفاتهم وسوء إدارتهم، وقد أسرف جماعة إسرافاً حاقداً على الشيعة فأرجعوه إلى عناصر أجنبية كانت تعمل في الخفاء لتحطيم الإسلام عن هذا الطريق.

وجاء في كتاب النظُم الإسلامية للمستشرق الفرنسي (غودفروا) : أنّ الحزبين الكبيرين الخوارج والشيعة تكوّنا بعد الانشقاق الذي حصَل بعد معركة صِفّين لأسبابٍ سياسية.

وقال جماعة منهم: أنّ عبد الله بن سبَأ لعِب دوراً بارزاً في تكوين فكرة التشيّع، وسنتعرّض لإبطال هذه المزاعم في المحلّ المناسب، ولقد ذكرنا أنّ انقسام المسلمين إلى فرقتين كان في الأيّام الأُولى بعد وفاة الرسول فرقة تمسّكت بحقِّ عليّ في الخلافة، وأُخرى أسرعت إلى اختيار خلف للرسول يتولّى إدارة شؤون المسلمين، وتمّ الاختيار لأبي بكر خليفة للرسول (صلى الله عليه وآله) من بعده، والواقع أنْ التشيع بما هو فِرقة في مقابل جماعة المسلمين لم يكن قبل وفاة الرسول، ولكن المبدأ الذي يرتكز عليه التشيع، وهو نصّ النبيّ على استخلاف عليّ (عليه السلام) من بعده، كان بعد ولادة الإسلام وقبل أنْ يهاجر الرسول من مكّة إلى المدينة بأكثر من ثمانية أعوام تقريباً، وذلك حينما أُوحي إليه: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) .

وجاء في جملة مِن الروايات أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جمَع عشيرته والأقربين مِن آله بعد أنْ هيّأ لهم طعاماً، ثمّ دعاهم لمؤازرته والإيمان بدعوته المباركة، وكانوا نحواً من ثلاثين رجلاً، وكان في جملة ما قاله لهم: (أيّكم يؤازرني على هذا الأمر وهو وارثي ووصيّي، يقضي دَيني ويُنجز عِداتي، وخليفتي فيكم من بعدي)، فكرّرها فيهم ثلاثاً أو أربعاً فلم يتقدّم منهم احد غير عليّ (عليه السلام)، كما أورَد ذلك أحمد بن حنبل في مسنده، والثعالبي في تفسيره، وأضاف الثعالبي أنّ النبيّ كرّرها ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة يسكت القوم إلاّ عليّاً (عليه السلام)، ولمّا يئس النبيّ من جوابهم قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعليّ: (أنت أخي ووصيّي ووارثي وخليفتي من

٢٤

بعدي) (١) فكان هذا الموقف البذرة الأُولى للتشيّع، وما زال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) طوال حياته يتعاهد تلك البذرة، ويُغذّيها بأقواله وأفعاله حتى نمَت وتركّزت في نفوس جماعة من المسلمين عُرفوا بالتشيّع لعليّ وموالاته حتى في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وفي السنة الأخيرة من حياته بعد رجوعه من مكّة المكرّمة، وقبل أنْ يتفرّق عنه المسلمون في محلٍّ يُدعى بالغدير لم يجد الرسول بُدّاً من التنصيص عليه بوصفه واسمه، بعد أنْ نزلت عليه الآية الكريمة: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .

فاستوقف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) تلك الحشود، التي تمثّل مختلف البلاد والطبَقات وتقدر بمِئة ألف أو تزيد وصنع له أصحابه منبراً، ثمّ استدعى عليّاً (عليه السلام) إليه وقبض على ذراعه ونصّ عليه بتلك الصيغة المروية في كتب الحديث بمختلف الأسانيد، وفي جملةٍ منها أنّه بعد أنْ اعترفوا له بأنّه أَولى بالمؤمنين من أنفسهم، قال: (مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه)، فجعل له الولاية التي جعلها له الله والتي اعترف له بها المسلمون، هذا بالإضافة إلى الروايات الكثيرة التي رواها الثقات من السنّة والشيعة، وكلّها تؤكّد المعنى الذي فهمه الشيعة من حديث الغدير المتواتر، على أنّ الحديث المذكور لو تنزّلنا وقلنا: بأنّه لم يشتمل على ذكر الاستخلاف، إلاّ أنّ الملابسات التي أحاطت به والاستدراج الذي اشتمل عليه، واهتمام الرسول بعليّ وحده دون أهل بيته، كلّ ذلك ممّا يؤكّد المعنى الذي فهمه الشيعة من نصوص الحديث.

وفي بعض النصوص التاريخية أنّ المسلمين، بعد أنْ استمعوا لهذا البيان، لم يرتابوا في أنّه قد نصَّ على استخلافه بتلك الصيغة التي تؤدّي معنى أوسع ممّا تؤدّيه الكلمات المتعارفة في مثل المقام؛ ونتيجة لتلك النصوص التي تكرّرت منه (صلّى الله عليه وآله) في جملة من المناسبات، وذلك البيان العام الذي ألقاه في الغدير وتلك الحظوة التي كانت له عند الرسول، نتيجة لذلك كلّه، كان الرأي العام الإسلامي بعد وفاة الرسول متّجهاً نحو عليّ (عليه السلام) ولم يكن التسابق الذي حصل بين المهاجرين والأنصار

____________________

(١) انظر كشف الحق ونهج الصدق للعلاّمة الحلّي ص ١٠١، وتاريخ الطبري وتاريخ أبي الفداء وكتابنا سيرة المصطفى وتاريخ اليعقوبي وأنساب الأشراف وغيرها من مجاميع الحديث والتاريخ.

٢٥

عليها بمجّرد أنْ أعلن نبأ وفاته، إلاّ لسدّ الباب في وجه الأكثرية التي لا تعدِل بعليّ (عليه السلام) أحداً من الناس؛ ولذا أُصيب الجمهور بما يشبه الدهشة لهذا التسابق والتزاحم بين الأنصار من جهة، وبين بعض المهاجرين من جهة أُخرى، والنبيّ لا يزال بين أهله مسجّى على فراش الموت، وعليّ وبنو هاشم وجماعة من إجلاّء الصحابة منصرفون عن دنيا الناس إلى تجهيزه لمقرّه الأخير، وقد تمّت البيعة لأبي بكر بتلك السرعة الخاطفة بدون تمهيد علَني مُسبَق كما يدّعي جماعة من المؤرّخين، ولكنّ الذي انتهت إليه بعد الدراسة أنّها كانت نتيجةً لمؤامرةٍ سابقة على وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) (١)، وبدون مشورةٍ لأحدٍ من كبار الصحابة الذين لا يجوز تجاهلهم في أبسط الأُمور، فضلاً عن مثل هذا الأمر الذي يجب أنْ تتوفّر في الشخص المختار له أفضل الصفات وأكمل المواهب؛ لأنّه يمثّل الرسول ويحمي القرآن وينفّذ الأحكام كما أنزلها الله في كتابه وعلى نبيّه، ويرعى مصالح الأُمّة بكلّ إخلاصٍ وتجرّد.

بهذا الأُسلوب المرتجل الذي لم يكن نتيجةً لتمحيص الآراء، ولا لاستفتاء شعبي اشتركت فيه جميع الفئات والطبقات تمّت بيعة أبي بكر بعد وفاة الرسول، ولو فرض أنّ الرسول ترك اختيار الخليفة من بعده إلى المسلمين كما يدعون، لقد كان من اللازم التريّث بينما ينتهون من مواراة الرسول في قبره واختيار رأي الأكثرية من المسلمين، ولكنّهم أرادوا استغلال موقف عليّ وبني هاشم المفجوعين؛ مخافة أنْ تفوت من أيديهم عندما ينتهي عليّ (عليه السلام) ومَن معه من بني هاشم وثقات الصحابة، الذين ألْهَتهم تلك الفاجعة عن كلّ شيء.

ونظراً لأنّها لم تقم على أُسس ديمقراطية صحيحة، ولم تكن مستوحاة من المصلحة العُليا التي لابدّ من مراعاتها في الحاكم الجديد؛ نظراً لذلك قال عمر بن الخطّاب عنها بعد أنْ انتهت إليه الخلافة: (كانت بيعة أبي بكر فلْتة وقى الله المسلمين شرّها)، ومع أنّها كانت بهذا الشكل المفاجئ فقد رافقتها موجة من الإرهاب والتضليل، كان لهما أثرهما البالغ على الجماهير، فبينا عمر بن الخطّاب يقف في جموع المحتشدين ينادي إنّ محمّداً لم يمُت، وسيرجع كما رجَع موسى إلى قومه بعد أنْ غاب عنهم أربعين يوماً، وسيقطع أيدي قوم وأرجلهم نراه بعد ساعة هو وجماعة يسوقون الناس بالقوّة إلى سقيفة بني ساعدة لإتمام البيعة لأبي بكر،

____________________

(١) انظر كتابنا سيرة المصطفى ج ٢.

٢٦

وفي ذلك يقول الأُستاذ عليّ عبد الرزّاق، في كتابه الخلافة وأُصول الحكم: (وإذا رأيت كيف تمّت البيعة لأبي بكر تبيّن لك أنّها كانت بيعة سياسية ملكيّة، عليها كلّ طوابع الدولة الجديدة المُحدثة، وأنّها قامت كما تقوم الحكومات الجديدة على أساس القوّة والسيف) (١) ، ومهما كان الحال فقد تسارع إلى بيعة أبي بكر جماعة، وتخلّف عنها عدد كبير من المسلمين بينهم بنو هاشم وجماعة من أعيان الصحابة، منهم سلمان الفارسي وعمّار بن ياسر، والزبير بن العوّام، وخزيمة بن ثابت وحذيفة بن اليمان وغيرهم، فقد آثروا التريّث بينما ينجلي موقف عليّ (عليه السلام) صاحب الحقّ الشرعي من هذه المفاجأة التي لم تكن بالحُسبان، وحينما انتهى من تجهيز النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مقرّة الأخير لم يستسلم لسطوة الحاكم الجديد، ولم ترهبه الجماهير المحتشدة به، فوقَف يناضل ويدافع عن حقّه السليب، بالرغم ممّا تركته الأحزان في نفسه من الآثار العميقة التي تحمّل مرارتها هو وزوجته السيّدة فاطمة (عليها السلام).

ووقف إلى جانبه جماعة من أعيان الصحابة، ولكنّه بعد أنْ رأى أنّ المضي في موقفه السلبي قد يؤدّي إلى نتائج يجني ثمارها أعداء الإسلام، ولا سيّما والردّة بعد وفاة الرسول وبعد المفاجأة التي أدّت إلى تعيين أبي بكر خليفة للرسول (صلّى الله عليه وآله) قد اتسعت بين عرب البادية، واجتاحت تباشيرها المدن والقرى، وأوشكت أنْ تستعصي بضراوتها على المسلمين، ووجَد جماعة من الأعراب ومِن سكان المدن الذين خضعوا لسلطان الإسلام خوفاً من سطواته، منفَساً لهم باتّساع حركة الردّة بين بعض القبائل العربية من سكان البادية.

