دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية0%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف: محمد جعفر شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 212
المشاهدات: 60347
تحميل: 4732

توضيحات:

دراسات في العقيدة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60347 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

شرعت تبيد كل الآلهة الآخرين، لتجعل نفسها صاحبة المقام الأعلى. واعقبت هذا ثورة عظيمة اضطرب منها كل نظام. ثم جاء إله آخر هو - مردك - وقتل - تيامات - ثم قسم تيامات الميتة قسمين مستطيلين، كما يقسم الإنسان السمكة ليجففها. ورفع أحد القسمين إلى أعلى فكان هو السماء. وبسط النصف الآخر تحت قدميه فكان الأرض. ولما ان فتق مردك السماء والأرض ووضعهما مكانيهما، شرع يعجن الأرض بدمائه ويصنع الناس»(١) الخ.

النظريات حول أصل الحياة:

بعد هذا، لا بد من العود إلى استعراض ما ذكرناه من نظريات الخلق الثلاث.

١ - نظرية الخلق الخاص:

وهي ما يقول به الإلهيون. وفحوى هذه النظرية، هو أن الحياة قد استحدثت في هذا الكون، من قبل قوة فاعلة، هي نفس القوة التي يردّ إليها الإلهيون خلق الكون نفسه، في مرحلة سابقة. هذه القوة هي: اللّه.

وهذه النظرية، قد أجمعت عليها جميع الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية، والنصرانية، والإسلام، متمثلة في كتبها: التوراة، والإنجيل، والقرآن.

٢ - نظرية النقل:

وحاصل نظرية النقل هذه، حول كيفية وجود الحياة على هذه الأرض

____________________

(١) نفس المصدر ٢١٧.

١٠١

هو «ان الحياة قد أتت إلى أرضنا من كوكب آخر، بل ربما من نظام شمسي آخر»(١) .

وإذا سألنا أصحاب هذه النظرية، عن الوسيلة التي انتقلت الحياة بواسطتها إلى الأرض من ذلك الكوكب، أو النظام الشمسي الآخر المزعوم لأجابوا: بأن هذه الحياة، قد انتقلت بواسطة ذرات دقيقة، حملتها الشهب الصغيرة التي تنطلق عادة بين الكواكب، أو غيرها، من الغبار الكوني المنتشر بين الأجرام!!

نقد نظرية النقل:

ونظرية النقل هذه، مما لا يمكننا قبوله.

أولاً : لأنها لم تفسر لنا كيفية نشوء الحياة على هذا الكوكب، بل هي أقرب إلى الهروب من مواجهة السؤال المطروح عن أصل الحياة، منها إلى الإجابة عليه. وذلك بالزعم، بأن الحياة قد انتقلت انتقالاً إلى الأرض من كوكب آخر.

ثانياً : إنها لم تعين لنا الكوكب، أو النظام الشمسي، الذي كان - بحسب زعم أصحابها - منطلقاً للحياة إلى الأرض، وهذا يكشف عن انها نظرية مسرفة في الخيال إلى حد بعيد.

ثالثاً : انها «لا تبذل محاولة لتعليل وجود الأشكال الحية في الكوكب الذي يفترض انها انتقلت منه»(٢) .

____________________

(١) الفلسفة أنواعها ومشكلاتها لهنتر ميد ١٠٥.

(٢) نفس المصدر.

١٠٢

٣ - نظرية الانبثاق:

وقد يعبر عن هذه النظرية في كثير من الأحوال «بنظرية البداية التلقائية» وحاصل هذه النظرية - التي تعتبر ممثلة لوجهة نظر العلم - «ان المادة العضوية قد ظهرت من المادة غير العضوية، في وقت معين من الزمان، وهي لا تفترض أن أية قوة خارجية، أو قدرة خالقة كانت لازمة لإحداث هذا التغيير، وإنما هو حدث بوسائل طبيعية محضة، أي نتيجة لتجمع عفوي لظروف طبيعية»(١) .

نقد النظرية:

وهذه النظرية باطلة لأمور:

الأول : انها مجرد فرضية لم يدعمها أي دليل علمي، وهي بهذا أقرب ما تكون إلى المصادرات منها، إلى تفسير نشوء الحياة.

