الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 128300
تحميل: 7024

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128300 / تحميل: 7024
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

«المسلمون يتوارثون، وإن اختلفوا في المذاهب والأصول والعقائد، كما هو المشهور، لعموم ما دل على التوريث بالنسب والسبب من الكتاب والسنة والإجماع لابتناء المواريث على الإسلام، دون الإيمان، وفي تلك الأدلة أن الإسلام هو ما عليه جماعة الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وجرت المناكح والمواريث. مضافاً إلى شهادة تتبع أحوال السلف من توريث المسلمين بعضهم من بعض في جميع الأعصار، مع الفتوى الظاهرة، والشهرة المعلومة. أما الغلاة والخوارج والنواصب، وغيرهم ممن علم منهم الإنكار لضرورة من ضرورات الدين فلا يرثون المسلمين قولاً واحداً».

بل قال صاحب «مصباح الفقيه» الآغا رضا الهمداني في الجزء الثالث من كتاب الطهارة ص ٤٩: من أقر بالشهادتين يعامل معاملة المسلمين من جواز المخالطة والمناكحة والتوارث، حتى ولو علم نفاقه وعدم اعتقاده.

أنكر النواصب والخوارج ضرورة دينية، وهي مودة الآل التي ثبت وجوبها بصريح القرآن، والسنة المتواترة فخرجوا بذلك عن الإسلام عند الإمامية، أما الغلاة فإن اعتقدوا أن هذا الشخص بالذات هو اللّه، وأنكروا وجود خالق سواه فهم كافرون، وإن اعترفوا بوجود خالق مثله فهم مشركون، وإن اعتقدوا بأن اللّه حل أو اتحد فيه فهم منكرون لما ثبت بضرورة الدين من أن اللّه أجل وأعظم من أن يصير بشراً يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. وبكلمة إن الغلاة والخوارج والنواصب ليسوا عند الإمامية من الإسلام في شيء، إما لأنهم يجحدون الإسلام من الأساس، كالغلاة، وإما لأنهم ينكرون ما ثبت بضرورة الدين، كالنواصب والخوارج.

لقد وقف الإمامية موقفاً وسطاً بين هؤلاء بالنسبة إلى أهل البيت، فهم لا يعادون، ولا يغالون، بل يوالون ويودون، كما أمر اللّه والرسول، وكما قال امير المؤمنين: هلك فيّ صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالاً النمط الأوسط.

هذي عقيدة الشيعة، وهذه أقوالهم يوجبون التوارث والتزاوج، وسائر الأحكام الإسلامية بين أهل القبلة جميعاً، ولا يستثنون إلا من استثناه القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومع ذلك نقرأ بين الحين والحين، لبعض الأقلام الجاهلة، أو المأجورة، أن الإمامية يكفرون جميع المسلمين، وأن الشيعة بعامة يغالون في أئمتهم، ويجعلونهم آلهة أو شبه آلهة.

الخوارج والنواصب:

اتفق السنة والإمامية بكلمة واحدة على أن الغلاة الذين ألهوا علياً، أو غيره ليسوا مسلمين،

١٠١

أما الذين نصبوا العداء لأهل البيت، ومنهم الخوارج الذين كفروا علياً فهم تماماً كالغلاة عند الإمامية، لا يجري عليهم حكم الإسلام.

وقال جمهور من علماء السنة: لا يكفر أحد من أهل القبلة، فقد جاء في كتاب «المواقف» وشرحه ج ٨ ص ٣٣٩ ما نصه بالحرف:

«جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، فإن الشيخ أبا الحسن قال في أول كتاب «مقالات الإسلاميين»: اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل بعضهم بعضاً، وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقاً متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم. فهذا مذهبه، وعليه أكثر أصحابنا أي السنة».

وفي ص ٣٤٤ رد على من قال بكفر الروافض والخوارج، لأنهم قدحوا في الصحابة، وقال بكل صراحة ووضوح إن ذلك لا يستدعي كفرهم.

ونتساءل: إذا كان هذا قول أبي الحسن الأشعري، وهو إمام السنة، ومنه يأخذون عقائدهم، وهذا حكمه على الخوارج والروافض الذين قدحوا في الصحابة، فكيف ساغ لبعض شيوخ السنة الذين يزعمون أنهم على مذهب أبي الحسن الأشعري، كيف ساغ لهم أن يكفروا الشيعة لا لشيء إلا لمجرد التهمة بأنهم يسبون الصحابة ؟!

الإيمان والولاء:

قلنا إن الإيمان بمعناه الخاص لا يتحقق بمجرد النطق بالشهادتين، بل لا بد أن يضاف إليه التصديق في القلب، والعمل بالأركان من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وقد زاد الإمامية ركناً آخر على هذه الأركان، وهو الولاء لآل الرسول مستندين إلى ما رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال كرد علي في كتاب «خطط الشام» ج ٦ ص ٢٥١ طبعة ١٩٢٨:

«قال أبو سعيد الخدري: أمر الناس بخمس، فعملوا بأربع، وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع؟ قال: الصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج. قيل: فما الواحدة التي تركوها ؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب. قيل له: وإنها المفروضة معهن ؟ قال: نعم هي مفروضة معهن».

وقال الإمام الصادق: الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، والإيمان هو معرفة هذا الأمر. وقال: بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية. أي بعد الإقرار بالشهادتين، حيث لا يقبل أي عمل بدونه.

١٠٢

وبهذا يتبين أن الولاء - عند الإمامية - ركن من أركان الإيمان، لا من أركان الإسلام، فغير الموالي مسلم، ولكنه غير شيعي، وبكلمة إن الولاء عندهم من أصول المذهب، لا من أصول الدين.

