دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية0%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف: محمد جعفر شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 212
المشاهدات: 60313
تحميل: 4728

توضيحات:

دراسات في العقيدة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60313 / تحميل: 4728
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

أ - تمهيد:

لقد تبيّن من بحوثنا السابقة، ضرورة فرض علة أولى لهذا الكون، بكل مظاهره وأشكاله الحية وغير الحية. بعد بيان استحالة وجوده بالاتفاق والمصادفة.

وقد أدرك الإنسان منذ وجد على هذه الأرض، هذه الحقيقة بفطرته المركوزة في أعماق أعماقه. وأنجدته السماء برحمتها، فكانت النبوّات التي قادت هذا الإنسان ووجّهته، نحو تلك العلة، نحو اللّه.

ولكنه كان يتخبط في سيره لاستكناه سرها واستكشاف حقيقتها. وتتأرجح الصورة أمامه، فيضيع في محيط خيالاته وأوهامه، كلما انقطع عنه مدد السماء، في فترات متعددة ومتطاولة من الزمان، بعد أن تنطفئ في طريقه تلك الشموع التي تنير له الدرب: النبوات.

ولذا نراه قد عبد في تلك الفترات، ما ظن أنه تلك القوة والعلة، مما أحاط به من مظاهر التسلط المتمثل في حيوان تارة، ونبات أخرى، وفي ظواهر كونية كالرعد والبرق والمطر ثالثة، وفي كواكب وأجرام، كانت تبهر ناظريه صباح مساء، فتفعل فيه فعل السحر، فلا يملك نفسه من أن يسجد لها مؤلهاً، فكان الشرك.

وقد ابتدأ الشرك أول ما ابتدأ، بعبادة أوثان وأصنام، كان يصنعها الإنسان بيديه، على شكل هذا الحيوان أو ذاك، وهذا الطائر أو ذاك، وهذه الشمس أو ذاك القمر، وهكذا في كل بقاع الأرض، وعلى امتداد وجود الإنسان، وعلى اختلاف الحضارات وتنوعها، تعددت صور المعبود،

١٢١

وتزاحمت أشكاله. فكان كل شعب في كل بقعة، يعبد أكثر من إله دفعة واحدة، مع تحديده وظيفة كل واحد من هذه الآلهة، ومجال اختصاصه، وجعلها مراتب ودرجات.

ففي مصر القديمة، عبد الناس النيل، وجعلوه الإله الأعظم، نظراً لما يجلبه من خصب لأرضهم، وتدمير شامل فيما لو غضب وثار. ولذا كانوا يقدمون له - في سبيل دوام رضاه - القرابين البشرية كل عام.

كما عبدوا من الحيوان، التمساح، والخطّاف، وابن آوى، والصقر، والأفعى، حتى جعل ملوكها هذه الأخيرة شعاراً خاصاً بهم(١) لأنها رمز الحكمة والحياة، وواهبة القوى السحرية(٢) .

وعبد البابليون آلهة عديدة أيضاً، أبرزها (أنو) ويريدون بها السماء الثابتة. كما عبدوا الشمس، والأرض، والقمر. بل كان إضافة إلى هذه الآلهة العامة، إله لكل أسرة منهم، بل لكل فرد، تقدم إليه القرابين، ويحرق البخور على محرابه(٣) . حتى بلغ عدد الآلهة كما في بعض الإحصاءات، خمسة وستين ألفاً(٤) .

وقس على ذلك، كل الحضارات التي احتفظ لنا التاريخ المكتوب بشيء من أخبار عقائدها، كالفرس والسومريين وغيرهم.

وقد كانت السماء دائماً، وعلى فترات، كما سبق وقلنا - قد تطول

____________________

(١) قصة الحضارة لديورانت، المجلد الأول، الجزء الثاني ١٥٨.

(٢) نفس المصدر ١٦١.

(٣) نفس المصدر ٢١٤.

(٤) نفس المصدر ٢١٣.

