الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة0%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 253
المشاهدات: 53471
تحميل: 9017

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53471 / تحميل: 9017
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

محمّد بن الحنفيّة قد أمره بقتال الذين حاربوا الحسين (عليه السلام) وقتلوه، ليتمكّن من حشد الشيعة تحت لوائه؛ لأنّهم العدد الأكبر في الكوفة، وكلّهم يعلمون ما لمحمّد بن الحنفية من علوّ المنزلة في الدين والعلم، وقد سمعوا من أبيه ما يؤكّد لهم فضله وعلوّ شأنه، والمختار في ذلك الظرف من أحوج الناس إلى الأنصار والأتباع لتنفيذ خطّته، ولا سيّما وقد ظهر ابن الزبير في الحِجاز وانتشر دعاته في البلاد ودخلوا الكوفة عاصمة المختار، وهي من أطوَع العواصم العربيّة لكلِّ ثائرٍ وعلى الأخص الشيعة الذين كانوا يتواثبون مع كلّ ثائر؛ للتخلّص من الأمويّين وأنصارهم قَتَلَة الحسين، ويؤيّد ذلك ما رواه المسعودي في مروج الذهب، أنّ المختار بعد أنْ يئس من عليّ بن الحسين (عليه السلام) كتب إلى محمّد بن الحنفيّة يطلب تأييده في نهضته، ويعرض عليه أنْ يأخذ له البيعة من الناس في الكوفة، فأشار عليه عبد الله بن العبّاس أنْ لا يتجاهر في عيب المختار والتشنيع عليه، وذكر له ما يضمره ابن الزبير من العِداء والكيد لأهل البيت، ورجّح له البقاء على صداقة المختار؛ ليكون عوناً لهم على ابن الزبير فيما لو حاول الكيد والإساءة لهم.

واستطاع المختار أنْ ينفّذ خطّته بعد أنْ التفّ حوله الشيعة والقسم الأكبر من سكّان الكوفة، ولمّا ظهَر ابن الزبير واستتبّ له الأمر في الحِجاز تمنّع ابن الحنفيّة والهاشميّون من مبايعته، فألحّ في خصومته لهم وحصرَهم في بعض شِعاب مكّة، وجمع كميّات من الحطب ليحرقهم إنْ هم أصرّوا على عدم بيعته، وكان المختار قد علِم بما يلقونه من ابن الزبير، فجهّز جيشاً من أربعة آلاف فارس بقيادة أبي عبد الله الجدلي، وأمرهم بالإسراع قبل أنْ يفوت الأوان فلَم يشعر ابن الزبير إلاّ والغزاة يسيطرون على الموقف في مكّة، فلم يجِد ابن الزبير ملجأً له غير الكعبة فالتجأ إليها.

ولمّا تمّ للغزاة إنقاذ الهاشميّين من الحصار المضروب عليهم في شِعاب مكّة، أرادوا الفتك بابن الزبير وجماعته ولكنّ محمّد بن الحنفية لم يأذَن لهم في قتال أحد وخرَج من مكّة إلى بلدٍ يقال لها (أيله)، فأقام به منعزلاً عن الناس حتّى قُتِل ابن الزبير (1) ، وهذه الحوادث تُعطي الباحث صورة عن الأوضاع السياسيّة في ذلك العصر وعن موقف الطامعين في الحكم من الهاشميّين، فكلٌّ يحاول أنْ يربح تأييدهم،

____________________

(1) انظر المجلّد الثاني من مروج الذهب للمسعودي ص 98 و99 و100.

٦١

فابن الزبير يهدّدهم بأبشَع الجرائم إذا لم يقفوا إلى جانبه، والمختار الثقفي يعلن من على منبر الكوفة أنّهم يؤيّدون حركته الثوريّة، واستغلّ سكوت ابن الحنفيّة عنه في إشاعة ذلك بين جماهير الشيعة، ورأى ابن الحنفيّة نفسه مضطرّاً لأنْ يلتزم السكوت تجاه تلك الشائعات التي روّجها المختار؛ لأنّ حركته تهدِف إلى الانتقام من قَتَلَة الحسين (عليه السلام) في الكوفة، وهذه الأُمنية الغالية عند العلويّين الذين تحمّلوا مرارة تلك الفاجعة الأليمة، التي بقيت تحزّ في نفوسهم وحرمتهم لذّة الحياة زمناً طويلاً.

ومجمل القول إنّ محمّد بن الحنفيّة الذي تنتمي إليه هذه الفرقة لم يدّعِ الإمامة لنفسه، ولم يُحدّث عنه التاريخ بأنّه نازع أحداً فيها، وكل ما في الأمر أنّه لم يُجاهر في عِداء المختار، ولم يتظاهر في خصومته لأسبابٍ سياسيّة أشارت إليها رواية المسعودي التي أوردناها سابقاً، أمّا المختار فمِن الجائز أنْ يكون قد انتحل لنفسه بعض الصفات لتدعيم مركزه في الكوفة كما يدّعي كتاب الفرق.

ولكن ما ورد عن الإمامين زين العابدين وولده محمّد الباقر (عليه السلام)، من الثناء والترحّم عليه يُبعِد عنه تلك التُهَم الباطلة التي لا تتّفق مع الإسلام؛ لأنّ الأئمّة من أهل البيت قد أعلنوا رأيهم بصراحة تامّة في الفرق الإسلامية التي انحرفت في تفكيرها عن أُصول الإسلام وفروعه، أمّا ما أورده المسعودي في مروج الذهب من أنّه كتب إلى الإمام زين العابدين، يعرض عليه أخذ البيعة له من الناس في الكوفة وخارجها، وأنّ الإمام رفَض ذلك رفضاً باتّاً وتنكّر للمختار ودعوته، وأشار على عمّه محمّد بن الحنفية أنْ لا يُهادنه في تلك العروض ولا يفسَح له المجال في الدعوة إليه (1) ، هذه الرواية على تقدير صحّتها لا تدلّ على أنّه كان مُشعْوِذاً كما يدّعي المؤرّخون وكتّاب الفِرَق.

ومن الجائز القريب أنْ يكون رفض الإمام لعروض المختار؛ لعلمه أنّ أهل الكوفة لا يوثَق بهم في قولٍ أو عمل، والإمام نفسه قد وقَف على حقيقة أحوالهم ورأى بعينه تخاذلهم عن جدّه الأعظم عليّ (عليه السلام)، وعن عمّه الحسَن ووقوفهم إلى جانب بني أُميّة في كربلاء، هذا بالإضافة إلى أنّ الأمويّين لم ينتهِ أمرهم، وقد وقفوا يراقبون الأحداث ويعدّون العدّة للوثبة على العراق والانتقام من كلّ معارضٍ لهم، وابن الزبير العدوّ الثاني

____________________

(1) انظر المصدر السابق ص 98.

٦٢

للهاشميّين قد أطلّ رأسه من الحِجاز وبثّ دعاته في البلاد وهو لا يقلّ خطَراً عن الأمويّين، هذه الظروف والملابسات هي التي فرضت على الإمام (عليه السلام) أنْ يقف هذا الموقف السلبي من دعوة المختار، وهو موقف تفرضه المصلحة وتقتضيه الحكمة، وليس من قصدنا أنْ ندافع عن المختار أو أنْ نتلمس له الأعذار، ولا التشكيك بأصلِ وجود فرقة في التاريخ تُعرف بالكيسانيّة، وإنّما الذي أردناه أنْ نُبرّر موقف محمّد بن الحنفيّة من هذه الفرقة، وأنّها لم تكن في عصره، وإذا صحّ وجودها فتكون حادثة بعد وفاته، وموقف الشيعة منهم إنْ كانوا كما تصفهم كتب الفِرَق والمقالات أنّهم ضالّون مضلّون، قد خرجوا عن الإسلام وأُصوله وضلّوا سَواء السبيل.

