الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة0%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 253
المشاهدات: 53480
تحميل: 9017

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53480 / تحميل: 9017
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإسماعيلية هو أبو عبد الله الشيعي، الذي اعتنق مذهب الإسماعيلية بعد أنْ كانا اثني عشرياً على مذهب الإمامية.

ولكن مصطفى غالب في كتابه تاريخ الدعوة الإسماعيلية يرى أنّ الذي استولى على بلاد المغرب، وشكّل دولة فيها هو الإمام محمّد المهدي، ومنه انتقلت إلى ولده القائم بأمر الله، ومنه انتقلت لولده الإمام المنصور والد المعزّ لدين الله الذي استولى على مصر، وتوطّدت له الأُمور فيها، وقد جاء في الكتاب المذكور عن المقريزي أنّ العبّاسيّين بعد أنْ ضعفت دولتهم وتداعى ملكهم وأصابهم الانقراض والتفكّك، وعجزوا عن مقاومة الفاطميين الذين احتلوا بلاد المغرب ومصر والشام والحرمين واليمَن، التجأوا إلى الطعن في نسبهم، ليسوّدوا صحائفهم وليجبروا الناس على كراهيّتهم، وأنّ القضاة الذين سجّلوا شهادة الطعن عليهم في بغداد كانوا من ألدّ أعداء الفاطميّين، ومِن أخلص شيعة بني العبّاس ولم يُعرف عنهم التجرّد والنزاهة والصدق، بل اشتهروا بكراهيّتهم وبُغضهم ونقمتهم على آل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

كما أورد ابن الأثير ما يؤيّد صحّة انتسابهم إلى الفاطميّين، قال: يا ليت شعري ما الذي حمل أبو عبد الله الشيعي وأعوانه الذين قاموا في إظهار هذه الدعوة ليخرجوا الأمر من أنفسهم ويسلّموه إلى وَلدٍ يهودي؟! واستطرد ابن الأثير يقول: فهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده ديناً يُثاب عليه؟

وأنّ كتاب المعتضد إلى عماله حجّة كافية على صحّة نسب الخلفاء الفاطميّين (1).

وقال عبد الرحمان بن خلدون في مقدّمته: ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرّخين في العُبيديّين، خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة، من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله عليهم، والطعن في نسبهم لإسماعيل بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يعتمدون في ذلك على أحاديثٍ لفّقت للمستضعفين مِن خلفاء بني العبّاس تزلّفاً إليهم، ومضى يسرد الأدلّة على صحّة نسبهم، وقال أخيراً: والذين سجّلوا نفيَهم عن أهل البيت من الأعيان

____________________

(1) انظر صفحة 106 و107 من تاريخ الدعوة الإسماعيلية لمصطفى غالب المطبوع بدار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر بدمشق.

٨١

والعلماء في أيّام الخليفة العبّاسي القادر إنّما حكموا بذلك على السماع من الناس شيعة بني العبّاس (1).

وقد ذكر الاختلاف في نسبهم أبو الفداء في تاريخه، ورجّح صحّة انتسابهم إلى العلويّين وأيّد ذلك بأبيات الشريف الرضي التي تؤكّد انتسابهم إلى أهل البيت:

ما مقامي على الهَوان وعندي

مـقول صـارم وأنف حمي

ألبس  الذلّ في ديار الأعادي

وبـمصر الـخليفة الـعلَوي

مـن أبوه أبي ومولاه مولاي

إذا ضـامني الـبعيد القصي

لـفّ  عِرقي بعِرقه سيّد النا

س جـميعاً محمّد وعليّ (2)

وهذه الأبيات من السيّد الرضي تنص على أنّه لم يتردّد في صحّة نسبهم، وإذا صحّ أنّه قد وقّع المحضر الذي حكم فيه جماعة من العلماء بعدم انتسابهم إلى الفاطميّين كما أورد ذلك ابن خلدون وغيره، فلابدّ وأنْ يكون ذلك خوفاً من القادر العبّاسي، على أنّ الذي أورده ابن أبي الحديد في شرح النهج، أنّه امتنع عن توقيعه، وأنّ القادر شكاه إلى والده، وقال لوالده بعد محاورة جرت بينهما: إنّي أخاف من جواسيس الفاطميّين، فقال له أبوه: أتخاف ممّن بينك وبينه تلك المسافات البعيدة ولا تخاف ممّن أنت وإيّاه في بلدٍ واحد؟!

ومهما كان الحال فلا شكّ في أنّ الذين أثاروا هذه الشبه حول انتسابهم إلى الفاطميّين هم الحكّام العبّاسيون بعد أنْ عجزوا من مقاومتهم، وانتشر دعاتهم في أنحاء المملكة الإسلامية، ودعا لهم الخطباء على المنابر في بغداد عاصمة العبّاسيّين وغيرها، فلم يجدوا وسيلة لمحاربتهم إلاّ بهذا الأُسلوب الفاشل، فنسبوهم إلى ميمون القداح، وبالغ بعض أعوانهم، فادّعى أنّ المهدي أوّل ملوكهم اسمه سعيد، وذلك أنّ الحسين بن محمّد بن أحمد بن عبد الله القداح وفد على بلدة تسمى (سلمية) فجرى بحضرته حديث النساء، فوصفوا له امرأة رجل يهودي مات عنها زوجها، فتزوّجها الحسين، وكان لها ولد من اليهودي اسمه سعيد فأحبّه الحسين، ومات ولم يكن له ولد، فعهد إليه وعرفه أسرار الدعوة الباطنية، وأعطاه الأموال، فدعا له الدعاة، واتّصل بعبد الله الشيعي الذي مهّد له الأُمور في

____________________

(1) انظر مقدّمة ابن خلدون ص 21.

(2) انظر المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء الجزء الثالث ص 81 طبع بيروت.

٨٢

المغرب وسمّي بعبيد الله المهدي وتمّ له الاستيلاء على بلاد المغرب وجهاتها.

ومن الذين تولّوا الدعوة إلى مذهب القرامطة أبو سعيد الجنابي، وقد ملك البحرين واليمامة والإحساء، وادعى فيها أنّه المهدي القائم بدين الله، وهو الذي دخل مكّة المكرّمة في موسم الحجّ سنة 317هـ فقتل الحُجّاج واقتلع الحجَر الأسود وحمله إلى الإحساء، ويُنسب إليه أنّه أنشَد الأبيات التالية:

ولـو  كـان هذا البيت لله ربّنا

لصبّ علينا النار من فوقنا صبا

لأنّـا حـججنا حـجّة جاهلية

مـجلّلة لم تبقَ شرقاً ولا غربا

وأنّـا تـركنا بين زمزم والصفا

جـنائز لا تـبقي سِوى ربّها ربا

وقد قتل من الحاجّ ثلاثة عشَر ألفاً.

ومنهم الحسن بن مهران المعروف بالمقنّع، وكان حكيماً فيلسوفاً خرَج فيما وراء النهر وقد صنع قمراً (بالطلسم) يطلع في السنة أربعين ليلة.

