دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية0%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف: محمد جعفر شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 212
المشاهدات: 60340
تحميل: 4731

توضيحات:

دراسات في العقيدة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60340 / تحميل: 4731
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

سميع بغير جارحة، وبصير بغير آلة. بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه. وليس قولي: انه سميع بنفسه، انه شيء والنفس شيء آخر، ولكني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولاً وإفهاماً لك إذ كنت سائلاً، فأقول: يسمع بكله، لا أن كله له بعض، لأن الكل لنا له بعض، ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي، وليس مرجعي في ذلك إلا أنه السميع البصير العالم الخبير، بلا اختلاف ذات ولا اختلاف معنى».

إلى غير ذلك من الروايات.

د - عودة إلى استدلال القائلين بالتغاير بين ذاته وصفاته:

وقد استدل الأشاعرة ومن ذهب مذهبهم، في أن صفاته سبحانه مغايرة لذاته، زائدة عليها بعدة أدلة(١) نقتصر على ذكر اثنين منها مراعاة للاختصار مع بيان بطلانهما.

الأول: أننا لو قلنا بأن صفات اللّه هي عين ذاته، بمعنى أننا أثبتنا ذاتاً هي بعينها صفة أو أثبتنا صفة هي بعينها ذات، لما صح عندئذ، حمل أية صفة من الصفات على الذات، لأنه يشترط في صحة حمل شيء على شيء أن يكون هنالك نوع تغاير بينهما، وإلا لكان من قبل حمل الشيء على نفسه. وهو باطل.

____________________

(١) راجع الأدلة مع أجوبتها المواقف للإيجي ٨ / ٤٧ وما بعدها.

١٨١

نقاش وتفنيد:

والواقع، أننا وان كنا نؤمن، لصحة الحمل في أية قضية حملية، بوجوب وجود تغاير بين موضوعها ومحمولها. إلا أنه يكفي في صحة العمل، أن يكون هذا التغاير اعتبارياً بحسب المفهوم، بمعنى أن مفهوم الموضوع، مغاير مع مفهوم المحمول، مع كون كل من الموضوع والمحمول متحداً مع الآخر وجوداً.

وفي مقامنا، التغاير المفهومي بين ذات اللّه وصفاته موجود. بمعنى أن مفهوم الذات المقدسة، مغاير تماماً مع مفهوم أية صفة من الصفات، ويكفي هذا في صحة حمل صفات الذات عليها، من دون حاجة إلى الإلتزام بما التزم به القائلون بالتغاير بحسب الوجود، بين الذات والصفات، ليصحّحوا حمل هذه على تلك.

ولعل ابن رشد الفيلسوف، يشير إلى ما ذكرناه حيث يقول «أما الأشياء التي هي صورة في غير هيولى، فان الوصف والموصوف يرجعان فيها إلى معنى واحد بالوجود، وهما بالإعتبار إثنان، أعني وصفاً وموصوفاً. وذلك أن هذه الذات، إذا أخذت من حيث هي موضوعة، ووصفت بوصف من الأوصاف كان الوصف فيها والموصوف واحداً في الحمل، إثنان بالمعنى الذي به يباين المحمول الموضوع»(١) .

الثاني: قياس اللّه سبحانه على الإنسان، ونحن إذا لاحظنا الإنسان نجد أن صدق صفة القادر على الإنسان إنما كان بتوسط قوته، وصدق صفة العالم عليه إنما كان بتوسط علمه، هكذا فليكن الأمر

____________________

(١) تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد ٣ / ١٦٢١.

١٨٢

في اللّه أيضاً كذلك. فيتم ما قاله هؤلاء، من اللّه أن قادر بقدرة، عالم بعلم وهكذا.

نقاش وتفنيد:

والواقع، أن هذا الدليل، واضح الفساد، لأنه يقوم على القياس، من دون أن يكون أي جامع بين المقيس الذي هو اللّه سبحانه، والمقيس عليه الذي هو الإنسان. وكيف يمكن أن نقيس الواجب على الممكن، والقديم على الحادث؟ مع أن الواجب سبحانه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، كما لا يشبهه منها شيء؟ وإذا لم يكن أي تشابه وأدنى ملابسة بين المقيس والمقيس عليه، يكون القياس حتى عند القائلين به فاسداً.

