دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية0%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف: محمد جعفر شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 212
المشاهدات: 60308
تحميل: 4725

توضيحات:

دراسات في العقيدة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60308 / تحميل: 4725
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

ومنها: ما رواه الكليني(١) عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، «قال سألني أبو قرة المحدث، أن أدخله على أبي الحسن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد. فقال أبو قرة: إننا روينا أن اللّه قسم الرؤية والكلام في نبيّين. فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية. فقال أبو الحسنعليه‌السلام : فمن المبلغ عن اللّه إلى الثقلين من الجن والإنس: «لا تدركه الأبصار» «ولا يحيطون به علماً» و«ليس كمثله شيء» أليس محمد؟ قال أبو قرة: بلى؟ قال الإمامعليه‌السلام كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند اللّه، وأنه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول: لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شيء. ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً، وهو على صورة بشر؟ أما تستحون»؟.

ومنها: ما رواه في الكافي(٢) ، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قوله «لا تدركه الأبصار»: قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم)(٣) ليس يعني بصر العيون، فمن أبصر فلنفسه ليس يعني من البصر

____________________

(١) نفس المصدر ٩٦.

(٢) نفس المصدر ٩٨.

(٣) الأنعام ١٠٤.

١٦١

بعينه، ومن عمي فعليها، ليس يعني عمى العيون، إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب، اللّه أعظم من أن يرى بالعين».

ثانياً: المجسمة وكون اللّه في جهة معينة

لقد سبق وقلنا، بأن المجسمة التزموا بثلاثة أمور كانت لازمة لمقالتهم بأن اللّه جسم. وقد تكلمنا في اللازم الأول، وهو جواز رؤيته سبحانه، حيث أثبتنا استحالتها، والآن لا بد لنا من التعرض للازم الثاني من اللوازم الفاسدة وهو كون اللّه سبحانه في جهة معينة هي السماء.

وقد استدل المجسمة لقولهم هذا بعدة آيات.

منها : قوله تعالى (وهو اللّه في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم)(١) .

فهذه الآية صريحة في أن اللّه - عند المشبهة - في السموات.

ومنها : قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)(٢) .

وهذه الآية صريحة أيضاً، في أن اللّه فوق العباد، وحيث أن عباد اللّه على الأرض، فلا بد وأن يكون من فوقهم في السماء، لأنها فوق الأرض كما هو واضح!!

____________________

(١) الأنعام ٤.

(٢) الأنعام ٦١.

١٦٢

نقاش وتفنيد وتوضيح:

والحقيقة أن المجسمة، حيث جمدوا على ظاهر الفاظ هذه الآيات، من دون تحكيم للعقل، بل ولا تدقيق في النواحي اللغوية والنحوية، التي لو حاولوا إعمالها، لما وقعوا فيما وقعوا فيه من سخف.

وان هاتين الآيتين، كغيرهما من الآيات، قد وجّهها علماء الإسلام وأزاحوا بعض ما قد يكتنفها من غموض، بحيث صارت واضحة جلية منسجمة مع بقية الآيات المحكمة في كتاب اللّه، والتي تؤكد أن اللّه سبحانه يستحيل عليه التحيز في مكان، أو الإفتقار إليه.

أما بالنسبة للآية الأولى. فإنه يتضح معناها، إذا التفتنا إلى أن فاعل «يعلم» في الآية، هو اللّه سبحانه، وان الخطاب لجميع المخلوقات العاقلة، وهي الملائكة والجن والانس. وعلى ضوء ذلك يكون معنى الآية: هو اللّه يعلم سركم وجهركم، سواء كنتم في السموات أو في الأرض ويعلم ما تكسبون.

فالآية الكريمة واردة لبيان مدى سعة حاكمية اللّه سبحانه، وان هذه الحاكمية منبسطة شاملة للكون سماواته وأرضه، وليست واردة لبيان محدودية ذات اللّه سبحانه من حيث المكان فهي على هذا، نظير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)(١) .

