دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية0%

دراسات في العقيدة الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 212

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف: محمد جعفر شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 212
المشاهدات: 60302
تحميل: 4725

توضيحات:

دراسات في العقيدة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 212 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60302 / تحميل: 4725
الحجم الحجم الحجم
دراسات في العقيدة الإسلامية

دراسات في العقيدة الإسلامية

مؤلف:
العربية

الدليل على بطلان التسلسل:

وقد أقام فلاسفة الإسلام ومتكلموه، عدة أدلة على استحالة التسلسل أهمها دليلان(١) :

الأول : هو ما يسمى ببرهان التطبيق. وحاصل هذا الدليل اننا لو أخذنا مجموعة العلل الموجودة في السلسلة اللامتناهية - حسب الفرض - وسبكناها في سلسلة. ثم أخذنا مجموعة المعلولات وسبكناها في سلسلة أخرى. ثم اقتطعنا جزءاً معيناً من سلسلة العلل. ثم أطبقنا سلسلة المعلولات على ما تبقّى من سلسلة العلل، على نحو تكون بداية كل من السلسلتين منطبقة على بداية الأخرى.

وهنا لا يخلو الأمر عن إحدى حالتين:

إما أن تستمر السلسلتان إلى غير نهاية، وهو محال لاستلزامه أن تكون السلسلة التامة كالناقصة.

وإما أن تتناهى الناقصة، وهي سلسلة العلل حسب الفرض، وحينئذ - لا بد من تناهي التامة أيضاً، وهي سلسلة المعلولات، لأنها لا تزيد على الناقصة، إلا بالمقدار المتناهي الذي اقتطعناه من هذه الأخيرة، والزائد على المتناهي بمقدار متناه، لا بد وأن يكون متناهياً.

الثاني : لو أخذنا سلسلة مركبة من علل ومعلولات لا متناهية - كما يدعى -، فلا تخلو أن تكون تلك السلسلة بمجموعها، واجبة أو ممكنة.

____________________

(١) راجع هذين الدليلين وغيرهما في شرح التجريد للعلامة الحلي / ٨٥ وما بعدها وكتاب الأربعين لفخر الدين ٨٣ وما بعدها.

٨١

وكونها واجبة مستحيل، لأن أية حلقة وضعنا يدنا عليها في هذه السلسلة، فهي في نفس الوقت الذي تكون فيه علة لما بعدها، تكون معلولة لما قبلها، أيضاً، فتكون ممكنة، وتكون السلسلة بالتالي، عبارة عن مجموعة من الممكنات، والواجب ما لا يحتاج في وجوده إلى علة كما مر.

وإذا استحال أن تكون السلسلة واجبة، تعين أن تكون ممكنة، وحينئذ يحكم العقل بضرورة احتياجها إلى علة، لما تقدم، من أن ترجح وجود الممكن على عدمه، لا بد له من مرجح.

وهذا المرجح، يستحيل أن يكون نفس تلك السلسلة كلاً أو جزءاً لأنه يستلزم أن يكون الشيء علة لنفسه.

فتعين أن يكون المرجح خارجاً عن هذه السلسلة، التي هي مجموعة ممكنات، والخارج عن دائرة الممكنات هو الواجب، فيثبت المطلوب، وهو ضرورة انقطاع السلسلة، إذ الواجب ما كان نفس الوجود، فلا نكون بحاجة إلى التساؤل عن علة وجوده كما هو واضح.

٨٢

٨٣

الفصل الثاني مع الماديين

٨٤

تمهيد:

بعدما تقدم، لا بد لنا من التعرض لمقالة الماديين، الذين يقفون في الضفة الأخرى المقابلة للإلهيين لنقف على رأيهم فيما يتعلق بالعلة الأولى لهذا الكون، ومن أين بدأت الحياة فيه وكيف؟

ويظهر من طرحنا للموضوع بهذه الصيغة، ان هناك نقطتين هامتين، يجب أن نثيرهما مع أنصار المادية:

الأولى : هل فرض علة أولى لهذا الكون أمر ضروري؟ وعلى تقدير كونه ضرورياً فما هي هذه العلة؟

الثانية : ما هو أصل الحياة، وكيف تفسر بدايتها وتنوعها، بتنوع الكائنات الحية التي تعيش في وعلى هذه الأرض.