١٢٢

وقد تقصر، تمد يدها إلى البشرية، من خلال نبوة نبي أو رسالة رسول، لتصحح خط سير البشرية بعد انحرافه. ومن هنا كانت سلسلة طويلة من النبوات والرسالات، كل حلقة لاحقة فيها، كانت تدعو إلى نفس ما دعت إليه سابقتها من الحلقات، إلى نبذ عقيدة الشرك، والرجوع إلى عبادة اللّه الواحد، وبهذا كان التوحيد ركيزة كل رسالة من السماء. ركيزة الإسلام، لأنه دين اللّه.

( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (١) .

( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَکُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ ) (٢) .

( وَ إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَکُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ ) (٣) .

( وَ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَکُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ ) (٤) .

( وَ إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَکُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ ) (٥) .

وفي خطاب لموسى:

( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِکْرِي ) (٦) .

____________________

(١) الأنبياء ٢٥.

(٢) الأعراف ٥٩.

(٣) الأعراف ٦٥.

(٤) الأعراف ٧٣.

(٥) الأعراف ٨٥.

(٦) طه ١٤.

١٢٣

وعيسى( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّکُمْ ) (١) .

وهكذا كان الإسلام أبداً، دين التوحيد.

ولكن هذا التوحيد، الذي هو ركيزة الإسلام، دين اللّه، حرفته الأهواء والنزعات، بما في ذلك الديانات التي تدعي انتسابها إلى السماء.

فلو أخذ اليهودية مثلاً، كدين، متمثلة في نبيّها الأول إبراهيم، ومن أتى بعده من أنبياء قبل موسى، لوجدنا انها ديانة توحيد( وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‌ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‌ وَ وَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَکُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‌ أَمْ کُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلٰهَکَ وَ إِلٰهَ آبَائِکَ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِلٰهاً وَاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‌ ) (٢) .

ولكن اليهود، انحرفوا بعقيدة التوحيد هذه بعد ابراهيم، والأنبياء من بعده، حتى بعث موسى إلى بني اسرائيل، ليقوم بعملية تصحيحية لهذا الانحراف.

ثم انحرف اليهود عن العقيدة الصحيحة مرة أخرى، عندما حرّفوا هذا التوحيد وشوّهوه بما أدخلوا فيه من أساطير. «فجعلوا إلهاً خاصاً لبني إسرائيل، وحّدوه، ولكنهم جعلوه إلهاً قومياً، ينصرهم على اتباع الآلهة الآخرين، وذلك فوق ما افتروا على إله إسرائيل ذاته، فقالوا نحن أبناء اللّه وأحباؤه

____________________

(١) المائدة ١١٧.

(٢) البقرة ١٣٠ - ١٣٣.

١٢٤

وهو لا يعذبنا بذنوبنا. وقالوا عزير ابن اللّه. وقالوا عنه ان له أبناءاً تزاوجوا مع بنات الناس فولدوا العمالقة، الذين خاف الإله منهم أن يصبحوا آلهة مثله فنزل وبلبل ألسنتهم. وقالوا ان يعقوب صارع هذا الإله مرة وضربه فخلع حقوه. وقالوا عنه انه يتمشى في ظلال الحديقة ويتبرد بهوائها وانه يحب ريح الشواء»(١) .

ثم جاء عيسى، نبياً، ليقوم بعملية تصحيحية جديدة لهذا الانحراف. «ثم انتهت عقائد النصارى إلى التثليث الذي يحاولون أن يصفوه بالتوحيد بين الأقانيم الثلاثة مع الاختلاف على طبيعة الاقنوم ومشيئته الابن»(٢) .

وهكذا استمر الحال في هذا الخط من الانحراف في العقيدة، إلى أن جاء رسول اللّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليقوم بالعملية التصحيحية الكبرى والأخيرة في حياة البشرية، فيردها إلى التصور الصحيح للّه الواحد، ويكشف كل الانحرافات التي طرأت على ركيزة الإسلام الأساسية وقاعدته الرئيسية: التوحيد.