الثاني : انها كما يبدو من قول أصحابها في النص المتقدم: أن التغيير الذي طرأ على المادة غير العضوية التي تولدت منها مادة عضوية، إنما كان بالمصادفة والاتفاق، لأنه كان - كما يقول هؤلاء - نتيجة تجمع عفوي لظروف طبيعية، وقد تقدم منا إقامة الأدلة الكثيرة على بطلان منطق المصادفة، ولذا لا داعي للتكرار.

____________________

(١) الفلسفة أنواعها ومشكلاتها لهنتر ميد ١٠٥.

١٠٣

الثالث : إن هذه النظرية لا تستطيع أن تفسر لنا هذه الظروف التي تجمعت بشكل عفوي. ومع هذا، كيف يمكن أن نردّ أصل الحياة إلى ظروف لا نعرف أي وجه من وجوهها، أو ما يلقي عليها ولو ضوءاً باهتاً؟.

الرابع : إن أصل الحياة، إذا كان وليد تجمع ظروف طبيعية، فلماذا لا يحاولون تكرار تجميع هذه الظروف في معاملهم من جديد ليتحفونا بتفسير لأصل الحياة بشكل محسوس؟

١٠٤

المبحث الرابع مجرى الحياة

هذا هو الشق الثاني، من النقطة الثانية، التي قلنا بأن الحديث فيها، سوف يدور مع الماديين، حيث انهينا الحديث قبل قليل عن الشق الأول منها، وكان أصل عن الحياة.

إننا نرى بأعيننا، تنوع الحياة بأشكالها المختلفة، فكيف حدث هذا التنوع؟ وما هي علته؟

أ - رأي الإلهيين:

ويعتقد الالهيون، بأن هذا التنوع والاختلاف، يرجع إلى نفس العلة التي كانت سبباً في وجود هذا الكون، بكل تناسقه وما يحتويه من نظام، نفس العلة التي اثبتنا فيما سبق انها خارجة عنه، وهي اللّه.

ب - مع نظرية التطور:

ولكن، لا بد من التعرض لوجهة نظر أخرى، مقابلة لوجهة نظر الالهيين هذه في تنوع الكائنات، واختلاف أشكال الحياة. ووجهة النظر هذه هي: نظرية التطور، التي جلاها وأمدها بشيء من الزخم، العالم الطبيعي الانجليزي، تشارلس دارون (١٨٠٩ - ١٨٨٢).

١٠٥

ملخص نظرية التطور:

وملخص نظرية التطور هذه، هو أن جميع أشكال الحياة المتمثلة في الأنواع المتعددة الموجودة فعلاً، ترجع إلى أصل واحد أو أصول متعددة. ذلك الأصل الواحد هو الذي تطورت منه هذه الأنواع خلال ملايين السنين إلى أن اتخذت أشكالها التي نراها عليها الآن.

ولكن كيف يمكن أن نفسر هذا التنوع والاختلاف، مع فرض وحدة الأصل؟

هنا يذهب دارون، وبعض أنصار مذهبه، إلى أن تفسير ذلك، يكون بقانون أساسي، هو ما اسماه بقانون تنازع البقاء.

وهناك ثلاثة قوانين ثانوية هي:(١)

«قانون الملاءمة بين الحي والبيئة الخارجية».

«وقانون استعمال الأعضاء أو عدم استعمالها تحت تأثير البيئة أيضاً».

«وقانون الوراثة».

قانون تنازع البقاء:

ومعنى هذا القانون، هو أنه لما لم يكن هنالك تناسب بين ما تعطيه البيئة الطبيعية من غذاء، وبين ما يولد من أعداد هائلة، من الكائنات العضوية، كان لا بد وأن يحدث تصارع على الغذاء بين أفراد كل نوع.

____________________

(١) يراجع تاريخ الفسلفة الحديثة ليوسف كرم ٣٣٩.