أبو هاشم المعتزلي والقول بأن صفات اللّه احوال:

وما ذهب إليه أبو هاشم، من إثبات الأحوال له سبحانه، وان هذه الأحوال لا موجودة ولا معدومة، فواضح البطلان، لأن «العقل قاض بأنه لا واسطة بين الوجود والعدم وأن الثبوت هو الوجود ومرادف له وان العدم والنفي مترادفان»(١) .

النتيجة:

يتضح من كل ما تقدم في هذا الفصل، أن اللّه سبحانه واحد لا شريك له، بسيط لا تركيب فيه، وأنه لا مغايرة بين ذاته وصفاته، بل انها عين ذاته، متحدة معها. كما ذهب إليه الإمامية وبعض المعتزلة.

____________________

(١) شرح التجريد للعلامة الحلي ١٦.

١٨٣

١٨٤

١٨٥

الفصل الرابع العدل

١٨٦

تمهيد:

معنى العدل

أ - العدل في اللغة:

العَدل: أحد مصادر عَدّل يَعدل.

والمصادر الأخرى لهذا الفعل: العدالة - العُدولة - المعدلة.

وقد فرّق اللغويون، بين العِدل بالكسر، والعَدل بالفتح. فأطلقوا الأول على ما يدرك بالحواس. والمراد به نصف الحمل. بينما أطلقوا الثاني، على ما يدرك بالبصيرة.

وعرّفوا هذا الأخير بأنّه «ما قام في النفوس انه مستقيم»(١) .

ب - العدل في القرآن الكريم:

ثم إنه قد يطلق ويراد به المماثلة. ومنه قوله تعالى( ثُمَّ الّذينَ كفَروا بِرَبّهِم يِعدِلون ) (٢) .

وقوله تعالى:( أو عَدْلُ ذلِكَ صياماً ) (٣) .

____________________

(١) لسان العرب.

(٢) الأنعام / ١٥٠.

(٣) المائدة / ٩٥.

١٨٧

وقد يطلق ويراد به الفدية، ومنه قوله تعالى:( ولا يُؤخَذ مِنها عَدل ) (١) .

وقوله تعالى:( وإن تَعدِل كُلَّ عَدل لا يُؤخَذ مِنها ) (٢) .

وقد يطلق ويراد به معنى ضد الظلم والجور. ومنه قوله تعالى:( وَليكتُب بَينَكُم كاتِب بالعَدل ) (٣) .

وقوله تعالى:( وأُمِرتُ لأعدِلَ بينَكُم ) (٤) .

وقوله تعالى:( اعدِلوا هُوَ أقرَبُ لِلتّقوى ) (٥) .

ج - العدل بمعناه المبحوث:

والعَدل، بهذا المعنى الأخير، هو المقصود بالبحث هنا.

وحيث إن العدل بهذا المعنى (ضد الظلم والجور) قد بحث من قِبَل كل من الفلاسفة والمتكلمين، اقتضتنا المنهجية والموضوعية أن نبحثه في مورديه بشكل موجز:

الأول : العدل في الفلسفة الأخلاقية.

الثاني : العدل في الميتافيزيقا.

____________________

(١) البقرة / ١٢٣.

(٢) الأنعام / ٧٠.

(٣) البقرة / ٢٨٢.

(٤) الشورى / ١٥.

(٥) المائدة / ٨.

١٨٨

المبحث الاول العدل في الفلسفة الأخلاقية

أ - العدل رأس الفضائل:

هناك ارتباط وثيق، بين الحديث عن الفضيلة في علم الأخلاق، وبين الحديث عن العدل.

ذلك أن الفضيلة بشكل عام، قد تطلق على أي فعل من الأفعال الإنسانية يكون قد تحقق على نحو تام وكامل، بقطع النظر عن ارتباط ذلك الفعل بالأخلاق وعدمه.

ولكننا لو نظرنا إلى الفضيلة من وجهة النظر الأخلاقية البحتة، لوجدنا أنها تشكّل الموضوع الأساس لعلم الأخلاق.