وبهذه المناسبة نشير إلى أن الإمامية حين يقولون في كتب الفقه: تعطى الزكاة للمؤمن، ويصلى خلف المؤمن فإنهم يريدون به خصوص الإمامي الاثني عشري، وقد أجازوا الوقف والوصية، وإعطاء الصدقات غير الواجبة، أجازوا إعطاءها للمسلمين وغير المسلمين، الفقراء منهم والأغنياء على السواء. وقد روي عن أهل البيت جواز الصدقة على اليهودي والنصراني والمجوسي.

الأئمة الاثنا عشر:

قال الشهيد الثاني في رسالة «حقائق الإيمان»:

«إن التصديق بإمامة الاثني عشر إماماً أصل من أصول الإيمان عند الطائفة المحقة الإمامية، حتى أنه من ضرورات مذهبهم، دون غيرهم، فإنه عندهم من الفروع، ثم إنه لا ريب أنه يشرط التصديق بكونهم أئمة يهدون بالحق، وبوجوب الانقياد إليهم في أوامرهم ونواهيهم، إذ الغرض من الحكم بإمامتهم ذلك، فلو لم يتحقق التصديق بذلك لم يتحقق التصديق بكونهم أئمة معصومين مطهرين عن الرجس، كما دلت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والتصديق بكونهم منصوصاً عليهم من اللّه تعالى ورسوله.

وإنه لا يصح خلو العصر عن إمام منهم، وإن خاتمتهم المهدي صاحب الزمان، وإنه حي إلى أن يأذن اللّه».

ويكتفي الشهيد الثاني أن يعتقد الشخص بإمامة من مضى من الأئمة إلى إمام زمانه، فمن كان في عهد أمير المؤمنين يكفيه الإيمان بإمامته وحده، ومن كان في زمن الحسن يكفيه الإيمان بإمامة الاثنين، وهكذا يعتقد الإنسان بإمامة من تقدم، وإن لم يعتقد بإمامة الباقين الذين وجدوا، وانتهت إليهم الإمامة بعد انقراض زمن السابق.

ثم قال: «اعلم أن من مشاهير الأحاديث بين السنة والشيعة أن من مات، ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية، ونحن بحمد اللّه نعرف إمام زماننا في كل وقت، فلم يمت أحد من الإمامية ميتة جاهلية، بخلاف غيرنا، فإنهم لو سئلوا عن إمام زمانهم لسكتوا، ولم يجدوا إلى الجواب سبيلاً.

أما قول بعضهم: إن إمامهم القرآن العزيز، فلا يلتفت إليه، لأن القرآن قد نطق بأن الإمام غيره، قال عز من قائل: «أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» على أنه لو سلم ذلك

١٠٣

للزم اجتماع إمامين في زمان واحد، وهو باطل بالإجماع منا ومنهم، كما صرحوا به في كتب أصولهم. ذلك أنهم قالوا بأئمة الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في وقت وجود القرآن فيلزم ما ذكرناه من اجتماع إمامين في وقت واحد».

الإمامَة بَين شَيْخ الشِّيعَة وَشَيْخ المُعتَزلة

ألف القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة كتاباً أسماه «المغني» بذل فيه نشاطاً بالغاً لتفنيد أقوال الإمامية في الإمامة، وأورد فيه من الشبهات ما أسعفه الفكر والخيال، وقد انطوى الكتاب على أخطاء، وتمويهات تخدع البسطاء والمغفلين، فتصدى لنقضه الشريف المرتضى في كتاب ضخم أسماه «الشافي»، وقد جاء فريداً في بابه، وصورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه - على الأصح -. عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها، كمبدأ ديني، واجتماعي وسياسي.

وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنها ضرورة دينية، واجتماعية، وأن علياً هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول، وأن من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام. ذكر الشريف جميع الشبهات التي قيلت، أو يمكن أن تقال حول الإمامة، وأبطلها بمنطق العقل والحجج الدامغة، كما أشار إلى فضائل الإمام، ومثالب غيره.

ولا أغالي إذا قلت: إن كتاب الشريف هو أول كتاب شافٍ كافٍ في الدراسات الإسلامية الإمامية، بحيث لا يستغني عنه من يريد الكلام في هذا الموضوع، وبحثه بحثاً موضوعياً. وليس من شك أن العلامة الحلي قد عنى كتاب «الشافي» حين قال مقرظاً الشريف: «بكتبه استفاد الإمامية منذ زمنهرحمه‌الله إلى زماننا - بل وإلى آخر زمان - وهو أي الشريف ركنهم ومعلمهم قدس اللّه روحه، وجزاه عن أجداده خيراً».

والشيء الذي يؤسف له هذا الداء الساري في جميع كتبنا نحن الإمامية من رداءة الطباعة، وسوء الإخراج، وعدم الترتيب والتبويب. بخاصة كتاب «الشافي» فإنه على ضخامته - يبلغ ألف صفحة أو أكثر بقطع هذا الكتاب - لا يعرف له أول من آخر لولا الابتداء بالبسملة، والانتهاء بسؤال التوفيق. فقد دمج قول القاضي والشريف، حتى كأنهما حرفان متماثلان قد أدغم أحدهما بالآخر، أو خيوط من نسيج قد حيك منها ثوب واحد.

١٠٤

واليوم نشاهد نشاطاً ملحوظاً لإحياء التراث القديم، ونشره بحلة جديدة(١) وليس من شك أن حركة النشر ستشمل كتاب «الشافي» الكافي، وتخرجه إخراجاً جميلاً، ولو عرف الناشرون والقراء قيمة هذا الكتاب، وما فيه من كنوز وحقائق لاستبقوا إليه، ولم يفضلوا عليه كتاباً أي كتاب.