ومنهم عليّ بن فضل الجدثي، مِن ذرّية بني جدث، وأصله من جيشان قرية من قُرى اليمَن، وكان شيعيّاً اثني عشرياً فخرج إلى الحج، وبعد زيارة قبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) توجّه إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، ولمّا وصل كربلاء بكى على القبر بكاءً شديداً، وصادف أنّ ميمون القداح وولده عبيد الله عند قبر الحسين (عليه السلام) فاحتالا عليه بما عندهما من أسباب الخداع وأساليب الإغراء فاطمأنّ إليهما. وأخيراً أرسله القداح إلى اليمَن داعياً لولده عبيد الله، وذلك في أواخر القرن الثالث الهجري، وبعد أن تمّ له الاستيلاء على بعض أجزاء اليمَن استقل بنفسه، وترَك ميمون القداح وولده عبيد الله، واستباح جميع المحرمات، واستحلّ جميع ما فرضه الله في كتابه وعلى لسان نبيّه (صلّى الله عليه وآله) وادعى لنفسه النبوّة، وأنكر القيامة والبعث والجنّة والنار، وقد وصَف بعضهم شعرائهم المبدأ الذي اتّخذه عليّ بن فضل بالأبيات التالية:

لـكلّ نـبيٍّ مـضى شرعة

وهـذي شرائع هذا النبيّ

فقد حطّ عنّا فروض الصلاة

وحـطّ  الـصيام ولـم يتعب

إذا  الناس صلّوا فلا تنهضي

وصاموا النهار كُلّي واشربي

٨٣

ولا تطلبي السعي عند الصفا

ولا زورة الـقبر فـي يثرب

ولا  تمنعي نفسك المعرّسين

مـن الأقربين ومن أجنبي

فـكيف  تحلّين لهذا الغريب

وصـرت مـحرّمة للأب

ألـيس  الـغراس لمن ربّه

ورواه فـي الزمن المُجدب

وما  الخمر إلاّ كماء السماء

حـلال تقدّست من مذهب

وهذه الأبيات تصوّر المبدأ الذي اعتمده القرامطة في دعوتهم، وإذا صحّ ذلك عنهم، فمَن الجائز القريب أنّهم من العناصر الأجنبية عن الإسلام التي اندسّت في بداية أمرها بين صفوف المسلمين بقصد التخريب وإبعاد الناس عن دينهم وقد استولى قادة القرامطة على معظم أجزاء اليمن ومنها قد انطلقوا إلى غيرها، ولم يتقلّص ظلّهم من اليَمَن إلاّ في النصف الأخير من القرن الخامس الهجري، وبقيَ فيها بعض القبائل على مذهب الإسماعيلية، ومنهم قبيلة يام التي تتّصل بعقيدتها بالإسماعيلية (البهرة) الموجودين في الهند والباكستان، وهؤلاء معتدلون نسبياً بالنسبة إلى بقية طوائف الإسماعيلية (1).

وقد خلط المؤرّخون وكتّاب الفِرَق في تحديد الزمان الذي ظهَر فيه مذهب القرامطة، والأشخاص الذين تولّوا الدعوة إليه، فالشهرستاني يقرّر أنّ أصل دعوتهم ظهور ميمون القداح في الكوفة سنة 176هـ، وأنّه ذهب إلى أنّ الفرائض رموز وإشارات وأمر بالاعتصام بالغائب المفقود، وأباحوا جميع الملذّات والمنكرات، إلى غير ذلك ممّا ينسب إليهم، بينما يظهر من كتاب كشف أسرار الباطنية والقرامطة، تأليف محمّد بن مالك اليماني احد الفقهاء السنيّين المتوفّى في النصف من القرن الخامس الهجري، أنّ عبد الله بن ميمون القداح قد التقى بقرمط حمدان بن الأشعث الذي خرج سنة 264هـ واتّفق وإياه على خطّة واحدة ومذهب واحد، واستقلّ كلّ واحد منهما بجهة يدعو الناس إلى المذهب الذي اتفقوا عليه.

____________________

(1) انظر كشف إسرار الباطنية وأخبار القرامطة، تأليف محمّد بن مالك اليماني المتوفّى في القرن الخامس الهجري، وانظر الفرق للشهرستاني ص 333 وما بعدها، وانظر التبصير في الدين ص 123 وما بعدها، وأكثر ما كتبناه عنهم لخصّناه من كشف أسرار الباطنية للفقيه اليماني.

٨٤

وفي تاريخ أبي الفداء: (إنّ القرامطة أوّل ظهورهم بسواد الكوفة، وكان شيخهم الأوّل قد تسمّى باسم الفرج بن عثمان، وادعى أنّه يحمل كتاباً منزلاً من عند الله (1) وليس فيما أورده أبو الفداء عن أخبارهم ما يشير إلى ميمون القداح وولده عبد الله، ولا أُريد أن أستقصي أخبارهم ولا يعنيني تحقيق واقع حالهم، ولكن الذي يلفت النظر فيما كتبه بعض كتاب الفِرق، أنّهم يحاولون إلصاقهم بالشيعة؛ ولذلك يجعلون عبد الله بن ميمون القداح ووالده من أبطال دعوتهم، مع أنّ عبد الله بن ميمون قد عاصر الإمامين الباقر والصادق وروى عنهما وكان من الثقات، وله كتب منها كتاب مبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وكتاب في صفة الجنّة والنار، وقد ذكره الطوسي في كتابه فهرست أسماء المصنّفين، كما ذكره كل من النجاشي والكشّي، وفي منهج المقال للميرزا محمّد، أنّ أبا جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) قال له يا ابن ميمون: (كم انتم بمكّة؟) قال: نحن أربعة، قال: (إنّكم نور الله في ظلمات الأرض).

وجاء في بعض كتب الرجال أنّه كان يرى رأي الزيدية في وجوب الخروج بالسيف، وذلك لم يثبت عنه، وأكثر المؤلّفين في الرجال وصفوه بالوثاقة والاستقامة في دينه وعقيدته (2) ومن ذلك تبيّن أنّ عبد الله بن ميمون القداح، ووالده ميمون كانا من شيعة أهل البيت ورواة أحاديثهم، ولم يرد في عبد الله ما يشير إلى الطعن عليه في شيءٍ ممّا وصفه به الشهرستاني والفقيه اليماني محمّد بن مالك في كتابه أسرار الباطنية، وأخبار القرامطة، هذا بالإضافة إلى أنّ العصر الذي ادعى فيه الشهرستاني ظهور عبد الله القداح بفكرة القرامطة، لا يتّفق مع العصر الذي ذكره مؤلّف أسرار الباطنية، فقد ذكر الأوّل أنّ عبد الله ظهر بهذه الفكرة سنة 176هـ، بينما ذكر الثاني أنّ قرمط التقى بميمون القداح وولده عبد الله سنة 274هـ، وكلاهما يخالفان ما هو متّفق عليه عند المؤلّفين في الرجال من الشيعة الإمامية، فقد اتفقوا على أنّ عبد الله ووالده كانا في عصرَي الإمامين الباقر

____________________

(1) انظر الجزء الثالث من تاريخ أبي الفداء طبع بيروت ص 70.

(2) انظر منهج المقال للمرزا محمّد ص 212 والكشّي ص 160، ولم يذكر عنه سِوى الحديث الذي جاء فيه أنّ الإمام الباقر قال له: (أنتم نور الله في ظلمات الأرض).