( قُلْ يَا أَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَکُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لاَ نُشْرِکَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‌ ) (٣) .

ب - ولكن لماذا التوحيد؟

لماذا نعم للتوحيد، ولا للشرك؟

ولماذا هذا الإصرار من السماء، على جعل التوحيد ركيزة أساسية لعقيدة الإنسان؟

____________________

(١) و(٢) خصائص التصور الإسلامي لسيد قطب ٢١٧ - ٢١٨.

(٣) آل عمران ٦٤.

١٢٥

ولماذا كان التوحيد القاعدة الثابتة للإسلام دين اللّه؟

يبدو لي، في مقام الإجابة على هذه التساؤلات، أن السماء تريد لهذا الإنسان كفرد، بعبوديته للّه وحده، أن تجنبه شر التمزق والتأرجح بين أرباب متعددين. وان السماء تريد للمجتمع البشري، أن لا يعيش في صراع، من جرّاء تعدد النحل والارباب والأديان. إذ إن وجود عقائد مختلفة بسبب الاعتقاد بأرباب متعددين، سوف يؤدي بالمجتمع الإنساني إلى التناحر الدائم.

وبعقيدة التوحيد، حيث يتوجه الناس، كل الناس، نحو رب واحد، فمعنى ذلك أنهم سوف يتوجهون نحو هدف واحد، وبنظام دين واحد، تأمن البشرية شر هذا الصراع، وتوفر على نفسها كثيراً من الهموم والآلام. وبهذا تتوجه الإنسانية بكل طاقاتها المتوفرة، لتحقيق السعادة، وإنماء الحضارة، وإغناء الحياة.

ونحن، إذا راجعنا بعض نماذج من العقائد الوثنية وغيرها، التي تقوم على مبدأ تعدد الآلهة، لوجدنا هذا الصراع يتجلّى بأوضح صُورِه فيها. وذلك شيء طبيعي، بعد أن كان لكل إله أتباعه وحزبه وأنصاره، وبعد أن كان الآلهة أنفسهم، فيما بينهم في صراع دائم.

فمثلاً، لو أخذنا عقيدة الهنود، وجدنا أنهم عبدوا ثلاثة آلهة: براهما، وشيفا، وفشنو. فبراهما هو الخالق عندهم. وفشنو هو الحافظ لما خلق براهما. وأما شيفا فهو المفني لجميع تلك المخلوقات. ومن هنا وقع الصراع بين هذه الآلهة. ومن ثم انقسم الهنود فريقين، فريق، وقف في صف فشنو الإله الحافظ. وفريق آخر، وقف في صف شيفا، الإله المدمِّر.

١٢٦

ففي التوحيد وحده إذن، خلاص الإنسان من كل ما يؤدي به إلى الصراع مع نفسه، والصراع مع بقية أفراد الإنسان. والمنقذ له من الحيرة والقلق والإضطراب.

وفي الشرك، دمار له، وصرف عن الغرض الذي وجد من أجل تحقيقه في هذه الحياة. ومن هنا كان التوحيد، ولم يكن الشرك.

ج - معنى التوحيد:

وتوحيد اللّه على ثلاثة أنحاء:

توحيده في الوجود بمعنى نفي الشريك له.

وتوحيده في الذات بمعنى نفي التركيب عنه.

وتوحيده في الصفات، بمعنى نفي الشبيه له.

ولا بد من التحدث حول كل واحد من هذه الأنحاء على حدة ضمن مباحث.

١٢٧

المبحث الاول الأدلة العقلية على أن اللّه واحد وجوداً

لقد ثبت أن اللّه سبحانه، واجب الوجود بذاته، هو خالق الكون والحياة والإنسان. ونفس تصورنا لموجود واجب بذاته، يوجب انصراف أذهاننا إلى تعيّنه بنحو يمنع من وقوع الشركة فيه. إلا أنه لا بد لنا مع ذلك، من إقامة البرهان على هذا التعيين، في واحد، وأنه لا شريك له أبداً.