أما بالنسبة للنقطة الأولى، فلا بد من التعرض عندها لمقالتين، مقالة المصادفة، ومقالة المذهب الطبيعي.

٨٥

٨٦

المبحث الاول مذهب المصادفة

وقد ذهب أتباع هذا المذهب، إلى إنكار وجود علة من أي نوع لهذا الكون، وزعموا أنه إنما وجد بطريق المصادفة والاتفاق.

وإذا سألناهم عن كيفية حصول مثل هذه المصادفة، التي وجد الكون على أساس منها، لأجابوا: بأن ملايين الذرات، التي لا نهاية لها، تحركت في فضاء لا نهاية له، وزمان لا نهاية له أيضاً، بلا قصد وبلا غاية، ثم التحمت مع بعضها البعض، في كتلة عظيمة هائلة، اصطدمت بالشمس عندما اقتربت فتفتتت نتيجة لهذا الاصطدام، فتكونت الأرض وبقية الاجرام والكواكب في هذا النظام الشمسي، على الصورة التي نراها ونحسها.

ويرقى منطق التصادفيين هذا، إلى أقدم عصور الفكر الإنساني، حتى يتصل بالعصر اليوناني، منتسباً إلى أبيقور (٣٤٢ - ٢٧٠ ق. م)، وبعض السابقين عليه من فلاسفة اليونان ممن كان يقول بأن العالم وجد من «العماء».

موقف ونقد:

ومنطق المصادفة والاتفاق هذا، وإن كان يدعو إلى السخرية والاستهزاء، لأنه يرفض مبدأ العلية، وهو مسلمة لم يختلف عليها اثنان من أرباب الفكر،

٨٧

ولذا نبذته الأوساط الفلسفية والمدارس العلمية على حد سواء، إلا أنه لا بد لنا من وقفة قصيرة، نحاكم فيها هذا المنطق، تمشياً مع مقتضيات المنهجية والموضوعية، اللتين تفرضهما الروح العلمية وذلك ضمن عدة نقاط:

أولاً : إننا لا نفهم، كيف يمكن للمصادفة، التي تعني الفوضى واللا قصد، والتشويش، أن تنتج هذا النظام الدقيق، والتناسق المذهل، اللذين نراهما يطلان علينا من خلال كل مظاهر هذا الكون المحيط بنا؟ وهذا الجمال الرائع الذي يطالعنا، فيدخل على نفوسنا الغبطة والسرور، وهل يعقل لفاقد كل ذلك أن يعطيه؟

إن معنى النظام «تأليف الكثير لتحقيق غاية معقولة قبل تحقيقها» ومن البديهي أن المعقول يحتاج إلى عقل يوجد فيه والمصادفة غير عاقلة.

وسوف نعود إلى هذه النقطة بالذات، لنحللها بعد قليل.

ثانياً : إن نفس منطق القائلين بالمصادفة، يستبطن إقراراً وإذعاناً بمبدأ العلية والسببية. وذلك لأنهم يفترضون وجوداً سابقاً لجرم الشمس، ووجوداً سابقاً لفضاء لا نهائي، وزمان كذلك، كان مجالاً لسبح الشمس والكتلة الهائلة من الذرات قبل اصطدامهما، يفترضون كل هذه الأمور القبلية، ليرتبوا بعد ذلك موضوع التصادم الذي يتسبب عنه - في زعمهم - هذا الكون المادي.

وما مبعث ذلك في اعتقادي، إلا نفور عقولهم، من تقبل فكرة مسبب بلا سبب، ومعلول بلا علة -، أي بالمصادفة - وإلا لكان باستطاعة هؤلاء، أن يدّعوا من رأس، أن هذا الكون، وجد كما هو عليه من أول الأمر، من دون حاجة أو لجوء إلى

٨٨

افتراض ذرات، وتلاحم بين هذه الذرات، وفضاء تلاحمت فيه، وزمان لهذا التلاحم، ثم اصطدام بشمس كانت في وجودها سابقة على كل ذلك.