٨٥

والصادق، ومن الثابت أنّ الإمام الصادق توفّي سنة 148هـ كما في تاريخ أبي الفداء وغيره، والباقر توفّي سنة 111هـ وقيل أكثر من ذلك، فالعصر الذي وجد فيه عبد الله القداح ووالده لا يتّفق مع العصر الذي ادّعاه الشهرستاني، ولا مع العصر الذي ظهر فيه القرامطة، ولكن المتتبّع في التاريخ يرى فيه من التجنّي على الحقائق والكذب والافتراء ما يجعله في شكٍّ بأكثر مدوّناته، وعلى الأخص فيما يعود إلى مدوّنات المؤرّخين عن الشيعة وفِرقهم ورجالهم.

وقد أورد كتاب الفِرق القدامى والمحدّثين فرقاً أُخرى، ودونوها في كتبهم على حساب الشيعة بدافع التشويش والتشويه لمعالم التشيع ومبادئه، كالناووسية و الشمطية و الزرارية و الهشامية و الحسينية، أتباع الحسين بن أبي منصور الذين زعموا - كما يدّعي كتّاب الفِرَق - أنّ أبا جعفر الباقر أوصى إلى أبي منصور، والواقفة الذين وقفوا على موسى بن جعفر، وقد لقّبهم يونس بن عبد الرحمان بالممطورة ، و البشيرية ، أصحاب محمّد بن بشير الذي ادعى غيبة الإمام موسى بن جعفر، وأنّه استخلفه حال غيبته، وهو أحد الكذَبة على أهل البيت (عليهم السلام) كما جاء في رجال الكشّي، إلى غير ذلك من الفرق التي عدّها المؤلّفون من فِرَق الشيعة، وهؤلاء لم يكن لهم مذهب خاص بهم يمتازون به عن سائر المسلمين.

والخلاف المنسوب لهم في تعيين الإمام الشرعي كان منشؤه قسوة الحكّام على الأئمّة ومطاردتهم ممّا أدّى إلى تكتّم الأئمّة وتستّرهم في دعوتهم، وكان من آثار ذلك أنّ البعض من الشيعة وقعوا في حيرة من أمرهم ورجعوا إلى غير الإمام الشرعي، حتى إذا تبيّن لهم الحال واشتهر أمر الإمام المنصوب رجعوا إليه، كما وأنّ بعض المُندسّين في صفوف الشيعة من المشعوذين وعملاء الحكّام، الذين كانوا يروّجون التشكيك في الأئمّة، قد استغلوا تكتّم الإمام في الإعلان عن نفسه؛ لإغراء السذّج والبسطاء ليستطيعوا ترويج أباطيلهم ودسائسهم.

هذا بالإضافة إلى أنّ تلك الفِرَق التي يدعونها لم يظهر لها أثر في التاريخ، ولم يكن ما ينسب إليهم على تقدير صحّته سِوى أفكار عابرة لم تتخطّ دعاتها والعاملين على خلقها وإشاعتها؛ ويؤيّد ذلك ما جاء في الفصول المختارة من العيون والمحاسن للشيخ المفيد: أنّ الفِرَق التي تنسب إلى الشيعة لم يكن لها وجود في القرن الرابع الهجري، ولا وجود في هذا القرن إلاّ للإمامية القائلين بإمامة محمّد بن الحسن الإمام الثاني عشر، ومنهم العلماء والفقهاء والمتكلّمون والعبّاد الصالحون والأُدباء والشعراء، وهم وجه الشيعة المعتمد عليهم في المذهب، وسِواهم من الفِرَق

٨٦

المزعومة ليس في هذا العصر أحد منهم، وإنّما الموجود عنهم بعض الحكايات والأراجيف التي لا تثبت وجودهم.

وهذا الكلام من المفيد رحمه الله، كما يدل على عدم وجود تلك الفِرَق في القرن الرابع الهجري، كذلك يشير إلى أنّه في ريبٍ من أصل وجود الفِرَق التي يدعيها المؤلّفون في المذاهب الإسلامية، مع أنّ الزمان الذي وجد فيه لم يكن بعيداً عن العصر الذي يدعي الكتاب وجودهم فيه، ومن المستبعد أنْ توجد فرقة يكون لها خصائصها وميّزاتها ولا يبقى لها أثر بتلك السرعة وتخفى حتى على الباحثين أمثال الشيخ المفيد، ولا سيّما وأنّ فِرقاً من هذا النوع لو وجدت في التاريخ ستجد من يناصرها ويسهل لها أسباب البقاء والانتشار، فالحكّام كانوا يرحبّون بكلّ ما من شأنه تشتيت أمر الشيعة وتفريقهم عن الأئمّة الشرعيّين من أهل البيت، والتاريخ مليء بالشواهد على ذلك.

ونحن لا ننكر أنّ الشيعة لم يكونوا كلّهم نمطاً واحداً في إيمانهم وتفكيرهم، وأنّ الظروف التي كانت تحيط بهم كانت تفرض عليهم التردّد والحيرة والرجوع لغير الإمام الشرعي أحياناً، ولكن سرعان ما تنجلّي لهم الحقائق وينكشف الواقع بعد الفحص والاختبار، وقد استغلّ أخصام الشيعة هذا النوع من التردّد والالتباس الذي طرأ على بعض الشيعة، فأضافوا إليهم عشرات الفرق، التي تتخطى في بعض آرائها أصول الإسلام وفروعه، وحملوا الشيعة أوزارها منذ اليوم الأوّل من تاريخها.

ولا أُغالي إذا قلت أنّ الباحث في تاريخ الفِرَق المنسوبة إلى الشيعة، وفي الآراء والمعتقدات التي أضيفت إليها، لا يرتاب في أنّ أيادي قرية كانت تسير التاريخ لصالحها، وتعمل لمحاربة التشيّع عن طريق التشويش عليه وتشويه معالمه، تلك الأفكار التي نسبوها إلى بعض المتشيّعين، لقد رأى الحكّام الأمويّون والعبّاسيون، أنّ فكرة الخلافة عند الشيعة، تعني أن جميع الحكومات التي لا تخضع لمبدأ الوصاية لا تتصف بالشرعية، فحاربوا هذه الفكرة بشتى الأساليب.

وفي النهاية استطاعوا أنّ يفرضوا على التاريخ شخصاً اسمه عبد الله ابن سبأ، قد انتحلّ الإسلام وأسَرّ اليهودية المتغلّفة في أعماق نفسه، للدسّ في تعاليم الإسلام والكيد له، فأسّس فرقة وقادها لقتل عثمان، واخترع فكرة الوصاية التي تدين بها الإمامية، وأخيراً ادّعى الإلوهية لعليّ (عليه السلام)

٨٧

وأصبح الركيزة التي يعتمد عليها كلّ من جاء من بعده من المخرّبين والهدامين لصرح الإسلام، واستمدّ من تعاليمه كلّ خارج على النظام الإسلامي الذي جاء به القرآن والرسول على حدّ زعمهم، مع أنّ الباحث المجرّد لا يجد من الشواهد ما يكفي للتسليم بوجود شخصٍ في التاريخ من هذا النوع، ولكن المؤرّخين القدامى والكتّاب المتأخّرين عنهم لم يرتابوا، كما يظهر من كتبهم في وجود هذه الشخصية المفتعلة، وكل مَن كتب في تاريخ الفِرَق الإسلامية وأتى على ذكر التشيّع يدّعي بأنّ فكرة الوصاية لعليّ من مخترعات عبد الله بن سبأ، كما أحدَث الرجعة والاشتراكية التي كان ينادي بها أبو ذر الغفاري على حدّ زعمهم، وهو من يهود صنعاء اليمن تظاهر بالإسلام في عصر عثمان وأبطن السوء والكيد، وبثّ سمومه في البُلدان التي تجوّل بها، ولعِب دوراً بارزاً في الثورة على عثمان والدعاية لعليّ (عليه السلام)، ويرجّح ذلك أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام وغيره من الكتّاب العرب والمستشرقين الأجانب (1).