وقد أقام فلاسفة الإسلام ومتكلموه، البراهين الكثيرة على ذلك، نقتصر على ذكر أهمها.

الدليل الأول : لقد تقدم معنا، عند عرضنا للأدلة العقلية على وجود اللّه سبحانه، ان الموجود لا يخلو أمره عن أن يكون أحد اثنين:

أما ممكن الوجود، أو واجب الوجود.

وبيّنا أن واجب الوجود، ينحصر في اللّه. فيكون كل ما عدا اللّه ممكناً.

وإذا تم هذا، ففرض وجود شريك للّه، معناه فرض وجود فردين من واجب الوجود. وحينئذ، لا بد من وجود ميزة لأحدهما على الآخر، لتصدق الإثنينية. وإلا، لو كانا متطابقين من جميع الجهات، لما صدق التعدد.

١٢٨

ومع فرض وجود مائز بينهما، فنحن نسأل: من أين أتى هذا المائز؟ ومن الذي أثّر في وجوده.

ومن الواضح، أن المؤثر في وجود هذا المائز، إما أن يكون ذاتياً في أحد فردي واجب الوجود - حسب الفرض -، أو أمراً خارجاً عنه، وكلاهما يستلزم محالاً. أما الأول: وهو كون المؤثر في وجود المائز ذاتياً، فلا بد من أن يكون ذلك المؤثر حينئذ خارجاً عما به الإشتراك بين فردي الواجب، وهو وجوب الوجود، والطبيعة الإلهية، تمشياً مع القاعدة القائلة: «أن ما به الإشتراك لا بد وأن يكون غير ما به الإفتراق».

وإذا تم هذا، يتضح أن كل واحد من فردي الواجب - حسب الفرض - مركب من أمرين، مما به الإشتراك، وهو الطبيعة الواجبة الوجود. وما به الإفتراق هو المائز المزعوم. وإذا كانت طبيعة كل من فردي الواجب مركبة، فهي بحاجة إلى وجود جزئيها المذكورين في وجودها، والحاجة تنافي وجوب الوجود، يناسب عالم الإمكان.وأما الثاني : وهو كون المؤثر في وجود المائز أمراً خارجياً، فمعناه أن هذا المائز، محتاج في تحصيله على ما يتميز به عن الفرد الآخر المفروض، إلى علة خارجة عنه. والحاجة تنافي وجوبه، وتناسب إمكانه. ويكون ذلك الأمر الخارج المؤثر لهذا الميز، أحق باتصافه بالوجوب من غيره.

الدليل الثاني : هو انه إما أن يكون كل واحد من الإلهين، قادراً بمفرده على خلق هذا العالم، أو لا.

١٢٩

فإن كان كل واحد منهما قادراً على ذلك بمفرده، يكون وجود أحدهما عبثاً لا محالة. اذن ما فائدة وجوده؟ ولماذا وجد؟

وإن لم يكن واحد منهما قادراً على خلق العالم بمفرده، فيستحيل أن يكون واجب الوجود. لأن العجز نقص وهو من صفات الممكن لا الواجب.

الدليل الثالث : لو كان هنالك واجباً وجود، فلا محيص - بحكم كونهما قديمين - من أن يكون كل منهما قادراً بقدرة غير قدرة الآخر، مريداً بإرادة غير إرادة الآخر، عالماً بعلم غير علم الآخر. ومعنى هذا، أنه لا بد لكل منهما من أن يعمل قدرته.

وحيث ان فعل واجب الوجود، إنما يكون بمقتضى علمه بما يجب أن يصدر عنه، فمعنى ذلك أن لكل منهما، أن يعمل قدرته المباينة مع قدرة الآخر، بمقتضى علمه المغاير لعلم الآخر. فينتج عن ذلك فعل مباين لفعل الآخر. ولازم هذا، اختلال النظام الكوني، ووجود الاضطراب فيه. ولكننا نرى أن الكون في منتهى التناسق والانسجام والتنظيم. وهذا بنفسه دليل على أنه لا إله إلا اللّه.