بعد أنْ وجد جميع ذلك ورأى أنّ موقفه السلبي من بيعة أبي بكر ربّما يؤدّي إلى نزاع مسلّح يستغلّه المرتدّون والمنافقون، الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر والنفاق، بعد أنْ وضع في حسابه جميع هذه التطوّرات التي قد تحدث، آثر عند ذلك أنْ يكون مع جماعة المسلمين يداً واحدة حرصاً على المصلحة العليا، مصلحة الإسلام، ومضى هو وأتباعه إلى مقرّ الحكومة الجديد، مسجد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأعلن للمسلمين بأنّه منذ نشأته وهو جندي مخلص في خدمة الإسلام، ولا يزال مخلصاً وفيّاً مضحّياً في سبيل الإسلام ومبادئه؛ وبذلك يكون قد ضرَب المثل الأعلى في التضحية والوفاء للمبدأ، الذي ناضل من أجله أكثر من عشرين عاماً، ومع أنّ المصلحة العُليا قد فرضت عليه مسايرة الأوضاع الحاضرة والتغاضي عن حقّه

____________________

(١) انظر معالم الفلسفة للشيخ محمّد جواد مغنية ص ٢٠٠.

٢٧

السليب، فقد بقيَ طوال حياته هو والصحابة المؤمنون بحقّه يثيرون في الأذهان نصوص الرسول على الخلافة من بعده، وتناقلها المحدّثون جيلاً بعد جيل، وأثبتها السنّة والشيعة في كتبهم منذ عصر التدوين الأوّل، ولا يزال علماء الشيعة والمحدّثون منهم يجادلون عن عقيدتهم في الإمامة بتلك المرويّات المتواترة، وجاء في غاية المرام للسيّد هاشم البحراني: (إنّ حديث الغدير قد رواه أهل السنّة بمِئة وثمانين طريقاً)، وهكذا غيره من النصوص التي تمسّك بها الشيعة على إمامة عليّ واستخلافه، وألّف الشيعة مئات الكتب في الإمامة استعرضوا فيها النصوص من الكتاب والسنّة وأوضحوها على واقعها، وأبطلوا جميع الافتراءات التي وضعها الوضّاعون حول الإمامة ونصوصها، وألّف أحد أعلام الشيعة المعاصرين كتاباً أسماه الغدير خرَج منه إلى هذا التاريخ اثنا عشَر مجلّداً ضخماً حول الإمامة ونصوصها، ولا يزال المؤلّف يُتابع الكتابة في هذا الموضوع (١) .

ومهما كان الحال فالتشيّع بمعناه المعروف عند الفقهاء والمتكلّمين والمحدّثين، والذي تتميز به هذه الفِرقة عن فِرق المسلمين، وُلد في حياة الرسول نتيجة لتلك النصوص التي أوردها المحدّثون في كتبهم، وثبت عليه جماعة في الفترة الأولى من تاريخ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

ولولا مراعاة عليّ (عليه السلام) للأوضاع والظروف التي أحاطت الإسلام في تلك الفترة من تاريخه؛ لحدثت تطوّرات في تاريخ الإسلام لا نستطيع أنْ نقدّر مدى أثرها السيّئ على جهود الرسول والوصيّ والمخلصين من الصحابة الكرام، ولكنّه أدرك جميع ذلك، وأحصى ما سيجرّه تصلّبه في موقفه من الغنائم على المرتدّين والمنافقين الذين اضمروا للإسلام الخراب والدمار، ومع أنّ الأحداث الطارئة فرضت عليه أنْ يتساهل ويتسامح، ولكن فكرة استخلافه لم تنته عند هذا الحد، وما كان هذا التسامح ليحدّ من نشاطها، بل أخذت طريقها في النفوس والقلوب، وتضاعف عدد المتشيّعين له على مرور الأيّام، ورجع الكثير من المسلمين إلى الماضي القريب واحتشدت في أذهانهم صور عن مواقف النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، تلك المواقف التي كان يصرّح فيها باستخلاف عليّ من بعده تارة، ويلمح فيها أخرى فالتفّوا حول عليّ (عليه السلام) وأصبحوا من الدعاة الأوفياء له في جميع المراحل التي مرّ بها، وما زال التشيع ينمو وينتشر

____________________

(١) هو الشيخ عبد الحسين الأميني.

٢٨

بين المسلمين في الأقطار المختلفة يدخلها مع الإسلام جنباً إلى جنب، واستحكم أمره في السنين التي استولى فيها على الحكم، فشاعت بين المسلمين أحاديث استخلافه، ووجد الناس من سيرته وزهده وحكمته ما أكد لهم صحّة تلك المرويّات، وأنّه هو المختار لقيادة الأُمّة وحماية القرآن ونشر تعاليمه ومبادئه.

والذي أردناه من هذا العرض الموجز لتاريخ التشيّع، أنّ التشيّع في الإسلام كان جزءاً من الدعوة التي دعا إليها القرآن وبلّغه الرسول إلى الأُمّة في جملة ما بلّغه من تشريعات وأنظمة، وهو بمفهومه الشائع بين المسلمين في هذا العصر وقبله كانت بذرته الأُولى في عصر الرسول وبعد وفاته، والذين تابعوه منذ اللحظة الأُولى عند صدور البلاغ الأول من الرسول (صلّى الله عليه وآله) كانوا يؤمنون بأنّه منصوص عليه من الله وحده، ولم يكن الرسول إلاّ مبلّغاً عن ربّه هذا الأمر كغيره من التكاليف والتشريعات.

أمّا ما ذهب إليه أكثر الكتّاب العرب والمستشرقين من أنّ التشيّع حدَث بعد مقتل عثمان، كما يذهب إلى ذلك الشيخ محمّد أبو زهرة (١) أو بعد واقعة صِفّين كما يدّعي آخرون (٢)، كما ذهبت فئة منهم إلى أنّه حدَث بعد انتشار الموالي الذين دخلوا الإسلام من الفُرس وغيرهم، وفئة أُخرى تدّعي أنّ القول بالوصاية أوّل مَن أحدثه عبد الله بن سبأ اليهودي (٣) إلى غير ذلك من الآراء الشاذّة التي تردّدت على السنّة الكتاب العرب والأجانب، كلّها لا تمتّ إلى الواقع بأيّ صلة وتنفيها النصوص الإسلامية، وكتب التاريخ، ولابدّ لنا من وقفة مع الأُستاذ (البير نصر) أُستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة اللبنانية، قال في كتابه أهمّ الفِرَق الإسلامية حول عقيدة الشيعة في الخلافة: (إنّ هذه الفكرة التي تجعل من الإمامة حقّاً إلهيّاً ليست من خصائص التفكير البدوي، حتى ولا من خصائص عرب

____________________

(١) انظر المذاهب الإسلامية ص ٤٨ وقد جاء فيها: لقد انتهى عصر الخليفة الثالث بوجود الشيعة والخوارج، وفي الصفحة نفسها بعد أنْ استعرض الإحداث التي أطاحت بعرش عثمان، قال: (وفي ظِل هذه الفتن نبت المذهب الشيعي).

(٢) ومن هؤلاء غودفروا المستشرق الفرنسي.

(٣) ومن هؤلاء أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام ص ٢٦٩، ومنهم الدكتور البير نصر نادر أُستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة اللبنانية.

٢٩

الجزيرة، حيث تسود بينهم روح المساواة. إنّ هذه الفكرة دخلت عليهم من جهة الفُرس الذين كانوا ينظرون إلى ملوكهم بعين الاحترام الزائد، ويعتبرونهم أسمى من باقي البشر؛ وهذا ما يعلّل لنا لماذا تستعمل اللغة الفارسية في الأوساط الشيعية في العراق، لا سيّما الأوساط العلمية مثل النجف وكربلاء والكاظمية).

لقد تابع الدكتور غيره من المستشرقين في هذه النظرية، ولم يعتمد على النصوص الإسلامية ولا على الوقائع التي رافقت تاريخ المسلمين قبل الفتح العربي لبلاد الفُرس، ولو رجع إلى ذلك لوجد أنّ فكرة الوصاية قد رافقت تاريخ الإسلام، وقد آمن بها جماعة من المسلمين من نصوص الرسول التي كان يتلوها على المسلمين بين حين وآخر، ولأجل تلك النصوص وقَف جماعة من المسلمين إلى جانبه بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وذلك قبل اتّصال الفُرس بالعرب بعشرين عاماً تقريباً، وقبل إسلام ابن سبأ الذي يَنسب الكتاب إليه أنّه لعب دوراً هامّاً في هذه الناحية، وكان من أعظم العناصر الأجنبية عناء في ذلك.

ومِن المؤسف أنْ يكتب الدكتور أُستاذ الفلسفة عن الشيعة ما يُبرّئهم منه الواقع والتاريخ وتُدرّس آراؤه وكتبه في الجامعات اللبنانية، مع أنّه يعيش معهم في بلدٍ واحد، ذلك البلد الذي يعيش فيه الشيعة مع غيرهم من الطوائف الأخرى، ويشكلّون أكثر من ثلُث سكّانه، ومن السهل عليه أنْ يتّصل بعلماء الشيعة وكتبهم المنتشرة في أكثر المكاتب وعلى الأخص فيما يرجع لهذه المواضيع، ولو فعل ذلك لسلِم من هذه الأخطاء، ولكنّه شاء أنْ يكون مقلّداً لغيره فأرسل أحكامه بدون تمحيص وتحقيق، وجعل من آثار هذه الحقيقة على حدّ زعمه انتشار اللغة الفارسية في بلاد الشيعة من العراق، ولا سيّما الأوساط العلمية كالنجف وكربلاء والكاظمية، وظنّ أنّه قد اهتدى إلى حقيقة ضاعَت على غيره من الباحثين، مع أنّه لا يزال بعيداً عن الواقع في تعليل هذه الظاهرة التي يدّعيها في الأوساط الشيعية؛ لأنّ بلاد العراق أكثر سكّانها من العرَب، والعربية هي اللغة الشائعة في أكثر المدن والقرى وفي جميع الأوساط العلمية وغيرها، وأكثر المواطنين لا يحسنون غيرها، أمّا المدن الثلاث النجف وكربلاء والكاظمية، هذه المدن يهاجر إليها الشيعة من مختلف البلاد للدراسة والزيارة على اختلاف أصنافهم، وهؤلاء في شؤونهم الخاصّة يتكلّمون بلغاتهم المختلفة، أمّا لغة الدرس وكتب الدراسة وغير ذلك من الشؤون العامّة فهي اللغة

٣٠

العربية، ولا أثَر لغيرها في جميع الشؤون، ولكنّ الدكتور بعد أنْ عزا فكرة التشيّع إلى الفُرس وتخطّى التاريخ الإسلامي الصحيح الذي ينصّ على أنّ التشيّع نشأ في بلاد العرب، ومِن العرب أنفسهم، قبل أنْ يعرف العرب الفُرس بأكثر من عشرين عاماً، بعد هذه النسبة جعل من آثارها انتشار اللغة الفارسية بين شيعة العراق وعلى الأخص الأوساط العلمية، فأضاف إلى خطئه الأوّل خطيئة أُخرى لا مبرّر لها، وقد اشتمل كتابه (نصوص ودروس في أهم الفِرق الإسلامية) على بعض الآراء السطحية والأخطاء التاريخية، وربّما نتعرّض لبيانها حسب المناسبات في الفصول الآتية.