وإلا لو كانت الآية واردة لبيان ما ذهب إليه المجسمة، من أنه سبحانه في جهة هي السماء، فماذا يفعلون في قوله تعالى في نفس الآية «وفي الأرض» بعد قوله «هو اللّه في السماوات»؟.

____________________

(١) الزخرف ٨٤.

١٦٣

وكيف يجمعون بين كونه - كما يعتقدون في السماء - وكونه في الأرض. وكذلك ما يصنعون في قوله تعالى في الآية الأخرى «وفي الأرض إله».

والواقع، أنه لا يمكن هنا الجمع، إلا إذا قلنا، بأن الآية واردة لبيان مدى شمول علم اللّه وحاكميته. ولا إشكال في أن هذه الحاكمية وذلك العلم، شامل للسموات والأرض والكون بأجمعه.

وأما الآية الثانية التي استدل بها هؤلاء «وهو القاهر فوق عباده» فمن الواضح أن الفوقية فيها، التي تمسكوا بها، ليس المراد بها الفوقية الحسية، بل يراد بها بيان كمال قدرته سبحانه «ومثله في اللغة، أمر فلان فوق أمر فلان، أي هو أعلى أمراً، وأنفذ حكماً. ويقال: فوقه في العلم أي أعلم منه، وفوقه في الجود. أي أجود منه(١) ».

بل ورد في القرآن، ما يؤكد هذا الفهم، وذلك في قوله تعالى، حكاية عن فرعون «وإنا فوقهم قاهرون»(٢) . ومن الواضح، أن فوقية فرعون لم تكن فوقية حسية، بل كانت فوقية قوة وقدرة وبطش.

اللّه والعرش والمجسمة:

وإذا كان اللّه عند المجسمة في السماء، فلا بد له من شيء يجلس عليه، يناسب عظمته وسعة ملكه، فقالوا بأنه يجلس في السماء على عرش «يئط(٣)

____________________

(١) مجمع البيان للطبرسي ٤ / ٣١٣.

(٢) الأعراف ١٢٧.

(٣) أي يحدث صوتاً من ثقل حمله.

١٦٤

من تحته كأطيط الرحل الحديد، وإنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع»(١)

وقد استدل المجسمة على أن للّه عرشاً يجلس عليه بآيات. أهمها قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى)(٢) .

حيث فهموا من الإستواء في الآية ما هو المتعارف من جلوس الملوك على عروشهم.

تفنيد وإيضاح:

والواقع أنه ليس المراد بالعرش، هذا الكرسي الفخم، المرصع بالجواهر واليواقيت، المتعارف للحكام والملوك، بل المراد به عالم الخلق والأمر، وتدبير شؤون الكون وليس المراد بالإستواء الجلوس، بل المراد بالإستواء الإستيلاء على كل ذلك.

وقد ورد الإستواء بمعنى الإستيلاء في كلام العرب. من ذلك قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

قالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتّة، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط أو لم تكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم هو جواد»(٣) .

____________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ / ١٠٦.

(٢) طه ٦.

(٣) الكشاف للزمخشري ٢ / ٥٣٠.

١٦٥

ثالثاً - المجسّمة وانتقال اللّه من مكان إلى مكان

واللازم الثالث، من لوازم جسمية اللّه، التي اعتقد هؤلاء بها، جواز انتقاله سبحانه من مكان إلى مكان، وتجويز السكون والحركة عليه. وقد استدلوا على ذلك بآيات وبعض مرويات.

فمن جملة الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً)(١) .

ومن جملة المرويات التي استدلوا بها، ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال «يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»(٢) .

ويروى(٣) بمناسبة حديث النزول هذا، عن ابن تيمية، وهو من الحنابلة - السلفيين، أنه قام على منبر الجامع الأموي بدمشق خطيباً، فقال، فيما قال: ان اللّه ينزل إلى السماء كنزولي هذا. ونزل درجة من درجات المنبر.