وجاء في المقريزي: (وأحدث ابن سبأ القول بوصيّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليّ بالإمامة من بعده، فهو وصي رسول الله وخليفته على أُمّته بالنص، وأحدَث القول برجعة عليّ بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله)، وزعم أنّ عليّاً لم يُقتل وأنّه حيٌّ وفيه الجزء الإلهي وسيجيء في السحاب، وأضاف إلى ذلك: ومِن ابن سبأ جميع أصناف الغلاة من الرافضة، وقالوا بالوقْف: يعنون بذلك أنّ الإمامة موقوفة على أُناس معيّنين، وعنه أخذوا القول بغيبة الإمام ورجعته بعد الموت إلى الدنيا كما يعتقده الإمامية في صاحب السرداب، وهو صاحب القول بالتناسخ، وأنّ الجزء الإلهي قد حلّ بالأئمّة بعد عليّ (عليه السلام)، وبذلك استحقّوا الإمامة بطريق الوجوب كما استحقّ آدم سجود الملائكة واستطرد يقول: وبسبب أتباعه وأنصاره المنتشرين في البلدان والأمصار؛ كثُر الشيعة وما زال عددهم يكثر وأمرهم يقوى).

وقد أسرف بعض كتّاب السنّة إسرافاً بلَغ بهم أقصى حدود المكابرة والجحود للحقائق التاريخية الثابتة، فجعلوا مصدر التشبيه والتجسيم في الإسلام الشيعة عن طريق تلك الشخصية المفتعلة، قال عليّ الغرابي في

____________________

(1) انظر فجر الإسلام ص 313.

٨٨

كتابه تأريخ الفِرَق: إنّ السلف المحدّثين من السنّة لم يجيزوا لأنفسهم أنْ يتأوّلوا الآيات التي توهِم بظاهرها التجسيم، مثل قوله سُبحانه: ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) و ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) و ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) وأمثال ذلك، والتزموا بظواهرها خلافاً للمعتزلة، ومن هؤلاء أحمد بن حنبل وداود الظاهري ويحيى بن معين وغيرهم من المحدّثين والفقهاء.

واعتبر موقفهم هذا موقف التسليم والانقياد؛ لأنّ التصرّف بظواهر هذه الآيات لا يخرج عن كونه تأويلاً لا يفيد إلاّ الظن، وهو لا يغني عن الحق شيئاً، وأضاف إلى ذلك أنّه لا يصحّ لنا أنْ نسمّي هؤلاء مشبهة، وإنّما اللائق بهم أنّهم أصحاب التسليم، وأمّا المشبّهة فهم الشيعة منهم اليونسية ، أتباع يونس بن عبد الرحمان (1) ، وأضاف الغرابي أنّ أصل فكرة التشبيه يهودية، وأنّ أوّل المشبهة عبد الله بن سبأ اليهودي الذي قام بتلك الفتنة في عهد عثمان، وقد يكون ذلك هو السبب في أنّ المشبهة كانوا من الشيعة، ولقد تقبّل الشيعة فكرة التشبيه والحلول وكلّ الصفات المنافية للإلوهية؛ لأنّها تساعدهم على تأييد فكرتهم في الإمامة، كما جاء ذلك في كتابه الفرق الإسلامية صفحة 297 و302.

وفي هذه الأمثلة من ادعاءات أهل السنّة أكبر شاهد على أنّ حملاتهم على الشيعة، وإلصاق هذه التهم بهم كانت بقصد التشويش عليهم وصرف الأنظار عن مبدأ التشيّع لأهل البيت (عليه السلام).

لقد ذهب علماء السنّة القدامى والمحدّثون منهم إلى التشبيه والتجسيم والحلول وغير ذلك، وجاء المؤلّفون والكتّاب المتقدّمون والمتأخّرون فرموا الشيعة بذلك، ووجدوا من شخصية ابن سبأ المفتعلة منفساً لهم في

____________________

(1) يونس بن عبد الرحمان، من أعلام الإمامية المعروفين بالاستقامة وسلامة العقيدة واتّصاله الأكيد بأئمّة الشيعة الذين بنوا صرح العقيدة الإسلامية ودافعوا عنها هجمات الملاحدة، وافتراءات المعتزلة والمحدّثين من أهل السنّة، وقد وصفه الأئمّة من أهل البيت بصفات تدّل على أنّه كان عميقاً في تفكيره متبحّراً في مختلف العلوم، وقد تجرّد لمناظرة خصومهم من المحدّثين والمعتزلة؛ ولذلك اتهموه بالتجسيم، ونسَب إليه الشهرستاني أنّه يقول: إنّ حمَلَة العرش يحملون الله تعالى كما تحمل رِجْلا الكركي الدقيقتان جسمه الكبير، كما أورد ذلك الغرابي في كتابه الفِرق والشهرستاني في المِلل والنِحل وغيره.

٨٩

التهجّم على الشيعة والافتراء عليهم، ومن السهل على من يخلق الأشخاص أنْ يضع حولهم كلّ شيء، وأنْ يبني القصور على الهواء، أو على سطح الماء.

لقد اعترف عليّ الغرابي المدرّس بكلّية الشريعة في مكّة المكرّمة أنْ المحدّثين من السنّة لم يتأوّلوا الآيات التي تنصّ على أنّ لله وجهاً وعيناً ويداً، وغير ذلك من الأعضاء، والتي لا يلزمها كونه جسماً مشابهاً لمخلوقاته، وإذا لم يلتزموا بتأويلها لابدّ لهم من الالتزام بمعناها المطابقي، ومع ذلك لا ينسب إليهم التجسيم ولا التشبيه ونسبه إلى الشيعة وعدّه من مخترعاتهم بواسطة عبد الله بن سبأ، مع العلم بأنّ الشيعة الإمامية لم يتعدّوا الحدود التي وضعها لهم أئمّتهم حول العقيدة الإسلامية، وقد تطوّعوا لحمايتها من تخريب الدسّاسين وافتراءات المعتزلة والمحدّثين أسلاف الأشاعرة.

وفي الفصول الآتية التي سنعرض فيها آراء الفِرَق في أُصول الإسلام تبدو عقيدة الشيعة في التوحيد والعدل والنبوّة وغير ذلك من الأُصول على واقعها، لا تتعدّى حدود ما أنزل الله سُبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه (صلّى الله عليه وآله) تتمثّل بها قدسيّة الذات العَلية على حقيقتها، أمّا الأراجيف والافتراءات والتشويهات فلا تغيّر الواقع، وإنْ كانت تعكس وجه التاريخ المسخّر لإرادة الحكّام وضمائر الحاقدين والمأجورين.