الزيدية

الفرقة الثانية من فِرَق الشيعة الزيدية، وهم القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين (عليه السلام)، وقد نشأت هذه الفرقة في العصر الذي نبَغ فيه زيد بن عليّ، وأصبَح من أعلام المسلمين وقادتهم المتطلّعين إلى الإصلاح، ولعِب قادتها دوراً بارزاً في تاريخ الحكومات الإسلامية في مختلف الأقطار.

ولا تزال هذه الفرقة تعيش من بين عشرات الفرق الإسلامية التي ظهرت في مطلع القرن الثاني، وهي الفرقة الأُولى من سكّان اليمَن في العصر الحاضر، والمبدأ الأوّل الذي قامت على أساسه هذه الفرقة، هو اختصاص الإمامة بمَن قام بالسيف من أولاد عليّ بن أبي طالب وفاطمة بنت محمّد (عليهم السلام)، ولهم أُصول أُخرى وتشريعات في الفقه الإسلامي، سنشير إليها في أثناء حديثنا عن الزيديّين والمراحل التي مرّوا بها، وقد تحدّثنا عن فقههم في كتابنا (المبادئ العامّة للفقه الجعفري).

وكان السبب في خروج زيد بن عليّ (عليه السلام) على الحكّام الأمويّين؛ ما كان يُعانيه المسلمون من ظلم الأمويّين واستهتارهم بالمقدّسات الإسلامية، ولحِق الشيعة النصيب الأكبر من تلك السياسة الجائرة، سياسة البطش والقتل والإرهاب والتنكيل بالصُلحاء والعلماء، ولمّا جاء دور هشام بن عبد الملك أحسّ شيعة العراق بالفرَج بواسطة خالد القسري، الذي ولاّه هشام بن عبد الملك على العراق وانتهج فيها سياسة الرِفق واللين، ولكن يوسف بن عمر الثقفي لم يكن واثقاً من

٦٣

سياسة خالد القسري، وعلى الأخص مع أهل البيت والهاشميّين، فكتب إلى هشام بن عبد الملك: (إنّ أهل هذا البيت من بني هاشم كانوا قد هلَكوا جوعاً، حتى كانت همّة أحدهم قوت عياله، ولمّا جاء خالد أعطاهم الأموال فقووا بها حتى تاقت نفوسهم إلى طلب الخلافة).

فاستجاب هشام إلى عميلة يوسف الثقفي، وبادر إلى عزل خالد عن ولاية العراق وسلّمها ليوسف بن عمر الثقفي، فعمل كلّ ما في وسعه لاضطهاد الشيعة، ولم يدَع أحداً معروفاً بموالاة الهاشميّين إلاّ ألقاه في سجنه بواسط (1) ، فتضاعفت نقمة الشيعة على الأمويّين.

وفي هذا الجوّ المظلم المحفوف بالمكاره عاش زيد بن عليّ ولحقه ما لحِق غيره من الامتهان والتعسّف والجور، وكان هدفاً لعدوانهم في جميع الحالات، ولمّا أحسّ بأنّه غير متروك وأنّهم يحاولون الوقيعة به مهما كلّفهم ذلك من ثمن، آثر أنْ يموت تحت ظلال الأسنّة على الحياة المحفوفة بالأخطار والذلّ والمكاره، وفي هذا الجوّ الذي كان يعيش به زيد بن عليّ كتب يوسف بن عمر الثقفي إلى هشام بن عبد الملك:

بأنّ خالداً القسري الحاكم السابق للعراق قد أودَع زيداً ستمِئة ألف درهم وأنكرها زيد عليه، وبالفعل أرسل هشام يطلب زيداً من حاكم المدينة، فلبّى زيد طلبه، ولمّا دخَل على هشام بن عبد الملك أنكر أنْ يكون له علم بما ادعاه يوسف الثقفي حاكم العراق، فرغب إليه هشام أنْ يذهب إلى العراق لمقابلته، فامتنَع زيد من ذلك وعلِم أنّها مؤامرة بين الوالي والخليفة للتنكيل به.

وأصرّ هشام بن عبد الملك على رأيه، ودار بينهما جدال طويل كان من جملته أنّ هشاماً قال له: بلغني أنّك تحدّث نفسك بالخلافة وأنت ابن أمَة، فأجابه زيد بجرأته المعروفة وصراحته في الحق وعدم مبالاته بالظالمين مهما كانت النتيجة: ويلك أيضعني مكان أُمّي؟ وقد كانت أمّ إسماعيل أمَة، فجعل الله منها العرَب وجعَل من العرَب رسول الله، ثمّ اتجه إليه زيد ونصحه بتقوى الله والرفق بعباده، فشقّ على هشام أنْ يسمع من خصمه السياسي ذلك، فانتهره قائلاً بلهجة المتجبّر الحاكم بأمره: ومثلك يا زيد، يأمرني بتقوى الله؟ فقال زيد: إنّه لا يكبر أحد فوق أنْ يوصى بتقوى الله، ولا يصغر دون أنْ يوصي بها، ثمّ خرج

____________________

(1) انظر العراق في ظلّ العهد الأموي ص 114 و115.

٦٤

من مجلسه متوجّهاً إلى العراق وأقسم أنْ لا يلقى هشاماً إلاّ في كتيبةٍ حمراء، وطبيعي أنْ لا يخفى أمره في الكوفة، فطالبه الوالي يوسف بن عمر بالمال الذي ادعاه إليه وأساء معاملته، ولولا أنّ هشاماً أمره بالكفّ عنه لَما تركه حيّاً، وقد حاول أنْ يرجع إلى المدينة، فاستغاث به أهل الكوفة وأعطوه العهود والمواثيق أنْ يقاتلوا بني أُميّة معه، والتفّوا حوله، وبايعه منهم كما في رواية المقريزي أربعون ألفاً، وفي رواية الروض النضير المجلّد الأوّل ص 75 أنّ الذين بايعوه بلغوا ثمانين ألفاً.

وجاء في شرح النهج وعيون الأخبار لابن قتيبة: أنّ هشاماً كان يحاول إذلال زيد وامتهانه حينما وفَد عليه إلى الشام شاكياً سوء معاملة حاكم المدينة، فمنعه من الدخول عليه أيّاماً، ولمّا أذِن له بالدخول أشار إلى جلسائه أنْ لا يفسحوا له في مجلسه، وقال له: ما فعل أخوك البقرة؟ يعني بذلك الإمام محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام)، فأجابه: لقد سمّاه رسول الله الباقر، وأنتَ تُسمّيه البقرة لشدّ ما اختلفتما! والله لتخالفه في الآخرة كما خالفته في الدنيا، فترِد النار ويرِد الجنّة، فأمر هشام بإخراجه من منزله فخرَج وهو يقول: لنْ يَكره قومٌ حَرّ السيوف إلاّ ذلّوا، وتمثّل بقول القائل:

شـرّده  الـخوف وأزرى به

كـذاك مَن يكره حرّ الجِلادِ

منخرقَ  الكفّين يشكو الجوَى

تـنكيه إطـرافُ مـرٍّ حِداد

قـد  كان في الموت له راحةٌ

والموتُ حتمٌ في رقابِ العبادِ

إنْ يُـحـدث الله لـه دولـةً

يـتركُ آثار العدى كالرماد

ومضى إلى الكوفة فاجتمع إليه أهلها وأغروه بالنصرة والتضحية معه مهما كانت النتيجة، وكان ممّن بايعه جماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة، وتعاهده بالمال وحثّ الناس على الخروج معه، وجاء عنه أنّه قال: إنّ خروجه يُضاهي خروج جدّه يوم بدر (1).