ومهما كان الحال لقد كانت مشكلة الخلافة الإسلامية أُولى المشاكل التي اصطدم بها الركْب الإسلامي، وعلى حسابها انقسم المسلمون إلى فئتين: فئةٌ وقفت إلى جانب عليّ (عليه السلام) معتمدة على النصوص التي وردت في القرآن والسنّة، والفئة الثانية رأت أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فارق الدنيا وترَك للمسلمين حقّ اختيار الحاكم الذي يرونه صالحاً لهم، وقد وقَفت هذه الفئة من النصوص موقفاً سلبيّاً في واقع الأمر، فأنكروا بعضها وتأوّلوا البعض الآخر حيث لم يتمكّنوا من إنكاره.

واختار المسلمون أبا بكر، وهو بدوره قد اختار لها عمر بن الخطّاب من بعده، وانتهت بعده لعثمان بن عفّان بعد أنْ رفَض عليّ العروض التي عرَضها عليه أحد الستّة (عبد الرحمان بن عوف)، وآثر العمل باجتهاده فيما لا نصّ عليه من كتابٍ أو سنّة، على انتهاج سيرة الشيخين أبي بكر وعمر والتقيّد بآرائهما.

لقد انتهت لعثمان بعد أنْ تقبّل العروض بلهْفة ورحابة صدر، مؤثراً سيرة الشيخين وكلّ ما يفرض عليه على رأيه واجتهاده في سبيل الوصول إلى الخلافة مهما كلّفه ذلك من ثمن، هاتان الفئتان هما مصدر الفِرق الإسلامية والنزاع القائم بين المسلمين طيلة هذه القرون المتوالية، وقد اتخذ بعد الفترة الأُولى من تاريخه طابعاً سياسياً أدّى إلى النزاع المسلّح أُريقت فيه دماء المسلمين، وتطوّر البحث بينهم في الخلافة وظهرت فيه أطوار من الجدَل مبنية على التسلسل المنطقي وعلم الكلام، الذي يمتّ بأوثَق الأسباب إلى الفلسفة وقواعدها، ومع أنّ الخلافات التي ظهرت في الإمامة لم تبقَ على بساطتها الأُولى، وتطوّرت بشكلٍ علمي لم تخرج بجوهرها عن النزاع الذي نشأ فيها منذ اليوم الأوّل لوفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وتعود في النهاية إلى أنّ الخلافة، هل يجب أنْ تكون بنصٍّ من الله يقوم الرسول

٣١

بتنفيذه؟ أم تكون باختيار الأُمّة؟ وهل يستمد الخليفة سلطته من الله سبحانه، أم يستمدّها من المؤمنين؟ إلى غير ذلك من النواحي التي برزت في أبحاثهم ومناظراتهم.

الفصلُ الثّاني: الخوارج

يعرض هذا الفصل الأسباب التي أدّت إلى حركة الخوارج والفِرَق التي تشعبت عنهم والأُمم، ومعتقداتهم والآثار التي أحدثتها ثورتهم على الحكّام الأمويّين والعبّاسيّين.

لقد ذكرنا في الفصل السابق أنّ انقسام المسلمين قد ظهر منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في الخلافة الإسلامية، وأنّ الحزب المعارض لعليّ ومن معه من بني هاشم والمسلمين قد بايعوا أبا بكر خليفة لرسول الله، وبعد جدالٍ دام بضعة أشهر رأى عليّ (عليه السلام)، أنّ مصلحة الإسلام تقضي عليه بأنْ يكون مع المسلمين يداً واحدة؛ لدفع الأخطار التي أحدقت بالإسلام، فبايع هو ومَن معه مع الاحتفاظ بحقّه الشرعي، واستمرّ أمر المسلمين على هاتين الفرقتين لم يحدث بينهما نزاع مسلّح إلاّ في عهد عثمان (الخليفة الثالث) أدّى إلى

٣٢

الإطاحة بعرشه؛ لأنّه حابى أقاربه وبني أبيه وولّى على المسلمين سُفهاء قومه، مّما أوجب نقمة المسلمين عليه في المدينة وخارجها، واشتركت السيّدة عائشة وطلحة والزبير مع الوفود التي زحَفت إلى المدينة من مختلف البلاد الإسلامية لتشكو إليه ما تقاسيه الأُمّة من جور ولاته واستخفافهم بالمقدّسات الإسلامية وشعائر الدين، وخروجهم عن المخطّط الإسلامي الذي ألفوه واعتادوا عليه، من سيرة الرسول والخليفتين من بعده، ولم يكن لعليّ (عليه السلام) صلة بهذا النزاع ولا حاول أنْ يجني من ورائه أيّ مكسب، وتؤكّد النصوص التاريخية أنّه قد حاول التوفيق بين الثائرين وبين الخليفة أكثر من مرّة، ولكنّ حاشية الخليفة كانت تحول بينه وبين ذلك، بالإضافة إلى تحريض السيّدة عائشة وطلحة والزبير الثوّارَ على المضيِّ في الثورة إلى النهاية.

ولمّا انتهت الثورة بقتل عثمان واختيار عليّ (عليه السلام) من بعده أُصيبت السيّدة عائشة بصدمةٍ عاتية؛ لأنّها كانت تقدّر أنّ قريبها طلحة سيتولّى أُمور المسلمين بعد الخليفة الراحل، بالإضافة إلى ما كانت تكنّه لعليّ (عليه السلام) في نفسها مِن عداءٍ قديم، يرجع إلى عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) فعملت مع رفيقَيها طلحة والزبير والأمويّين الذين كانوا السبَب المباشر لكلّ ما حدَث على الثورة في وجه الحكومة الجديدة، وباشرت قيادة أنصارها إلى المعركة بنفسها، واستطاع معاوية أنْ يغري أهل الشام ويقودهم إلى النزاع المسلّح مع عليّ (عليه السلام)، بعد أنْ علِم أنّ عليّاً لا يقرّه بحال من الأحوال على عمله، ولا يمكن أنْ يستعين به في حكومته فأعلن عصيانه للخليفة الشرعي وخرَج عليه بمَن معه من أهل الشام، فكانت معركة صِفّين التي كادت أنْ تنتهي بالقضاء على معاوية وأتباعه لولا مكيدة ابن العاص التي سهّلت له الخروج من تلك الأزمة ويسّرت له أنْ يصبح ملكاً على المسلمين يتحكّم فيهم بما توحيه له شهَواته.

وانتهت المعركة باختيار حكَمَين أحدهما يُمثّل أهل الشام والآخر يمثّل الجهة الثانية التي يقودها عليّ (عليه السلام)، ونتَجَ من هذا التحكيم الذي فرضه أهل العراق على عليّ فشَل المؤتمرين، وخروج جماعة من جيشه عن طاعته ناقمين على التحكيم الذي فرضوه عليه بالأمس القريب، ووصفوه بالكفر؛ لأنّه حكّم الرجال في دين الله على حدِّ زعمهم، وقد ظهرت بوادر هذه الفرقة في صفّين بعد الاتّفاق على التحكيم، فقد خرَج من صفوف أصحاب عليّ (عليه السلام) رجلٌ يدعى يزيد بن عاصم المحاربي، فحمل على أصحاب عليّ وقتل رجلاً، كما حمَل على أصحاب معاوية وقتل منهم أيضاً وتبرّأ من الفريقين واستقرّت فكرة

٣٣

الخروج في أذهان جماعة من أهل الكوفة، ولم يتمكّنوا من تنفيذها إلاّ بعد رجوعهم من صفّين، وبعد الفشل الذي انتهى إليه المؤتمرون، وبلغ عدد الذين انفصلوا عن جيش عليّ (عليه السلام) اثني عشر ألف جندي ممّن كانوا معه في صفّين، والتجأوا إلى قرية في قرب الكوفة تسمّى حروراء فغلَب عليهم اسم (الحرورية) ، وتولّى قيادتهم عبد الله بن الكوّاء وشبث بن ربعي، وبعد أنْ جرت بينهم وبين عليّ مناظرات كثيرة حول التحكيم، وموقف الحكَمين رجَع ابن الكوّاء عن فكرته والتحق بالكوفة مع ألف رجل منهم، واستمرّ الباقون على فكرتهم الأُولى، وقد تداولوا الرأي حول المكان الذي يتّخذونه مقرّاً لهم فاقترح بعضهم المدائن، وآخرون اختاروا البصرة مقرّاً لثورتهم، وأخيراً اتفقوا على النهروان.

ويرى الدينوري أنّهم كانوا أربعة آلاف فارس بقيادة عبد الله بن وهَب الراسبي (١) بينما يرى الاسفرائيني أنّهم كانوا ضعفَي هذا العدد (٢)، وفي طريقهم إلى النهروان التقوا بالصحابي الجليل عبد الله بن خباب بن الأرت ومعه زوجته، فقالوا له: حدّثنا حديثاً سمعته من رسول الله، فقال: حدّثني أبي أنّ رسول الله قال: (ستكون بعدي فتنة، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والواقف فيها خيرٌ من السائر، والماشي خيرٌ مِن العادي، ومَن أمكنه أنْ يكون مقتولاً فيها خيرٌ له من أنْ يكون قاتلاً) .

ثمّ قالوا له: ما تقول في أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما خيراً كما أثنى على عثمان في السنين الستّة من خلافته، ولمّا سألوه عن التحكيم أجاب: أنّ عليّاً أعلم بكتاب الله منكم وأشدّ توقّياً على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا له: إنّك تتبع الرجال على أسمائهم وجرّوه على شاطئ النهر، فاستجار بكتاب الله وكان معلّقاً برقبته، فقالوا: إنّ الذي تستجير به يأمرنا بقتلك فذبحوه، ثمّ جاؤوا إلى زوجته فبقروا بطنها واستخرجوا منها حملها، وبعد قتله ساوموا نصرانياً على نخلةٍ ليأكلوا ثمرَها فبذلها لهم بدون ثمَن، فرفضوا أنْ يأخذوها إلاّ بثمنها، فقال لهم: ما أعجب ما أرى منكم! تقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منّا نخلة إلاّ بثمنها (٣)؟ !