تفنيد وتوضيح:

وما استدل به المجسمة على مدّعاهم من جواز انتقاله سبحانه من مكان إلى مكان، غير دال أبداً.

____________________

(١) الفجر ٢٣.

(٢) البخاري ٤ / ٦٨ وصحيح مسلم ١ / ٢٨٣ ومسند أحمد ٢ / ٢٥٨.

(٣) رحلة ابن بطوطة ١ / ٥٧.

١٦٦

اما قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صف)وأمثالها من الآيات التي ورد فيها لفظ جاء، وأتى واشتقاقاتهما، فإنه مبني على تقدير مضاف محذوف هو أمر، أو بأس، أو عذاب وعلى هذا يكون المعنى: وجاء أمر ربك، أو بأس ربك، أو عذاب ربك.

وقد ورد ذلك صريحاً في القرآن، في قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك)(١) .

وأما الرواية التي استدلوا بها على مدّعاهم، والتي تقول بأن اللّه ينزل كل ليلة إلىالسماء الدنيا فيكفي في ردها، واسقاطها عن الإعتبار، مخالفتها لحكم العقل باستحالة الحركة ويكون على اللّه سبحانه، باعتبار وجوب وجوده المقتضي لاتصافه بالقدم، وهذان الأمران حادثان، ويستحيل أن يكون القديم محلاً للحوادث.

هذا إضافة لمعارضتها بما هو حجة من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام والتي تشنع على القائلين بهذه المقالة، وتكذّب القائلين بها. بل لعله يستشم من بعض هذه الروايات، أنها ناظرة إلى هذه الرواية وأمثالها ونافية نفياً قاطعاً لما ورد فيها. ومن هذه الروايات، ما رواه الكليني ثقة الإسلام(٢) بسند ينتهي إلى الإمام موسى بن جعفر الصادقعليه‌السلام حيث قال عندما ذكر عنده قوم يزعمون أن اللّه تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا: «ان اللّه لا ينزل ولا يحتاج أن ينزل، إنما نظره (أي علمه) في القرب والبعد سواء لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد لا إله إلا هو العزيز الحكيم. أما قول الواصفين: انه ينزل تبارك وتعالى، فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص

____________________

(١) النحل ٣٣.

(٢) الكافي ١ / ١٢٥.

١٦٧

أو زيادة. وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به. فمن ظن باللّه الظنون هلك. فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود».

ولو أغمضنا عن هذا كله، فهذه الرواية التي استدلوا بها، ترجع جميع طرقها المروية بها، إلى أبي هريرة، وهو من عرف الواعون من علماء الإسلام، مدى قدرته على خلق الأحاديث، وافترائها على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) بل أحس بذلك معاصروه فأغلظوا له القول(٢) .

الخلاصة:

ومن كل ما تقدم، يتبين أن الحق ما عليه الامامية والمعتزلة، من القول بالتجريد، يعضدهم في موقفهم هذا، حكم العقل باستحالة أن يكون اللّه سبحانه جسماً، مؤيداً بالنقل من الكتاب العزيز والسنة الشريفة، وبهذا ينهدم الأساس، الذي بنى عليه المجسمة وإخوانهم من الاشاعرة، مقالاتهم الفاسدة، والتي كانت لازمة لعقيدتهم بالتجسيم، وهي جواز رؤيته سبحانه، وكونه في جهة معينة، وتجويز الحركة والانتقال والسكون عليه.

____________________

(١) لقد كفانا مؤونة بيان ذلك كل من العلمين الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه القيم (أبو هريرة) والأستاذ محمود أبو ريه في كتابيه (أبو هريرة شيخ المضيرة) و(أضواء على السنة المحمدية) فراجع هذه الكتب فإنها جديرة بالإهتمام.