فالفضائل الأخلاقية التي تتحكم في الإنفعالات البشرية وتضبط الأفعال الإنسانية، هي ما تدور حولها تقريباً كل بحوث هذا العلم.

ولا إشكال في أن من جملتها: العدل أو العدالة.

بل يمكن القول، بأن العدالة هي رأس الفضائل في أي مذهب من المذاهب الأخلاقية المعروفة.

فأفلاطون، يعتبرها أم تلك الفضائل على الإطلاق كما يذكر ذلك في

١٨٩

محاوراته(١) . لأنها لا توجد في شخص إلا إذا حاز عدداً كبيراً من الفضائل وفي مقدمتها، العفة والحكمة والشجاعة.

وإلى قريب من هذا المعنى، يذهب بعض الفلاسفة المحدثين كبرجسون(٢) حيث يقول «الأفكار الأخلاقية كلها متداخلة، ولكن فكرة العدالة أصلها، لأنها تشمل سائر الأفكار الأخرى. إنها في كل الأزمنة تشير في الذهن إلى أفكار المساواة».

وأرسطو، يرى أن العدالة هي الفضيلة التامة ولكن، لماذا يعتبر أرسطو، العدالة فضيلة تامة...؟ الذي يبدو، أن أرسطو، يفرّق بين التصرفات.

فهناك تصرفات يصح أن تجعل من صاحبها إنساناً فاضلاً، دون أن تؤهّله لأن يكون عادلاً.

فما أهّل من التصرفات صاحبه لأن يكون عادلاً في حق نفسه، دون أن يكون عادلاً في حق غيره من الناس، صح أن يقال عنه بأنه حاز فضيلة من الفضائل ولكن بقول مطلق.

أما إذا كان ذلك التصرف، مما يتجاوز مصلحة صاحبه إلى رعاية مصالح الغير وشؤونهم. فيصح أن يقال عن صاحبه إنه إنسان عادل، لأنه يكون قد حقّق الفضيلة التامة في نفسه.

فالعدالة على رأي أرسطو، إشراق يتجاوز الإنسان إلى غيره من بني البشر ولا يجوز أن يكون مقتصراً على مصلحة فردية أو بعدٍ شخصي.

____________________

(١) أنظر «فيدون».

(٢) منبعاً الأخلاق والدين / ٧٥.

١٩٠

ومن هنا، يمكن القول بأن العدل - في المفهوم الأرسطي - يجب أن يكون أعظم صفة يتصف بها الفعل الإلهي، نظراً إلى أن أفعاله كلها - إن تكويناً أو تشريعاً - إنما يقصد منها خير هذا الإنسان، من دون أن يكون لها أي مردود مصلحي أو نفعي على تلك الذات المقدسة.

ب - العدالة في الفلسفة الأخلاقية: تعريف وتحديد:

والذي يبدو، أن بعض الفلاسفة كأفلاطون، يأخذون في مفهوم العدالة التساوي في العلاقات بين الناس.

تساوٍ هو صورة مصغرة للتساوي المطلق في عالم المثل.

وقد يعرّف أفلاطون العدالة بأنها نظام في النفس يكفل لها جمالاً وانسجاماً.

بينما نرى بعضاً آخر من الفلاسفة كأرسطو، يذهب إلى أخذ التماثل والتناسب في مفهوم العدالة...

ومن الواضح، أنه يمكننا إرجاع هذه التي نادى بها أرسطو، إلى تلك التي نادى بها أفلاطون، لأن المماثلة والمناسبة هما وجه من وجوه التساوي والتعادل...

١٩١

المبحث الثاني العدل الالهي والمتكلمون المسلمون

تمهيد:

لقد أولى المتكلمون المسلمون، صفة العدل أهمية كبرى، حتى رأينا بعض أهم مدارسهم، تجعل العدل من الأصول الاعتقادية التي تأتي بعد التوحيد مباشرة. بل ربما قدّمتها على التوحيد نفسه.

والسر في ذلك - كما يبدو لي - هو أن التوحيد، وإن كان من أعظم الأصول التي يجب على الإنسان أن يعتقد بها، إلا أنه لما كان صفة من صفات الذات الإلهية المقدسة، لم يكن له ذلك الارتباط الذي للعدل بالإنسان.