والذي يؤيّد أنّ عبد الله بن سبأ شخصية وهميّة لا واقع لها، أنّ المصدر الوحيد الذي تنتهي إليه قصّته هو ابن جرير الطبري المؤرّخ الشهير، وكلّ من جاء بعده اعتمد عليه في هذه الأُسطورة وأرسلها إرسال المسلّمات التاريخية التي لا تقبل التشكيك والتأويل على حدّ زعمهم، والطبري وغيره ممّن أورد حديث السبائية يرويه عن سيف بن عمر التميمي المتوفّى سنة 170هـ، وهو كوفيّ الأصل ومن سكّان بغداد كما جاء في ترجمته، وقد اشتهر بالكذِب ووضْع الأحاديث واتُّهم بالزندقة، وقد أورد السيّد مرتضى العسكري في كتابه عبد الله بن سبأ، عن أكثر المحدّثين والذين كتبوا في تراجم الرجال ما يؤكّد عدم وثاقة سيف بن عمر المذكور، وعدم جواز الاعتماد على مرويّاته.

ويبدو ممّا أورده العسكري عن المحدّثين وعلماء الرجال أنّ سيف بن عمر صاحب أُسطورة السبائية كان أمره واضحاً عند المحدّثين، ولذا لم يرد عن أحدٍ ما يُشعر بقبول مرويّاته، وممّا يؤكّد أنّه من الأساطير التي لا واقع لها، أنّ جميع الذين تعرّضوا لأحداثه تنتهي رواياتهم عنه إلى سيف

٩٠

المذكور، وبينه وبين العصر الذي يدّعون ظهور السبائية فيه ما يقرب من مِئة وأربعين عاماً، وبين هذين الزمانين تخلّلت أحداث يدّعي كتّاب الفِرَق والمؤرّخون أنّ لآراء عبد الله بن سبأ وأقواله التي أدخلها في مطلع فجر الدولة الإسلامية أثراً في نموها وانتشارها. وظهور شخص من هذا النوع له تلك الفعاليات والآثار التي يدعيها الكتاب والمؤرخون لا يمكن أن يكون منسيّاً ومجهولاً لدى المسلمين من تاريخ ظهوره إلى عصر سيف بن عمر راوي الأُسطورة، في زمن يبلغ نحواً من قرن ونصف تقريباً.

والمسلمون في تلك الفترة لم يتجاهلوا أقلّ الأحداث أثراً، واتجهوا إلى تدوين الحوادث والتأليف ولا سيّما ما يتعلّق منها بالشؤون الإسلامية منذ النصف الثاني من القرن الأوّل، وأحداث السبائية المزعومة كانت من أبرز الحوادث التي وقعَت في تاريخ المسلمين ولا تزال آثارها إلى اليوم على حدّ زعم بعض المؤرّخين والكتّاب؛ لأنّهم لعبوا دوراً بارزاً في إثارة الرأي العام على الخليفة عثمان، وأثاروا بين المسلمين فكرة الوصاية والرجعة، ونادوا بإلوهيّة عليّ (عليه السلام) في عصره، ولم يتراجعوا عنها حتى بعد أنْ قتَل منهم أُناساً وأحرق آخرين، ومع كلّ ذلك فقد أهمله المسلمون والمحدّثون، ولم يتنبّه له إلاّ سيف بن عمر بعد أكثر من قرن من الزمن مرّ على تاريخ وجوده المزعوم، فدوّن تلك الحقائق التاريخيّة التي خفيت على جميع مَن تقدّمه، وظهرت له وحده وأخذها عنه المؤرّخون، وتحدّث عنها الكتّاب وكأنّها عندهم من الحقائق التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها (1).

ومهما كان الحال ففي كتاب عبد الله بن سبأ للسيّد مرتضى العسكري ما يدلّ بصراحة ووضوح تامّين؛ على أنّ الرجل الذي يصوّره التاريخ بطلاً من أبطال الشعوذة والكيد للإسلام ودعامة للتشيّع لعليّ (عليه السلام)، أسطورة من أساطير التاريخ التي وضعت للدسّ على التشيّع وتوهينه، ولو تغاضينا عن كلّ ذلك وافترضنا وجود هذه الفِرَق، وتجاهلنا كلّ ما قيل أو يُمكن أنْ يقال حول نشأة هذه الفِرَق وما يُنسَب إليها من أقوالٍ وآراء، وافترضنا أنّ ما يسمّونهم بالفِرَق من الأُمور الثابتة، ولكلّ فِرقة أنصار وأتباع، ولها آراء ومذاهب في الدين وأُصوله في مقابل غيرها وافترضنا

____________________

(1) انظر عبد الله بن سبأ للسيّد مرتضى العسكري طبع مصر ص 27 وما بعدها.

٩١

بالإضافة إلى كلّ ذلك أنّها عاشت زمناً طويلاً، واستطاعت أنْ تفرض وجودها بما لها من خصائص وميّزات تخصّها، ولكنّا نقول: بعد أنْ كانت متميّزة عن الفِرَق التي تسير في معتقداتها على المخطّط الإسلامي، واختصّت ببعض المعتقدات الشاذّة التي لا تتّفق مع تعاليم الإسلام، بعد أنْ تميّزت عن غيرها وأحيطت بتلك الملابسات الخاصة، فما هو المسوّغ لعدّها في الفِرَق الشيعية وإلقاء تبعاتها على التشيّع لأهل البيت، كما تردّد ذلك على ألسنة الكتّاب منذ أقدم العصور في تاريخها حتى اليوم؟!.

إنّ أكثر الفِرَق كما ذكرنا سابقاً أكثر من مرّة، حسب الإحصاء الموجود في كتب الفرق والتراجم، لا يسوغ إعطاءها وصف الإسلام، فضلاً عن التشيّع الذي لا يشذّ في أُصوله وفروعه عن القرآن ونصوص الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ التشيّع لا يعني مجرّد الحبّ والولاء لعليّ وبنيه، بل لابدّ مع ذلك من الإيمان بالكتّاب والنبوّة وبكلّ ما جاء به النبيّ من أُصول وفروع، فالمنكر لنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أو لبعض ما فرضه الله في كتابه من ضروريّات الدين، وحتى المشكّك بشيء من ذلك خارج عن الإسلام والتشيّع فضلاً عمّن يدعي الإلوهية لأحدٍ من الناس، أو يعطي صفات الخالق وخصائصه لبعض مخلوقاته.

وممّا يؤسف له أنّ الأستاذ الجليل الشيخ محمّد أبا زهرة، في مواضع متعدّدة من كتابه، المذاهب الإسلامية يستغلّ أبسط المناسبات؛ لوصمة التشيّع بمعتقدات بعض الفِرَق الضالّة التي تستّرت بولاء أهل البيت وتقديسهم، لتنفُذ مِن وراء ذلك إلى الأغراض التي كانت تعمل من أجلها، ففي حديثه عن الاثني عشريّة قال: هذه الطائفة التي تحمل اسم الشيعة الإمامية، يدخل في عمومها أكثر مذاهب الشيعة القائمة الآن في العالم الإسلامي، في إيران والعراق وما وراءها من باكستان وغيرها من البلاد الإسلامية، ويدخل في عمومها طوائف أُخرى لم تنحرف اعتقاداتها إلى درجة تخالف نصّاً من نصوص القرآن، أو أيّ أمرٍ عُلِم من الدين بالضرورة، وطوائف أُخرى أخفت اعتقاداتها وأعمالها لا تدخل في الإسلام على انحراف شديد (1) .

والأُستاذ أبو زهرة كغيره من الكتّاب يرى أنّ اسم الإمامية يتّسع

____________________

(1) انظر المذاهب الإسلامية للشيخ محمّد أبي زهرة ص 79.