١٠٦

ولكن لما كانت هناك مزايا وفروق بين أفراد النوع الواحد ،(١) كان لا بد وأن تواتي الظروف، عدداً من أفراد كل نوع، ممن يحتوي الفروق والمزايا الجيدة، في حين تعاكس الظروف باقي الأفراد من نفس النوع بالنظر لرداءة ما تحمله من مزايا وفوارق.

ونتيجة ذلك كله، في هذا الصراع المستمر، سوف يكون الفوز للأقوى الأصلح. وهذا ما اصطلح عليه التطوريون ببقاء الأصلح.

ولكن التطوريين هؤلاء، رأوا أن ما تقدم وحده، لا يفسر تغير الأنواع بل وتطورها إلى الأحسن، وبالتالي بقاءها. ومن هنا ذهبوا إلى الاستعانة بقانون الوراثة. وهو أحد القوانين الثلاثة في نظريتهم كما سبق.

ومعنى هذا القانون، هو أن ما فرض من مزايا وفوارق بين أفراد النوع لا بد وأن تكون فيها قابلية الانتقال من الأفراد إلى ما يتوالد منها بطريق التزاوج «ولولا ذلك لعادت ذرية الفرد، إلى المستوى العادي للنوع، مهما كانت المزايا التي يتمتع بها الفرد نفسه. ولكان معنى ذلك، أن نعود من حيث بدأنا»(٢) ولعل هذا هو ما اصطلح عليه التطوريون بالانتخاب الطبيعي.

هذه موجزاً، نظرية التطور. ومجرد الانتباه إلى توصيف هذه النظرية. الانتخاب «بالطبيعي» يؤكد بشكل واضح، أن هذه النظرية آلية بحتة، لا تؤمن بأية ضرورة لفرض أية قوة خارجية، تسبب عنها هذا التطور، بل تحصر هذه العملية بالاتفاق والمصادفة، من دون أن يكون فيها أية غائية أو قصد، سواء في ذلك النبات والحيوان بما فيه الإنسان.

____________________

(١) و(٢) الفسلفة أنواعها ومشكلاتها لهنترميد ١١٠.

١٠٧

فالنبتة الجميلة التي نراها بأعيننا، ما هي في نظر التطوريين، إلا الصورة العليا لنبتة من نفس النوع قد اندثرت وانقرضت بمقتضى تنازع البقاء أو الانتخاب الطبيعي.

والإنسان في تناسق أجزائه، وجمال شكله، وحسن قوامه، ما هو في نظر دارون إلا الصورة العليا لأخس شكل من أشكال الحيوان، ولأحط فرد من أفراد القرد، قد اندثر وانقرض، بمقتضى قانون تنازع البقاء، أو الانتخاب الطبيعي، وهكذا.

أهم أدلة التطوريين العلمية:

ونحن، سوف نستعرض أهم أدلة التطوريين العلمية، لنناقشها، ثم نبدي رأينا في هذه النظرية ككل وبشكل مختصر، كسباً للوقت.

الدليل الأول : وهو أهم أدلة التطوريين، وقد استقوه من علم الحفريات. «ذلك لان بقايا الحفريات،تشكل ما يكاد يكون سلسلة من الأشكال التي تؤدي بنمط من الكائنات العضوية، إلى نمط آخر مختلف عنه كل الإختلاف»(١) .

الدليل الثاني : وقد استمده التطوريون من علم الأجنة. وملخص هذا الدليل هو «أننا كلما رجعنا القهقرى في نمو الجنين،كان التشابه أعظم بين تلك الأنواع التي يعتقد القائل بالتطور، أنها مرتبطة. فأجنة البشر والقرود،أقوى تشابهاً بكثير في الشهر الثالث من الحمل منها في الشهر الأخير» (٢) .

____________________

(١) و(٢) يراجع في هذه الأدلة وغيرها كتاب الفلسفة أنواعها ومشكلاتها لهنترميد ١١٤ وما بعدها.

١٠٨

وقد لاحظ هؤلاء المراحل التي يمر بها الجنين البشري فوجدوا أن من جملة هذه المراحل الجنينية، بروز فتحات خيشومية، وفقرات زائدة، فاعتقدوا بأن الأولى، وهي الفتحات الخيشومية، تشير إلى مرحلة من مراحل تطور الإنسان كما أن الثانية وهي الفقرات الزائدة، تشير إلى مرحلة أيضاً كان الإنسان فيها يملك ذيلاً.