ومن المفيد أن نذكر أمثلة من فوائده الجمة بعبارة أوضح وأصرح، مع ما يناسب المقام من التنبيه والتعليق.

النبي والإمام:

قال القاضي في كتاب «المغني»: إن العصمة والأفضلية على الناس أجمعين من صفات النبي، فلو أعطيت للإمام لكان نبياً.

قال الشريف المرتضى في كتاب «الشافي»: لم يكن النبي نبياً، لأنه أفضل ومعصوم، وكفى، بل لأنه يؤدي عن اللّه بلا واسطة، أو بواسطة الروح الأمين، والإمام، وان كان معصوماً وأفضل فإنه يؤدي عن النبي، لا عن اللّه فالفرق موجود وظاهر.

الإمام والكون:

قال القاضي: إن من الإمامية من يقول: لولا الإمام لما قامت السماوات والأرضون، ولما قبل من عبدٍ عملاً.

قال الشريف: إن هذا القول لا نعرفه لأحد من الإمامية قديماً وحديثاً.

_____________________

(١) لا أرى رجلاجاً مفيداً لهذه النشرات والهجمات المتوالية على الشيعة والتشيع في أيامنا هذه إلا بنشر تراث المفيد والشريف والحلي والطوسي بحلة جديدة مع شرحها أو التعليق عليها، وأن يتفرغ أيضاً للكتابة في الموضوعات الشيعية عشرون عالماً على الأقل، لهم الكفاءات والمؤهلات للتأليف بلغة العصر وتفكيره، على أن يقفل باب الكتابة والتأليف في وجه المتطفلين والمشوهين.

١٠٥

التشيع والإلحاد:

قال القاضي: إن كثيرين ممن أظهروا التشيع وناصروه كانوا ملحدين، ومن أعدى أعداء الإسلام، غير أنهم تستروا وتسلقوا بالإسلام لغاية الكيد والطعن، إذ لو أظهروا الإلحاد لم يقبل منهم.

نطق القاضي عبد الجبار بهذه الفرية في القرن الرابع الهجري، وهو أعدى أعداء الشيعة والتشيع، قالها بقصد الكيد والتنكيل. وبعد ألف سنة أو أكثر اعتمدها أحمد أمين، وقال في فجره وضحاه: كل من أراد الكيد للإسلام كان يتستر باسم التشيع. استقى أحمد أمين وغيره آراءهم في الشيعة من أعداء الشيعة، دون أن يرجعوا إلى مصادر الشيعة، ودون أن يمحصوا ويحققوا أقوال خصومهم فوقعوا في الأخطاء الفاحشة عن قصد أو غير قصد. وإذا كانت هذي حال مؤلفات أحمد أمين ومن إليه تستقي رأيها في عقيدة الشيعة من خصوم الشيعة، وتقبل الادعاء بلا بينة فهل يجوز أن يعتمدها من يطلب الحقيقة، ويتوخى الصواب ؟

والذي ظهر لي بالتتبع، واعتقدته بالدليل أن الذي حمل عبد الجبار وغيره على هذه الفرية أنهم حين عجزوا عن رد، وإبطال ما قاله الشيعة في الإمامية لجأوا إلى هذا الكذب والاختلاق، شأنهم في ذلك شأن كل مبطل ضعيف يتذرع بالحيل، وسبل التضليل.

ومما رد به الشريف على القاضي بأنه لا يجوز بحال أن نضيف الإلحاد إلى من لم يتظاهر به، ولو جازت نسبة الإلحاد إلى أحد من رجال الشيعة لجازت نسبته إلى القاضي عبد الجبار، وإلى أبي الهذيل والجاحظ الذي اختلطت أقواله، وتضاربت مؤلفاته تضارباً يدل على شك عظيم، وإلحاد شديد، وقلة تفكير واكثراث بالدين.

وأضيف إلى قول الشريف بأن كتب الجاحظ لو كانت لعالم من الشيعة لاتخذ الخصوم منها دليلاً وذريعة إلى ضلال التشيع، وكفر الشيعة إطلاقاً، وجعلوها أعظم وأشهر من قميص عثمان.

النص على أمير المؤمنين:

قسم الشريف النص على أمير المؤمنين علي إلى قسمين: نص بالفعل والقول، ونص بالقول فقط، ثم النص الثاني قسمه إلى قسمين: نص جلي، وآخر خفي، قال:

«ورد النص بالإمامة على أمير المؤمنين بعد النبي، ودل على وجوب طاعته، ولزومها لكل مكلف، وينقسم النص عندنا في الأصل إلى قسمين: أحدهما يرجع إلى الفعل، ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل.

١٠٦

فأما النص بالقول والفعل فهو ما دلت عليه أفعالهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله المبينة لأمير المؤمنين من بين الأمة الدالة على استحقاقه من التعظيم والإجلال، والاختصاص بما لم يكن حاصلاً لغيره، كمؤاخاته، وإنكاحه سيدة النساء ابنته، وإنه لم يولِّ عليه أحداً من الصحابة، ولا ندبه لأمر، أو بعثه في جيش إلا كان هو الوالي عليه، والمقدم فيه، وإنه لم ينقم عليه مع طول الصحبة، وتراخي المدة شيئاً، ولا أنكر منه فعلاً، ولا استبطأه في صغير ولا كبير من الأمور، مع كثرة ما توجه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جماعة من الأصحاب من العتب تصريحاً، أو تلويحاً، وقوله فيه علي مني وأنا من علي، وعلي مع الحق، والحق مع علي، واللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، إلى غير ذلك من الأقوال والأفعال الظاهرة التي لا يخالف فيها ولي ولا عدو، وذكر جميعها يطول، وكل هذه الأفعال والأقوال تشهد باستحقاقه الإمامة، ونبهت على أنه أولى بمقام الرسول، لأنها كما دلت على التعظيم والاختصاص فقد دلت أيضاً على قوة الأسباب إلى أشرف الولايات، لأن من كان أعظم فضلاً، وأعلى في الدين مكاناً فهو أولى بالتقديم، وأقرب وسيلة إلى التعظيم، ولأن العادة فيمن يرشح لشريف الولايات، ويؤهل لعظيمها أن يصنع به، وينبه عليه ببعض ما ذكرناه.