في حين، أن العدل، لمّا كان صفة للفعل الإلهي، ولمّا كان موضوع الفعل الإلهي هو الكون بما فيه الإنسان، اكتسبت صفة العدل تلك الأهمية، من حيث ارتباطها بهذا الإنسان من جهة ما يراد به أو لَهُ من قبَلِ اللّه سبحانه.

وما يُراد به أو لَهُ من قِبَل اللّه يجب أن يُظَلّلَهُ العدل من جانبه سبحانه.

أ - العدل عند الأشاعرة:

لقد ذهب الأشاعرة، إلى أن من أبرز الصفات الإلهية القدرة والعلم والمشيئة.

١٩٢

والعدل، عندهم، هو موافقة الفعل الإلهي لعلمه سبحانه وقدرته ومشيئته. ولذلك لا يمكن أن يعتبر العدل - من وجهة نظر هؤلاء - أبرز الصفات الإلهية لأنه تابع للقدرة والمشيئة الإلهيتين، وإعمال لهما.

ثمرة هذا القول

ويترتب على نظرة الأشاعرة هذه إلى العدل، أنهم يفلسفون العدل الإلهي على أنه صفة من صفات الفعل الإلهي الصادر عن الوجود المطلق، والذات الإلهية المطلقة. والمقتصر على ذلك الوجود وتلك الذات، من دون نظر إلى تعلقه بإنسان بخصوصه.

وبهذا، يكون موقف الأشاعرة من العدل موقفاً حتّمه منحاهم النقلي الجامد، البعيد عن الاستنباطات العقلية.

ب - العدل عند غير الأشاعرة:

وأما غير الأشاعرة من متكلّمي الإسلام، فنراهم يصحّحون توصيف الفعل بالعدل، كما يصح عندهم توصيف الفاعل به.

وإذا وصف الفاعل به «فعلى طريق المبالغة كقولهم للصائم صوم، وللراضي رضا، وللمنوّر نور، إلى غير ذلك. ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنه عدل، فالمراد أنه لا يفعل القبيح ولا يختاره»(١) .

واما العدل، كوصف للفعل الإنساني فهو «توفير حق الغير واستيفاء الحق منه»(٢) .

____________________

(١) و(٢) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار / ٣٠١.

١٩٣

وأما العدل كوصف للفعل الإلهي عند هؤلاء فهو كما يذكر الشهرستاني(١) :

«ما يقتضيه العقل من الحكمة ومن إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة».

ويتضح لمن دقّق في هذا التعريف للعدل، المنحى الأخلاقي عند هذا الفريق من المتكلمين المسلمين، في نظرته إلى العدل الإلهي، المنبثق عن النزعة العقلية.

ويتضح أيضاً، الفرق بين هذا المنحى مع ما فيه من تحرك وإيجابية يسودان الفعل الإلهي في تعلقه بالإنسان كمخلوق وكمكلف، وبين موقف الأشاعرة، عندما جعلوه - نظرياً - ساكناً مقتصراً على الذات الإلهية، ومقطوع الجذور من دون نظر إلى تعلقه بمثل هذا الإنسان...!!

وجهة نظر

ولكن هذا الاختلاف بين الأشاعرة وغيرهم من متكلمي الإسلام، حول كون العدل أصلاً من الأصول الاعتقادية القائمة برأسها، المنبثقة عن النزعة العقلية إلى ما تقتضيه الحكمة، وبين كونه متفرعاً ومتكئاً على أصل آخر من الأصول المتفق على وجوب توفرها في واجب الوجود لذاته، كالعلم والقدرة والمشيئة.

أقول: هذا الإختلاف لا يؤثر بحال، في إجماعهم على ضرورة اتصاف اللّه سبحانه بهذه الصفة، التي هي العدل.

____________________

(١) الملل والنحل - ١ / ٥٢.

١٩٤

ج - أهم الأدلة العقلية على عدل اللّه:

تمهيد:

اللّه واجب الوجود لذاته، وهو العالم المطلق، والغني المطلق.

لماذا؟

لأنه لو جاز عليه الجهل بوجه من الوجوه لجاز عليه النقص.

ولو جازت عليه الحاجة بوجه من الوجوه لجاز عليه النقص أيضاً.