الدليل الثالث : وقد استقاه التطوريون هذه المرة، من علم التشريح المقارن. وحاصل هذا الدليل «أننا عندما نجد شخصين متشابهين،فإنا نفترض وجود قرابة بينهما، وعلى ذلك، فعندما نكتشف أوجه شبه في التركيب أو الوظيفة بين أنواع مختلفة كالبشر والقرود مثلاً،فمن المنطقي أن نشتبه في وجود أصل مشترك » (١) .

الدليل الرابع :(٢) وهو مستمد من تحليل الدم، فإن تحليل دم كل من القرود والبشر، أثبتوجود تشابه في التركيب بين الدمين أقوى من التشابه الموجود بين دم كل منهما، ودماء أنواع أخرى من الحيوان.

مناقشة واستدلال:

ونحن، لا يمكننا قبول منطق التطوريين هذا لعدة أمور:

أولاً : من الواضح، وجود قاسم مشترك بين هذه الأدلة الأربعة، تعود

____________________

(١) و(٢) يراجع في هذه الأدلة وغيرها كتاب الفسلفة أنواعها ومشكلاتها لهنترميد ١١٤ وما بعدها.

١٠٩

إليه جميعها، وهو دعوى التشابه بين حلقة وحلقة، في سلسلة نوع ما، كشف عنه علم الحفريات. ومرحلة ومرحلة من مراحل تطور الجنين البشري والقرد، كشف عنه علم الأجنة. والإنسان والقرد، كشف عنه علم التشريح المقارن. ودم الإنسان ودم القرد، كشفت عنه التحليلات المختبرية. ومن هذا التشابه، قفز التطوريون ليقولوا، بضرورة وجود أصل مشترك بين الأنواع المختلفة تطورت عنه إلى أن بلغت الأشكال الراقية التي نراها عليها الآن.

ومن البديهي، أن مجرد التشابه في الشكل، بين الفتحات الخيشومية أو الفقرات الزائدة للإنسان وبعض أنواع القرود في بعض المراحل الجنينية، لا يمكن أن يكون دليلاً على أن الإنسان من نسل تلك الأنواع القردية، أو أن تلك الأنواع القردية أسلاف لهذا الإنسان.

يقول الدكتور أ. كريسي موريسون: «وتكوينه - أي الإنسان - يشبه فصائل السيميا - الأورانجتان والغوريلا والشمبانزي - ولكن هذا الشبه الهيكلي ليس بالضرورة برهاناً على أننا من نسل أسلاف سيمائية أو تلك القرود هي ذرية منحطة للإنسان.

ولا يمكن لأحد أن يزعم أن سمك القدّ، قد تطور من سمك الحساس، وان يكن كلاهما يسكن المياه نفسها، ويأكل الطعام نفسه ولهما عظام تكاد تكون متشابهة»(١) .

ثانياً : ان التطوريين لا يملكون شيئاً من الأدلة المباشرة، تدعم ما ذهبوا إليه، إذ لو كان ما ادعوه من، الأشكال الموجودة من الحياة، هي الصيغة الأعلى لأنواع خسيسة من نفس الأشكال،

____________________

(١) العلم يدعو إلى الإيمان ترجمة محمود الفلكي ١٤٢.

١١٠

وإن هذه الأشكال الموجودة فعلاً، قد طرأت عليها تعديلات متعددة حتى أصبحت على الحالة التي نراها عليها الآن، لو كان كل ذلك صحيحاً، فأين هذه الأدلة التي تثبت حدوث مثل هذا التعديل؟

وبعبارة أخرى - كيف يمكننا أن نؤمن بتعديلات طرأت على نوع من الأنواع دون أن نلاحظ أو يلاحظ أي واحد من التطوريين عملية حدوث هذا التعديل في أي نوع من أنواع الحياة؟

ثالثاً: لقد فرض التطوريون - كما سبق وقلنا - مزايا وفوارق جيدة، قد توجد في فرد من أفراد النوع، ولا توجد في آخر فيها قابلية الإنتقال بالوراثة ولكن التطوريين لا يستطيعون أن يقدموا لنا تفسيراً لوجود مثل هذه الفوارق والميزات والتنوعات بين أفراد نوع واحد.