أما النص بالقول دون الفعل فينقسم إلى قسمين: جلي، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله سلموا على علي بإمرة المؤمنين، وهذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا(١) .

وأما النص الخفي فكقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ومن كنت مولاه فعلي مولاه. والفرق بين النص الجلي والنص

_____________________

(١) انظر تاريخ الطبري وتفسيره، والبغوي والثعلبي في تفسيره، والنسائي في خصائصه، وصاحب السيرة الحلبية (أعيان الشيعة ج ٣ قسم أول ص ١١٠).

١٠٧

الخفي أن الأول يعلم منه المعنى بالضرورة، وبدون حاجة إلى الاستدلال والمقدمات، كما لو قلت: هذا أخي. فإنه يدل على الأخوة ابتداء وبلا واسطة، والثاني يحتاج إلى الاستدلال وترتيب مقدمات، كما لو قلت: أنا وأنت كالحسنين. والحسنان أخوان فنحن أخوان.

وقال القاضي معترضاً على وجود النص: لو كان النص من النبي على علي موجوداً حقاً لعلم به جميع المسلمين بالضرورة تماماً كما علموا بنبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله التي لم يختص العلم بها بفريق دون فريق من المسلمين، ولا يمكن بحال أن يخفى هذا النص، ولا يظهر للناس كالشمس، لأنه تماماً كالنص على وجوب الصلاة إلى الكعبة، وصوم شهر رمضان، وما إليه من النصوص التي وجدت وعلمت بالضرورة، ولم يقع فيها شك ولا ريب، وبكلمة إن عدم علم الجميع بالنص دليل على عدمه.

وتتجلى عظمة الشريف في الجواب عن هذه الشبهة التي تشدق بها الأولون، وورث الاجترار بها المتأخرون. ويتلخص جوابه رضوان اللّه عليه بما يلي:

١ - لا نسلم أن وجود النص على الإمام يستدعي علم المسلمين جميعاً بالضرورة، فلقد نص النبي على أشياء كثيرة خفيت علينا أحكامها، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ في كل يوم بمرأى من المسلمين، حتى كرر الوضوء أمامهم ألوف المرات، ومع ذلك اختلف السنة والشيعة في كيفية الوضوء، ووجوب غسل الرجلين ومسحهما، فقال الأولون بالأول، والآخرون بالثاني. ولو كان خفاء النص محالاً لما وقع الخلاف. وإذا جاز أن يكون النص موجوداً على الغسل ومتواتراً مع خلاف الشيعة جاز أن يكون النص على الإمام موجوداً ومتواتراً مع خلاف السنة. وكل ما يقال في حق الشيعة من المكابرة، أو دخول الشبهة عليهم يقال ذلك في حق السنة بالنسبة إلى وجود النص على الإمام، والفرق اعتباط وتحكم.

٢ - إن أبا حنيفة لم يثبت عنده إلى ١٧ حديثاً، وإن فرقة من الخوارج أبطلت كل حديث يخالف مذهبها، ولم تسلم بأي حديث إلا عن الوجه الذي تذهب إليه. فهل يدل هذا على أن النبي لم يحدث إلا ١٧ حديثاً، أو أنه لم يحدث إلا بما يتفق مع مذهب هؤلاء الخوارج ؟

٣ - إنه لا غرض لأحد في إخفاء، أو تكذيب النص على الكعبة، وإيجاب الصوم، وما إليه لا في عهد الخلفاء الأولين، ولا في عهد الأمويين والعباسيين، لأن هذا النص لا يتصل بالسياسة والمسوس من قريب أو بعيد.

١٠٨

أما النص على علي بالخلافة فإنه إبطال صريح لرياسة من تقدم وتأخر، والحكم بظلمه وعدوانه، لذا كان راويه معرضاً للتكذيب والتعذيب، كما حدث بالفعل لأبي ذر وعمار وميثم التمار وحجر بن عدي، وعمر بن الحمق وغيرهم. إذن قياس النص على الإمام بالنص على الكعبة ونحوه قياس مع وجود الفارق، لأن دواعي الظهور متوافرة في الثاني، دون الأول، بل قد توافرت فيه دواعي الخفاء بكاملها، كحسد الإمام على عظمته ومنزلته من اللّه والرسول، والحقد عليه لما فعل، ولمن قتل على الشرك من أقارب المنكرين وأرحامهم يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين.

ولاية علي:

قال القاضي: إن النصوص التي استدل بها الشيعة كلها خفية لا تدل صراحة على خلافة علي وإمامته، بل تحتمل التأويل والتفسير بخلاف قصدهم. من ذلك قوله تعالى: «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»، حيث نزلت بعلي حين تصدق بخاتمه، وهو راكع.

ومن السنة قول النبي يوم الغدير «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فمن الجائز أن يريد بالولي في الآية والحديث الحب والمودة دون الحكم والسلطان.

وقد ردد هذا القول شيوخ من بعد عبد الجبار تقليداً وتعصباً لأسلافهم، واتخذوا من أقوالهم حجة ودليلاً.