ولو جاز عليه النقص لجازت عليه الزيادة، بحكم التقابل. وذلك كله مستحيل في حقه تعالى.

لأن النقص والزيادة، لا يعرضان إلا للأجسام. واللّه سبحانه - كما سبق وبرهنّا عليه في محلّه - تستحيل عليه الجسمية، فيستحيل عليه الجهل، كما تستحيل عليه الحاجة.

فلا بد إذن، من أن يكون غنياً عالماً.

الدليل الأول

إن مقتضى كونه سبحانه عالماً مطلقاً، كما ذكرنا في التمهيد، أنه يعلم قبح القبيح.

ومقتضى كونه الغني المطلق - كما ذكرنا في التمهيد أيضاً - أنه مستغن عن فعل القبيح، بل يستحيل صدوره عنه، إذ لا داعّي له إلى فعله.

١٩٥

ولا إشكال في أن العقل يحكم مستقلاً، بكون الظلم - الذي هو ضد العدل - قبيحاً.

وإذن، يستحيل على اللّه سبحانه أن يختاره.

لأنه إن فعله...

فإما لجهله بقبحه، وهو مناف لفرض كونه العالم المطلق.

وإما لحاجته إلى فعله، وهو مناف لكونه الغني المطلق.

ويمكن أن نمثّل بالإنسان، «لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً».

فالإنسان، يرى ضرورة أنه «إذا كان عالماً بقبح القبيح، مستغنياً عنه، عالماً باستغنائه عنه، فإنه لا يختار القبيح البتة. وإنما لا يختاره لعلمه بقبحه، وبغناه عنه..... يُبين ما ذكرناه ويوضّحه أن أحدنا لو خُيّر بين الصدق والكذب، وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر، وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً، وهو عالم بقبح الكذب، مستغنٍ عنه، عالم باستغنائه عنه، فإنه قط لا يختار الكذب على الصدق....».

وإذا كان هذا في حق الإنسان المحدود ثابتاً، فهو في حق خالق الإنسان المطلق أولى بالثبوت...

الدليل الثاني

إن القدرة، من أهم الصفات التي يتصف بها واجب الوجود...

١٩٦

ولا إشكال في أن إعمال هذه القدرة، يقتضي أن يكون سبحانه قادراً على جميع أنواع المقدورات. «ومن كل نوع على ما لا يتناهى، وهذا يوجب أن يكون في مقدوره من الحسَن ما يستغني به عن القبيح...».

ولا إشكال - أيضاً - في أن مَن كان قادراً على أن يستغني بالحسَن، لا يختار القبيح أبداً.

ويمكن أن نمثل لذلك بالإنسان، ولا ضير في هذا التمثيل، كما نبّهنا سابقاً (لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً أو غائباً) فإن من الواضح أن (من استغنى بماء الفرات عن اغتصاب شربةٍ من ماء الغير، بأن يكون على الشاطئ، فإنه قط لا يغصب تلك الشُربة من غيره، ولا وجه له إلا استغناؤه بالحسَن عن القبيح). الذي هو الغصب.

الدليل الثالث

إننا - وكلامنا مع الإلهيين - لو جوّزنا الظلم على اللّه، وهو قبيح عقلاً، لوجب أن يصدر عنه جميع أنواع القبائح، لأنه لا تخصيص في نظر العقل بالنسبة لحكم الأمثال. وعليه، وجب أن يصدر عنه الكذب، وحينئذ لا يمكن الإطمئنان إلى شيء مما يصدر عنه، من وعدِه المطيعين بالثواب، ووعيده للعاصين بالعقاب، ويجوز حينئذ أن يعذّب المطيعين ويثيب المجرمين. بل لا يمكن الإطمئنان إلى شيء مما ورد في كتابه وجرى على لسان رسوله. وفي هذا ما فيه من وجود معذّر لعدم عبادته من قبل الإنسان...

بعد هذا كله، يتضح أنه لا بد من الالتزام بحكم العقل بعدل اللّه سبحانه، وعدم تجويز أي ظلم عليه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

١٩٧

المبحث الثالث مسألة الآلام

تمهيد:

يتطلع الإنسان حواليه، فيجد آلاماً وأحزاناً، ويجد أمراضاً وأسقاماً. ويجد محناً وبلاياً، تكتنف هذا المخلوق على هذه الأرض.