وكانت بيعة الناس لزيد كما يُصوّرها الطبَري، الدعوة إلى كتاب الله وسنّة رسوله، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين وقسمة الفيء بين المسلمين بالسويّة وردّ المظالم، فمَن وافقه على ذلك أخذ

____________________

(1) انظر مناقب أبي حنيفة ج 1 ص 255.

٦٥

يده وقال له: عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله، لتفيَنّ ببيعتي ولتقاتلنّ عدوّي ولتنصحنّ لي في السرّ والعلانية، فإذا قالوا: نعم، مسَح يدَه على أيديهم (1).

وتؤكّد النصوص التاريخية أنّ يوسف بن عمر الثقفي مثّل دور ابن عمّه الحجّاج مع أهل البيت وشيعتهم، ويبدو ذلك من كتابه الذي أرسله إلى هشام بشأن السياسة التي اتّبعها خالد القسري في الكوفة، وهذا ما حدا بهشام بن عبد الملك أنْ يعزل خالداً ويولّي يوسف بن عمر مكانه، ولم يخرج زيد على الأمويّين إلاّ بعد أنْ أحسّ بالمؤامرة التي تبنّاها الوالي للوقيعة به.

وقد جاء عنه أنّه قال لهشام، عندما ألحّ عليه بالاجتماع بيوسف بن عمر: والله لئن بعثتني إليه لا اجتمع أنا وأنتَ حيّيَن أبداً، وأخيراً رأى نفسه بين أمرين: إمّا أنْ يعيش ذليلاً مختبئاً بين عشائر الكوفة ينتظر غدر الولاة به ساعةً بعد ساعة، وبين أنْ يخرج على أُولئك الحكّام مُعلناً رأيه بهم مهما كلّفه ذلك من ثمن، فاختار الموت في سبيل الحق على الحياة ذليلاً مع الظالمين، وقال كلمته المشهورة: (ما أحبّ امرؤ الحياة إلاّ ذل) .

وتؤكّد النصوص الواردة عن الأئمّة من أهل البيت (عليه السلام)، أنّه لم يدّع الإمامة لنفسه، وأنّ كل ما كان يهمّه التخلّص من الظلم والطغيان، فقد أورد الكشّي عن فُضيل الرسان أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) بعد أنْ قُتِل عمّه زيد بن عليّ (عليه السلام)، فقال لي: (يا فُضيل، قُتِل عمّي زيد بن عليّ؟!)، قلت، نعم جُعلت فداك، فقال: (رحمه الله، أما إنّه كان مؤمناً وكان عارفاً عالماً صدوقاً ولو ظفَر لوفى، أما إنّه لو ملَك لعرف كيف يضعها).

وفي كثير من المرويّات أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لمّا بلغه ما جرى على عمّه زيد بكى واسترجع وقال: (رحم الله عمّي زيداً، إنّه كان نِعم العم لديننا ودُنيانا، وقد مضى شهيداً كالذين استشهدوا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعليّ والحسين (عليهما السلام)).

وفي رواية العيص بن القاسم عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال

____________________

(1) انظر تاريخ الطبري ج 8 ص 297.

٦٦

لأصحابه: (لا تقولوا خرَج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً صدوقاً لم يَدْعُكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ولو ظفَر لوفى بما دعاكم إليه).

وجاء عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال للمأمون: (يا أمير المؤمنين، لا تقِس أخي زيداً إلى زيد بن عليّ بن الحسين، فإنّه من علماء آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) غضب لله عزّ وجل فجاهد أعداء الله حتى قُتِل في سبيله)، فقال المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء فيمَن ادّعى الإمامة لنفسه ما جاء؟ قال الرضا (عليه السلام): (إنّ زيداً لم يدّع ما ليس له بحق، إنّه كان أتقى لله من ذلك، إنّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد، وهو ممّن خُوطِب بهذه الآية: ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ) ).

وقد أكّد ولده يحيى ذلك في حديث جرى بينه وبين بعض الشيعة، وجاء فيه: إنّ أبي أعقَل من أنْ يدّعي ما ليس له بحق، إنّما قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد - وعنى بذلك ابن عمه جعفراً (عليه السلام) ـ.

وقد ترجمه علماء الشيعة في كتبهم، المتقدّمون منهم والمتأخّرون، ووصفوه بالصلاح والورَع والعِلم ونفَوا عنه ما قيل من أمر ادعاء الإمامة، واتفقوا على أنّه كان يدعو إلى الرضا من آل محمّد، ويعني بذلك ابن أخيه الإمام الصادق، فقد قال فيه عليّ بن محمّد الخزار في كتابه كفاية الأثر: كان زيد بن عليّ بن الحسين (عليه السلام) معروفاً بالصلاح والستر، مشهوراً عند الخاص والعام بذلك، وكان خروجه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يُخالف ابن أخيه جعفراً الصادق في الإمامة، وإنّما جاء الخلاف من بعض الشيعة حيث توهّموا أنّ الإمامة لمن خرَج بسيفه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أمّا من جلَس في بيته وأغلَق عليه بابه فلا يكون إماماً للناس.

ومنهم المفيد في الإرشاد، والمرتضى والنسّابه أبو الحسن العمري في كتابه (المجدي)، والشيخ عبد اللطيف بن عليّ بن أبي جامع العاملي في رجاله، والشيخ محمّد ابن الشيخ حسَن صاحب المعالم في شرح الاستبصار، والمجلسي في مرآة العقول، والميرزا عبد الله المعروف بالأفندي في كتابه رياض العلماء، والشيخ البهائي في رسالته التي أثبت فيها وجود محمّد بن الحسن (عليه السلام)، والسيّد علي خان في كتابه شرح الصحيفة، والشيخ عبد النبي الكاظمي في كتابه تكملة الرجال، والشيخ محمّد حسن الحِر صاحب الوسائل في رجال الوسائل في ترجمة زيد بن عليّ (عليه السلام)، والميرزا حسين النوري في مستدرك الوسائل وغير هؤلاء من العلماء الذين وصفوه

٦٧

بصفات الصدّيقين الأبرار، ونزّهوه عمّا نُسِب إليه من ادعاء الإمامة (1).

ويميل جماعة من الكتّاب المتقدمين والمتأخرين إلى أنّه ادعاها لنفسه، معتمدين على دعاة المذهب الذي حدث بعض وفاته بنصف قرن تقريباً، وقد نسبوا إليه أنّه يرى أنّ الخلافة لا تكون بالوراثة وأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نص على الخليفة من بعده بالوصف لا بالاسم، ولا يكون الإمام إلاّ بعد أنْ يخرج داعياً لنفسه، وقد جاء عن زيد بن عليّ من المؤهّلات ما جعله في القمّة، حيث توفّرت فيه جميع العناصر والصفات التي جعلته متعيّناً للإمامة، وأضافوا إلى ذلك أنّ البيعة التي أخذها من أهل الكوفة تدلّ على أنّه قد اعتمد نفسه إماماً؛ لأنّها اشتملت على الدعوة إلى كتاب الله وإنصاف المظلومين وقسمة الفيء، وردّ المظالم وغير ذلك ممّا هو مِن وظائف الإمام الشرعي، وانتهى بعض الكتّاب من ذلك إلى أنّ زيداً قد ادّعى الإمامة، وليس في المصادر التاريخيّة ما ينقض هذه الأدلّة (2).