ولمّا بلغ عليّاً عدوانهم على الآمنين وفسادهم في الأرض توجّه إليهم في

____________________

(١) انظر الأخبار الطوال للدينوري ص ٢٢٣.

(٢) انظر التبصير في الدين ص ٢٨.

(٣) الكامل للمبرد ج ٢ ص ١٤٣.

٣٤

أربعة آلاف محارب من جيشه، وقبل أنْ يقاتلهم سألَهم عن أسباب خروجهم فأجابوه: لقد قاتلنا معك في البصرة طلحة والزبير وعائشة، فأبحت لنا أموالهم ولم تبِح نساءهم وذراريهم، فقال: (لقد أبحتُ لكم من أموالهم ما كان في المعركة من سلاحٍ ودواب، عِوَضاً عمّا أخذوه من بيت مال المسلمين في البصرة، أمّا نساؤهم وذراريهم فلا ذنبَ لهم لأعاقبهم عليه، ولم يخرجوا مِن حكم المسلمين في ثورتهم لكي نعاملهم معاملة الكفّار والمشركين، ولو أبحت لكم النساء فمَن منكم يأخذ عائشة في سهمه؟)، وأخيراً وبعد أنّ سدّ عليهم جميع الأبواب التي كانوا يرونها مبرّرة لثورتهم قالوا: لم محوت الإمارة عن نفسك في كتاب الصلح بينك وبين معاوية؟ فقال (عليه السلام): (لقد اقتديت برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث محا الرسالة عن نفسه حين كتَب كتاب الصلح بينه وبين سهيل بن عمرو، وقد أنكر عليه سهيل يومذاك أنْ يضيف لنفسه صفة الرسالة، وقال له: لو كنّا نعلم أنّك رسول الله لما خالفناك، فقال لي رسول الله: امحها فمحوتها وكتبت: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، وقد قال لي يوم: إنّك ستبتلى بمثلها).

فرجع منهم إلى طاعته جماعة، وبقيَ منهم أربعة آلاف رجل، وقبل أنْ يقاتلهم استنطقهم عن جريمتهم مع العبد الصالح عبد الله بن خباب وزوجته فأجابوه بلسان واحد: كلّنا قتلناه ولو ظفرنا بك لقتلناك أيضاً، فتوجّه إلى أصحابه وأخبرهم عن مصير هذه الفئة الباغية وعن عدد القتلى منهم، ثمّ حمل عليهم هو ومَن معه فلَم يَسلَم منهم سوى تسعة لاذوا بالفرار من المعركة، وتفرّقوا في البلدان، فذهب منهم اثنان إلى سجستان، واثنان إلى اليمَن، والباقون تفرّقوا بين عمان الأنبار والجزيرة، وواصلوا الدعوة إلى مبدئهم في هذه الأقطار فالتفّ حولهم جماعة كثيرون، ولا تزال بقاياهم إلى اليوم في هذه الأقطار كما جاء في رواية الإسفرايني (١) واستعادوا نشاطهم في عهد الأمويّين فكانت لهم جولات واسعة ومواقف ضارية، أقلقت الحكّام الأمويّين وشغلت جانباً كبيراً من عنايتهم وتفكيرهم.

ويؤكّد بعض الكتّاب أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يستأصل جماعة الخوارج في معركة النهروان وغيرها، وأنّ جماعة منهم ممّن لم يشتركوا في معركة

____________________

(١) انظر التبصير في الدين الفصل الذي تحدّث به عن الخوارج.

٣٥

النهروان قد انتشروا في الكوفة وخارجها؛ لترويج فكرتهم وتحريض الناس ضدّ حكومة عليّ (عليه السلام)، وعلى الأخص بعد الفشل الذريع الذي حلّ بهم في تلك المعركة، وقد حاولوا تجديد الثورة فزاروا قتلاهم في النهروان، وتعاهدوا على الأخذ بثأرهم، وتوالت حركاتهم وتحرّكاتهم في مختلف الجهات: في الأنبار والمدائن وسواد الكوفة، وخرَج الخريت بن راشد أحد زعمائهم في الكوفة ومعه ثلاثمِئة فقتَلوا عامل عليّ (عليه السلام) في عمان.

وفي الكامل لابن الأثير أنّه قد اجتمع على الخريت علوج من الأهواز انضمّ إليهم اللصوص والموالي وبعض النصارى وجماعة من العرَب فكسروا الخراج وأخرجوا عامل عليّ (عليه السلام) في تلك البلاد، ويعلّل بعض المستشرقين تحمّس الموالي لفكرة الخوارج، بأنّهم نادوا بمساواة العرَب والموالي في جميع الحقوق حتى في تولّي الخلافة (١)، ومع أنّهم تجمّعوا من مختلف المناطق والجهات، وحاولوا أكثر من مرّة الانتقام لقتلاهم وتوسيع حركتهم الثورية ضدّ الحكم القائم يوم ذاك، وحاولوا إغراء الموالي وبعض المسيحيّين المقيمين في البلاد التي خضعت للإسلام بسقوط الجزية عن المسيحيّين، وجواز استخلاف غير العربي على المسلمين، بالرغم من كلّ ذلك استطاع عليّ (عليه السلام) القضاء على فلولهم الثائرة هنا وهناك بعد الهزيمة الكبرى التي ألمّت بهم في النهروان.

وبعد أنْ فشلت جميع محاولاتهم التي قاموا بها للسيطرة على الحكم ولتعديل النظام الذي كان متّبعاً في اختيار الحاكم، بعد فشلهم في جميع مواقفهم الثورية وغيرها اتجهوا إلى اغتيال عليّ ومعاوية وابن العاص، وانتدبوا لكلّ واحد من الثلاثة رجلاً منهم فنجحوا في اغتيال عليّ (عليه السلام)، وفشَل الآخران في اغتيال معاوية وعمرو بن العاص.

ومهما كان الحال فلقد كانت الفكرة المسيطرة على تصرّفات الخوارج في أوّل أمرهم سياسية خالصة، فأوّل أمر نادوا به هو تخطئة عليّ في قبول التحكيم، ثمّ تخطّوا هذه الفكرة إلى تكفيره وتكفير عثمان في السنين الأخيرة من خلافته، وطلحة والزبير وعائشة، بينما لم يذهَب أحد منهم - على اختلاف فِرَقهم وتباين آرائهم في بعض المسائل - إلى تكفير أبي بكر وعمر، والتهجّم عليهما، ولقد علّلوا تكفير عليّ (عليه السلام) بأمرين أوّلهما: أنّه حكّم في دين الله.

____________________

(١) انظر العراق في ظلّ العهد الأموي للدكتور عليّ الخرطبولي ص ٦٠ و٦١، وانظر النظم الإسلامية للمستشرق غودفروا، كما نقل عنه الخرطبولي.

٣٦

الثاني: أنّه قد خلَع نفسه من إمارة المؤمنين في وثيقة الهدنة التي كتبها بينه وبين معاوية لإيقاف القتال، أمّا عثمان فيعلّلون كفره بأنّه قد حابى أقاربه وولاّهم على رقاب المؤمنين، مع علمه بسوء تصرّفاتهم واستخفافهم بالإسلام ومبادئه، وعلى ما بينهم من اختلاف في الآراء فقد اتّفقوا على تكفير عليّ والحكَمَين وعثمان وطلحة والزبير وعائشة، كما اتفقوا على أنّ خلافة أبي بكر وعمر خلافة شرعيّة تعبّر عن رأي الأُمّة ورغبة المجموع، ومِن هنا يمكن أنْ نقول: أنْ المصدر الصحيح الذي تستمدّ منه السلطة الحاكمة نفوذها وقوّتها وشرعيّة تصرّفاتها هو الشعب وحده عندهم؛ لأنّهم اعتمدوا في شرعية خلافة أبي بكر وعمر على رضا الشعب ورغبته الأكيدة بها، ولكنّهم قد أضافوا إلى رضا الشعب ورغبته شرطاً آخر وهو الحكم بالحق والعدل، فلو اختار الشعب حاكماً وأجمع على اختياره، ولكنّه انحرف عن الحق والعدالة وجَب عزله ومحاربته.

ومِن هنا ذهبوا إلى تكفير عليّ وعثمان، ومع أنّ خلافتهما كانت برأي الشعب وإرادته، وقد أضافوا إلى المبدأ الذي لابدّ منه في الحكم أمراً آخر، فادّعوا أنّ الخلافة لا تنحصر في القرشيّين ويصلح لها كلّ مسلم حرّاً كان أو عبداً، فالعبد الحبشي وغيره سَواءٌ في ذلك، ولم يعترفوا بالأحاديث المرويّة عن الرسول التي تنص على انحصار الخلافة في القرشيّين، واعتبروها من وضع القرشيين أنفسهم لفرض احتكار السلطة فيما بينهم.

ويُمكن للباحث أنْ يجد لهم مبرّراً في هذا المبدأ الذي اعتمدوه في اختيار الحاكم من جهة أنّ الإسلام لم يفرّق بين لون ولون ولا بين العرب وغيرهم، وجعل مقياس التفاضل الأعمال الصالحات، فالعبد الحبشي بنظر الإسلام أفضل من العربي القرشي إذا كان مخلصاً في إيمانه، عاملاً بما افترضه الإسلام ولو كان العربي منحدراً من أفضل القبائل العربية، وأشرفها حسباً ونسباً، وقد اعتبر جماعة من الكتّاب هذه الفكرة خروجاً على المبدأ الذي اعتمد عليه القرشيّون في اختيار الحاكم، وأيّدوه بما جاء عن الرسول من انحصار الخلافة في القرشيّين، مع أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي وضَع نواة هذه الفكرة التي نادى بها الخوارج؛ ذلك أنّه في الأيّام الأخيرة من حياته وهو يستعرض من يصلح للخلافة من بعده قال: لو كان سالم مولى حذيفة حيّاً ما عدَوته، قال ذلك: وفي المسلمين عليّ بن أبي

٣٧

طالب (عليه السلام) وغيره من أعيان المسلمين (١) ، فقد سبَق إلى هذه الفكرة الخوارج بأكثر من عشرين عاماً ولكن الخوارج قد جعلوها موضع التنفيذ، فاختاروا عبد الله بن وهَب الراسبي أحد زعمائهم وجعلوه أميراً عليهم وجاهدوا معه؛ لتحقيق أهدافهم التي كانوا ينادون بها، وأضافوا إلى المبدأين السابقين مبادئ أُخرى، منها أنّ المختار للخلافة لا حقَّ له بالتنازل عنها مهما كانت الظروف فالحقّ للأُمّة وحدها في عزله أو قتله إذا انحرف أو غيّر وبدّل، وعلى أساس هذا المبدأ كفّروا عليّاً (عليه السلام)؛ لأنّه تنازل عن إمارة المؤمنين على حدِّ زعمهم في الوثيقة التي كتبت بينه وبين معاوية، لإيقاف القتال حينما اتفق الطرفان على مبدأ التحكيم.