رابعاً : ان هنالك ثغرات واسعة في سلسلة النمو التدريجي المزعوم من قبل التطوريين فلو أخذنا مثلاً الإنسان الذي يحاول هؤلاء أن يثبتوا قرابة بينه وبين القرود باعتباره الحلقة الأرقى، في سلسلة نمو هذا الحيوان المتدرج. فلن يستطيع هؤلاء أن يضعوا أمام أعيننا كما يقولون سلسلة كاملة من الأشكال، التي تؤدي بنا عند ملاحظتها بشكل متسلسل وتصاعدي، من شكل يفترض أنه أخس الأشكال في هذا المخلوق إلى أن نصل إلى الإنسان الذي يفترض أنه أعلى الأشكال وأرقاها. ذلك لأننا سوف نصطدم بحلقات مفقودة، يسلم التطوريون بفقدها، ولم يؤد بهم المطاف إلى العثور عليها حتى الآن، ولم يقدموا لنا أي تفسير لوجود مثل هذه الثغرات، وقس على هذا كل أشكال الحياة الأخرى.

١١١

خامساً : إذا كان الإنسان قد وجد نتيجة تعديل تم على مراحل في أشكال سابقة من القردة، فكيف تحوّل القرد في مرحلته الأخيرة من حيوان إلى إنسان؟ والواقع أن هذه عقدة حيّرت التطوريين، ولم يستطيعوا أن يفسروا كيفية حصول هذه النقلة، ولذا ذهب بعضهم إلى التخلي عن فكرة التطور، بادعائه أن هذه النقلة حصلت بالطفرة من الحيوانية إلى الإنسانية!!

ولكن البعض الآخر وجد، أن الطفرة مستحيلة في ذاتها، فكيف فيما نحن فيه حيث توجد هوة عميقة، وفارق عظيم وهائل، بين عقل القرد والعقل الإنساني، يكفي تصور جانب من جوانب هذا الفرق، للحكم بالاستحالة، وذلك بملاحظة أن القرد يعيش إلا في الحاضر، بينما يعيش الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل.

ولذلك راح هذا الفريق يبحث عمّا يسمى بالحلقة المفقودة بين حيوانية القرد وإنسانية الإنسان. ونحن سوف نبقى بانتظار عثورهم عليها، حتى نحاول أن نغيّر شهادات مواليدنا ونعيد النظر في جنسياتنا، وقد نقدم طلبات للحصول على جنسيات جديدة من وزارة الداخلية في مملكة القردة!!؟

سادساً : لو كان قانون التطور والارتقاء صحيحاً، لوجب أن تكون الحيوانات البحرية الدنيا، الموجودة في هذا العصر مختلفة تماماً عنها في العصور السحيقة في القدم. مع أنه ثبت علمياً، أنها بقيت محتفظة بأشكالها وخصائصها التي كانت عليها، منذ أول تكونها ووجودها في أعماق المياه.

١١٢

سابعاً : لقد ثبت في علم الحفريات الذي استمد منه التطوريون أهم دليل لهم كما تقدم - أن هنالك أنواعاً من الحيوانات الراقية كالفقريات، تواجدت بقاياها المتحجرة، في طبقات سفلى من الأرض، في حين وجدت بقايا متحجرة لحيوانات أدنى منها في سلم الرقي، في طبقات من الأرض، أعلى من تلك التي وجدت فيها الأولى. فلو كان قانون التطور والارتقاء صحيحاً لوجب أن تنعكس الآية، فتكون الحيوانات الأخس في طبقة أسفل من الطبقة التي وجدت فيها الحيوانات الأرقى.

ج - وقفة أخيرة:(١)

بعد هذا، لا بد من وقفة أخيرة وقصيرة مع هؤلاء التطوريين.