وقد أوردنا من أقوال أئمّة الشيعة الذين عاصروه ما ينقض تلك الأدلّة التي اعتمدها القائلون بأنّه كان طالباً للإمامة، وإذا أضفنا إلى ذلك ما تؤكّده النصوص التاريخيّة من سوء معاملة الحكّام له ومطاردته في الحِجاز والعراق، وما لقيه الشيعة والعلويّون من يوسف بن عمر الثقفي، من الظلم والتنكيل بهم يتبيّن لنا أنّ ثورته كانت للتخلّص من تلك الحكومات التي أماتت السُنَن، وأحيَت البِدَع ويسّرت للناس ارتكاب الجرائم والمُنكرات، وفي بعض المرويّات عنه قال: شهدت هشاماً ورسول الله يُسبُّ في مجلسه فلَم ينكِر ذلك ولم يُغيّر، فوالله لو لم يكن إلاّ أنا وآخر لخرجتُ عليه (3) .

وقد ذكرنا صيغة البيعة التي أخذها من الذين أغروه بطاعتهم، وليس فيها ما يُشير إلى أنّه كان يطلب الخلافة لنفسه، والذي يُستفاد منها أنّه كان يُحاول انتزاع السلطة من تلك الأيدي الخائنة الملوّثة بدماء الأبرياء والصلحاء، وأدلّ شيء على ذلك، ما جاء في حديث ولده يحيى مع المتوكّل بن هارون قال: (إنّ أبي لم يكن بإمام ولكنّه من السادة الكرام وزهّادهم، وأنّه أعقَل من أنْ يدّعي ما ليس له بحق، لقد دعا الناس إلى الرضا من آل محمّد

____________________

(1) انظر زيد الشهيد للسيّد عبد الرزّاق المقرّم طبع النجف.

(2) انظر الإمام زيد للأُستاذ الشيخ محمّد أبي زهرة ص 67 وما بعدها.

(3) انظر سفينة البحار للشيخ عبّاس القمّي ج 1 ص 577.

٦٨

وعنى بذلك ابن عمّي جعفراً).

ومهما كان الحال فمّما لا شكّ فيه أنّ جماعة من الشيعة والفقهاء قالوا بإمامته، وكانوا يرَون رأيه في الثورة على الأمويّين، أمّا أنّه ادعى الإمامة وثار من أجلها فليس فيما بأيدينا من الأدلّة ما يؤكّد ذلك، ولكنّ المؤهّلات التي اجتمعت فيه خلقت له أنصاراً جعلوه من مصاف الأئمّة الهُداة من أهل البيت، فلقد قال فيه ابن أبي ليلى، أحد الفقهاء البارزين في عصره: لو علِمْتُ أنّ الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه؛ لأنّه إمام حق، وقال فيه أبو حنيفة: شاهدت زيد بن عليّ فما رأيت في زمانه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جواباً ولا أبيَن قولاً، لقد كان منقطع النظير.

وقال فيه عبد الله بن الحسن بن الحسن أحد الشيوخ لأبي حنيفة، وهو ينصح ولده الحسَن بن زيد في عدَم الخروج على الحكّام: إنّه قد توالى لك آباء وأنّ أدنى آبائك زيد بن عليّ الذي لم يكن فينا ولا في غيرنا مثله، وكان سفيان الثوري أحد المشاهير في العِلم والحديث إذا ذُكِر زيداً بكى على ما فقده العِلم والفضل والتقى بفقْده، ويدّعي الشيخ أبو زهرة أنّ القرّاء والفقهاء والمحدّثين والصُلحاء كلّهم كانوا يرَون رأي زيد في الثورة على الأمويّين (1).

والقائلون بإمامة زيد يدّعون أنّ الإمامة قد انتقلت منه إلى ولده يحيى بن زيد؛ لأنّه خرَج بالسيف وكان زاهداً متعبّداً عالماً بالحلال والحرام، وقد جاهد مع أبيه في الكوفة، فلمّا قُتِل خرَج منها متخفّياً مع جماعة إلى كربلاء ومنها إلى المدائن ثمّ إلى الريّ من بلاد إيران، وتنقّل فيها من بلدٍ إلى بلد متخفّياً حتى انتهى إلى بلَخ فنزل على الجريش بن عبد الرحمان الشيباني، وبقي معه إلى أنْ تولّى الخلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فكتب يوسف بن عمر الثقفي إلى نصر بن سيار الوالي على خراسان أنْ يقبض على يحيى ويرسله إليه، فكتب نصر إلى حاكم بلَخ أنْ يأخذ الجريش بن عبد الرحمان أسيراً حتى يسلّمه يحيى، فتمنّع الجريش من تسليم يحيى فألقاه الحاكم في سجنه وضربه ستمِئة سوط وهدّده بالقتل.

وأخيراً تمّ له القبض على يحيى بواسطة أحد أبناء الجريش، فأرسله حاكم بلَخ

____________________

(1) انظر الإمام زيد لأبي زهرة ص 71 و72.

٦٩

إلى نصر بن سيار فألقاه في سجنه مقيّداً بالحديد، ثمّ أطلقه بعد أنْ استشار الوليد بن يزيد في أمره، فأتي له بحدّاد ليفك القيد من رجْليه، وبلَغ الشيعة أنّ القيد كان في رجلَي يحيى فتنافسوا على شرائه حتى بلَغ عشرين ألف درهم، وأخيراً تقاسموه بينهم قِطعاً صغيرة للتبرّك به، ومضى يحيى يتنقّل في البلاد، وكان كلّما بلغ أمره الناس انضمّ إليه جماعة وتابعوه حتى بلَغ مَن معه نحواً من سبعمِئة تقريباً، فأمر نصر بن سيار عاملي طوس وسرخس باغتيال يحيى وجماعته، فدارت بينهم وبينه معارك انتهت بهزيمة العاملَين ومَن معهما، ولمّا بلغ يحيى الجوزجان دارت بينه وبين نصر بن سيار معركة دامية انتهت بقتل يحيى بعد أنْ أُصيب بنشابة في جبهته.

وقد خرَج من أولاد زيد الشهيد عيسى بن زيد، وكان له من العمر حينما قُتِل والده أحد عشر عاماً، ولمّا شبّ وترعرع ساهم في ثورة محمّد بن عبد الله المحض، وبعد قتله اشترك في المعارك مع إبراهيم بن عبد الله التي دارت بينه وبين العبّاسيين، وأوصى له إبراهيم بالأمر من بعده.

وأخيراً اختفى بين أهل الكوفة وعاش عمراً طويلاً متخفّياً عن الناس؛ لئلاّ يقَع أسيراً في يد المهدي العبّاسي (1) وجاء في الملل والنحل للشهرستاني: أنّ أمر الزيدية لم ينتظم بعد مقتل زيد وولَده يحيى ومحمّد بن عبد الله وأخيه إبراهيم، إلى أنْ ظهر ناصر الأطروش في بلاد الديلَم والجبل سنة 301هـ فدعا أهل تلك البلاد إلى الإسلام، فدخلوا فيه على مذهب الزيدية، واستمرّ أمر الزيدية في تلك البلاد يخرج الواحد منهم بعد الآخر (2).

ويدّعي الأُستاذ أبو زهرة، أنّ زيد بن عليّ كان يذهب إلى أنّ الخلافة بالاختيار لا بالنص، وعلى أساس ذلك، يجوز أنْ يتولاّها المفضول مع وجود الفاضل، واعتمد في ذلك على ما رواه عنه الشهرستاني (3) أنّه قال: كان عليّ (عليه السلام) أفضل الصحابة، إلاّ أنّ الخلافة فُوّضت إلى أبي بكر

____________________

(1) انظر زيد الشهيد للسيّد عبد الرزاق المقرّم.