(٢) راجع للإطلاع على ذلك صحيح مسلم ٢ / ٢١٧ وشرح نهج البلاغة المجلد الأول ٣٥٩ وما بعدها وفجر الإسلام لأحمد أمين ٢٥٩ وآداب العرب لمصطفى صادق الرافعي ١ / ٢٨٢.

١٦٨

٢ - الصفات الثبوتية

وقد قسّمها العلماء إلى قسمين: صفات ذات. وصفات أفعال.

يقول الشيخ المفيد، من كبار متقدمي الامامية «صفات اللّه على ضربين، أحدهما منسوب إلى الذات، فيقال عنها أنها صفات للذات. وثانيهما منسوب إلى الافعال، فتكون صفة لها»(١) .

أ - معنى صفات الذات:

ويراد بصفات الذات، تلك التي لا يتصف اللّه بأضدادها، ولا يجوز أن يخلو عنها، كالعلم والقدرة والحياة. فلا يوصف سبحانه بالجهل، أو العجز، أو الموت. كما لا يجوز أن يخلو عن هذه الصفات أبداً. يقول الشيخ المفيد: «فصفات الذات له تعالى، هي وصفه بأنه حي، عالم، قادر. ألا ترى أنه لم يزل مستحقاً لهذه الصفات، ولا يزال. فلا يوصف بالموت، ولا بالعجز، ولا بالجهل. كما لا يوصف بخلوه عن الحياة والعلم والقدرة، لأن هذه الصفات ثابتة له»(٢) .

ب - معنى صفات الأفعال:

أما صفات الأفعال، فيراد بها، تلك التي يصح أن يتصف اللّه بأضدادها كما يجوز أن يخلو عنها، كالخالق والرازق والمحيي والمميت والمبدئ وغيرها. فيجوز أن يتصف بأنه «غير خالق اليوم، ولا رازق لزيد، ولا محيي للميت

____________________

(١) و(٢) تصحيح إعتقادات الصدوق للشيخ المفيد ١١ وما بعدها.

١٦٩

الفلاني، ولا مبدئ لشيء في هذه الحالة»(١) .

وصفات الأفعال، لما لم تكن جارية على الذات، بلحاظ نفس الذات، بل بلحاظ وجود الأفعال، فإنها على هذا لا يصح أن توصف الذات بها قبل وجودها. فهي إذن حادثة بحدوث تلك الأفعال. وعلى هذا «فقبل خلقه الخلق، لا يوصف بأنه خالق، وقبل إماتته الخلق، لا يقال عنه مميت»(٢) وهكذا.

وقد تقدم منا القول، في بحوثنا التمهيدية، أن لبعض شيوخ المعتزلة كلاماً في صفات الذات وصفات الأفعال قريباً من هذا الذي يقوله الامامية.

وصفات اللّه الثبوتية سواء كانت صفات ذات، أو صفات أفعال، مذكورة مع أدلتها في كتب الكلام المطولة، ولا أجد داعياً ملحاً للخوض في تعدادها وشرحها. ولكن لا بد من التكلم باختصار على صفة من أهم صفات الذات، هي صفة العلم، حيث وقع في حدودها الخلاف بين علماء الكلام والفلاسفة.

ج - الدليل على كون اللّه عالماً:

والدليل على كون اللّه سبحانه عالماً، هو اننا إذا نظرنا إلى هذا الكون المتراحب، لوجدنا مظاهر التناسق والحكمة والإبداع في كل صغيرة منه وكبيرة.

وبما أن اللّه هو الفاعل لهذا الكون، فلا بد وأن يكون عالماً، لاستحالة

____________________

(١) و(٢) تصحيح اعتقادات الصدوق للشيخ المفيد ١١ وما بعدها.

١٧٠

أن يوجد الكون المتقن المتناسق والمحكم من غير العالم. يقول ابن رشد «ان المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه أي كون صنع بعضها من أجل بعض. ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة بذلك المصنوع، انه لم يحدث عن صانع هو طبيعة، وإنما حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية قبل الغاية. فيجب أن يكون عالماً به. فالإنسان إذا نظر إلى بيت وأدرك أن الأساس قد صنع من أجل الحائط، وان الحائط من أجل السقف، تبيّن أن البيت قد وجد عن عالم بصناعة البناء»(١) .