ثالثاً : إن رد وجود هذا النظام الكوني إلى المصادفة، ينطوي في حد ذاته على التناقض المستحيل، بمعنى أن القائل به يقع في التناقض، لأنه يلتزم بإنكار مبدأ العلية كلية، وهذا معناه أنه «يزعم أن ما يوجد ليس له ما به يوجد»(١) .

رابعاً : من الواضح أن العالم ليس ممتنعاً، إذ لو كان ممتنعاً لما وجد. كما أنه ليس واجباً، لأنه - بإقرار القائلين بالمصادفة أنفسهم - لم يكن فكان، والواجب، لا يجوز عليه العدم، في أي زمان.

وإذا لم يكن العالم واجباً، ولا ممتنعاً، فهو إذن ممكن، إذ لا رابع لهذه الأقسام. والممكن - كما سبق - هو الذي يتساوى فيه طرفاً الوجود العدم ومن الواضح استحالة ترجح أحد المتساويين على مساويه من دون سبب، وإلا لكان خلف فرض تساويهما.

وعلى ضوء ما ذكرناه، فالإلتزام بالمصادفة، معناه الإلتزام بما هو خلف فرض العالم ممكناً. إذ ليس معنى المصادفة، إلا وجود شيء ينطوي على إمكان الوجود وإمكان العدم بصورة متعادلة من دون علة. والخلف باطل، وما استلزم الباطل - وهو القول بالمصادفة - يكون باطلاً.

____________________

(١) تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم ١٦٩.

٨٩

خامساً : إن المصادفة، إذا أردنا أن نخضعها لمنطق الإحتمالات، لوجدنا أنها لا يمكن أن يستند إليها وجود هذا الكون. ولتوضيح ذلك، نأخذ طبقة واحدة من طبقات الشبكية التسع في عين الإنسان، وهي الطبقة الأخيرة، حيث نجدها تتكون من ثلاثين مليوناً من الأعواد وثلاثة ملايين من الأجسام الدقيقة المخروطية الشكل، مرتبة ومنظمة بدقة متناهية لتعكس المرئيات بالشكل الصحيح على صفحتها.

ونحن لو رقمنا هذه الأعواد، من واحد إلى ثلاثين مليوناً، ثم شوشناها، وأريد أن يعاد ترتيبها، ولكن عن طريق المصادفة والإتفاق، وذلك بالشكل الدقيق المنظم، الذي يمكنها معه، من أن تؤدي وظيفتها المصممة من أجل تأديتها، لكان هذا العمل ضرباً من المستحيل.

يكفي، لكي يجزم الإنسان باستحالة هذا العمل، أن يتصور أن نسبة احتمال ان يحتل العود رقم(١) مكانه المخصص له في هذا التركيب المنظم هي ٠٠٠، ٠٠٠، ٣٠ /١ أي واحد من بين ثلاثين مليون إحتمال.

هذا هو نصيب العود رقم واحد من احتمالات الوقوع في مكانه المناسب بطريقة المصادفة. فكيف بالعود رقم(٢) ؟

إن نسبة احتمال احتلال هذا العود، مكانه المخصص له في هذا التركيب المنظم بطريق المصادفة ٠٠٠، ٠٠٠، ٠٠٠، ٠٠٠، ٩٠٠ / ١ أي واحد من بين تسعمائة بليون احتمال!!

هذا هو نصيب العود رقم(٢) فقط، من احتمالات الوقوع في مكانه المناسب بطريق المصادفة، فكيف بالعود رقم(١٠)

٩٠

أو العود قم (١٠٠) أو العود رقم (١٠٠٠) حيث يبلغ طول عدد الإحتمالات عشرات الأمتار من أرقام وأصفار.

وكذا، تستمر نسبة احتمال وقوع شيء معين في هذا التركيب تتضاءل كلما تصاعدت كمية الإحتمالات، إلى أن يصبح احتمال وقوع ذلك الشيء، في حكم المعدوم.

هذا في طبقة واحدة من طبقات شبكية عين الإنسان. فكيف بنا إذا أردنا أن نخضع هذا الكون المنظم بكل ما فيه من كائنات وذرات، لمنطق المصادفة السقيم؟ ان ذلك لو حاولناه، يبدو من السخف والجنون بمكان.