(2) انظر الملل والنحل الجزء الأول ص 254، وناصر الأطروش هو الحسن بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن عمر بن عليّ بن الحسين وكان يلقب بالناصر، واستولى أخيراً على طبرستان.

(3) انظر الشهرستاني ج 1 ص 209.

٧٠

لمصلحة رأوها، وقاعدة دينيّة راعوها من تسكين ثائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامّة؛ لأنّ عهد الحروب التي جرت كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كلّ الميل، ولا تنقاد له الرقاب كلّ الانقياد، واستطرد زيد بن عليّ يعدّد الأسباب التي أوجبت تقدّم أبي بكر على عليّ (عليه السلام) كما جاء في رواية الشهرستاني.

ومِن هذه الرواية قد استنتج أبو زهرة جواز ولاية المفضول، مع وجود الأفضل كما استنتج منها عدم عصمة الأئمّة، وعلّل للنتيجة الأُولى؛ بأنّ زيداً مع اعترافه بأنّ عليّاً (عليه السلام) أفضل من غيره يعتقد بأنّ خلافة الذين تقدّموه كانت حقّاً وطاعتهم واجبة. وعلّل للنتيجة الثانية؛ بأنّه إذا فرضنا أنّ إمامة الأفضل ليست واجبة، وأنّ الخلافة لا تكون بالوصاية من النبيّ، لا يُمكن مع هذين الفرضين أنْ نقول بعصمة الإمام؛ لأنّ فرض عصمة الأئمّة من الخطأ أساسه أنْ يكون توليتهم من النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، والنبيّ ما كان يتصرّف إلاّ بوحيٍ يوحى إليه، وما كان من المعقول أنْ يختار النبيّ لهم بأمر من ربّه إماماً يجري عليه الخطأ في أحكامه.

هاتان النتيجتان، لقد انتهى إليهما الأُستاذ أبو زهرة من حديث زيد بن عليّ بشأن الخلافة التي وصلت إلى أبي بكر، ويبدو أنّه يُحاول أنْ ينتزع لزيد رأياً يُخالف الإمامية، ولو بطريق الاستنتاج والاستنباط؛ لأنّه افترض أنّ زيداً كان يُخالف ما يتردّد في مجالس الشيعة واجتماعاتهم، في العراق وغيرها فيما يتعلّق بالخلافة كما جاء في صفحة 187، فلَم يجد ما يؤيّد افتراضه صراحة فتعلّق بهذه الرواية، مع أنّها لا تعبّر عن رأي زيد بن عليّ، ولم يكن في حديثه بصددِ وضع أصلٍ عام يتعلّق باختيار الخليفة يعبّر عن رأيه في هذا الموضوع، بل كان حاكياً ومُعبّراً عن الوضع الإسلامي من حيث الخلافة، وكيف وصلت إلى أبي بكر وتخطّت عليّاً (عليه السلام)، وما أحبّ أنْ يكون مهاجماً للمسلمين الأوّلين في اختيارهم لأبي بكر وتركهم لجدّه الأكبر (عليه السلام) فذكر لهم هذه المبرّرات، وليس فيها ما يشير من قريب أو بعيد، على أنّه يعتقد ذلك، أو يرى أنّ النبيّ لم ينصّ على جدّه بالخلافة.

لقد استدلّ أبو زهرة بهذه الرواية عن زيد؛ لأنّها تقبل التمويه، وترَك ما هو أصرَح منها في التعبير عن رأي زيد الصحيح، في أنّ الخلافة حقّ لهم، وأنّ الأوّلين قد استأثروا بها ودفعوهم عنها، فقد جاء في رواية ابن الأثير وابن كثير، أنّ أتباع زيد سألوه عن رأيه في أبي بكر وعمر، فقال: (غفر

٧١

الله لهما، ما سمعت أحداً من أهلي تبرّأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلاّ خيراً) فقالوا: (فلِمَ تطالب إذن بدم أهل البيت؟).

فقال: (إنّ أشدّ ما أقول فيمَن ذكرتم: إنّا كنّا أحقّ الناس بهذا الأمر، ولكنّ القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا كفراً).

قالوا: فلِمَ تقاتل هؤلاء إذن؟

قال: إنّ هؤلاء ليسوا كأُولئك، إنّ هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وأنّي أدعو إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإحياء السنن وإماتة البدَع، فإنّ تسمعوا يكن خيراً لي ولكم، وإنْ تأبوا فلست عليكم بوكيل (1).

هذه الرواية تنصّ بصراحة لا تقبل التأويل والجدَل على أنّ زيداً كان يرى أنّ القوم قد اغتصبوهم حقّهم، واستأثروا به عليهم، وهي لا تتّفق مع الشائع عنه على السنّة بعض الكتاب، إنّه كان يرى إنّ الخلافة بالاختيار لا بالنص، وإذا كانت بالاختيار عنده على حدّ زعم الشيخ أبي زهرة وأمثاله، فكيف كان أحقّ بها من جميع الناس، كما جاء في كلامه؟ وكيف يتحقّق الاستئثار الذي وصفهم فيه؟ وهذه الكلمات من زيد كما تدلّ على أنّ الخلافة حقٌّ من حقوقهم المغتصبة، كذلك تدل على انه لم يدع الناس لإمامته؛ لأنّه دعاهم إلى إحياء السُنَن وإماتة البِدَع، والعمل بالكتاب والسنّة كما هو صريح كلامه.

أمّا الرأي المنسوب إليه في العصمة، فليس له نص يمكن الاعتماد عليه في ذلك، وكلّ ما في الأمر أنّ العصمة - على حدّ تعبير بعض الكتّاب - متفرّعة على مبدأ الوصاية، وأنّ اختيار الحاكم يعود إلى النبيّ أو الله سبحانه.

وحيث انه لا يقول بذلك، فلابدّ وأنْ يذهب إلى عدم اشتراط العصمة فيمَن يخلف النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ونحن قد بينّا أنّ زيداً (رضي الله عنه) لم يُخالف الأئمّة من أهل بيته ولم يدّعيها لنفسه، والذي استفدناه من كلماته حول هذا الموضوع تكاد تكون صريحة في أنّه لم يكون لنفسه رأياً يُخالف مذهبهم فيها.

وأغرب من ذلك أنّ بعض الكتّاب قد ذهبوا إلى أنّ زيداً تلمذ على

____________________

(1) انظر الإمام زيد لأبي زهرة ص 58.

٧٢

واصل بن عطاء، وأنّه كان معتزليّاً في أُصول الإسلام، وذلك بنتيجة تأثّره بأُستاذه واصل بن عطاء وقد اعتمدوا في ذلك على بعض كتّاب الفِرَق القدامى أمثال الشهرستاني وغيره، فلقد قال في الملل والنحل: إنّه كان يتلمذ لواصل بن عطاء، ويقتبس العِلم ممّن يجوّز الخطأ على جدّه أمير المؤمنين، في قتال الناكثين والقاسطين، ومَن يتكلّم في القدر على غير مذهب أهل البيت (1) .

وقد شاع هذا الرأي بين جماعة من الكتّاب اعتماداً على أمثال هذه المرويّات، ومن ذلك انتهوا إلى أنّه يرى رأي المعتزلة من أنّ الخلافة تكون للمفضول، وهي بالاختيار لا بالنص، ومن حيث إنّه كان من دعاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أحد الأُصول عند المعتزلة وصَفوه بالاعتزال.