د - هل من حدود للعلم الإلهي:

وقد وقع الخلاف حول علم اللّه سبحانه، من ثلاث جهات.

الأولى : في انه سبحانه هل يعلم بعلم شامل للكليّات والجزئيات معاً، أو انه يختص بالكليات فقط؟

الثانية : في أنه هل يعلم ذاته، كما يعلم غيره. أو أن علمه يختص بالتعلق بغيره؟

الثالثة : في انه سبحانه، يعلم بالشيء قبل وجوده أو لا؟

وقد نسب إلى الفلاسفة، نفي شمول علم اللّه، حيث ذهب بعضهم إلى نفي علم اللّه بذاته، وإلى نفي علمه بالجزئيّات، كذلك نفي علمه بالشيء قبل حدوثه(٢) .

____________________

(١) الكشف عن مناهج الأدلة ١٦٠.

(٢) راجع تهافت الفلاسفة للغزالي، المسألة ١١ - ١٢ وشرح التجريد للعلامة الحلي ٢٢١ وما بعدها.

١٧١

ه‍ - اختيار استدلال:

والحق ما عليه الإمامية وكثير من المعتزلة أن علمه سبحانه، شامل عام للكليّات والجزئيّات، ولذاته وغيره. وانه يعلم بالأشياء قبل وجودها وبعده. ويمكن الاستدلال على ذلك بالعقل والكتاب والسنة.

الاستدلال بالقرآن:

فمن القرآن، يمكن الاستدلال لشمول علمه سبحانه بعدة آيات:

منها : قوله سبحانه: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)(١) :

ومنها : قوله تعالى: (ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)(٢) .

الاستدلال بالسنة:

ويمكن الاستدلال من السنة بعدة روايات وردت عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

منها : ما رواه الكليني(٣) ، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، قال: سمعته يقول: كان اللّه عز وجل،

____________________

(١) يونس ٦١.

(٢) الأنعام ٥٩.

(٣) ١ / ١٠٧ وما بعدها.

١٧٢

ولا شيء غيره ولم يزل عالماً بما يكون، فعلمه به قبل كونه، كعلمه به بعد كونه».

ومنها : ما رواه الكليني(١) ، عن محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد اللّه، عن محمد بن عيسى، عن أيوب بن نوح، أنه كتب إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام يسأله عن اللّه عز وجل: أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلل ما خلق عندما خلق وما كوّن عندما كوّن؟ فوقّع بخطه: لم يزل اللّه عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء».

الاستدلال بالعقل:

ويمكن الاستدلال بحكم العقل على شمول علمه سبحانه من جهتين.

الأولى : ان ما عدا اللّه ممكن، فهو مفتقر في وجوده إليه سبحانه، وإذا كان الأمر كذلك، وكان اللّه علة لكل ممكن موجود، كان لا بد وان يعلمه، لعدم الانفكاك بين معلوليتها له، ومعلوميتها كذلك. ولا فرق في هذه الممكنات، بين أن تكون كلية أو جزئية، خارجية أو ذهنية، قبل وجودها وبعده.

الثانية : إن اللّه سبحانه حي، لأنه لو لم يكن كذلك، مع اتصاف كثير من الموجودات الممكنة بالحياة، لكان معنى ذلك، أنه أقل كمالاً من الممكنات، وهذا خلف فرض كونه واجباً، وأكمل من كل

____________________

(١) ١ / ١٠٧ وما بعدها.

١٧٣

موجود، كما أن كل حي محتاج في حياته حدوثاً وبقاءً إليه، فكيف يهب الحياة لو كان فاقداً لها. وإذا ثبت أنه حي، فان من خصائص الحي، أن يعلم ذاته، كما يعلم غيره.