النتيجة:

على ضوء ما تقدم من نقاط، يتضح مدى جدب منطق المصادفة وعقمه وعجزه عن أن يفسر لنا وجود هذا الكون، بتناسقه، وجماله، ونظامه، وروعته ولذا نبذه الفلاسفة والمفكرون نبذ النواة، فلنشح بدورنا بوجوهنا عنه، متوجهين نحو مجموعة أخرى من الماديين، ومذهب آخر من مذاهبهم هو: المذهب الطبيعي.

٩١

٩٢

المبحث الثاني المذهب الطبيعي

وحاصل المذهب الطبيعي هذا، هو دعوى «أن الكون يرجع في أساسه، إلى ذاته فحسب. ولسنا بحاجة إلى افتراض مصدر خارجي، أو قوة علوية، لإضفاء الوجود أو المعقولية عليه. أي أن الكون يقف على أرجله، غير معلق بأربطة حذاء كونية، ومن ثم فإن السؤال عما يقع خارح الكون أو وراءه هو سؤال لا معنى له»(١) .

وموقف الطبيعيين هذا، يعني إنكارهم لضرورة وجود علة لهذا الكون، خارجة عنه، حدوثاً وبقاءاً، «وأنه منطو على ذاته ومكتف بذاته، ومعتمد على ذاته، ومدبر لذاته»(٢) .

كما أن هذا الموقف - خاصة إذا تمعنا الجملة الأخيرة المقوسة - يعني أن العلة الفاعلية لهذا الكون هي نفس علته المادية. أي نفس المادة الأساسية التي تتألف منها موجودات هذا الكون.

نقد المذهب الطبيعي:

ونحن، لا بد لنا من بيان فساد هذا المذهب، بالتركيز على عدم إمكان أن تكون العلة الفاعلية للكون هي نفس علته المادية. وذلك ضمن نقاط.

____________________

(١) الفلسفة أنواعها ومشكلاتها لهنترميد ٩٠.

(٢) نفس المصدر ٨٧.

٩٣

أولاً : ان هذا الكون، بما فيه من مظاهر النظام الدقيق، والتناسق المبدع يستحيل أن يكون منبثقاً عن مادة عمياء. وذلك لأن النظام معناه تأليف الكثير لتحقيق غاية معقولة قبل تحقيقها. ومن البديهي، أن المعقول يحتاج إلى عقل يوجد فيه، لاستحالة وجوده بلا موضوع، كاستحالة وجوده بلا متعلق، ومن الواضح أن المادة غير عاقلة.

ثانياً : لقد ثبت في علم الفيزياء، أن المادة الأساسية، التي يتألف منها العالم - أي العلة المادية للعالم - تتكون من عناصر بسيطة قد تقارب المائة.

بمعنى أننا لو حلّلنا أي جسم من الأجسام الموجودة في هذا الكون، نراه لا يعدو أن يكون عنصراً واحداً من هذه العناصر، إذا كان ذلك الجسم بسيطاً، أو عنصرين إثنين أو أكثر منها، إذا كان مركباً.

وقد ثبت في علم الفيزياء أيضاً، أن الخصائص الأساسية للأجسام المادية المركبة، يمكن سلبها عن تلك الأجسام، وذلك بطريقة التحليل.

فلو أخذنا الماء - مثلاً - بماله من الخاصية الأساسية وهي السيلان، لوجدنا أنه بتحليله إلى عنصريه البسيطين، اللذين يتركب منهما، وهما الأوكسجين والهيدروجين، وفصلنا بين ذرة الأوكسجين فيه، وذرتي الهيدروجين، ترتفع صفة المائية بمالها من خاصية وهي السيلان، وتوجد صفة أخرى هي صفة الغازية.

وهذا معناه، أن صفات المركبات، صفات عرضية، تعرض للعناصر البسيطة، وليست ذاتية لها.

كما ثبت في الفيزياء، إمكان تبديل بعض تلك العناصر البسيطة التي تكوّن بمجموعها العلة المادية للعالم بالبعض الآخر.

٩٤

فمثلاً، لو أخذنا عنصراً من تلك العناصر البسيطة هو اليورانيوم، لوجدنا أن ثلاثة أنواع من الأشعة، تنبثق عنه هي: جاما، بيتا، ألفا.