وقد تعرّض لهذه المسألة الشيخ أبو زهرة ورجّح بأنّ زيداً من حيث تقارب سنّه مع واصل بن عطاء، ومِن حيث كفاءاته التي عُرف بها، يتعيّن أنْ يكون لقاؤه مع واصل بن عطاء لقاء مذاكرة لا لقاء تلمذة كما يدّعون، ويميل بالنتيجة إلى رواية ابن المرتضى في المنية والأمل، التي تنصّ على أنّ الأئمّة من أهل البيت كالحسن والحسين وابن الحنفية، والإمامَين زين العابدين وولده الباقر كانوا من المعتزلة في أُصولهم، وقد بينّا أنّ آراء زيد في الإمامة لا تلتقي مع رأي المعتزلة، ولا يمكن أنْ يكون تلميذاً لواصل، وهو يرى فِسق أحد الشخصين لا بعينه، عليّ ومعاوية، ولا يجيز شهادة عليّ (عليه السلام) على باقة بقل كما جاء عنه، أمّا بخصوص نسبة الاعتزال إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فعندما نُقارن بين آراء المعتزلة في الأُصول وآراء الإمامية فيها، يتبيّن الخطأ الفاحش الذي ارتكبه بعض الكتّاب في هذه المسألة أمّا جهلاً منهم بأُصول الشيعة، أو بدافع النزعات الموروثة.

وعلى أيّ الأحوال فلقد قال بإمامة زيد بن عليّ جماعة من الشيعة بعد وفاته، ويقرّر الشهرستاني وغيره أنّ فِرَق الزيدية ثلاثة: جارودية، و سليمانية ، وبترية ، ويضيف إليهم الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين ثلاث فرق أُخرى: نعيمية، أتباع نعيم بن اليمان، و يعقوبية نسبةً لرجل اسمه

____________________

(1) انظر المجلّد الأوّل من الملل للشهرستاني ص 25.

٧٣

يعقوب، وفرقة ثالثة لم ينسبها إلى أحد، ويدّعي أنّ هذه الفِرَق الثلاث تتولّى أبا بكر وعمر، وتنكر رجعة الأموات، وتتبرّأ ممّن دان بها، ويذهب النوبختي في كتابه (فِرَق الشيعة) إلى أنّ فرق الزيدية تشعّبت من الجارودية، وعليه تكون الفرق الرئيسية للزيدية ثلاثة، والمضاعفات الموجودة في كتُب الفرق مصدرها الاختلاف في بعض المسائل بالنسبة لكلّ واحدة من هذه الفرق الثلاث.

ويدّعي الجارودية أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) نص على عليّ (عليه السلام) بالوصف لا بالاسم، وقد ضلّ الناس وكفروا؛ لأنّهم لم يقتدوا به بعد الرسول، ومِن بعده انتقلت إلى ولديه الحسَن والحُسَين (عليهما السلام) الواحد بعد الآخر، ومن بعدهما إلى أولادهما لِمَن يخرج منهم داعياً إلى الله سبحانه، إذا كان عالماً فاضلاً، ويدّعي بعض الجارودية أنّ محمّد بن عبد الله بن الحسن لا يزال حيّاً، وسيخرج لإحقاق الحق (1).

كما يدّعي بعضهم أنّ محمّد بن القاسم صاحب الطالقان حيٌّ لم يمت، ولابدّ وأنْ يخرج لإحياء الحق وإماتة الباطل، وقد خرج في أيّام المعتصم العبّاسي في بلاد الطالقان، فتغلّب عليه عبد الله بن طاهر وأرسله إلى المعتصم فحبسه في سامراء، وبقيَ في حبسه إلى سنة 219هـ، وأخيراً استطاع أنْ يخرج من الحبس بواسطة جماعة من الشيعة، كانوا يتولّون حراسته، ولم يظهر له أثر بعد ذلك، وفي بعض المرويّات أنّه مات مسموماً (2) .

وذهب بعضهم أنّ يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن عليّ لا يزال حيّاً، وسيخرج بعد ذلك، وكان قد قَبض عليه عبد الله بن طاهر، فسلّمه المتوكّل إلى عمر بن الفرج الرخجي فأغلظ له في الكلام، فردّ عليه يحيى بالمثل فشكاه إلى المتوكّل، وبعد أنْ ضربه بالسياط حبسه في دار الفتح

____________________

(1) هو محمّد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكيّة المقتول في المدينة سنة 145هـ بواسطة عيسى بن موسى الهاشمي، وفي هذه السنة قُتِل أخوه إبراهيم أيضاً، وهما ولدا عبد الله بن الحسَن ومن أئمّة الزيدية.

(2) محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين، وأُمّه صفية بنت موسى بن عمر بن عليّ بن الحسين ويُكنّى بأبي جعفر، والعامّة تلقبه بالصوفي؛ لأنّ الغالب على لبسه الصوف، وكان معروفاً بالفقه والعلم والزهد.

٧٤

ابن خاقان، ولمّا أطلقه من حبسه مضى إلى الكوفة ودعا الناس إلى الرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) وأظهر بين الناس العدل وحسن السيرة، فندب عبد الله بن طاهر لقتاله ابن عمّه الحسين بن إسماعيل، وضمّ إليه قُوّاد الجيش، وبعد قتالٍ عنيف بين الطرفين قُتِل يحيى، وذلك سنة 288هـ في عهد المستعين بالله (1).

ويدّعي السليمانية ، أتباع سليمان بن جرير الزيدي أنّ الإمامة بعد رسول الله كانت لمن يختاره المسلمون، ولا يشترط في الاختيار الإجماع، فلو اختار رجلان صالحان شخصاً يكون إماماً، ولو كان في المسلمين من هو أفضل منه وأزهد، وبذلك يصحّحون إمامة أبي بكر وعمر.

ويُنسب إلى زعيم هذه الفرقة، سليمان بن جرير  أنّ خلافة أبي بكر وعمر كانت خطأ، وأنّ الأُمّة قد تركت الأصلح باختيارهما، ويكفّر عثمان بن عفّان، ويقول: إنّ عليّاً لا يضلّ، ولا تقوم عليه شهادةٌ عادلة بضلال.

ويدّعي البترية أتباع الحسين بن صالح بن حي (2) (وأصحاب كثير النواء) وإليه تُنتسب هذه الفرقة؛ لأنّه كان يُلقّب بالأبتر، وهؤلاء يزعمون أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهّم بالإمامة، ولكنّه تركها لغيره، ولولا ذلك لم تصحّ خلافة مَن تقدّمه، ويتوقّفون في عثمان وقتلته، ولا يرَون لعليّ إمامة على الناس إلاّ بعد أنْ بويع بالخلافة.

أمّا الفرق الثلاث التي أضافها الأشعري إلى فرق الزيدية فليست فِرَقاً مستقلّة، وإنّما هي من فروع الفِرَق الثلاث المتقدّمة كما بينّا، وللزيدية آراء في أُصول الإسلام يتّفقون في بعضها مع الإمامية ويختلفون عنهم في البعض الآخر، وعندما نُقارن بين آراء الإمامية وآراء المعتزلة والأشاعرة، لابدّ وأنْ نشير إليها.

والذي رجّحناه في أوائل هذا البحث أنّ زيداً لم يثبت له رأي يخالف فيه الإمامية، ولا سيّما فيما يتعلّق بفكرة الخلافة، والخلاف المنسوب إلى الزيدية فيها وفي غيرها، قد حدَث بعد ثورة زيد بن عليّ، وبعد أنْ أصبح

____________________

(1) انظر الجزء الأول من مقالات الإسلاميين ص 135 والهامش من نفس الصفحة.