٩٢

لجميع الفِرَق، حتى التي أخفت اعتقاداتها، مع العلم بأنّا لو تساهلنا في تسمية هذه الفِرَق بالشيعة لا يُمكن صدق الإمامية عليهم، ولا سيّما الفِرَق التي أخفت اعتقاداتها وقالت بالتناسخ والحلول وإباحة المحرّمات، وغير ذلك ممّا ينسب إلى الإسماعيلية وغيرهم؛ لأنّ كلمة الإمامية لا تعني غير الاثني عشرية الذين ينتهون بالإمامة إلى محمّد بن الحسن الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، ولا تشمل غيرهم حتى الزيدية المعتدلين بالقياس إلى غيرهم، وكُتُب الشيعة القديمة والحديثة تنصّ على أنّ الإماميّة هُم الذين يؤمنون بحقّ عليّ وأبنائه بالخلافة بالنصّ عليهم بالوصف والاسم، أمّا غيرهم فيمكن وصفهم بالتشيّع بالمعنى اللغوي لهذا الوصف، إنْ كانوا يرون أنّ عليّاً وحده صاحب الحقّ، ولم يشذّوا في اعتقاداتهم عن أُصول الإسلام وضرورياته.

ومع أنّ أكثر الكتّاب يقرّون بأنّ هذه الفِرَق تستّرت بحبّ أهل البيت، وينتهون في دراساتهم إلى ضَلالها وعَدائها السافر للإسلام، ومع ذلك يرَون أنّ اسم التشيّع يتّسع لها، ويؤكّدون أنّه نقطة الانطلاق لكلّ بِدعة وخرافة، ولكلّ مَن يحاول هدْم الإسلام وتشويه معالمه، مع أنّ التديّن بالإمامة عند الشيعة لا ينفع صاحبه شيئاً، ولا يجعله مسلماً إلاّ إذا آمن بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر وجميع ما جاء به الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعمل بها، كما تؤكّد ذلك بعض المرويّات الصحيحة عن الأئمّة الأطهار، هذا بالإضافة إلى أنّ المتتبّع لكتب أهل السنّة يجد فيها بعض الأقوال والآراء التي لا تقل في بشاعتها وشذوذها عن أقوال الفِرَق المزعومة، التي ينسبها الكتّاب إلى التشيّع والإمامية.

وعلى سبيل المثال: لقد أضافوا إلى فِرَق الشيعة فرقة أسمَوها الغرابية؛ لأنّ شخصاً ادعى أنّ النبوة كانت لعليّ، وقد اخطأ الوحي في نزوله على محمّد (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ عليّاً كان يشبهه كما يشبه الغراب الغراب (1)، وقد جاء عن بعض السنّة ما هو أسوأ من هذه المقالة، وأكثر غلوّاً في الخليفتين أبي بكر وعمر، ومع ذلك فلَم يعدّوا أصحاب تلك المقالات فِرَقاً من فِرَق السنّة، ولم يحكموا بتجريحهم، فقد رووا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (لو لم أُبعث فيكم لبُعث عمر بن الخطّاب)، وفي رواية أُخرى أنّه قال: (ما أبطأ عليّ جبرائيل إلاّ ظننت أنّه قد بُعث إلى عمر)،

____________________

(1) انظر المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص 65 وغيره من كتب الفِرَق.

٩٣

وأنّه قال: (ما احتبس عنّي الوحي ثلاثاً إلاّ ظننت أنّه نزل على عمر) (1)، وهذه الرواية تدلّ على أنّ عمر بن الخطّاب كان صالحاً للنبوّة بمنزلة الرسول، كما تدلّ على أنّ الرسول كان على شكِّ من نبوّته؛ لأنّه يترقّب العدول عنه إلى عمر بن الخطّاب كلّما تأخّر عنه الوحي بين حينٍ وآخر، وجاء عنهم أيضاً أنّ النبيّ قال: نزل عليّ جبرائيل فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يُقرئك السلام ويقول لك: أقرئ على أبي بكر منّي السلام، وقل له: ربّك يُقرئك السلام ويقول: أنا راضٍ عنك، فهل أنت راضٍ عنّي؟

ورووا أيضاً أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان راكباً وأبو بكر يمشي، فأوحى الله إليه ألا تستحي أنت راكب وأبو بكر يمشي؟! (2)

إنّ هاتين الروايتين تدلاّن على أنّ أبا بكر أعظم شأناً من النبيّ؛ لأنّ الله سبحانه قد وبّخه ووصفه بعدم الحياء، لأجل أنّ أبا بكر كان يمشي بين يديه وهو راكب، ولأنّ الله سبحانه قد طلب رضاه عنه، وليس في أقوال الغلاة المحسوبين على الشيعة ما هو أقبح من ذلك، وليس للغرابية المزعومة مقالة غير ما نسب إليها، وهي ليست بأسوأ من هذه المقالات، إنْ لم تكن أقلّ منها قُبحاً، وكما لا نشكّ في أنّ أصحاب تلك المقالات ليسوا من الشيعة، لا نشكّ في أنّ الذين ذهبوا في الخليفتين إلى هذا الحدّ من الغلوّ هُم من شُذّاذ أهل السنّة ولا يعبّرون عن رأي جمهورهم في هذه المقالات، والذي أردناه من إيراد هذه الأمثلة أنّ المؤلّفين في الفِرَق لو كانوا مجرّدين لكان عليهم بمقتضى منطقهم أنْ يعدّوا أصحاب هذه المقالات من فِرَق السنّة؛ لأنّها أدلّ على الغلوّ من مقالات المغالين في عليّ (عليه السلام).

____________________

(1) انظر كتاب التعجب للشيخ أبي الفتح الكراكجي المتوفّى في القرن الرابع الهجري ص 63.

(2) المصدر السابق ص 58.

٩٤

الفصل الرابع: في المذاهب الاعتقادية

لقد انتهينا بنهاية الفصل السابق من عرضٍ لبعض الآراء والمذاهب التي حدَثت في العهد المبكّر من تاريخ المسلمين من الناحية السياسية، باعتبار أنّ تلك الفِرَق كانت إبّان نشأتها لا تتعدّى موضوع الحاكم الذي يتولّى مركز الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكيفية اختياره، والشروط التي لابدّ من توفّرها فيه، ولكنّها بعد أنْ تمكّنت وامتدّ بها الزمن تخطّت هذه الناحية إلى بعض المواضيع الدينية الأُخرى، وأصبحت فِرَقاً مستقلّة بذاتها من الناحيتين السياسية والدينية، وعرضنا وجهة نظر الشيعة في الخلافة الإسلامية، والخوارج وأسباب انحرافهم، وبعض الفِرَق التي تستّرت بحبّ أهل البيت، وأخيراً انحرفت عن مبدئهم وعن الإسلام من أساسه، إلى غير ذلك من المواضيع التي تحدّثنا في هذا الفصل عنها حسب المناسبات.