وقال الشريف: إن عدم ثبوت النص الجلي عند القاضي عبد الجبار وأمثاله من خصوم الشيعة لا يستدعي عدم صدوره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا عدم ثبوته عند العلماء المنصفين، إذ المعول في ثبوت النص على نقل الثقات الذين تثبت السنة النبوية بنقلهم، وقد نقل لنا وللأجيال من لا يشك بصدقه النصوص الجلية الواضحة، كحديث أيكم يبايعني يكن أخي ووصيي وخليفتي عليكم، وقول علي أنا يا رسول اللّه، وجواب النبي له أنت أخي ووصيي وخليفتي. وذلك حين نزل قوله سبحانه وتعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين».

أما الولاية في الآية المتقدمة فيتعين حملها على الطاعة وتدبير الشؤون بدليل أنك إذا قلت: فلان ولي هذه المرأة يفهم من قولك هذا أنه يملك العقد عليها، وإذا قلت: هؤلاء أولياء المقتول فمعناه أنهم الذين يحق لهم المطالبة بدمه، وكذلك إذا قلت: هذا ولي الرعية، وولي عهد المسلمين يفهم أنه يدير أمورهم، ويدبر شؤونهم، وحمل اللفظ على غير هذا المعنى الظاهر يحتاج إلى دليل، وهو منفي في الآية الكريمة، فيتعين تفسير الولاية بالمعنى الظاهر، وهو الحكم والسلطان.

١٠٩

أما حديث الغدير فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يقول: من كنت مولاه إلخ.. استخرج من أمته الإقرار بفرض الطاعة له، وذلك حيث قال أولاً: ألست أولى بكم من أنفسكم، وهذا القول وإن كان مخرجه الاستفهام فإن المراد به التقرير، تماماً كقوله تعالى: «ألست بربكم» فلما أجابوه بالاعتراف رفع بيد أمير المؤمنين، وقال عطفاً على ما تقدم: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».

فوجب، والحال هذه، أن يريد المعنى المتقدم الذي قررهم به، كما يقتضيه سوق الكلام، واستعمال أهل اللغة وعرفهم في خطاباتهم وأساليبهم، وإذا ثبت أنه أراد ما ذكرناه من كون أمير المؤمنين أولى بالإمامة من أنفسهم، فقد وجبت له الإمامة من فرض طاعته عليهم، ونفوذ أمره ونهيه فيهم.

دُول الشِّيعَة

أشرنا في مطاوي ما تقدم إلى أن الفتوح الإسلامية كان القصد الأول منها السيطرة، وامتداد السلطان، وإيجاد أرض للمسلمين يعيشون فيها أغنى من أرضهم، وتربة أخصب من تربتهم، وأن انتشار الإسلام يستند قبل كل شيء إلى تعاليمه ومبادئه الإنسانية، وإذا كان للدولة من تأثير فهو التمهيد والتيسير، حيث لا يعيش معتنقو الدين الجديد في قلق وخوف من أجل دينهم وعقيدتهم. اللهم إلا إذا اعتنقوا مذهب التشيع، وأعلنوا الولاء لعلي وأهل بيته، بخاصة في عهد الأمويين.

حاول الأمويون القضاء على التشيع كلية، وأراد العباسيون أن يحدوا من نموه وانتشاره بعد العجز واليأس عن استئصاله، ولكنه نما وازدهر، رغم هذه العوائق، ثم مضى الزمن، وقامت هنا وهناك دول للشيعة، منها دولة الأدارسة في المغرب ودولة العلويين في الديلم. والبويهيين في العراق وغيرها، والحمدانيين في سورية، والفاطميين في مصر، والصفويين في إيران.

وسنشير فيما يلي إلى كل واحدة من هذه الدول، وما كان لها من تأثير في انتشار التشيع، والموضوع، كما ترى، طويل عريض، يقتضي بحثاً مفصلاً. ولكنا سنكتفي بالقدر الذي يجعل القارئ على علم بمكان هذه الدول في التاريخ.

١١٠

دَولَة الأدَارسَة

كان من ظلم العباسيين، ومطاردتهم لأبناء علي أمير المؤمنين أن خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب، وكان معه جماعة من أهل بيته، منهم إدريس، ويحيى، وسليمان بنو عبد اللّه بن الحسن، فاشتد أمر الحسين في بدء الأمر، وطرد من المدينة عامل الهادي العباسي حفيد المنصور، وبايع الناس الحسين على كتاب اللّه وسنة نبيه، وأقام وأصحابه بالمدينة أياماً يتجهزون، ثم خرجوا إلى مكة للحج، فقابله هناك جيش الحاكم العباسي يوم التروية الثامن من ذي الحجة، فقتل الحسين وجماعة من أهل بيته وأصحابه، وجمعت رؤوسهم فكانت مائة ونيفاً، وكان بينها رأس سليمان بن عبد اللّه بن الحسن المثنى، وكان مقتلهم بموضع يقال له فخ على ثلاثة أميال من مكة سنة ١٦٩ هجري، وإلى ذلك يشير دعبل في تائيته الذائعة النائحة، كما قال عبد الرحمن الشرقاوي:

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلاة

قبور بكوفان وأخرى بطيبة

وأخرى بفخ نالها صلوات

يحيى:

أما يحيى فإنه فر من الوقعة المذكورة إلى بلاد الديلم(١) ، ودعا الناس إلى بيعته فبايعوه، واشتد أمره، وقويت شوكته، فجهز له الرشيد جيشاً ضخماً بقيادة الفضل بن يحيى البرمكي، فكاتبه الفضل، وبذل له الأمان، وكل ما يختار فآثر حقن الدماء، وأجاب الفضل بعد أن أخذ اليمين المغلظة من الرشيد بخطه، وأشهد العلماء والأكابر، وحضر يحيى إلى بغداد، فأكرمه الرشيد،

_____________________

(١) تقع بلاد الديلم على شواطئ بحر قزوين، وتشمل كوكان ومازندران، وطرفاً من رشت.

وأعطاه مالاً كثيراً، ثم غدر به.