الدليل الرابع : على ضوء ما ورد في الدليل الثالث، يتضح أن ما فرض شريكاً معه في الخلق، له أن يعمل قدرته على مقتضى علمه، المغاير لعلم شريكه، وذلك بإبراز إرادته من خلال شيء يريد أن يبرز به شريكه - المزعوم - إرادته بأعمال قدرته على مقتضى علمه أيضاً من خلال عدمه.

١٣٠

فمثلاً، لو تعلقت إرادة أحدهما بمقتضى علمه بخلق زيد، وتعلقت إرادة الآخر، بمقتضى علمه الخاص به بعدم خلقه. فهنا لا يخلو: إما أن يتحقق مرادهما معاً ومعنى هذا، وجود زيد وعدم وجوده في نفس الوقت وهو مستحيل لأنه من اجتماع النقيضين.

وإما أن لا يتحقق شيء من مراديهما، وهذا مستحيل أيضاً، لأن لازمه عدم إمكان وجود الكون برمّته، مع أنه موجود بالوجدان.

واما أن يتحقق مراد أحدهما فقط، دون الآخر، فيكون الثاني عاجزاً، فيستحيل أن يكون واجباً، لأن العجز نقص يتنافى مع كمال الواجب المطلق، فيتم المطلوب من أن الواجب واحد، وهو من تحقق مراده فقط. وهذا ما أطلق عليه دليل التمانع.

يقول ابن رشد «لو كانا اثنين فأكثر، لجاز أن يختلفا. وفي حالة الإختلاف، لا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام: فاما أن يتم مرادهما جميعاً، وإما أن لا يتم مراد واحد منهما، واما أن يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد الآخر.... ولمّا كان يستحيل ألا يتم مراد واحد منهما، لأنه في هذه الحالة يكون العالم لا موجوداً ولا معدوماً. ولمّا كان يستحيل أن يتم مرادهما معاً، لأنه في هذه الحالة يكون العالم موجوداً

١٣١

معدوماً. فلم يبق إذن إلا الحالة الأخيرة، وهي أن يتم مراد الواحد ويَبطل مراد الآخر، فالذي بطلت إرادته عاجز والعاجز ليس بإله»(١) .

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة ١٥٧ - يراجع في هذا الدليل رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ٤٧ وما بعدها. كما يراجع للتوسع في الأدلة على الوحدانية كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد للعلامة الحلي ٢٢٥ وما بعدها والمسائل الخمسون في أصول الكلام للرازي. والتمهيد للباقلاني، والمواقف للايجي الجزء ٨.

١٣٢

المبحث الثاني وحدة الذات الالهية

ونقصد بوحدة الذات الإلهية، بساطتها، واستحالة كونها مركبة بأي نحو من أنحاء التركيب. سواء كان عقلياً، كتركّب الذات من جنس وفصل. أو خارجياً، كتركّبها من المادة والصورة.

ويمكن الاستدلال على استحالة تركّب الذات الإلهية بأي نحو من أنحاء التركيب بأمور:

الأول : إن المركب، مفتقر في وجوده إلى كل جزء من أجزائه، بحيث لو تخلف جزء واحد فقط عن الانضمام إلى باقي الأجزاء لما وجدت ذات المركب، والفقر والحاجة نقص ينزّه عنه واجب الوجود، لأنه الغني المطلق.

الثاني : إن الذات الإلهية، لو كانت مركبة من أجزاء لاحتاجت في تركّبها والتأليف بينها إلى مركِّب ومؤلّف، وبالتالي لاحتاج الوجود التركيبي المزعوم للذات الإلهية، إلى موجد، وهو خلاف فرض اللّه واجب الوجود لذاته وبذاته.