وبجانب هذه الفِرَق حدّثت مذاهب أُخرى لم تكن في عهد الصحابة الأوّلين الذين آمنوا بالإسلام وسرى في نفوسهم وقلوبهم بكلّ بساطة وبدون

٩٥

أي تعقيد أو تشكيك، وقد أشَرنا في الفصل السابق إلى أنّ التغيّر الذي طرَأ على تفكير المسلمين كان ممّا لابدّ منه، بملاحظة الظروف والملابسات التي أحاطت بهم، ولا سيّما بعد أنْ اتصلوا بغيرهم مِن الأُمم التي كانت تختلف أشدّ الاختلاف في عقائدها وعاداتها وحضارتها، وهؤلاء وإنْ دخلوا في الإسلام، ولكنّ الكثيرين منهم لم تتوفّر لهم جميع أسباب القناعة بالدين الجديد إلاّ بعد التفكير الطويل والبحث الواسع، والمحاكمة بين ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم وبين ما دخلوا فيه بسبب اتساع سيطرة الدولة الفاتحة، وليس من السهل أنْ تحتل تعاليم الإسلام وعقائده نفوسهم وقلوبهم بتلك السرعة الخاطفة.

ولو افترضنا أنّهم آمنوا به بتلك السرعة، واحتلّ نفوسهم منذ أنْ سمعوا به، ولكن ما كان يثار حول معتقداتهم من الشُبَه لا يزال في أذهانهم ويتّسع الدين الجديد لتلك الشُبه وغيرها، فالنزاع في حرّية الإرادة وعدمها، وفي الصفات والجنّة والنار وغير ذلك من المواضيع التي كانت مسرحاً للجدَل والنزاع والخصومات، ولم تكن من مبتكرات العصور الإسلامية.

وعلى سبيل المثال نرى أنّ الجهم بن صفوان الذي تنتسب إليه الجهمية ، يدّعي أنّ الجنّة والنار تفنيان ويفنى من فيهما، وهذا الأمر كان موضع جدل بين الكنائس النصرانية، وذهب القائمون على الكنيسة اليونانيّة إلى إنكار أبدية عذاب القبر.

ويدّعي بعض المستشرقين أنّ فرقة المعتزلة نشأت من النصرانية؛ لأنّ آباء الكنائس كانوا يتجادلون في حرّية الإرادة، وأنّ الإنسان مجبور أو مختار، كما كانوا يتجادلون في صفات الله، وهذه الأفكار قد تسرّبت إلى المعتزلة عن طريقهم بعد فتح المسلمين للشام واختلاطهم بغيرهم من الأُمم الأُخرى.

وكان يحيى الدمشقي من أكثر المسيحيّين اتصالاً بالمسلمين، ومن أشدّهم تعصّباً لنصرانيّته، وبلغ به الحال أنّه ألّف كتاباً للنصارى يفترض فيه الاعتراضات ويجيب عليها، وكان هو وأبوه يعملان في قصور الأمويّين وقد تكلّم في القدر، وقال: أنّ الله مصدر الخير، والخير يصدر عنه كما يصدر النور عن الشمس، ومنه ومن غيره تكلّم المعتزلة في القدر وفي الصفات، كما يدّعي جماعة من الكتاب (1).

____________________

(1) انظر ضحى الإسلام، المجلّد الأوّل ص 344.

٩٦

والإنصاف أنّ هذه الدعوى على إطلاقها بعيدة عن الواقع، وكل ما في الأمر أنّ الفكر الإسلامي قد تأثّر بتلك الأفكار الأجنبية بسبب اتصال المسلمين العرب بغيرهم من الأُمَم التي دخلت وحملت معها عقائدها، وما كان يُثار حولها من الشُبه والشكوك، ولابدّ وأنْ يؤثّر هذا الاحتكاك والاتّصال بين الطرفين وأنْ يُساهم في إثارة الشكوك والشبهات، ويبعث على البحث والتفكير والمحاكمة بين تلك العقائد والمذاهب المتباينة.

أمّا أنّ المسلمين قد أخذوا عنهم الجدل، والنزاع في القدر والجبر والاختيار والصفات، وتبنّوا آراءهم في هذه المواضيع، فليس لدينا من الأدلّة ما يكفي لإثبات هذا الأمر؛ لأنّ فكرة الجبر والاختيار، وتغاير الصفات واتحادها مع الذات، وبقاء الجنّة والنار أو فناءهما، هذه المواضيع قد ألمح لها القرآن الذي نزَل بلغة العرَب قبل نصف قرن تقريباً من اتصال العرب بالعناصر الأجنبية، فالقائل بالجبر قد اعتمد على بعض الآيات التي تُوهم ذلك، كما وأنّ القائل بالاختيار قد اعتمد على بعضها الآخر، وهكذا الحال في الصفات وبقية المواضيع الأُخرى التي كانت مسرحاً للنزاع والتخاصم بين المسلمين في ذلك العصر الذي انتشرت فيه هذه المباحث.

ومجمل القول إنّ الفكر الإسلامي قد تأثّر بالفلسفة الأجنبية، والكتب التي حملت إلى المسلمين كثيراً من الأفكار والآراء الغريبة عن معتقدات المسلمين، وأصبح علماء الكلام والمذاهب الدينيّة ينظرون إلى القرآن، وإلى المعتقدات من خلال فلسفتهم وما وصل إليهم من آثار الأُمم الأُخرى وفلسفتها، وتلك المناهج نفسها استخدموها في فهم الدين، وتوضيح مشكلاته، وأصبحوا يدرسون الدين كما يدرسون الحساب والهندسة والهيئة وسائر العلوم العقلية، فنتج من ذلك أنْ تعقّدت نظرتهم إلى التعاليم الإسلامية، وبرَز ذلك الاختلاف بين العلماء الذي تمثّله فِرَق متباينة في مناهجها وأساليبها، بينما نرى القرآن نفسه يستدل على كلّ شيء، ولكنّه يتحرّى أقرب الطرق إلى الأذهان وأقلّها تعقيداً فيستدلّ بالمحسوسات تارة، وبالنظائر أُخرى، وبالآثار والنتائج المترتّبة على أسبابها ومؤثّراتها، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الأُسلوب من الاستدلال أسرع إلى التصديق بالنتائج، وأقوى أثراً في النفس من الاستدلال بالأشكال المنطقية، والطُرق التي اتّبعها العلماء بعد ذلك للتوصل إلى النتائج، تلك الطرق التي فتحت

٩٧

أبواب الاحتمالات، وأضافت إلى تلك الشُبه شُبهاً أُخرى بقيت مسرحاً للجدَل والتخاصم قروناً وأعواماً.

ومهما كان الحال فقد حدَث انقسام آخر بين المسلمين في العقائد، بالإضافة إلى الانقسامات الأُولى التي كانت في بداية أمرها سياسيّة خالصة، واتّسعت بينهم الخصومة من حيث الرأي والمنهج، واختصّ فريقٌ بوصف الاعتزال وآخر بالإرجاء، وفريق ثالث بالأشاعرة؛ لأنّهم اتبعوا نهج الأشعري، الذي ناصر المحدّثين، وتحامل على الكثير من آراء المعتزلة ومعتقداتهم، وأصبح لكلّ فريق من هذه الأصناف مذهب تدين به الملايين من الناس.