١١١

إدريس:

وأما إدريس بن عبد اللّه بن الحسن فإنه فر من وقعة فخ إلى مصر، وكان على بريدها يومئذ رجل يتشيع لآل البيت، اسمه واضح، فعلم بإدريس، فأتاه إلى الموضع الذي كان مستخفياً فيه، وعرض عليه خدماته، ولم ير شيئاً أخلص له من أن يحمله على البريد إلى المغرب، ففعل، ولحق إدريس بالمغرب الأقصى(١) فنزل بمدينة تدعى «وليلة»، وكان فيها عامل للعباسيين اسمه إسحاق بن محمد بن عبد الحميد، فأجار إدريس وأكرمه وخلع طاعة العباسيين، وانتهى الخبر إلى الرشيد بما فعله واضح في شأن إدريس، فقتله وصلبه.

واجتمعت عليه القبائل من كل وجه ومكان، وكان أول من بايعه قبيلة أوربة، وهي يومئذ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الأقصى، وأكثرها عدداً، ثم تلتها سائر القبائل، فبايعوه ودخلوا في طاعته، وعظموه وقدموه على أنفسهم، فاستتب أمره، وتمكن سلطانه.

الغزو:

ولما تم له الأمر اتخذ جيشاً كثيفاً من وجوه البربر الأشداء، وخرج غازياً بلاد تامسنا، وبلاد تادلا، ففتح المعاقل والحصون، وكان أكثر أهل هذه البلاد على دين اليهودية والنصرانية، فأسلم جميعهم على يده.

ثم رجع إلى عاصمته «وليلة» واستراح برهة، ثم استأنف الغزو على من بقي من قبائل البربر على غير دين الإسلام، وكانوا متحصنين في المعاقل والجبال المنيعة، فلم يزل يجاهدهم، ويستنزلهم من معاقلهم، حتى دخلوا في الإسلام.

وقفل راجعاً إلى مقره ريثما استراح جيشه، ثم كرّ غازياً على تلمسان، فخرج إليه صاحبها مستأمناً ومبايعاً، فأمنه إدريس، وقبل بيعته، ودخل المدينة، وبنى فيها مسجداً متقناً، وأمر بعمل منبر نصبه فيه، وكتب عليه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به الإمام إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي

_____________________

(١) المغرب الأقصى مراكش، والمغرب الأوسط الجزائر، أما تونس فتعد من إفريقيا.

١١٢

ابن أبي طالب، وذلك في صفر سنة ١٩٤» قال ابن خلدون: «واسم إدريس مخطوط في صفحة المنبر لهذا العهد».

وبلغت أخبار إدريس هارون الرشيد ببغداد، فخاف عاقبة ذلك، وأيقن أنه إذا لم يتدارك أمره الآن عجز عنه في المستقبل، وغزاه في عقر داره مع ما يعلم من فضل إدريس، ومحبة الناس لأهل البيت عموماً فدس إليه رجلاً يعرف باسم الشماخ، وزوده بالمال والسم، وأوصاه أن يتظاهر بالتشيع للعلويين، ويتقرب إلى إدريس بشتى الطرق، ثم يغتاله بالسم، ورحل الشماخ إلى إدريس مظهراً الهرب إليه فيمن هرب من جور الرشيد، فعطف عليه إدريس ورحمه، وكان الشماخ ممتلئاً من الأدب والظرف والبلاغة، فأنس به إدريس واطمأن إليه، وشكا إدريس ذات يوم من علة في أسنانه، فأعطاه الشماخ دواء مسموماً، ثم اختفى، فسقطت أسنان إدريس، ومات سنة ١٧٧ رحمة اللّه عليه، وقيل سنة ١٧٥.

وكان فاضلاً في ذاته مالكاً لشهواته، مؤثراً العدل، مقبلاً على أعمال البر(٢) .

إدريس الثاني:

مات إدريس، ولم يترك ولداً إلا حملاً من جارية بربرية، اسمها كنزة، وكان له مولى يدعى راشداً، وكان كاسمه عاقلاً أميناً، وشجاعاً كريماً، فجمع راشد رؤساء البربر، ووجوه الناس، وقال لهم: إن رأيتم أن تصبروا، حتى تضع هذه الجارية حملها، فإن كان ذكراً أحسنا تربيته، حتى يبلغ مبلغ الرجال، وبايعناه تمسكاً بدعوة آل البيت، وتبركاً بذرية الرسول، وإن كان انثى نظرتم لأنفسكم.

_____________________

(١) هذه الجملة وردت بالحرف في كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، وقال جرجي زيدان في الجزء الرابع من تاريخ التمدن الإسلامي: وتلقى الشيعة في المغرب إدريس وبايعوه. يدل هذا على أن التشيع كان في المغرب منذ وصول الإسلام إليه.

(٢) الجزء الأول من كتاب «البيان المُغرب في أخبار المَغرب» لابن عذاري المراكشي، والجزء الأول من «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لأبي العباس الناصري، وكتاب «مختصر تاريخ العرب» للسيد مير علي.

١١٣

فقالوا له: ما لنا رأي إلا ما رأيت، وأنت عندنا عوض عن إدريس، حتى تلد الجارية حملها، ويكون ما أشرت، على أنها إن وضعت جارية كنت أحق الناس بهذا الأمر، لفضلك وعلملك ودينك.

وولدت الجارية ذكراً، فسماه راشد إدريس، وقام بأمره أحسن قيام، فأقرأه القرآن، حتى حفظه، وهو ابن ثماني سنوات، ثم علمه الحديث والسنة والفقه والعربية، ورواه الشعر وأمثال العرب، وعرفه أيام الناس والملوك، ودربه على ركوب الخيل والرمي بالسهام، ولم يمض له من العمر ١١ سنة إلا وقد اضطلع بما حمل، وترشح للأمر، وبايعه البربر عن طاعة منهم وإخلاص.