الثالث : إن الذات الإلهية، لو كانت مركبة من أجزاء لم يخلُ أمر هذه الأجزاء عن إحدى ثلاث حالات.

١٣٣

الحالة الأولى : أن تكون جميع هذه الأجزاء واجبة الوجود. ومعنى هذا ان كل جزء مباين مع الأجزاء الأخرى. ولازم ذلك أن تكون الذات الإلهية، مركبة من المتباينات، وهو مستحيل ولا يمكن أن نفرض أي تلازم وارتباط بين هذه الأجزاء، لأن التلازم الذي نريد أن نفرضه بينها، إما أن يكون ناشئاً من كون بعضها معلولاً للبعض الآخر، أو كلها معلولة لعلة خارجة. وكلا الأمرين ينافي فرضنا لها واجبة الوجود بذاتها.

الحالة الثانية : أن يكون جميع هذه الأجزاء ممكنة الوجود. ومعنى هذا أن الذات الإلهية ممكنة الوجود، لأن المركب من الممكنات لا بد وان يكون ممكناً. وهذا خلف فرض اللّه واجب الوجود بذاته.

الحالة الثالثة : أن يكون بعض هذه الأجزاء واجب الوجود، وبعضها الآخر ممكن الوجود. ومعنى هذا، أن الذات الإلهية مركبة من أمرين متباينين، واجب وممكن، وهو مستحيل أيضاً.

إضافة إلى أن الممكن من هذه الأجزاء، لا بد وأن يكون حادثاً، ولازم هذا، أن تكون الذات الإلهية محلاً للحوادث وما كان محلاً للحوادث، لا بد وأن يكون حادثاً وهو خلاف فرض اللّه قديماً.

وعلى ضوء هذه الأدلة الثلاثة، يتضح أن الذات الإلهية، يستحيل فيها التركيب بل هي واحدة وبسيطة من جميع الجهات.

١٣٤

المبحث الثالث وحدة الذات والصفات

تمهيد وتنبيه:

لا بد من التنبيه، قبل أن ندخل في هذه المسألة، مسألة الذات والصفات ووحدتهما، على أنه ليس معنى هذه الصفات أن الإنسان استطاع أن يدرك بالحس أو العقل، حقيقة الذات الإلهية وينفذ إلى معرفة كنهها، إذ إن ذلك أمر مستحيل.

فالحس إنما يدرك ما يمكن أن يقع تحت متناوله، واللّه سبحانه ليس جسماً حتى يدرك بالحس. والعقل، إنما يستعمل الطريقة الاستنباطية في عملية الإدراك، والتي تتدرج من الكليّات إلى الجزئيات. واللّه سبحانه، كما انه ليس جزئياً، لعدم صدق الغير عليه. كذلك ليس هو بالكلي، لأنه لا يصدق على الغير.

وإذا كانت الذات الإلهية فوق الحس والعقل، استحال على الإنسان إدراك حقيقتها، لانحصار معرفته بهذين الأمرين.

ولهذا ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «ان اللّه احتجب عن العقل، كما احتجب عن الأبصار، وان الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم»(١) .

____________________

(١) راجع أصول الكافي للشيخ الكليني كتاب التوحيد.

١٣٥

ويقول الفيلسوف الإسلامي صدر المتألهين «إن الإحساس إنما يتعلق بما في عالم الخلق. والتعقل إنما يتعلق بما في عالم الأمر. فما هو فوق الخلق والأمر، يكون محتجباً عن الحس والعقل»(١) .

أولاً - صفات اللّه

لقد سبق منا القول، بأن بعض أئمة المتكلمين من المعتزلة كأبي الهذيل العلاف، وأبي علي الجبّائي، قد قسموا صفات اللّه إلى قسمين: صفات سلبية. وصفات ثبوتية.

وهذا هو الذي يظهر من بعض أئمة متكلمي الإمامية أيضاً(٢) .