ومنها أنّ الخلافة ليست من الضروريّات التي لابدّ منها، فإذا لم تتوفّر الشروط اللازمة في الأشخاص يمكن الاستغناء عنها؛ لأنّ حاجة الناس بعضهم إلى بعض متساوية وعلاقتهم متشابكة، وذلك ممّا يمنعهم عن الظلم ويصدّهم عن الجور وعدم الإنصاف (٢) ، لقد تبلورت فكرة الخوارج واتّضحت أهدافهم بعد أنْ مضى على بدء ثورتهم شطر من الزمن، أمّا في بداية أمرهم فلم تكن لهم أهداف منظمة.

ولم تنبثق حركتهم الثورية الأُولى عن الأهداف التي برزت في العصر الأموي، ولم تذكر المراجع التاريخية شيئاً قبل خروجهم على عليّ (عليه السلام) بعد فشَل الحكمَين في التوصّل إلى حلٍّ مُرضٍ لدى الطرفين، وليس ببعيد أنْ تكون فكرة انحصار الخلافة في القرشيّين التي كان يؤمن بها القسم الأكبر من المسلمين، والتي من شأنها ملكيّتهم لها يتوارثونها جيلاً بعد جيل، هذه الفكرة كانت تحزّ في نفوس الكثيرين من العرب، ولا سيّما وقد وصلت إلى غلمان الأمويّين وفسّاقهم، وهؤلاء لم تكن لهم في النفوس تلك القداسة، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ قادة الثورة ينتمون إلى قبائل عربية لها مِن ماضيها وحاضرها ما يدعوهم إلى الطموح إليها وانتزاعها من أيدي الأمويّين، ولا أقلّ من التخلّص من سيطرة القرشيّين واستعلائهم على الناس.

والذي يؤيّد ذلك ما أورده العبادي في كتابه (صور من التاريخ الإسلامي) قال: أنّ الخوارج كانوا عرباً من قبائل تميم وحنيفة وربيعة

____________________

(١) انظر شرح النهج لابن أبي الحديد مجلّد ١ ص ٦٤.

(٢) انظر العراق في ظلّ الحكم الأموي ص ٦٣ وما بعدها.

٣٨

الذين كان لهم في الجاهلية شأنٌ كبير بين العرَب، وقد اعتنقوا الإسلام لإعجابهم بمبادئه الديمقراطية، وأبلوا في الفتوح بلاءً عظيماً، وطمعوا في مجدٍ جديد يضيفونه إلى مجدهم التليد، ولكنّهم غلبوا على أمرهم، واستأثرت ارستقراطية مكّة والمدينة فأعادوا حركة الردّة ولكن في صورة إسلامية، وبدأ هذا في موقفهم من التحكيم؛ ويؤيّد ذلك أنّهم على اختلاف فِرقهم مجمعون على أنّ الخلافة ليست حقّاً للقرشيّين وحدهم، وإنّما هي حقٌّ للأفضل من جميع المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم، وقد هيّأ لهم هذا المبدأ الأنصار والأتباع من الموالي وغيرهم ممّن انضموا إليهم في حركاتهم في وجه الأمويّين والعبّاسيّين، هذا بالإضافة إلى أنّ أكثرهم كانوا من عرب البادية الذين دخلوا في الإسلام على فقرهم وسذاجة تفكيرهم.

ومع أنّ الإسلام قد احتل جانباً من نفوسهم وقلوبهم، إلاّ أنّهم لم يتجرّدوا من النزعات القبلية وظلّت معهم تسيطر عليهم وتسيرهم أحياناً من حيث لا يشعرون، وهم بحكم طبيعتهم لم يتعوّدوا الخضوع للسلطان ولم يألفوا الحكم المفروض عليهم أنْ يعيشوا في ظلّه خاضعين لأنظمته وقوانينه؛ ولذا فإنّهم لا يرون وجود الحاكم من الضرورات الملحّة كما ذكرنا سابقاً؛ لأنّ تشابك الناس بالمصالح والأغراض يحتّم عليهم التناصف والتحابب، فالحاكم عندهم ليس من الضرورات التي لابدّ منها.

وهذه النظرية مستمدّة من طبيعتهم؛ لأنّهم لم يعتادوا الخضوع للحاكم، وعلى الأخص تلك الحكومات التي تعاقبت في العصر الأموي والتي كانت تنظر إلى سائر الفئات والأجناس نظرة احتقار وازدراء، ويتمثّل ذلك فيما جاء عن بعض ملوكهم (ألا وأنّ السواد بستانٌ لقريش)، فهذه الكلمة تعبّر عن مدى استغلال الأمويّين إلى جميع العناصر والألوان واستئثارهم بخيرات الأرض، وتسخيرهم للطبَقات الكادحة لمصالحهم وأهوائهم.

ومهما كان الحال فقد اختلفت آراء الكتّاب القدامى والمحدّثين في تعليل ظهور الخوارج وصمودهم في وجه الشدائد والضربات القاسية وعلى الأخص في العصر الأموي، فبعضهم يؤكّد ما ذكرناه، بينما يرى آخرون أنّ مردّ ذلك هو تشدّدهم في الدين الناتج عن جهلهم في المبادئ الإسلامية، فقد فسّروا الدين حسب أفهامهم واجتهاداتهم معتمدين على تفكيرهم الساذج، واعتبروا أنفسهم أنّهم المسلمون دون سِواهم، وأوجبوا جهاد مَن خالفهم حتى يعودوا إلى حظيرة الدين ويعملوا بفروعه، بالإضافة إلى

٣٩

إيمانهم بأُصوله وبجانب آرائهم السياسية التي بدأت تظهر وتتبلور كلّما اتسعت حركتهم وامتد نفوذهم، بجانب ذلك، ظهَرت لهم آراء في الدين تناولوا فيها الأصول والفروع، ولكنّها سطحية ساذجة لم يعتمدوا فيها على البحث والدراسة لنصوص الكتاب والسنّة، ولا على آراء الصحابة والعلماء الذين عاصروهم؛ لذا فإنّ المتتبّع في آرائهم وفتاويهم يراهم يتخطّون الأُصول التي اتبعها القرآن والرسول، والأساليب التي اتّبعها المسلمون في مقام التشريع واستنباط الأحكام، ويبدو ذلك واضحاً من آرائهم في بعض الأصول والفروع كما أوردها كتاب الفرق والمذاهب الإسلامية وإلى القرّاء أمثلة من آرائهم وتشريعاتهم:

لقد اتّفقوا بجميع فِرَقهم على تكفير مرتكب الكبيرة من الذنوب، وأنّ فاعلها يخلد في النار، ولم يُنسب الخلاف لأحدٍ منهم إلاّ للنجدات، أتباع نجدة بن عامر الحنفي (١)، وكان يرى أنّ الدين أمران: معرفة الله ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله جملة، وتحريم دماء المسلمين وأموالهم، وما سِوى ذلك فالناس معذورون فيه بجهالتهم حتى تقوم عليهم الحجّة، وأضافوا إلى ذلك: أنّ مَن خاف العذاب على المجتهد المخطئ في الأحكام فهو كافر، ومَن تثاقل عن الهجرة إليهم فهو منافق، واستحلّوا دماء وأموال المقيمين في دار التقيّة وهم الذين لم يهاجروا إليهم تقية، وحرّموا أموال وأعراض موافقيهم ولو كانوا ممّن وجَب إقامة الحدِّ عليهم لجناية أو سرقة، كما ادعوا بأنّ الإصرار على الذنب كبيراً كان أو صغيراً يُوجب الشرك، ومَن زنى وفعل جميع المنكرات والكبائر غير مصرٍّ عليها لا يخرج عن الإسلام، بينما يرى الأزارقة أنّ كلّ كبيرة توجب الكفر، وأنّ جميع مخالفيهم كفّار، ولا حدّ على مَن قذَف المحصنين من الرجال، وأنّ أطفال المشركين يدخلون النار مع آبائهم (٢)، ويذهب العطوية المنتسبون

____________________

(١) خرج نجدة مع جماعته من اليمامة قاصداً الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، فاستقبلهم جماعة من أتباع نافع وأخبروا نجدة بما أحدثه من أعمال لا ترضيهم وأنّهم برِئوا منه، فبايعوا نجدة عليهم وقد أرسل ابنه مع جماعة منهم إلى القطيف فقتَل جماعة من رجالهم واستباح أموالهم ونساءهم، انظر مقالات الإسلاميّين لابن الحسَن الأشعري ج ١ ص ١٦٢.

(٢) انظر المصدر السابق ص ١٦٥.

٤٠

البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المِسك؛ لأنّها طينة الفرْخ المستشهَد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرْخ المبارك، وزَعمت أنّها آمنة في هذه الأرض، ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعْر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها، اللّهمّ فأبقِها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة...) (١) .

مصاب الحسينعليه‌السلام في حياة أنبياء اللهعليهم‌السلام وأُممهم

١) - ونقل العلاّمة المجلسي (ره) عن كتاب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالى:( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ... ) ، أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمةعليهم‌السلام ، فلقّنه جبرئيل:(قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ عليّ، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان، فلمّا ذُكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال:يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عَبرتي؟

قال جبرئيل:ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب.

فقال:يا أخي، وما هي؟

قال:يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه! واقلّة ناصراه! حتى يحُول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يُجِبه أحدٌ إلاّ بالسيوف وشرب الحتوف! فيُذبح ذبح الشاة من قَفاه! ويَنهب رَحلَه أعداؤه! وتُشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٤٧٨ - ٤٨٠ المجلس ٨٧ رقم ٥، وكمال الدين: ٢: ٥٣٢ - ٥٣٥، باب ٤٨، رقم١.

(٢) البقرة: ٣٧.

٤١

المنّان)، فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى)(١) .

٢) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول:(لمّا أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه‌السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبْش الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل عليه‌السلام بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ وِلده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، مَن أحبّ خلقي إليك؟

فقال: يا ربّ، ما خلقتَ خلقاً هو أحبّ إليَّ من حبيبك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟

قال: بل هو أحبُّ إليَّ من نفسي.

قال: فولدهُ أحبّ إليك أو ولدك؟

قال: بل ولده.