و - دليل نفي علمه سبحانه بذاته:

وقد استدل الفلاسفة على ما ذهبوا إليه، من أن اللّه لا يعلم ذاته بأن العلم، لما كان إضافة قائمة بين طرفين، عالم ومعلوم، كان ذلك يستدعي ضرورة المغايرة بين هذين الطرفين. وحينئذ، إذا قيل بأنه سبحانه يعلم ذاته، فمعنى ذلك أن علمه مغاير لذاته، مع أن الواجب واحد من جميع الجهات.

نقاش:

وقد أجيب(١) عن هذا الدليل بأن الإشكال باستلزام القول، بأنه سبحانه يعلم ذاته، مغايرة علمه لذاته، إنما يتم فيما إذا أريد من المغايرة بين العالم والمعلوم، المغايرة الحقيقية، دون ما إذا أريد منها المغايرة الاعتبارية، وهنا، يكفي في المغايرة بين العالم والمعلوم، المغايرة الاعتبارية، وهي حاصلة في الذات العالمة. إذ أن فيها لحاظين، لحاظ كونها عالمة، ولحاظ كونها معلومة، وهي بأحد اللحاظين، مغايرة لها باللحاظ الآخر.

ز - دليل نفي علمه سبحانه بالجزئيات:

واما ما استدل به بعض الفلاسفة على ما ذهبوا إليه، من نفي علمه سبحانه

____________________

(١) راجع شرح التجريد للعلامة الحلي ٢٢١.

١٧٤

بالجزئيات، هو أن الجزئيات لا تستقر على حالة واحدة، بل هي دائمة التغير والتبدل. فإذا جعلناها متعلقة لعلم اللّه سبحانه، لكان لازم ذلك. تغير علمه وتبدله، بتغيرها وتبدلها، إذ تغير المعلوم، يستدعي تغير العلم، ويترتب على هذا، ان الذات الإلهية، على القول باتحاد الصفات الإلهية معها - كما سوف نبين ذلك فيما بعد - عُرضة للتغير المستمر بتغير صفة العلم فيها، وهو خلف فرض وجوبها، لأن الواجب ثابت لا يتغير.

نقاش:

والواقع، أن ما فرضه هؤلاء من تغير بتغير المعلوم، غير صحيح في حد ذاته، بل الصحيح هو أن العلم يبقى على حاله لا يتغير أبداً، وذلك لأن العلم لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، كان المتغير هو تلك الإضافة بين العلم والمعلوم بعد تغيره.

فلو قلنا مثلاً، زيد يعلم مرض عمرو، ومرض عمرو جزئي، وهو متعلق لعلم زيد، فلو فرضنا أن مرض عمرو قد ارتفع، فغاية ما هناك أن إضافة علم زيد إلى مرض عمرو الجزئي قد انتفت وذلك لانتفاء ما كان يضاف إليه، لا لانتفاء العلم أو تبدل فيه، بل علم زيد باق على حاله كما هو واضح.

وما قلناه في العلم، يجري عيناً في غير العلم من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، كالقدرة. فلو قلنا مثلاً، زيد يقدر على عمرو. ففي حالة انتفاء عمرو، لا تتبدل القدرة عند زيد ولا تتغير، بل هي باقية على حالها. وإنما الذي انتفى وارتفع هو الإضافة الحاصلة بين قدرة زيد وبين متعلقها وهو عمرو لانتفائه. وإذا كان المتغير هو الإضافة فقط بين الصفة الحقيقية وبين

١٧٥

متعلقها، يرتفع الإشكال إذ ان «تغير الإضافات جائز، لأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج»(١) .

ح - دليل نفي علمه تعالى بالأشياء قبل وجودها:

وحاصل ما استدل به النافون لعلمه بالأشياء قبل وجودها، هو أنه لو تعلق علمه بها كذلك، لوجب وجودها، لأن علمه سبحانه علة وجود الأشياء. ولما كان كل شيء عداه ممكناً، فيلزم على هذا انقلاب الممكن إلى واجب. وإلا لزم من عدم وجودها انقلاب علمه إلى جهل. وهو نقص ينزّه عنه الكامل المطلق.