ولم يفرّق الاشاعرة وأهل الحديث بشكل عام بين صفات الذات وصفات الفعل. بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً(٣) .

١ - الصفات السلبية

ويريدون بالصفات السلبية، تلك التي يجب سلبها عن الذات، باعتبار أن اتصاف الذات بها، يلزم منه محال من المحالات، لأنها تتنافى مع وجوب الوجود. ورأس هذه الصفات في نظري، أن اللّه ليس بجسم.

____________________

(١) المبدأ والمعاد لمحمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بصدر المتألهين.

(٢) راجع مقالات الإسلاميين ١ / ٣٢٠. وشرح التجريد للعلامة الحلي ٢٢٩ وما بعدها والمبدأ والمعاد لصدر المتألهين.

(٣) الملل والنحل ١ / ٩٢.

١٣٦

ومن الواضح، أن هذه الصفة السلبية تعود إلى صفة ثبوتية هي: ان اللّه بسيط مجرد. وتتفرع على هذه الصفة السلبية في اعتقادي، جل الصفات السلبية الأخرى التي يذكرها المتكلمون هنا. كقولهم: انه ليس بمرئي، وليس بمتحيز، وليس بمتحد ولا حالّ في غيره، وانه ليس بمركب وغير ذلك.

فإننا لو تأملنا هذه الصفات جميعها، لوجدنا أن وجه وجوب سلبها عنه سبحانه، إنما هو بلحاظ توقف اتصافه بها على أن يكون جسماً، ليكون متحيزاً، أو متحداً أو حالاً في غيره، أو مركباً، فإن جميع هذه الأمور من لوازم إثبات الجسمية له سبحانه.

أ - اللّه بين التجريد والتجسيد:

وهنا، لا بد من التعرض ولو بشكل مضغوط، إلى ما ذهب إليه بعض المتكلمين، من القول بالتجسيم والتشبيه، مع التزامهم بلوازم مقالتهم تلك، من جواز رؤيته سبحانه وتجويزهم عليه الانتقال من مكان إلى مكان وغير ذلك.

ومن هؤلاء المجسّمة، أهل السنة بشكل عام، كالحنابلة والكرامية ومتقدمي الأشاعرة بما فيهم أبو الحسن الأشعري مؤسس مذهب، حيث نراه يقول في مقام شرحه لعقيدة أهل السنة، وبعد قوله «وله - أي اللّه - يدان وعينان ووجه وغير ذلك من الأعضاء» نراه يقول «وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب».

ولقد سبق ونبّهنا في بحوثنا التمهيدية على أن ظاهرة التشبيه والتجسيم، برزت أول ما برزت، بعد ابتداء عصر الترجمات في أوائل القرن الثالث

١٣٧

الهجري. وقد عرضنا وجهه نظرنا حول تلك الظاهرة المستهجنة هناك. ولكن علينا هنا، أن نطّلع على نموذج من استدلال أصحاب هذه المقالة لما ذهبوا إليه من جعلهم اللّه جسماً كالإنسان. أو إثبات صفات له كصفات المخلوق، لنناقشها ونرى وجه بطلانها.

ب - الحق هو التجريد لا التجسيد:

ولكن، قبل أن نخوض في استدلال المجسمة هؤلاء، لا بد من إقامة الدليل العقلي على استحالة أن يكون اللّه جسماً، كما هو الحق، الذي ذهب إليه الإمامية تبعاً لأئمتهم (ع) واختاره جمهور المعتزلة.

ويمكن الاستدلال على استحالة أن يكون اللّه جسماً بعدة أمور:

الأول : هو انه لو كان اللّه سبحانه جسماً، للزم من ذلك عدة أمور باطلة، أهمها اثنان.

أحدهما : أنه يكون عند ذلك متحيزاً، والمتحيز يحتاج إلى حيز ومكان. والحاجة فقر ينزّه عنه الغني المطلق.