قال: فَذبحُ ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح وَلدكَ بيدك في طاعتي؟

قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستقتل الحسينعليه‌السلام ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيمعليه‌السلام لذلك وتوجّع قلبه، وأقبلَ يبكي!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، قد فديتُ جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسينعليه‌السلام وقتله، وأوجبتُ لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

____________________

(١) البحار: ٤٤، باب ٣٠، حديث رقم ٤٤.

٤٢

فذلك قول الله عزّ وجلّ: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ، ولا حول ولا قوّة لاّ بالله العليّ العظيم) (١) .

٣) - ونقل الشيخ قطب الدين الراوندي عن تاريخ محمّد النجّار، شيخ المحدّثين بالمدرسة المستنصرية بإسناد مرفوع إلى أنس بن مالك، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(لمّا أراد الله أن يهلك قوم نوح أوحى إليه أن شُقَّ ألواح الساج، فلمّا شقّها لم يدرِ ما يصنع بها، فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت بها مئة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار فأشرق بيده وأضاء كما يُضيء الكوكب في أُفق السماء فتحيّر نوح، فأنطقَ الله المسمار بلسان طلِق ذلِق: أنا على اسم خير الأنبياء محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهبط جبرئيل، فقال له: يا جبرئيل، ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله؟

فقال: هذا باسم سيّد الأنبياء محمّد بن عبد الله، أَسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيمن.

ثمّ ضرب بيده على مسمار ثانٍ فأشرقَ وأنار!

فقال نوح: وما هذا المسمار؟

فقال: هذا مسمار أخيه وابن عمّه سيّد الأوصياء عليّ بن أبي طالب، فأسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيسر في أوّلها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرقَ وأنار!

____________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١: ٢٠٩، باب ١٧ حديث رقم ١ / وعنه البحار: ٤٤: ٢٢٥، باب ٣٠، حديث رقم ٦ (وعن أمالي الصدوق أيضاً)، وقال العلاّمة المجلسي (ره) في ذيل هذا الخبر: (وأقول: ليس في الخبر أنّه فدى إسماعيل بالحسين، بل فيه أنّه فدى جزع إبراهيم على إسماعيل بجزعه على الحسينعليه‌السلام ، وظاهرٌ أنّ الفداء على هذا ليس على معناه، بل المراد التعويض، ولما كان أسفهُ على ما فات منه من ثواب الجزع على ابنه، عوّضه الله بما هو أجلّ وأشرف وأكثر ثواباً، وهو الجزع على الحسينعليه‌السلام ).

٤٣

فقال جبرئيل: هذا مسمار فاطمة فأسمِره إلى جانب مسمار أبيها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسن فأسمِره إلى جانب مسمار أبيه، ثمّ ضرب إلى مسمار خامس فزهر وأنار وأظهر النداوة!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسين فأسمِره إلى جانب مسمار أبيه.

فقال نوح: يا جبرئيل، ما هذه النداوة؟

فقال: هذا الدم.

فذكر قصّة الحسين عليه‌السلام وما تعمل الأمّة به، فلعن الله قاتله وظالمه وخاذله) (١) .

٤) - وروى الشيخ الصدوق (ره) بإسنادٍ إلى الإمام الرضاعليه‌السلام قال:(قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ موسى بن عمران سأل ربّه عزّ وجلّ فقال: يا ربّ، إنّ أخي هارون مات فاغفر له، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، لو سألتني في الأوّلين والآخرين لأجبتك ما خلا قاتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فإنّي أنتقم له من قاتله) (٢) .

٥) - وروى الشيخ الصدوق (ره) في علل الشرائع بسندٍ إلى الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(إنّ إسماعيل الذي قال الله عزّ وجلّ في كتابه: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) ،لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه الله عزّ وجلّ إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه مَلَك فقال:

____________________

(١) البحار: ٤٤: ٢٣٠، باب ٣٠، حديث رقم ١٢ عن الخرايج والجرايح، ولم نجده في الخرايج والجرايح المطبوع.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢: ٤٧، باب ٣١، حديث رقم ١٧٩ / والظاهر أنّ المراد بقاتل الحسينعليه‌السلام أعمّ وأوسع ممّن باشر قتله بذبحه، إذ يدخل في هذا العنوان الممهدِّون لقتله والآمرون بذلك، والذين اشتركوا في مواجهته وحصره وقتاله، ومَن أعان على ذلك، الراضون بذلك إلى قيام يوم الدين، هذا ما تؤكّده نصوص كثيرة متضافرة مأثورة عن أهل البيتعليهم‌السلام .

٤٤

إنّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمُري بما شئت، فقال: لي أُسوة بما يُصنع بالحسين عليه‌السلام ) (١) .

ورواه الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بتفاوت وبسند آخر إلى الإمام الصادقعليه‌السلام (٢) .

وروى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن بُرير بن معاوية العجليِّ قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : يا بن رسول الله، أخبِرني عن إسماعيل الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) ، أكان إسماعيل بن إبراهيمعليهما‌السلام ؟ فإنَّ الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم!

فقالعليه‌السلام :إنّ إسماعيل مات قبل إبراهيم، وإنَّ إبراهيم كان حجّة لله قائماً، صاحب شريعة، فإلى مَن أُرسل إسماعيل إذاً؟

قلت: فمَن كان جُعلتُ فداك؟

قالعليه‌السلام :ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ، بعثه الله إلى قومه فكذّبوه وقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب الله له عليهم، فوجّه إليه سطاطائيل مَلك العذاب، فقال له: يا إسماعيل، أنا سطاطائيل مَلَك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّ؛ لأُعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئتَ، فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك، فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال: يا ربّ إنّك أخذتَ الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّد بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرتَ خير خلقك بما تفعل أمّته بالحسين بن علي عليهما‌السلام من بعد نبيّها، وإنّك وعدتَ الحسين عليه‌السلام أنْ تُكِرَّهُ إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكِرَّني إلى الدنيا

____________________

(١) علل الشرائع: ٧٧، باب ٦٧، حديث رقم ٢، ورواه ابن قولويه (ره) مسنداً في كامل الزيارات: ٦٢ - ٦٣، باب ١٩، حديث رقم ١.

(٢) علل الشرائع: ٧٨، باب ٦٧، حديث رقم ٣. ورواه ابن قولويه (ره) مسنداً في كامل الزيارات: ٦٣، باب ١٩، حديث رقم ٢.

٤٥

حتى أنتقم ممّن فعل ذلك بي، كما تُكِرُّ الحسين عليه‌السلام ، فوعدَ الله إسماعيل بن حزقيل ذلك فهو يُكَرّ مع الحسين عليه‌السلام ) (١) .

٦) - وروى الشيخ الصدوق في أماليه بسندّ إلى سالم بن أبي جعدة قال: سمعت كعب الأحبار يقول: إنّ في كتابنا أنّ رجلاً من وِلْد محمّد رسول الله يُقتل، ولا يجفّ عرَق دوابّ أصحابه، حتّى يدخلوا الجنّة فيعانقوا الحور العِين.

فمرَّ بنا الحسنعليه‌السلام ، فقلنا: هو هذا؟

قال:(لا.

فمرَّ بنا الحسينعليه‌السلام فقلنا: هو هذا؟

قال:نعم) (٢) .

٧) - وروى الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بسندٍ إلى يحيى بن يمان، عن إمامٍ لبني سليم، عن أشياخ لهم قالوا: غزونا بلاد الروم فدخلنا كنيسة من كنائسهم فوجدنا فيها مكتوباً:

أيرجو معشرٌ قتلوا حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

قالوا: فسألنا: منذ كم هذا في كنيستكم؟

فقالوا: قبل أن يُبعث نبيّكم بثلاثمئة عام)(٣) .

وقال الشيخ ابن نما (ره): (وحدّث عبد الرحمان بن مسلم، عن أبيه أنّه قال: غزونا بلاد الروم فأتينا كنيسة من كنائسهم قريبة من قسطنطينية وعليها شيء

____________________

(١) كامل الزيارات: ٦٣ - ٦٤، باب ١٩، حديث رقم ٣.

(٢) أمالي الصدوق: ١٢١ المجلس ٢٩، حديث رقم ٤.

(٣) أمالي الصدوق: ١١٣، المجلس ٢٧، حديث رقم ٦.

٤٦

مكتوب، فسألنا أُناساً من أهل الشام يقرأون بالرومية، فإذا هو مكتوب هذا البيت [ الشعر ].

وذكر أبو عمرو الزاهد في كتاب الياقوت قال: قال عبد الله بن الصفّار صاحب أبي حمزة الصوفي: غزونا غزاة وسبَينا سبياً، وكان فيهم شيخ من عقلاء النصارى، فأكرمناه وأحسنّا إليه، فقال لنا: أخبَرَني أبي عن آبائه، أنّهم حضروا في بلاد الروم حضراً قبل أن يُبعث النبيّ العربي بثلاثمئة سنة، فأصابوا حجراً عليه مكتوب بالمسند هذا البيت من الشعر:

أترجو عُصبة قَتَلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

والمسند كلام أولاد شيث)(١) .

الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ومصاب الحسينعليه‌السلام

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ذكر ما يجري على الإمام الحسينعليه‌السلام من المصائب الفادحة، حزن واغتمّ وبكى وأبكى مَن حوله، منذ أن بشّرته الملائكة

____________________

(١) مثير الأحزان: ٩٦ - ٩٧ / وقال الشيخ ابن نما (ره) أيضاً: فروى النطنزي، عن جماعة، عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف أيّام الموسم إذا رجل يقول: اللّهم اغفر لي وأنا أعلم أنّك لا تغفر، فسألته عن السبب فقال: كنت أحد الأربعين الذين حملوا رأس الحسين إلى يزيد على طريق الشام، فنزلنا أوّل مرحلة رَحَلنا من كربلا على دير للنصارى، والرأس مركوز على رمح، فوضعنا الطعام ونحن نأكل إذا بكفّ على حائط الدير يكتب عليه بقلم حديد سطراً بدم:

أترجو أمّة قَتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فجزعنا جزعاً شديداً وأهوى بعضنا إلى الكفّ فغاب، فعاد أصحابي.

٤٧

بالحسينعليه‌السلام ، ثمّ منذ اليوم الأوّل من حياة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى آخر أيّامهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمأثور المرويّ في هذا الصدد كثير متنوّع، انتقينا منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً، هي:

١) - روى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(أتى جبرئيل رسول الله فقال له: السلام عليك يا محمّد، ألا أُبشرّك بغلام تقتله أمّتك من بعدك؟

فقال: لا حاجة لي فيه.

قال: فانتهض إلى السماء، ثمّ عاد إليه الثانية فقال له مثل ذلك.

فقال: لا حاجة لي فيه.