ولما استقام أمر المغرب لإدريس الثاني وفدت عليه الوفود من سائر البلدان، وتسامع به العرب، فأقبلوا إلى حضرته من إفريقيا والأندلس ملتفين حوله، حتى اجتمع لديه منهم ٥٠٠ فارس من قيس والأزد ومذحج وغيرهم، فأكرم وفادتهم، وأجزل صلتهم، وأدنى منزلتهم، وأسند إليهم الكثير من مناصب الدولة.

مدينة فاس:

لما كثرت الوفود على إدريس الثاني من العرب وغيرهم، وضاقت بهم مدينة «وليلة» بنى مدينة فاس، وأنشأ فيها المدارس والجوامع والأسواق، وأمر الناس بالبناء، وقال: من بنى موضعاً أو غرسه فهو له، فبنى الناس كثيراً، وغرسوا كثيراً، ووفد عليه جماعة من الفرس، فأكرمهم وأنزلهم بغيضة هناك بنوا فيها واستوطنوا.

ولما فرغ من بناء المدينة ذهب في الجمعة الأولى إلى الجامع، وصعد المنبر يخطب الناس، ورفع يديه في آخر الخطبة، وقال:

«اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها، ويتلى بها كتابك، وتقام بها حدودك، وشرائع دينك، وسنة نبيك ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها للخير، وأعنهم عليه، واكفهم مؤونة أعدائهم، وأدرر عليهم الأرزاق، واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق. إنك على كل شيء قدير».

فأمن الناس على دعائه، فكثرت الخيرات بالمدينة، وظهرت البركات.

ومن محاسن فاس أنها كثيرة الأشجار، يشقها نهر نصفين، وتتشعب منه جداول تجري في الدور والحمامات والشوارع والأسواق، وفي أكثر بيوتها تتفجر العيون، وتنبع الينابيع بداخلها، واتخذت فاس عاصمة الملك، وكان ابتداء بنائها سنة ١٩٣.

١١٤

الغزو:

لما فرغ إدريس من بناء مدينة فاس، واتخذها دار ملكه اتجه إلى الغزو، فذهب إلى بلاد المصامدة واستولى عليها، وأبدى إدريس من البسالة والمهارة ما حير الألباب، قال بعض من شهد معه الغزاوات، حاربنا الخوارج الصفرية من البربر، وكانوا ثلاثة أضعافنا، فلما تقارب الجمعان نزل إدريس، فتوضأ، وصلى ركعتين، ودعا اللّه، ثم تقدم للقتال. فأعجبني ما رأيت من ثباته، وقوة جأشه، فالتفت نحوي، وقال: مالي أراك تديم النظر إليّ ؟ قال: أعجبني ما أراه من قلبك، وطلاقة وجهك عند اللقاء. قال إدريس: ذاك ببركة جدنا رسول اللّه، ووراثة من أبينا علي بن أبي طالب.

ومات إدريس الثاني سنة ٢١٣ وعمره نحو ٣٦ سنة، وترك ١٢ ذكراً، وهم: محمد، وعبد اللّه، وعيسى، وإدريس، وأحمد، وجعفر، ويحيى، والقاسم، وعمر، وعلي، وداود، وحمزة(١) .

محمد بن إدريس:

واعتلى كرسي الخلافة بعد إدريس الثاني ابنه محمد، وقسم بلاد المغرب بين

_____________________

(١) كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» ومن طريف ما حدث لي مع هذا الكتاب أني بقيت أياماً أبحث في المكتبات وسراديبها عن مصادر لهذا الفصل، وتمنيت لو أجد كتاباً خاصاً بدول المغرب، وكدت أيأس، مع أن عيني كانت تقع في كل يوم على هذا الكتاب الفريد في بابه. ولكني لم أعبأ به، لأنه كتب عليه لفظ «الاستقصاء» بالخط الطويل العريض، وأخبار دول المغرب بالحرف الصغير، وأنا لا أقرأ كل ما على الغلاف، وإنما أكتفي بالاسم الأول، فظننته أجنبياً عن موضوعي، إلى أن رأيت بعض الكتب ينقل عنه، فأسرعت إلى شرائه، وحين قرأته وجدت فيه ضالتي، وللّه الحمد، وآمنت بأن الاسم الأول، والأكبر للكتاب يجب أن يعبر عما فيه.

١١٥

إخوته، حيث أسند إلى كل واحد من الكبار إمارة من إمارات البلاد، وأبقى الصغار في كفالته، فنجحت سياسته هذه نجاحاً باهراً، إذ ظل جميع إخوانه موالين له إلى النهاية ما عدا عيسى والقاسم اللذين تغلب عليهما محمد، وعزلهما عن الإمارة. وتوفي محمد سنة ٢٢١ بعد أن عهد بالأمر لابنه علي.

علي بن محمد:

وسار علي بسيرة أبيه وجده في العدل، وظهرت عليه دلائل الذكاء والفضل، وحسنت في أيامه حال الرعية، وكانوا في أمن ودعة إلى أن توفي سنة ٢٣٤، وعهد بالأمر لأخيه يحيى بن محمد.

يحيى بن محمد:

وامتد سلطان يحيى بن محمد، وعظمت دولته، وحسنت آثاره، واستبحر عمران فاس، وبنيت فيها الحمامات والفنادق، ودخل إليها الناس من الثغور القاصية وبُني في عهده مسجد القرويين المعروف اليوم بجامعة القرويين، وهي جامعة دينية إسلامية تضم المئات من الطلاب، كجامعة النجف في العراق، والأزهر في مصر، وجامع الزيتونة في تونس، وتوفي يحيى بن محمد سنة ٢٦٤، وخلفه ابنه المسمى باسمه.