(2) كان الحسن بن صالح من كبار الزيدية وعلمائهم المعروفين بالفقه والكلام، ومن المؤلّفين في التوحيد والإمامة، وله في الفقه كتابه المسمّى بالجامع، توفّي سنة 168هـ.

٧٥

الزيديّون فرقة مستقلّة من الناحيتين السياسية والعقائدية.

وعلى كلّ حال فإذا استثنينا الزيدية الذين انحرفوا عن مبدأ الإمامية كما يدّعي كتّاب الفِرَق والمذاهب، نجد الأكثرية المطلقة تدين بإمامة محمّد الباقر وولده الإمام الصادق بعد عليّ بن الحسين (عليه السلام)، ولم يُخالف في إمامتهما سوى بعض الأفراد الذين اندسّوا في صفوف الشيعة لغاية التشويش والتشويه لمبادئ أهل البيت كالخطابية والمغيرية وغيرهما. وكما ذكرنا أنّ الأئمّة (عليه السلام) قد تبرّأوا منهم ومن كلّ مَن تابعهم وشايعهم وحذّروا المسلمين من أمثال هذه الدسائس والمقالات الفاسدة.

أمّا بعد وفاة الإمام الصادق (عليه السلام) فقد ظهرت بين صفوف الشيعة بعض المخالفات والانحرافات عن مبدأ التشيّع الذي تعنيه كلمة الإمامية لأسباب كثيرة؛ كان من أهمّها أنّ الإمام الشرعي موسى بن جعفر كان تحت الرقابة الشديدة من الحكّام، ممّا دعاه لأن يتستّر حتى عن كثير من شيعته، وعندما ظهر أمره واتّسع صيته لم يجدوا سبيلاً لمكافحة التشيّع إلاّ بإلقاء القبض عليه، فقضى شطراً من حياته في السجون، وبها كانت نهاية حياته العاطرة بالفضائل والمفاخر.

لذلك ولغيره من الأسباب ظهرت بوادر الانحراف بين الشيعة (1)، فادّعى ا لناووسية ، أتباع عجلان بن ناووس: أنّ الصادق لم يمُت وسيظهر لإحياء الحق وإماتة البِدَع والأهواء، ورووا عنه أنّه قال: (إذا رأيتم رأسي (يدهده) عليكم من الجبل فلا تصدّقوا بوفاتي، فإنّي صاحبكم صاحب السيف).

وادّعى آخرون أنّ الإمامة بعد الصادق (عليه السلام) لولده عبد الله المعروف بالأفطح شقيق إسماعيل، ورووا عن الصادق لتأييد دعوتهم أنّه قال: الإمامة في أكبر أولاد الإمام، كما رووا عنه: أنّ الإمام بعدي من يجلس مجلسي، ولا يُغسّل الإمام إلاّ الإمام، وهذه الصفات كانت لعبد الله على حدّ زعمهم، وأضافوا إلى ذلك أنّ الإمام الصادق قد وضَع مع بعض أصحابه مالاً، وأمره أنْ يدفعه إلى من يطلبه منه، ويتّخذه إماماً، ولم يطلبه أحد سوى عبد الله..

____________________

(1) انظر كتابنا عقيدة الشيعة الإمامية في حديثنا عن أسباب تعدّد الفرق الشيعية.

٧٦

بهذه النصوص استدلّ بعض الشيعة على إمامة عبد الله الأفطح، وهي على تقدير صحّتها وصدورها منه (عليه السلام) المقصود منها تشويش الحكّام وصرف أنظارهم عن الإمام الشرعي موسى بن جعفر (عليه السلام)؛ لأنّهم كانوا يحرصون على معرفة المنصوب إماماً بعد الصادق، وكتب المنصور إلى عامله في المدينة يستعلم منه عن الموصى إليه بعد الإمام الصادق، وكان الإمام (عليه السلام) قد أحسّ بسوء نواياهم على خليفته الشرعي، فكتب وصيّته وجعلها لأربعة منهم، محمّد بن سليمان والي المدينة، وأبو جعفر المنصور، وحميدة أمّ الإمام موسى بن جعفر، فكتب إليه الوالي بذلك فقال المنصور: أمّا هؤلاء فلا سبيل إلى قتلهم (1).

وادعى آخرون من الشيعة أنّ الإمامة من بعده لولده محمّد بن جعفر، وأنّ جدّه الإمام الباقر قد نصّ عليه بالإمامة، ورووا في ذلك أنّه قال لولده الإمام الصادق: (إذا ولد لك ولد فسمّه باسمي فهو الإمام من بعدك) وأصحاب هذه المقالة هم الشمطية أتباع يحيى بن شميط، كما يدّعي كتّاب الفِرَق والمذاهب.

وذهب جماعة إلى أنّ الإمامة بعد الصادق لولده إسماعيل بالنصّ عليه من أبيه، وهؤلاء بين مَن قال بوفاته في حياة أبيه، ويكون النص عليه سبباً لرجوع الإمامة إلى أولاده، وأوّلهم محمّد بن إسماعيل، ويُنسب هذا القول إلى المباركية نسبة للمبارك مولى إسماعيل، وبين مَن قال ببقاء إسماعيل حيّاً بعد أبيه، وقد أظهَر والده موته وكتب محضراً بذلك وأشهد حاكم المدينة محمّد بن سليمان خوفاً عليه من العبّاسيّين، وهم بين مَن وقف على محمّد بن إسماعيل ولم يتجاوزه لغيره، وبين من تعدّى عنه، وجعل الإمامة في سبعة سبعة، بين مستورٍ وظاهر، أوّلهم محمّد بن إسماعيل، ثمّ ولده جعفر المصدّق، ثمّ ولده محمّد الحبيب، ثمّ عبد الله المهدي الذي ظهَر في شمالي إفريقيا، ومِن ولده تكونت الدولة الفاطمية (2).

ويؤكّد كتّاب الفِرَق أنّ القائلين بإمامة إسماعيل بين مَن ذهب إلى وفاته في حياة أبيه، وبين قائلٍ ببقائه حيّاً بعد أبيه، وأنّ الإمامة قد انتقلت منه لولده إسماعيل، ولم يذكر بعض الكتّاب المحدّثين سوى القول الأوّل مع

____________________

(1) انظر كتابنا عقيدة الشيعة الإمامية.

(2) انظر المجلّد الأوّل من الملل والنحل للشهرستاني ص 276 وما بعدها.

٧٧

أنّه مخالف لِما هو الشائع في كُتب القدامى عن الفِرَق والتي ظهرت في القرن الثاني الهجري.

ومن المؤكّد أنّ الإسماعيلية قد تشعّبوا إلى طوائف متعدّدة، لكلّ طائفة آراء وأقوال تخصّها في الأصول والفروع، وبعضها بلغ به الشذوذ إلى الخروج عن الإسلام، ومن هؤلاء السبعية القائلين بأنّ الإمامة تدور على سبعة سبعة، كأيّام الأُسبوع والسموات السبع والأرضين السبع، والأفلاك السبع.

والسبعة الأُوَل يبتدئون بعليّ (عليه السلام) وينتهون بإسماعيل بن جعفر، والدور الثاني يبتدئ من محمّد بن إسماعيل، وهم الأئمّة المستورون الذين يسيرون في البلاد سرّاً ويظهرون الدعاة جهراً؛ لأنّ الأرض لا تخلو من إمامٍ حيّ قائم، أمّا ظاهرٌ مكشوف، وأمّا باطنٌ مستور، والإمام السابع ينسخ شرائع مَن تقدّمه (1) وهذا المذهب نشأ في العراق حيث كانت مقرّاً للشيعة، ولكنّه لم يُصادف رواجاً في بداية أمره ووجد من الشيعة أنفسهم حرباً لا هوادة فيها عليه، وعلى كلّ منحرف عن التشيّع الصحيح لأهل البيت (عليه السلام)، فانتقل دعاته إلى بلاد فارس وخراسان وغيرهما من الأقطار الأُخرى، فتأثّر دعاته بعقائد أهلها وفلسفتهم، وانحرف بعض دعاته في تفكيرهم.