إنه ممّا يثير العجب حقاً، أن ينشط العقل الإنساني عند البعض بشكل يجعله يلقي الكلام على عواهنه، من دون ضوابط، فيؤدي به إلى اتخاذ مواقف مضحكة وشاذة ومحزنة في نفس الوقت.

ولكنه الشذوذ في الإنسان، إذا تمرغ في خسة الطين، وغرق في عالم الضرورات. عندها يفقد كل مقومات الإنسان. وإلا فكيف نفسر موقف هؤلاء التطوريين الذين أنكروا كل قيمة للإنسان عندما أنزلوه عن مقامه الكريم، الذي أرادته له السماء وجعلوه نوعاً من أنواع الحيوان.

ونحن لو نظرنا نظرة فاحصة إلى كل من الحيوان والإنسان، لطالعتنا

____________________

(١) فكرة هذه الوقفة الأخيرة اقتبسناها عن كتاب المفكر الإسلامي الكبير محمد قطب «دراسات في النفس الإنسانية» ١٨٥ وما بعدها. وهو كتاب جدير بالقراءة.

١١٣

صفات أساسية ومعمقة، يتميز بها الإنسان وحده، مما يجعلنا نجزم باستحالة أن يكون هنالك أية قرابة بينهما. ويمكن حصر تلك الصفات فيما يلي:

١ - سعة المجال وتعدد الطرائق.

٢ - وضع حد للاكتفاء في جميع ضروراته.

٣ - التغيير والتطوير والتنويع في ضروراته.

٤ - تفرّده في السلوك.

٥ - وجود أهداف وغايات لديه يصبو إلى تحقيقها.

٦ - عدم الإحساس بالقهر إزاء الضرورات.

شرح وتوضيح:

لو أخذنا الطعام مثلاً

فإننا نرى الحيوان يندفع نحوه، بمجرد أن يحس بالجوع، وكذلك يفعل الإنسان. ولكن، توجد مميزات أساسية بين تناول الإنسان لطعامه، وتناول الحيوان.

فطعام الحيوان دائماً أنواع محددة ومكرورة، ليس فيها أي أثر للتنويع. في حين نرى الإنسان، يتحرك نحو اختيار طعامه في دائرة واسعة جداً، متميزاً بالتنويع والتعدد، ولذا نراه قد لا يتناول نوعاً واحداً من الطعام في يوم واحد، وربما في أسبوع.

ثم إننا إذا اعدنا الكرة مرة أخرى، نجد أنالحيوان يتناول طعامه بشكله الخام، الذي يجده عليه من دون تعديل ولا تحوير.

١١٤

في حين نرى الإنسان يتناول طعامه بتصنيعه بالشكل الذي يتناسب مع ذوقه ورغبته، فيعدل فيه ويحوّر ويخترع أصنافاً جديدة منه، بمزج أنواع عديدة، وبمقادير مركزة ومحددة، مستعملاً في ذلك إضافة إلى عقله وحسه، ما يبتكره من آلات ومواد.

أضف إلى ذلك كله، أن للحيوان سلوكاً واحداً مكروراً، في كيفية تناوله لطعامه، فهو اما أن يتناوله بطريق الرعي دائماً، أو عن طريق التقطيع بأنيابه ومخالبه، أو مخالبه فقط، أو بطريق الازدراد بلا مضغ ولا تقطيع، أو غير ذلك باختلاف الحيوان.

في حين ان الإنسان ليس له سلوك معين في مقام تناوله الطعام. «فليس يختلف فرد عن فرد في سلوكه نحو الطعام فحسب، بل يختلف الفرد الواحد ما بين مرة ومرة وحالة وحالة فهو تارة معجل يأكل طعامه نهشاً. وتارة مُستَلقٍ يأكل على مهل وروية. وتارة يتأنق فيه تأنقاً، فيأكل بأدوات أنيقة وصحاف مزخرفة وعلى مائدة منسقة، بعد عناية زائدة بالغسل والإعداد، وطريقة التقديم».