ثانيهما : انه لو كان سبحانه جسماً، لما «انفك عن الأكوان الحادثة، وكل ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث»(١) .

واللّه سبحانه، يستحيل أن يكون حادثاً. لأن معنى الحادث، هو الموجود المسبوق بالعدم. وكل مسبوق بالعدم، يحتاج إلى علة توجده، والواجب هو الغني بذاته. وفرض كونه حادثاً، خلف فرضه واجباً. لأن الحدوث مناف لأخص خصائص الوجوب وهو القدم.

____________________

(١) شرح تجريد الإعتقاد للعلامة الحلي ٢٢٧.

١٣٨

الثاني : ما ذكره ابن رشد الفيلسوف وهو «اننا إذا سلمنا بأن المادة قوة، ونحن نطلب جواهر دائمة ليس فيها قوة، بل هي فعل دائم فهي - أي اللذات الإلهية - إذن مفارقة للمادة»(١) .

ومعنى قول ابن رشد هذا، ان اللّه سبحانه لو كان جسماً، لكان مادة. والمادة قوة. وكل ما بالقوة يحتاج إلى علة تخرجه من القوة إلى الفعل. وهذا خلف فرض اللّه واجباً، غير محتاج في وجوده إلى أية علة، بل هو موجود بذاته ولذاته.

الثالث : ان اللّه سبحانه، لو كان جسماً - كما يدّعي المشبهة - فلا بد وان يكون متناهياً، لاستحالة أن يكون جسم ما غير متناه وحيث أن اللّه سبحانه، هو المحرك للعالم حركته اللامتناهية أزلاً وأبداً، استحال أن يكون ذلك الجسم المتناهي، لاستحالة صدور حركة لا متناهية عن محرك متناه.

النقل يعضد التجريد ويدحض التجسيد:

والواقع، اننا حتى لو قطعنا النظر عن حكم العقل هذا باستحالة أن يكون اللّه جسماً، فإن في النقل كفاية لدحض هذا المنطق الفاسد. وأعني بالنقل الكتاب العزيز، والسنة الشريفة.

أما كتاب اللّه، فيكفينا منه آية واحدة فقط، وهي قوله تعالى:( لَيْسَ کَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (٢) .

____________________

(١) تهافت التهافت لابن رشد ١٠٠.

(٢) الشورى ١٢.

١٣٩

فاننا لو اقتصرنا على هذه الآية فقط، لكانت كافية في الدلالة على «نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء، وحاصلاً في المكان والجهة. - إذ - لو كان جسماً مركباً مثلاً لسائر الأجسام فيلزم حصول الأمثال والأشباه له»(١) وفي ذلك ما فيه، من تكذيب لمضمون هذه الآية.

وأما السنة الشريفة، فقد تواترت الروايات عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ناطقة بنفي الجسمية عنه سبحانه. بل نفي كل ما يستشم منه القول بالتشبيه والتجسيم. وقد خاض الإمامية متمثلين في أئمتهمعليهم‌السلام حرباً شعواء، ضد أولئك الذين كانوا يحملون لواء القول بالتجسيم والتشبيه.

فمن جملة الروايات، ما رواه في الكافي(٢) عن أبي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام «سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا يحدّ ولا يُحسّ ولا يُجس ولا يحيط به شيء، ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد».

وما رواه في الكافي(٣) أيضاً عن محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد عن حمزة بن محمد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام أسأله عن الجسم والصورة. فكتب: «سبحان من ليس كمثله شيء لا جسم ولا صورة».

وما رواه في الكافي(٤) عن محمد بن حكيم، عن الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام «أن اللّه لا يشبهه شيء، أيّ فحش أو خناً أعظم من قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقه أو بتحديد وأعضاء تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً».

____________________

(١) تفسير الرازي الكبير ٥ / ٥٢٥.

(٢) و(٣) و(٤) أصول الكافي ١ / ١٠٤ وما بعدها من كتاب التوحيد.

١٤٠