وقد ثبت أن أشعة ألفا، ليست سوى ذرات عنصر الهليوم، الذي يأتي في مرتبة أرقى بمرتبة من الهيدروجين في الجدول الذري للعناصر. وهذا معناه أن عنصر اليورانيوم، يتحول في بعض أجزائه إلى عنصر الهليوم.

كما ثبت علمياً، إمكان توليد عنصري الأوكسجين والهيدروجين البسيطين نتيجة التقاء عنصر الهليوم مع عنصر الآزوت.

وهذا معناه، أن صفات العناصر البسيطة هذه، ما هي إلا صفات عرضية للمادة، وليست ذاتية لها.

وثبت علمياً أيضاً، إمكان تحويل المادة إلى طاقة، وذلك بضرب كتلة المادة في مربع سرعة الضوء (سرعة الضوء هي ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية الواحدة)

الطاقة = الكتلة (١٨٦٠٠٠)٢

كما أمكن تحويل الطاقة أيضاً بدورها إلى مادة، وذلك بقسمة الطاقة على مربع سرعة الضوء.

المادة = الطاقة / (١٨٦٠٠٠)٢

هذا معناه أن صفة المادية نفسها ما هي إلا صفة عرضية للمادة ليست ذاتية لها.

٩٥

النتيجة:

وعلى ضوء ما تقدم، يتبين لنا أن جميع الصفات التي تتشكل بها المادة في كل مظهر من مظاهر هذا الكون، سواء كانت في المركبات، أو العناصر البسيطة، أو صفة المادية نفسها، ما هي إلا صفات عرضية لتلك المادة بدليل إمكان سلخها أو انسلاخها عنها. وهذا بنفسه كاشف عن أن نفس المادة يستحيل أن تكون هي العلة الفاعلية لتلك الصفات، إذ لو كانت كذلك، لكانت تلك الصفات ذاتية لها، والذاتي يستحيل انفكاكه عن الذات كما هو واضح.

ثالثاً : لو أخذنا قانوناً عاماً من القوانين العلمية. ولنفرضه القانون القائل - كل حديد يتمدد بالحرارة - وتساءلنا عن كيفية التوصل إلى وضع هذا القانون العام. فهل أن العالم الطبيعي، قد جمع عينات من كل الحديد الموجود في الكون في مختبره وأجرى عليه تجاربه، ثم وجدها تتمدد بالحرارة، فوضع هذا القانون العام الشامل لكل حديد؟

طبعاً لم يحدث شيء من هذا قط. بل الذي حدث، هو أن هذا العالم قد أجرى تجاربه على قطع محدودة العدد من الحديد، قد لا تتجاوز أصابع اليد، فوجد أنها تتمدد بالحرارة، فوضع قانونه الشامل هذا لكل حديد. وهنا يحق لنا أن نتساءل من جديد:

إذا لم يستوعب العالم عينات كل حديد العالم في تجاربه، فكيف يجوز أن يعطي حكماً عاماً شاملاً لكل ذلك الحديد في هذا العالم؟

هنا، يأتي دور ما يسمى بقانون التناسب القائل: «ان كل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة، يلزم أن تتفق أيضاً في الأسباب والنتائج»(١) .

____________________

(١) راجع فلسفتنا للسيد محمد باقر الصدر ٢٨١ دار الفكر.

٩٦

فهنا، وإن كان العالم قد أجرى تجاربه على عدد محدود من قطع الحديد، إلا أنه لما كانت هذه القطع التي أجرى تجاربه عليها، تشابه كل القطع الأخرى الموجودة في العالم من الحديد، كان لا بد من أن تثبت لها نفس الآثار التي من جملتها التمدد بالحرارة.

ولولا هذا القانون، لما أمكن لأي عالم أن يضع قانوناً عاماً. ومعنى ذلك القضاء المبرم على جميع العلوم الطبيعية.

إذا تبين هذا، تتبين استحالة أن تكون العلة المادية للعالم، هي نفسها العلة الفاعلية له.