نقاش:

والحق، هو ما اخترناه سابقاً ودلّلنا عليه، من أن علمه سبحانه يتعلق بالأشياء قبل وجودها، من دون أن يلزم ما ادعاه هؤلاء من محذور، وهو انقلاب الممكن واجباً. إذ اننا وان التزمنا بأن الأشياء تصبح واجبة لتعلق علمه سبحانه بها قبل وجودها، إلا أنها بهذا لا تخرج عن الامكان الذاتي. لأن معنى وجوبها حينئذ، هو وجوبها بالغير، أي وجوبها بوجود علتها وهو علمه سبحانه - وكل ممكن بعد وجود علته، يصبح واجباً بتلك العلة. لا أنها تصبح - كما توهم هؤلاء - واجبة بالذات(٢) .

____________________

(١) نفس المصدر ٢٢٢.

(٢) راجع في هذا الدليل وجوابه شرح التجريد للعلامة الحلي ٢٢٣.

١٧٦

ثانياً - وحدة الذات والصفات

لقد سبق منا القول بأن المتكلمين قسموا صفات اللّه إلى قسمين، صفات ذات، وصفات أفعال. وحيث ان صفات الأفعال - وقد يعبّر عنها بالصفات الإضافية - هي تلك التي لا تتصف الذات إلا بها من خلال الأفعال الصادرة عنها، فهي إذن على هذا حادثة، لأنها تابعة لما تتعلق به من الأفعال الحادثة، وعليه، يستحيل أن تتحد مع الذات الإلهية، لاستحالة اتحاد الحادث بالقديم، والممكن بالواجب(١) .

وبهذا يتضح أنها ليست مورداً للخلاف المعروف بين المتكلمين، في ان صفاته تعالى عين ذاته أو انها غيرها وزائدة عليها؟ بل الكل متفقون، على انها غير الذات. ولا يضر ذلك في وحدانيته سبحانه، ولا في واحديته. يقول صدر المتألهين «ولا يخل بوحدانيته، كونها - أي الصفات الإضافية أو صفات الافعال - زائدة عليه، فإن الواجب تعالى ليس علوّه ومجده بهذه الصفات وإنما علوّه بذاته التي تنشأ عنها هذه الصفات»(٢) .

كما ان الصفات السلبية، حيث انها ترجع في حقيقتها إلى الصفات الثبوتية، فلا داعي للبحث فيها من هذه الناحية.

وعلى ضوء ما ذكرنا يتضح، ان النزاع بين المتكلمين في عينية الذات والصفات، واتحادها معها أو زيادة الصفات على الذات، منحصر في خصوص صفات الذات الثبوتية دون الصفات السلبية أو صفات الافعال.

____________________

(١) راجع الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٣٦ وما بعدها.

(٢) المبدأ والمعاد لصدر الدين الشيرازي.

١٧٧

معنى وحدة الذات والصفات:

ومعنى وحدة الذات والصفات، هو اننا لو أخذنا الصفات الذاتية، كالعلم والقدرة والحياة، فاننا لن نجد شيئين، ذاتاً وعلماً، أو ذاتاً وقدرة، أو ذاتاً وحياة. وبالتالي، لن نجد شيئين، ذاتاً وصفة مغايرة لها زائدة عليها، ولعل عبارة الفارابي تصوّر هذا المعنى أدقّ تصوير حيث يقول «وجود كله. وجوب كله. علم كله. قدرة كله. حياة كله. وليس شيء منه علماً، وشيء منه قدرة، وشيء منها حياة».

أ - الإمامية ورأيهم في المسألة:

وقد ذهب الامامية قاطبة(١) ، إلى القول بعينية الذات والصفات.