وتعصّبت كلُّ فرقة لمعتقداتها تعصّباً بلغ أشدّه بين الأتباع والأنصار، أدّى إلى التفسيق والتكفير، ولا سيّما بين المعتزلة والأشاعرة وأتباعهم من المحدّثين والفقهاء، وعلى الأخص بعد أنْ وجد الطرفان مَنفساً لهم من الحكّام العبّاسيّين الذين تبنّوا بعض آرائهم ونظرياتهم، وتولّوا بأنفسهم فرضها على الجماهير وعلى العلماء أيضاً بالقوّة، ولقيَ العلماء من ذلك عنتاً وجوراً لمجرّد أنّهم لم يقتنعوا بصحّة تلك الآراء، وكان لتلك القسوة أثرها السيّئ في نفوس المحدّثين وأتباعهم، وهُم الأكثرية من الجماهير، ولذا فإنّهم حينما وجدوا منفساً لهم بسبب مناصرة بعض الحكّام لهم في الشطر الأخير من عصر المتوكّل العبّاسي، أعادوا نفس المسرحية التي مثّلها المعتزلة معهم بأقبح أشكالها، فقتلوا وشرّدوا وأحرقوا المكاتب، ومَلأوا السجون والمعتقلات منهم، واستمرّ ذلك أكثر من قرنين تقريباً.

فالصراع بين المعتزلة والمحدّثين أوّلاً، وبينهم وبين الأشاعرة أخيراً، كان في بدايته صراعاً فكرياً قائماً على أُسس علمية خالصة، ثمّ انتقل إلى الشارع وأصبح بين الأنصار والأتباع الذين تديّنوا بتلك الأفكار والآراء، وبينما كان بين المعتزلة من جهة، وبين المحدّثين وأتباعهم الأشاعرة من جهة أُخرى، وإذا به ينتقل إلى المحدّثين الأشاعرة ويستحكم العداء بينهما ويبلغ أشدّه، وعلى الأخص بعد أنْ تبيّن للمحدّثين أنّ الأشاعرة لم يقفوا من الحديث موقفهم، وأفسحوا للعقل أنْ يتصرّف في ظواهر الكتاب والحديث، وأنْ يكون حكَماً عند تعارض النصوص أو إجمالها، وأخيراً وإنْ لم يكن لهذه الفِرَق وجود في العصور المتأخّرة بالنحو الذي كان في تلك الفترة من تاريخها، إلاّ أنّ آراء تلك الفِرَق وآثارها لا تزال باقية، ومنها قد استمدّ أكثر أهل السنّة عقيدتهم.

وفي وسط هذا الصراع بين المعتزلة والأشاعرة والمحدّثين كان الشيعة

٩٨

وأئمّتهم (عليهم السلام) يجادلون ويُناضلون عن الدين تلك الشبه التي غزته من الداخل والخارج، فتكلّموا في القدر والجبْر والاختيار والصفات، والجنّة والنار، وفي جميع تلك البحوث العقليّة التي أثارها العلماء والملاحدة في ذلك العصر، وسلكوا طريقاً وسطاً في مناظراتهم وبيان مقاصدهم، فلَم يعتمدوا على الحديث وحده كما فعل المحدّثون، ولا على العقل وحده كما فعل المعتزلة، بل اعتمدوا على العقل فيما لا نصّ فيه، أمّا مع وجود النصوص الصريحة، فهي وحدها المرجع الذي يستمدّون منه أُصولهم وفروعهم.

وقبل أنْ نتحدّث عن آراء هذه الفِرَق، ونُقارن بينها وبين آراء الإمامية، لابدّ لنا من عرضٍ موجز لتاريخ نشأة هذه المذاهب وبعض خصائصها، كما تحدثنا عن التشيّع والخوارج وبعض الفرق المنسوبة إلى الشيعة، وأسباب ظهورها، والجهات التي تخصّ كلّ واحدة منها في الفصول السابقة.

المُرجِئة

لقد غلب لفظ المرجئة على فئةٍ من الناس وقفوا من الخوارج والمعتزلة موقفاً وسَطاً، فقال الخوارج: إنّ العُصاة كفّار، وقال المعتزلة: إنّهم مخلّدون في النار، وقال غيرهما: إنّهم مؤمنون ولم يحكموا عليهم بالعذاب، ولفظ الإرجاء يُستعمل في معنيَين:

الأوّل: التأخير، ومن ذلك قولهم أرجأت الأمر أي أخّرته، وبهذا المعنى ورد في الآية ( أرجِه وأخاه وابعث في المدائن حاشِرين ) .

المعنى الثاني: إعطاء الرجاء، والفِرقة التي شاع تسميتها بالمرجئة يُمكن أنْ يكون تسميتها بهذا الاسم بلحاظ المعنى الأوّل؛ حيث إنّها لم تقل بمقالة الخوارج الذين حكموا بكفر العُصاة، ولا بمقالة المعتزلة القائلين بأنا لا نحكم عليهم بالكفر ولا بالإيمان، ومع ذلك فهُم مخلّدون في النار، بل قالوا: بأنّهم مؤمنون؛ لأنّ الإيمان عقد القلب، والعمل ليس جزءاً منه ولا

٩٩

شرطاً في تحقّقه، فارتكاب المعاصي لا يسلب العبد صفة الإيمان، فيكون وصفهم بالإرجاء والحال هذه؛ من حيث إنّهم لا يحكمون على العُصاة باستحقاق العقوبة ويتركونه إلى الله.

ويُمكن أنْ تكون تسميتهم بذلك بلحاظ المعنى الثاني؛ لأنّ المعروف عنهم أنّهم يقولون لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، ولازم ذلك إعطاء الرجاء للعُصاة ما دامت المعاصي لا تسلبهم صفة الإيمان، والناس عندهم فريقان: فريق في الجنّة وفريق في السعير، وهم الكفّار لا غير؛ أو لأنّهم يؤخّرون الحكم على مرتكبي الكبائر ولا يحكمون عليهم في الدنيا باستحقاق العقاب (1)، كما يقتضيه المعنى الأوّل للأرجاء.

ويرجّح الدكتور أحمد أمين في فجر الإسلام أنّ الإرجاء بمعنى الإمهال والتأخير، وأنّ هذا الاسم أصبح علَماً على الذين يرجئون أمر الفريقين الذين سفكوا الدماء، إلى يوم القيامة فلا يقضون بحكم على هؤلاء ولا على هؤلاء (2)، والذي يؤيّد هذا المعنى منها هو أنّ كلمة المرجئة لم تعرف قبل العصر الأموي، ولم تستعمل إلاّ بعد أنْ علِم من حال الخوارج أنّهم يكفرون العُصاة سَواء كانوا من الحكّام أم من غيرهم، وفي مقابل هؤلاء ذهب المعتزلة إلى أنّهم مخلّدون بذنوبهم، ووقف المرجئة في مقابل الفئتين الخوارج والمعتزلة، ولم يحكموا عليهم بالكفر ولا بالعقاب في الدنيا وتركوه إلى اليوم الآخر.

وفي التعليقة على مقالات الإسلاميين للأشعري أنّ المرجئة الذين يسمون بهذا الاسم يجزمون بأنّه لا عقاب على مرتكب الكبيرة؛ لأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب (3) .

وفي ذلك دلالة على أنّ الإرجاء قد أطلق على فئة من الناس كانت تخالف الخوارج والمعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة، وإنْ كان له أكثر من معنى بحسب اللغة.

ومهما كان المراد من هذه الكلمة فالذين خالفوا المعتزلة والخوارج في

____________________

(1) انظر التعليقة على هامش مقالات الإسلاميين للأشعري ص 197.

(2) انظر فجر الإسلام ص 279 الطبعة السادسة.

(3) انظر التعليقة على مقالات الإسلاميّين ص 203.

١٠٠