ونظراً لاتّصال دعاته بأصحاب الديانات التي كانت تعيش في تلك المناطق ظهَر فيهم الانحراف الديني، ومن خصائصهم السرّية في عقائدهم، فإنّهم يشتركون فيها على ما بينهم من اختلاف في الأُصول والفروع، حتى المعتدلين منهم، وهم المنتشرون في الباكستان، والمعروفون (بالبهرة) فإنّهم يتستّرون في عقائدهم عن جميع المسلمين مع أنّهم معتدلون بالقياس إلى غيرهم من فِرَق الإسماعيليّة (2).

ومن الإسماعيليّة الفِرقة المعروفة بالقرامطة، ويدّعون أنّ إسماعيل توفّي في حياة والده الإمام الصادق (عليه السلام)، وقبل وفاته نصّ على إمامة ولده محمّد بن إسماعيل، فكان هو الإمام من بعده، وأصحاب هذه المقالة يسمَّون المباركية نسبة لرجلٍ اسمه المبارك مولى إسماعيل بن جعفر،

____________________

(1) انظر الملل والنحل للشهرستاني ص 332 من المجلّد الأول.

(2) انظر المذاهب الإسلامية للشيخ محمّد أبي زهرة ص 90 و91.

٧٨

ويسمّون أيضاً بالقرامطة نسبة إلى حمدان بن الأشعث الملقّب بقرمط (1) الخارج سنة 264هـ، وفي بعض المرويّات أنّه لقب بقرمط؛ لأنّه كان أحمر اللون، والقرمط هو الآجر، وفي لغة الروم (كرمت) وبعد تعريبه أطلق عليه قرمط.

وفي بعض كتب الفِرَق أنّ الذي وضع نواة مذهب القرامطة هو عبد الله بن ميمون القداح، وكان يهودي الأصل من وِلد الشلملع في مدينةٍ ببلاد الشام تسمّى (سلمية) كما تسمّى (بليدا) من توابع حمص، وكان من أحبار اليهود تعلّم الفلسفة، وعرف الكثير من مذاهب الأمم، ثمّ تولّى عبد الله القداح خدمة الإسماعيلية، واضمر الكيد للإسلام، وتستّر بالتشيّع، واندسّ في صفوف المتشيّعين يبثّ فيهم سمومه، فأغرى جماعة من الجهّال والمغفّلين بما أظهره من الأساليب والشعوذات، وحينما التقى بقرمط اتفقا على خطّة واحدة، فاستقلّ عبد الله القداح بالكوفة وتوجّه قرمط الملقب (بالبقار) لجهة بغداد.

ويدّعي جماعة من المؤرّخين بن عبيد الله الذي تنتسب إليه الدولة العبيدية المعروفة بالدولة الفاطميّة، هو من أولاد ميمون القداح، وقيل: إنّ اسمه سعيد بن الحسن بن أحمد بن محمّد بن عبد الله بن ميمون القداح، وكان قد خرَج إلى مصر متنكّراً، ومنها إلى المغرب فادعى أنّه علوي فاطمي النسب، وسمّى نفسه بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، وتمّ له تأسيس الدولة المعروفة بدولة العُبَيديّين، وهي الدولة الفاطمية.

ولأجل ما قيل حولهم حامت الشكوك في صحّة انتسابهم للعلويّين، ولمّا ظهر أمرهم، وتمّ لهم تأسيس دولتهم في المغرب وامتدّت إلى مصر، واتخذها المعزّ لدين الله الفاطمي عاصمةً لهم بعد استيلاء جوهر قائده

____________________

(1) انظر الفصول المختارة من العيون والمحاسن للشيخ المفيد ص 99.

ومحمّد بن إسماعيل هو أوّل الأئمّة المستورين كما تدّعي بعض فرق الإسماعيليّة، قد استأذن من عمّه الإمام موسى بن جعفر في الخروج إلى العراق، فأذن له ودفع إليه ثلاث صرر فيها أربعمِئة وخمسون ديناراً، وأعطاه زيادة عليها ألف وخمسمِئة درهم، ولمّا دخل على الرشيد قال: خليفتان في الأرض أنت وموسى بن جعفر، فدفع له الرشيد ثمناً لهذه الوشاية مِئة ألف درهم، فلمّا قبضها ودخل منزله أصابته علّة فمات في ليلته، انظر ص 279 من الملل والنحل ج1.

٧٩

عليها، جمع القادر بالله الخليفة العبّاسي العلماء، وفيهم القاضي أبو محمّد بن الأكناني، ووضعوا سجلاًّ في نسَبهم الذي ينتهي إلى ميمون القداح، وقد وقّعه جماعة من العلماء منهم أبو حامد الإسفراييني، وأبو عبد الله الصيمري، وأبو الحسين القدوري، وأبو الفضل النسوي، والشريفان المرتضى والرضي كما جاء في كتاب كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة.

وفي التعليقة على الكتاب المذكور أنّ المعز العُبيدي، على حدّ زعم مؤلّف الكتاب المذكور لمّا تمّ له الاستيلاء على مصر بواسطة قائده جوهر، اجتمع به جماعة من الأشراف فقال له أحدهم: (إلى مَن ينتسب له مولانا؟) فقال له المعزّ: سنعقد مجلساً ونجمعكم فيه لنسرد عليكم نسَبنا، فلمّا استقرّ المعز بالقصر جمع الناس في مجلسٍ عام وجلَس لهم، ثمّ قال: هل بقيَ من رؤسائكم أحد؟ قالوا: لم يبقَ معتبر، فسلّ عند ذلك نصف سيفه وقال: هذا نسبي! ثمّ نثَر عليهم ذهباً كثيراً، وقال هذا حسَبي، فقالوا جميعاً: سمعنا وأطعنا (1).

وهذه الرواية على تقدير صحّتها لا تدلّ على أنّهم أدعياء في انتسابهم لأهل البيت (عليه السلام)؛ وإنّما تدلّ على أنّ المعزّ لدين الله يعلم جيداً بأنّ الأنساب والأحساب ليست من دعائم الملك، والناس لا يخضعون إلاّ لأمرين: القوّة والمال، وبهما قامت عروش الأمويين والعبّاسيّين؛ لذلك كان جوابه هذا تعبيراً صادقاً عن الأوضاع التي اعتاد الناس عليها وألفوها منذ مئات السنين والأعوام، وهل يغنيه نسبه العالي عن السيف والمال، وجميع الملوك والحكّام من قبله لم يجدوا سلاحاً أمضى منهما لإخضاع الناس لهم وتشييد عروشهم.

ويؤكّد أكثر المؤرّخين أنّ الفاطميين ينتسبون إلى عُبيد الله بن محمّد الملقّب بالمهدي بن محمّد بن جعفر بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السلام)، وكان الذي وطّد الأُمور له في المغرب، ودعا الناس إلى مذهب

____________________

(1) انظر صفحة 198 و199 من كتاب كشف أسرار الباطنية الملحق بكتاب التبصير في الدين، وجاء في الكتاب المذكور أنّ عبيد الله هو أوّل أولاد ميمون القداح، وقد لُقّب بالمهدي بعد أنّ تمّ له الاستيلاء على المغرب بواسطة أبي عبد الله الشيعي، ومنها امتدّ سلطانهم إلى مصر.

٨٠