كما ذهب إلى نفس القول بعض المعتزلة.

ب - رأي بقية متكلمي المسلمين:

وأما بقية متكلمي المسلمين، فقد ذهبوا إلى خلاف هذا الرأي على أقوال منها:

قول ذهب إليه الأشعري وأتباعه وبقية أهل الحديث(٢) ، هو ان صفاته تعالى مغايرة لذاته وزائدة عليها. فهو عند هؤلاء عالم بعلم مغاير لذاته، قادرة بقدرة مغايرة لذاته، وقس على ذلك بقية الصفات.

____________________

(١) راجع شرح تجريد الإعتقاد للعلامة الحلي ٢٢٩ وكتاب «المبدأ والمعاد» لصدر المتألهين. وكشف الحق ونهج الصدق للعلامة الحلي.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٩٤ - ٩٥ كما يراجع الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد الفيلسوف ١٦٥ وما بعدها.

١٧٨

وقول ذهب إليه بعض شيوخ المعتزلة، هو أن صفاته تعالى مغايرة لذاته أطلقوا عليها أنها أحوال، فكون اللّه عالماً عند هؤلاء حال هي صفة وراء كونه ذاتاً، وينسب هذا القول إلى أبي هاشم عبد السلام بن أبي محمد بن عبد الوهاب الجبائي(١) . وقد ذهب هذا إلى أن هذه الأحوال صفات لا يقول فيها أنها موجودة ولا معدومة ولا أنها قديمة ولا محدثة ولا معلومة ولا مجهولة(٢) .

ج - اختيار واستدلال:

ونحن نختار ما عليه الإمامية وبعض المعتزلة، من القول بأن صفاته تعالى عين ذاته، متحدة معها مستدلين بحكم العقل، وبما ورد من النقل.

الاستدلال بالعقل:

ويمكن الإستدلال بالعقل على ما اخترناه من جهات:

الأولى: ان هذه الصفات، لو كانت زائدة على الذات، فهي إما قديمة أو حادثة، وكلا الأمرين يستلزم محذوراً. وذلك، لأنها لو كانت قديمة لكان معنى ذلك تعدد القدماء بتعدد الصفات. وتعدد القدماء مستحيل، إذ لا قديم إلا اللّه. وهي لو كانت حادثة للزم قيام الحادث بالقديم، والقديم يستحيل أن يكون محلاً للحوادث، إضافة إلى أن الذات تحتاج في إثبات هذه الصفات لها إلى علة، والحاجة فقر ينزّه عنه الغني المطلق.

____________________

(١) نفس المصدر ٨٢.

(٢) الفرق بين الفرق للبغدادي ١١٧.

١٧٩

الثانية : «أنها لو كانت زائدة على ذاته يلزم من ذلك أن يكون كماله بأمر زائد عليه، فيلزم كونه ناقصاً بحسب ذاته، كاملاً بغير ذاته»(١) .

الثالثة : «أنها لو لم تكن كذلك يلزم التكثر في ذاته تعالى، لأجل كثرة صفاته الموجبة لكثرة المقتضي. مع أنه أحديّ الذات بسيط الحقيقة»(٢) .

الاستدلال بالنقل:

وأما النقل، فيمكن الإستدلال منه بروايات كثيرة، وردت عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

منها : ما رواه الكليني(٣) عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن خالد، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه الصادقعليه‌السلام يقول: «لم يزل اللّه عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع. والقدرة ذاته ولا مقدور. فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم (أي وجد) وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والقدرة على المقدور».

ومنها : ما رواه الكليني أيضاً(٤) بسند عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال عندما سئل عن كون اللّه سبحانه سميعاً بصيراً «وهو

____________________

(١) المبدأ والمعاد لصدر المتألهين الشيرازي.

(٢) المبدأ والمعاد لصدر المتألهين الشيرازي.

(٣) الكافي ١ / ١٠٧.

(٤) نفس المصدر ١٠٩.

١٨٠