ومن ناحية أخرى، فإن الحيوان إنما يكف عن الطعام بدافع غريزي محض من دون وعي ولا إدراك، في حين نجد لدى الإنسان الضابط المدرك والواعي الذي يجعل لديه القدرة على التحكم في نفسه من حيث تناول طعامه، حتى يصل حد التخمة، أو يصوم عنه حتى يصل حد الهلاك.

ومن جهة خامسة، نجد أن الحيوان يتوجه نحو طعامه بشكل غريزي، ويتناوله بشكل غريزي، ويكف عنه بشكل غريزي أيضاً بلا هدف واع ولا مدرك.

في حين أن للإنسان من وراء تناوله للطعام، هدفاً واضحاً.

١١٥

ويختلف هذا الهدف من شخص إلى شخص، فواحد يجعل الطعام غاية في حد ذاته.

بينما يتخذه آخر وسيلة لتحقيق غاية. وواحد يأكل ليتذوق صنوف الطعام فقط، من دون أن تكون له به حاجة، وبعضهم يأكل ليسد جوعته من دون تذوق أو تلذذ، وثالث يأكل هادفاً إلى تحقيق كلتا الناحيتين.

وواحد يأكل متخفياً بهدف ستر عيب فيه، وآخر يأكل متخفياً أيضاً ولكن بهدف ألا يشاركه أحد طعامه، وثالث يأكل متخفياً، ولكن لا لهذا ولا ذاك وإنما لكي يحقق طبيعة متأصلة فيه، وهي الوحدة وحب الانفراد. وهكذا.

ثم هنالك ميزة أخيرة وعميقة أيضاً للإنسان، لا يمكن أن توجد عند الحيوان.

ان الحيوان إذا أحس بلسعة الجوع، نراه يندفع نحو طعامه اندفاعاً قهرياً لا يملك إزاءه أية حرية أو اختيار.

في حين أن الإنسان، وإن كان يتعرض للسعة الجوع، وبالتالي لا بد وان يستجيب لها «ولكن هناك مسافة زمنية وشعورية وسلوكية بين الدفعة (التي تسلب الحيوان كل اختيار، وتجعله في وضع قاهر لا محيص عنه) وبين الاستجابة التي تمثل الاختيار الحر، ومن ثم يملك الإنسان أن يستجيب في الحال بإرادته، أو يستجيب بعد فترة من الوقت، وأن ينظم مواعيد طعامه بحريته، وأن يمتنع عن أنواع معينة ويقبل على أخرى».

هذه الخصائص الست، التي تفرد بها هذا الكائن الحيواني منذ كان له وجود، خصائص جعلته فريداً بين مخلوقات اللّه، منذ أول لحظة، ولم ينفك عن هذه الخصائص ولم تنفك عنه، ليقال، بأنها تواجدت لديه نتيجة تطوره

١١٦

وارتقائه، وإلا، فلماذا حصل هو بالخصوص على هذه المميزات في طبيعته دون غيره من الحيوان.

ولماذا شمله التطور هو حتى بلغ القمة، وبقيت سائر أفراد الحيوان حيث هي في الحضيض؟

فنظرية التطور، على ضوء كل ما تقدم لا تعدو أن تكون موقفاً متأرجحاً من جملة المواقف التي أدى إليها عصر النهضة، كردود فعل للموقف الظالم والمستبد الذي وقفته الكنيسة الرسمية في العصور الوسطى وما بعدها من الإنسان، حريته وعقله وكرامته. وغالباً ما تميزت ردود الفعل هذه بالعاطفة والعناد والإرتجال، العاطفة التي تشل العقل وتمنعه من الرؤية الواضحة والعناد الذي لا يقيم للموضوعية وزناً ولا قيمة - والارتجال الذي يؤدي دائماً إلى النتائج الفاسدة إن لم تكن المدمرة.

ويبقى الإنسان ذلك الكائن المتفرد من بين مخلوقات اللّه، منذ أولى لحظات وجوده في القمة، سيد الكون وخليفة الخالق على الأرض، يطوّر الحضارة ويغنيها بكل ما يحقق له السعادة والكمال.

١١٧

١١٨

١١٩

الفصل الثالث التوحيد

١٢٠