فانعرج إلى السماء، ثمّ انقضّ إليه الثالثة فقال له مثل ذلك.

فقال: لا حاجة لي فيه.

فقال: إنّ ربّك جاعل الوصيّة في عَقِبه.

فقال: نعم.

ثمّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل على فاطمة، فقال لها: إنّ جبرئيل أتاني فبشّرني بغلام تقتله أمّتي من بعدي!

فقالت: لا حاجة لي فيه.

فقال لها: إنّ ربّي جاعل الوصيّة في عقِبه.

فقالت: نعم، إذاً.

قال:فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) لموضع إعلام جبرئيل إيّاها بقتله ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ) بأنّه مقتول، و ( وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) ؛ لأنّه مقتول) (١) .

____________________

(١) كامل الزيارات: ٥٤، باب ١٦، حديث رقم ٣ / وانظر: حديث رقم ٤.

٤٨

٢) - وروى ابن قولويه (ره) أيضاً بسندٍ عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(لمّا حَملت فاطمة بالحسين عليه‌السلام جاء جبرئيل إلى رسول الله فقال: إنّ فاطمة ستلد ولداً تقتله أمّتك من بعدك، فلمّا حملت فاطمة الحسين كرهت حمْله، وحين وضعتهُ كرهَت وضْعه).

ثمّ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(هل رأيتم في الدنيا أُمّاً تلد غُلاماً فتكرهه؟! ولكنّها كرهته؛ لأنّها عَلمت أنّه سيُقتل).

قال:وفيه نزلت هذه الآية: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (١) )(٢) .

٣) - قال الشيخ ابن نما (ره): (وقد روي عن زوجة العبّاس بن عبد المطّلب وهي أمُّ الفضل (لبابة بنت الحارث)، قالت: رأيت في النوم قبل مولده كأنّ قطعة من لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قُطعت ووضعت في حِجري، فقصصت الرؤيا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:(إن صَدَقت رؤياكِ فإنّ فاطمة ستلد غلاماً وأدفعه إليك لترضعيه (٣) .

فجرى الأمر على ذلك، فجئت به يوماً فوضعته في حِجره فبال، فقطرت منه قطرة على ثوبهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرصتهُ فبكى.

فقال كالمغضَب:مهلاً يا أمّ الفضل، فهذا ثوبي يُغسل، وقد أوجعتِ ابني! قالت: فتركتهُ ومضيت لآتيه بماء، فجئت فوجدتهصلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي، فقلت: ممّن بكاؤك يا رسول الله؟ فقال:إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أمّتي تقتل ولدي هذا!) (٤) .

____________________

(١) سورة الأحقاف: ١٥.

(٢) كامل الزيارات: ٥٤، باب ١٦، حديث رقم ٢.

(٣) روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله:(ولم يرضع الحسين من فاطمة ولا من أُنثى، لكنّه كان يؤتى به النبيّ فيضع إبهامه في فيه فيمصُّ منها ما يكفيه اليومين والثلاثة، فنبتَ لحم الحسين عليه‌السلام من لحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودمه من دمه..) (راجع: كامل الزيارات: ٥٥، باب ١٦، حديث رقم ٤).

(٤) مثير الأحزان: ١٦ - ١٧.

٤٩

٤) - وأخرج الشيخ الطوسي (ره) بسند عن الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام قال:(حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعمية قالت: قبّلتُ جدّتك فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسن والحسين عليهما‌السلام ، قالت: فلمّا ولدت الحسن عليه‌السلام جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا أسماء، هاتي ابني، قالت: فدَفعته إليه في خِرقة صفراء، فرمى بها وقال: ألم أعهد إليكنّ ألاّ تلفّوا المولود في خرقة صفراء؟!

ودعا بخرقة بيضاء فلفّه فيها، ثمّ أذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في أُذنه اليسرى، وقال لعليّعليه‌السلام : بمَ سمّيتَ ابنك هذا؟ قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله، قال: وأنا ما كنت لأسبق ربّي عزّ وجلّ.

قال:فهبط جبرئيل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمّد، عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدك، فسمِّ ابنك باسم ابن هارون، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل، وما اسم ابن هارون؟ قال جبرئيل: شُبّر، قال: وما شُبّر؟ قال: الحسن، قالت أسماء: فسمّاه الحسن.

قالت أسماء: فلمّا ولدت فاطمة الحسينعليهما‌السلام نفّستُها به، فجاءني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: هلمّي ابني يا أسماء، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسنعليه‌السلام ، قالت: وبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال: إنّه سيكون لك حديث! اللّهمّ العن قاتله، لا تُعلمي فاطمة بذلك.

قالت: فلمّا كان يوم سابعه جاءني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: هلمّي ابني.

فأتيتهُ به، ففعل به كما فعل بالحسن عليه‌السلام ، وعقّ عنه كما عقّ عن الحسن كبشاً أملح، وأعطى القابلة رِجلاً، وحلقَ رأسه، وتصدّق بوزن الشَعر وَرِقاً (١) ،وخلّق رأسه بالخَلُوق (٢) ،

____________________

(١) الوَرِق: الفضّة.

(٢) الخَلُوق: ضرب من الطيّب، أعظم أجزائه الزعفران.

٥٠

وقال: إنّ الدّم من فعل الجاهليّة، قالت: ثمّ وضعه في حِجره، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، عزيزٌ عليَّ، ثمّ بكى، فقلت: بأبي أنت وأمّي، فعلتَ في هذا اليوم وفي اليوم الأوّل، فما هو؟ فقال: أبكي على ابني هذا، تقتله فئة باغية كافرة من بني أميّة، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر بالله العظيم، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم في ذريّته، اللّهمّ أَحبّهما، وأحبَّ مَن يُحبّهما، والعن مَن يبغضهما مِلء السماء والأرض) (١) .

٥) - وروى فرات الكوفي (ره) عن جعفر بن محمّد الفزاري معنعناً، عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال:(كان الحسين مع أُمّه تحمله، فأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين مَن أعان عليك.

قالت فاطمة الزهراء: يا أبتِ، أيّ شيء تقول؟

قال: يا بنتاه، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم، وإلى موضع رِحالهم وتُربتهم.

قالت: يا أبه، وأين هذا الموضع الذي تصف؟

قال: موضع يقال له كربلاء، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمّة (الأئمة) يخرج عليهم شرار أمّتي، لو أنّ أحدهم شفع له مَن في السماوات والأرضين ما شفّعوا فيه، وهم المخلّدون في النار.

قالت: يا أبه، فيُقتلُ؟!

قال: نعم يا بنتاه، وما قُتل قتْلته أحدّ كان قبله، ويبكيه السماوات والأرضون، والملائكة، والوحش، والنباتات، والبحار، والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٣٦٧ - ٣٦٨، المجلس ١٣، حديث ٧٨١ / ٣٢.

٥١

متنفّس، ويأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوَم بحقّنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجَور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا عليَّ بسيماهم، وكلُّ أهل دين يطلبون أئمّتهم، وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا، وهم قوّام الأرض، وبهم ينزل الغيث.

فقالت فاطمة الزهراءعليها‌السلام : يا أبة، إنّا لله، وبكت.

فقال لها: يا بنتاه، إنّ أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا؛ بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقّاً، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قَتلة أهون من مِيتة، ومَن كُتب عليه القتل خرج إلى مضجعه، ومَن لم يُقتل فسوف يموت.

يا فاطمة بنت محمّد، أمَا تحبّين أن تأمرين غداً بأمر فتُطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حَمَلة العرش؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟

أمَا ترضين أن يكون بعلُك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض، فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلُك قسيم النار، يأمر النار فتطيعه، يُخرج منها مَن يشاء ويترك مَن يشاء.

أمَا ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليكِ وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعْلُكِ قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله، فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعْلُك إذا أفلجت حجّته على الخلائق وأُمرت النار أن تطيعه؟

أمَا ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك، ويأسف عليه كلّ شيء؟ أما ترضين أن يكون مَن أتاه زائراً في ضمان الله، ويكون مَن أتاه: بمنزلة مَن حجّ إلى بيت الله واعتمر، ولم يخلُ من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإنْ بقي لم تزَل الحَفَظة تدعوا له ما بقي،

٥٢

ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا ؟

قالت: يا أبه، سلّمتُ، ورضيتُ، وتوكّلت على الله.

فمسحَ على قلبها ومسح عينيها، وقال: إنّي وبعلُكِ وأنتِ وابنَيك في مكان تقرّ عيناك ويفرح قلبك) (١) .

٦) - وروى الشيخ ابن نما (ره) قائلاً: (وعن عبد الله بن يحيى قال: دخلنا مع عليّعليه‌السلام إلى صِفّين، فلمّا حاذى نينوى نادى:(صبراً أبا عبد الله ، فقال:دخلتُ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعيناه تفيضان!

فقلت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، ما لعينيك تفيضان؟ أغضَبكَ أحد؟

قال: لا، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أنّ الحسين يُقتل بشاطئ الفرات، فقال: هل لك أن أُشمّك من تُرتبه؟ قلت: نعم، فمدَّ يده فأخذ قبضة من تراب وأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا، واسم الأرض كربلاء.

فلمّا أتت عليه سنتان خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سفر، فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه، فسُئل عن ذلك.

فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يُقال لها كربلاء يُقتل فيها وَلدي الحسين.

فقيل: ومَن يقتله؟

قال:رجل يقال له يزيد، كأنّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأنّي أنظر على أقتاب المطايا وقد أُهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد لعنه الله، فو الله ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلاّ خالف الله بين قلبه ولسانه، وعذّبه الله عذاباً أليماً) .

____________________

(١) تفسير فرات الكوفي: ٥٥ - ٥٦، وعنه البحار: ٤٤: ٢٦٤ - ٢٦٥، رقم ٢٢ / وانظر: كامل الزيارات: ٦٧ - ٦٨، باب ٢٢، رقم ٢.

٥٣

ثمّ رجع النبيّ من سفره مغموماً مهموماً كئيباً حزيناً، فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين، وخطبَ ووعظ الناس، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين، ورفع رأسه إلى السماء وقال:

اللّهمّ إنّ محمّداً عبدك ورسولك ونبيّك، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيتي وأُرومتي، ومَن أُخلِّفهما في أمّتي، وقد أخبرني جبرئيل أنّ ولَدي هذا مقتول بالسمّ، والآخر شهيد مضرّج بالدم، اللّهمّ فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهداء، اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله، واصلِهِ حرَّ نارك واحشره في أسفل درك الجحيم.

قال: فضجّ الناس بالبكاء والعويل.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أتبكون ولا تنصرونه؟! اللّهمّ فكن أنت له وليّاً وناصراً.