شرور لا عدّ لها.

ثم يرجع الإنسان إلى نفسه، ليصطدم في أعماقه، خضوعاً لمبدأ العليّة، القائل: بأن لكل مسبب سبباً، ولكل معلول علة. وان علة العلل، وسبب الأسباب هو اللّه سبحانه.

ولكن، هل يمكن أن تصدر هذه الشرور والآلام عن اللّه، وهو الحكيم العادل...!؟

وعلى فرض أنها صادرة عنهّ، فكيف يمكن التوفيق بين الإيمان بعدله وبين الإيمان بهذا الصدور...؟

أ - مشكلة الآلام وشموليتها:

والواقع، أن هذه المشكلة، لم تشغل بال مفكري الأديان فقط، وإنما شغلت معهم الفلاسفة الاخلاقيين منذ أقدم العصور.

فالزرادشتية، لم تستطع تصوّر أن هذه الشرور يمكن أن تصدر عن

١٩٨

الإله الحكيم. ولذا اضطر مفكروها إلى الالتزام بالإثنينية، فجعلوا للشر إلهاً خاصاً، أطلقوا عليه لفظ «أهرِمَن» الذي سوف تكون نهايته - في نظرهم - محتومة، والقضاء عليه مبرماً بعد صراع مرير مع إله الخير.

والمسيحية، حمّلت الإنسان تبعة هذه الشرور، باعتبار ارتكابه متمثلاً في أبيه آدم الخطيئة الاولى، حيث ورثها بنوه عنه، وورثوا معها تبعاتها.

ومن الفلاسفة مَن اعتبر الشر اعتباراً إنسانياً محضاً أضفاه تصوره الضيق المحدود، وحاول أن يُخضع أحداث الكون الكبرى لمثل هذه التصور والتقييم الضيقين.

وانطلاقاً من ذلك نرى «اسبينوزا»(١) ، يرفض فكرة الشر، كما يرفض فكرة الخير أيضاً. فإن للكون نواميس يجري على وُفقها، وقوانين تحكمه، ومن غير المنطقي أن تكون تلك النواميس وهذه القوانين، مطابقة تماماً لمشتهيات الإنسان ورغباته، وإلا فليتمرّد على هذه وتلك إن استطاع.

ب - الآلام بنظر المسلمين:

وكما واجه حكماء الزرادشتية، والمسيحية، والفلاسفة المحدثون مشكلة الشرور والآلام، واجهها أيضاً فلاسفة الإسلام ومتكلموه على آراء يمكن أن يكون أهمها ثلاثة.

____________________

(١) اسبينوزا لفؤاد زكريا ص / ٥٨٥.

١٩٩

الرأي الأول

يرى ابن سينا، أن الشرور على قسمين:

شر مطلق، وهو مما لا وجود له البتة.

وشر جزئي.

وهذه الشرور الجزئية، هي التي يمكن أن تدخل في القضاء الإلهي، دخولاً عرَضياً لا ذاتياً.

بمعنى أن ناموس الخير الكلي، لا يعقل أن يستقيم إلا إذا رافقه في بعض جوانبه وحالاته، شر جزئي.

ولا يعقل في ضوء المنطق والعقل السليم، أن ترفع اليد عن تحصيل الخير الكلي، للتخلص من الشر الجزئي العارض لهذا الخير. وذلك (كالنار، فإن الكون إنما يتم بأمر يكون فيه نار، ولن يتصور حصولها إلا على وجه تحرق وتسخّن. ولم يكن بدّ من المصادمات الحادثة، ان تصادف ثوب فقير ناسك فيحترق. والأمر الدائم والأكثر حصول الخير من النار...)(١) .

واما بالنسبة إلى بعض الشرور، كالخلق المشوّه، والأمراض، وغيرها، يذهب ابن سينا إلى القول بأنها ليست راجعة إلى حرمان الفاعل، الذي هو اللّه، من العضو الناقص، أو الصحة، أو غيرها، بل إلى عدم استعداد في المنفعل.

____________________

(١) الإشارات والتنبيهات ٢ / ٧٨ وما بعدها.

٢٠٠