وذلك، لأنه على ضوء ما ذكرناه في النقطة الثانية، اتضح أن العلة المادية للعالم، حقيقة عامة وواحدة، وهي عبارة عن العناصر البسيطة المائة أو أكثر بقليل، مع كون العالم متنوع المظاهر، ومختلف الكيفيات، ومتباين الحركات، فلو كانت العلة المادية - التي هي حسب الفرض حقيقة واحدة - نفسها العلة الفاعلية للعالم على اختلاف مظاهره، وتعدد أشكاله، وتباين حركاته، لكان معنى ذلك، أن الحقيقة الواحدة، تختلف في آثارها، وتتناقض في أحكامها وتتباين في ظواهرها. وهذا معناه، نسف قانون التناسب المذكور آنفاً، على أنه أساس لكل القوانين العامة في العلوم الطبيعية، والقائل بأن الحقيقة الواحدة يستحيل أن تتناقض آثارها، وتختلف ظواهرها...

بعد كل ما قدمناه، يتضح إفلاس المذهب الطبيعي، عن إثبات زعمه بأن العلة الفاعلية لهذا الكون، هي نفسها علته المادية، وببيان فساد كلا المذهبين مذهب المصادفة والمذهب الطبيعي، ينتهي الكلام في النقطة الأولى من نقطتي هذا البحث.

٩٧

النقطة الثانية:

وهي التي يدور الحديث فيها عن أصل الحياة، ومجراها. وبعبارة أوضح، عن كيفية وجود الحياة على هذا الكوكب، وكيفية ابتدائها وتنوعها بتنوع الكائنات الحية التي تعيش في وعلى سطح هذه الأرض؟

ويبدو من طرحنا للبحث في هذه النقطة بهذه الصيغة، أن هنا مسألتين تجب معالجتهما.

الأولى : عن كيفية وجود الحياة على هذا الكوكب. وهو ما عبّرنا عنه بأصل الحياة.

الثانية : عن كيفية تنوع هذه الحياة، بتنوع الكائنات الحية، وهو ما عبّرنا عنه بمجرى الحياة.

٩٨

المبحث الثالث أصل الحياة

وتوجد حول أصل الحياة، نظريات كثيرة، أهمها في اعتقادي ثلاث نظرية الخلق الخاص.. نظرية النقل. نظرية الانبثاق.

ولكن، قبل أن نتصدى لبيان هذه النظريات، باختصار مع ما يمكن أن يرد عليها أو لها، لا بد من الإشارة إلى أن فكرة الخلق، وكيفية ابتدائه في هذا الكون، لم تكونا وليدتي هذا العصر، وإنما هما قديمتان قدم الإنسان. وكلما تغلغلنا في أعماق التاريخ الإنساني، وجدنا أن هنالك تفسيرات عديدة لكيفية حصول الخلق وابتداء الحياة. ولكنها في كثير من جوانبها، تتخذ الصفة الأسطورية المغلفة بغلاف من الخيال الواسع. ولا بأس بالإشارة إلى نظريتين اثنتين لحضارتين عريقتين حول أصل الحياة.

٩٩

نشأة الخلق في الأساطير

أ - نشأة الخلق في أساطير المصريين القدماء:

وإذا راجعنا عقيدة المصريين القدماء، في كيفية نشوء الخلق وابتداء الحياة على هذه الأرض، لوجدنا أن الخلق فيها «نشأ من تزوج الإله الأعلى الذي هو الشمس للأرض، إذ أن - رع - أو الشمس هو الخالق على الدوام».

ولما أشرق أول مرة، ورأى الأرض صحراء جرداء، غمرها بأشعته، فبعث فيها النشاط، فخرجت من عيونه كل الكائنات الحية، من نبات وحيوان وإنسان»(١) .

ب - نشأة الخلق في أساطير البابليين:

وإذا رجعنا إلى عقيدة البابليين القدماء، حول كيفية نشوء الخلق والحياة على هذه الأرض، لوجدنا أن الأسطورة البابلية تقول: «كان في أول الأمر عماء في الوقت الذي لم يكن فيه شيء عال يسمى السماء، ولم يكن فيه شيء واطئ يسمى الأرض. ثم جاء - ابسو - أي المحيط - وكان أبا الأشياء أول الأمر. و - تيامات - التي ولدتها كلها، وخلطا دماءهما معاً. وبدأت الأشياء تنمو وتتخذ لها أشكالاً، ولكن تيمات الالهة المهولة

____________________

(١) قصة الحضارة. المجلد الأول، الجزء ٢ / ١٥٧.

١٠٠