ثمّ قال: يا قوم، إنّي مخلّف فيكم الثِقلَين: كتاب الله، وعترتي وأُرومتي ومزاج مائي، وثمرة فؤادي، ومهجتي، لن يفترقا حتّى يرِدا عليَّ الحوض، ألا وإنّي لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي أن أسألكم عنه، أسألكم عن المودّة في القُربى، واحذروا أن تلقوني غداً على الحوض وقد آذيتم عترتي وقتلتُم أهل بيتي وظلمتموهم.

ألا إنّه سيرد عليَّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمّة:

الأولى: راية سوداء مظلمة قد فزعت منها الملائكة، فتقف عليَّ فأقول لهم: مَن أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب، فأقول لهم: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم، فيقولون: نحن من أمّتك، فأقول: كيف خلفتموني من بعدي في أهل بيتي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعناه، وأمّا العترة فحرصنا أن نبيدهم عن جديد الأرض، فلمّا أسمع ذلك منهم أعرض عنهم وجهي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية أخرى أشدّ سواداً من الأولى، فأقول لهم: كيف خلفتموني من بعدي في الثقلين: كتاب الله، وعترتي؟

٥٤

فيقولون: أمّا الأكبر فخالفناه، وأمّا الأصغر فمزّقناهم كل ممزّق! فأقول: إليكم عنّي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية تلمع وجوههم نوراً فأقول لهم: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى من أمّة محمّد المصطفى، ونحن بقيّة أهل الحق، حملنا كتاب ربّنا، وحلّلنا حلاله، وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذريّة نبيّنا محمّد، ونصرناهم من كلّ ما نصرنا به أنفسنا، وقاتلنا معهم مَن ناواهم، فأقول لهم: أبشروا، فأنا نبيّكم محمّد، ولقد كنتم في الدنيا كما قلتم، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويّين مستبشرين، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين) (١) .

٧) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن ابن عباس قال: (إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسنعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:(إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليمنى.

ثمّ أقبل الحسينعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.

ثمَّ أقبلت فاطمةعليها‌السلام ، فلمّا رآها بكى، ثمّ قال:إليَّ إليَّ يا بُنيّة، فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:إليَّ يا أخي، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحداً من هؤلاء إلاّ بكيت! أَوَ ما فيهم مَن تُسَرُّ برؤيته؟!

____________________

(١) راجع: مثير الأحزان: ١٨ - ٢٠، وبحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٧ - ٢٤٩، وروى بعضه ابن أبي شيبة في مصنّفه: ١٥: ٩٨ رقم ١٩٢١٤، وأحمد في مسنده: ١: ٨٥.

٥٥

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :والذي بعثني بالنبوّة واصطفاني على جميع البريّة، إنّي وإيّاهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجلّ، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليَّ منهم، وأمّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ... وأمّا الحسين فإنّه منّي، وهو ابني وولدي وخير الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين، ومولى المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، وغياث المستغيثين، وكهف المستجيرين، وحجّة الله على خلقه أجمعين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وباب نجاة الأمّة، أمْرهُ أمري، وطاعته طاعتي، مَن تبعه فإنّه منّي، ومَن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا رأيته تذكّرت ما يُصنع به بعدي، كأنّي به وقد استجار بحَرَمي وقُربي فلا يُجار! فأضمّه في منامه إلى صدري، وآمرهُ بالرحلة عن دار هجرتي، وأبشّره بالشهادة فيرتحل عنها إلى أرض مقتله وموضع مصرعه أرض كرب وبلاء، وقتْلٍ وفَناء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمّتي يوم القيامة، كأنّي أنظر إليه وقد رُمي بسهمٍ فخرّ عن فرَسه صريعاً، ثمّ يُذبح كما يُذبح الكبش مظلوماً.

ثمّ بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكى مَن حوله، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول:اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي)، ثمّ دخل منزله) (١) .

٨) - (وروي عن عبد الله بن عبّاس (رض) أنّه قال: لما اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي مات فيه، وقد ضمَّ الحسينعليه‌السلام إلى صدره، يسيل من عرَقه عليه، وهو يجود بنفسه ويقول:(ما لي وليزيد؟! لا بارك الله فيه، اللّهمَّ العن يزيد) .

ثمّ غشي عليه طويلاً، وأفاق وجعل يُقبّل الحسين وعيناه تذرفان، ويقول:(أمَا إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله عزّ وجلّ) (٢) .

____________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق: ٩٩ - ١٠١، المجلس ٢٤، رقم ٢.

(٢) مثير الأحزان: ٢٢.

٥٦

أمير المؤمنين عليٌّعليه‌السلام ومصاب الحسينعليه‌السلام

وكما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش مأتماً متواصلاً، ويكابد حزناً شديداً وجزعاً عظيماً ويبكي بكاءً مُرّاً، ويُبكي مَن حوله؛ لمَا سوف يُصيب الإمام الحسينعليه‌السلام من عظيم البلاء، كذلك كان أمير المؤمنينعليه‌السلام . وإنَّ المأثور عنهعليه‌السلام في ذلك لَكثير، لكنّنا لا يسعنا هنا أيضاً إلاّ أن ننتقي منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً:

١) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الأصبغ بن نباتة (ره) قال: (خرج علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ويده في يد ابنه الحسنعليه‌السلام وهو يقول:(خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم ويدي في يده هكذا وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيّدهم أخي هذا، وهو إمام كلّ مسلم، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي.

ألا وإنّي أقول: خير الخلق بعدي، وسيّدهم ابني هذا، وهو إمام كلّ مؤمن، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي، ألا وإنّه سيُظلَم بعدي كما ظُلمتُ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخير الخلق وسيّدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كربلاء، أمَا إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة...) (١) .

٢) - وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسند عن جبلة المكيّة قالت: سمعت ميثم التمّار يقول: (والله، لتَقتِلنّ هذه الأمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشرٍ مضَين منه، وليتّخذنّ أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم ذلك بعهد عَهدهُ إليَّ مولاي أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ولقد أخبرني أنّه:(يبكي عليه كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار، والطير في جوّ السماء، وتبكي عليه الشمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض،

____________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة: ١: ٢٥٩، باب ٢٤، رقم ٥، وعنه الراوندي في قصص الأنبياء: ٣٦٦ - ٣٦٧، رقم ٤٣٩، والطبرسي في إعلام الورى: ٣٧٧ - ٣٧٨.

٥٧

ومؤمنو الإنس والجنّ، وجميع ملائكة السماوات ورضوان ومالك، وحَملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً، ثمّ قال:وجَبَت لعنة الله على قَتلة الحسين عليه‌السلام كما وجبَت على المشركين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر، وكما وجبَت على اليهود والنصارى والمجوس) .

قالت جبلة: فقلت: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يُقتل فيه الحسين بن عليّعليهما‌السلام يوم بركة؟!.

فبكى ميثم، ثمّ قال: سيزعمون بحديث يضعونه أنّه اليوم الذي تاب الله فيه على آدمعليه‌السلام ، وإنّما تاب الله على آدمعليه‌السلام في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي قبِل الله فيه توبة داود، وإنّما قبِل الله توبته في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة، ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجوديّ، وإنّما استوت على الجوديّ يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل، وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأوّل.

ثمّ قال ميثم: يا جبلة، اعلَمي أنّ الحسين بن عليّ سيّد الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة، يا جبلة إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنّها دم عبيط فاعلَمي أنّ سيّدك الحسين قد قُتل.

قالت جبلة: فخرجتُ ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنّها الملاحف المعصفرة! فصحتُ حينئذٍ وبكيتُ، وقلت: قد والله قُتل سيّدنا الحسين بن عليّعليه‌السلام )(١) .

٣) - وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسندٍ عن ابن عبّاس قال:

____________________

(١) أمالي الصدوق: ١١٠ - ١١١، المجلس ٢٧، رقم ١، وعلل الشرايع: ١: ٢٢٧ - ٢٢٨.

٥٨

(كنت مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في خروجه (في خرجته) إلى صِفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو شطّ الفرات قال بأعلى صوته:(يا بن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فقالعليه‌السلام :لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي، قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيَته وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً، وهو يقول:أوه أوه! ما لي ولآل أبي سفيان؟! ما لي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر؟! صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقيَ أبوك مثل الذي تلقى منهم!

ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوءه للصلاة، فصلّى ما شاء الله أن يصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأوّل، إلاّ أنّه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة، ثمّ انتبه، فقال:يا بن عبّاس، فقلت: ها أنا ذا؟

فقال:ألا أُحدّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رَقدَتي؟

فقلت: نامت عيناك ورأيتَ خيراً يا أمير المؤمنين.

قال:رأيت كأنّي برجال قد نزلوا من السماء، معهم أعلام بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيت كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سُخَيلي وفرْخي ومُضغتي ومخّي قد غرق فيه يستغيث فلا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آلَ الرسول! فإنّكم تُقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة يا أبا عبد الله إليك مشتاقة! ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشِر فقد أقرّ الله به عينك يوم القيامة يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، ثمّ انتبهتُ!

وهكذا والذي نفس عليٍّ بيده، لقد حدّثني الصادق المصدّق أبو القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء، يُدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً من وِلدي ووِلد فاطمة، وإنّها لفي السماوات معروفة تُذكر أرض كرب وبلاء، كما تُذكر بقعة الحرَمَين، وبقعة بيت المقدس.

٥٩

ثمّ قال:يا بن عبّاس، اُطلب لي حولها بعْر الظباء، فو الله ما كذبتُ ولا كُذّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران!

قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أمير المؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي.

فقال عليّعليه‌السلام :صدق الله ورسوله، ثمّ قامعليه‌السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال:هي هي بعينها! أتعلُم يا بن عبّاس ما هذا الأبعار؟

هذه قد شمّها عيسى بن مريمعليه‌السلام ، وذلك أنّه مرّ بها ومعه الحواريّون فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسىعليه‌السلام وجلس الحواريّون معه فبكى وبكى الحواريّون، وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى!

فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟!

قال: أتعلمون أيّ أرض هذه؟

قالوا: لا.

قال: هذه أرض يُقتل فيها فرْخ الرسول أحمد، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المسك؛ لأنّها طينة الفرْخ المستشهد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول: إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تُربة الفرخ المبارك.

وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض، ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب؛ لمكان حشيشها، اللّهمَّ فأبقها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة.

قال:فبقيَت إلى يوم الناس هذا، وقد اصفرّت لطول زمنها، وهذه أرض كرب وبلاء، ثمّ قال بأعلى صوته:يا ربّ عيسى بن مريم، لا تُبارك في قَتَلَتِه، والمُعين عليه، والخاذل له.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253