يحيى بن يحيى:

وأساء يحيى السيرة، وكثر عبثه ولهوه، فتغير عليه أهل فاس، ففر إلى الأندلس، حيث لاقى حتفه.

ولما عزل استولى على الحكم ابن عمه علي بن عمر الذي لم تطل أيامه، إذ اضطرته ثورة الخوارج إلى الفرار.

فبايع الناس يحيى حفيد إدريس الثاني، فنجح إلى حين في نشر سلطانه، وفي سنة ٣٠٥ زحف مصالة قائد عبيد اللّه المهدي الخليفة الفاطمي الأول، زحف إلى فاس وحاصرها، فصالحه يحيى على مال يؤديه إليه، وعلى البيعة لعبد اللّه المهدي، وخرج الملك من يده (الاستقصا ج ١).

وقال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب»: إن سلطان الأدارسة توزع بين الفاطميين والأمويين بالأندلس، فالقسم الشرقي من مراكش سقط في أيدي الفاطميين، والغربي في أيدي الأمويين.

وللأدارسة في المغرب أعمال جليلة، فبهم انتشر الإسلام هناك، حتى بلغ أقاصي البلاد، وازدهرت العلوم والحضارة، وتحضر أهل البوادي والجبال، فلقد أنشأوا المدن الواسعة، وبنوا

١١٦

المساجد، وأقاموا الجامعات والكليات، وعم في عهدهم العدل والأمن والرخاء، قال المستشرق «سيديو» في كتاب «تاريخ العرب العام» ص ٢٧٨ طبعة ١٩٤٨:

«ظل الأدارسة قابضين على ما ملكوه من سنة ٨٠٣ إلى سنة ٩٤٩ م مقيمين في البلاد التي هي مدينة لهم بجليل الأعمال، فأسسوا مدينة فاس التي أضحى مسجدها مقدساً لدى جميع الأهالي المجاورين، ونال شهرة عظيمة في زمن قليل، واشتملت مدينة فاس على مدارس ومكتبات تساوقت هي والحركة العلمية التي حمل لواءها بنو العباس في المشرق، وغدت مستودعاً تجارياً واسعاً بين عرب إسبانيا وعرب إفريقيا».

دَولَة العَلويّين

في سنة ٢٥٠ ظهر في طبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وبايعه الناس، واستمر في الحكم ١٩ سنة، وبضعة أشهر وقام من بعده أخوه محمد، وبقي في الولاية ١٧ عاماً وبضعة شهور.

قال السيد الأمين في الجزء الخامس والأربعين من الأعيان ص ١٤١ طبعة سنة ١٩٥٩:

كان محمد هذا إذا افتتح الخراج نظر إلى بيت المال، وما فيه من خراج السنة الماضية ففرقه في قبائل قريش، ثم في الأنصار، وأهل القرآن والفقهاء، وسائر طبقات الناس، حتى لا يبقى منه درهم.

وفي ذات يوم جلس يوزع الأموال، فقام إليه رجل.

فقال له: من أي قبيلة أنت؟

قال: من بني عبد مناف.

قال محمد: من أي عبد مناف؟

قال الرجل: من بني أمية.

قال محمد: من أي رجل منهم؟ فسكت.

قال محمد: لعلك من ولد معاوية؟

قال الرجل: نعم.

قال محمد: فمن أي ولده؟ فسكت.

١١٧

قال: لعلك من ولد يزيد؟

قال الرجل: نعم.

فنظر العلويون إليه شزراً. فصاح بهم محمد، وقال: لعلكم تظنون أن في قتله إدراكاً لثأر أبي الحسين؟ إن اللّه سبحانه قد حرم أن تطالب نفس بغير ما كسبت. ثم أن محمداً حدث جلساءه بهذا الحديث:

قال: حدثني أبي عن أبيه ان المنصور كان بمكة في سنة من السنين، فعرضت عليه جواهر كانت عند هشام بن عبد الملك، فقال: بلغني أن عند محمد بن هشام جواهر غير هذه، وكان محمد بن هشام حاجاً في تلك السنة، فانتظر المنصور، حتى اجتمع الناس في الكعبة، فأمر وزيره الربيع أن يغلق جميع الأبواب، ويوكل بها من يطمئن إليه، ويبقي باباً واحداً، يقف عليه الربيع، ولا يدع أحداً يخرج إلا من يعرفه حق المعرفة، إما شخصياً، أو بشهود.

وفعل الربيع ذلك، وكان ابن هشام في الكعبة، فعرف أنه هو المطلوب، فذعر وخاف، واضطرب أيما اضطراب، فرآه محمد بن زيد بن علي بن الحسين على تلك الحالة، وهو لا يعرفه، فسأله عن شأنه، فقال الأموي: ألي الأمان إن أخبرتك؟

قال السيد العلوي: نعم، وأنت في ذمتي، حتى أخلّصك.

فقال الأموي: أنا محمد بن هشام بن عبد الملك، فمن أنت؟

قال العلوي: أنا محمد بن زيد بن علي بن الحسين.

فازداد خوف الأموي، وقال: عند اللّه أحتسب نفسي.

قال السيد العلوي: لا بأس عليك، وسأعمل لخلاصك، على أن تعذرني في مكروه أتناولك به.

قال الأموي: أنت وذاك.

فنزع السيد العلوي رداءه، وطرحه على رأس الأموي ووجهه، وأخذ يجره من خلفه، حتى إذا وصل إلى الباب، جعل العلوي يضرب رأس الأموي، ويقول للربيع: يا أبا الفضل إن هذا الخبيث جمّال من أهل الكوفة، أكراني جماله ذهاباً وإياباً، ولكنه هرب مني، وأكرى جماله لغيري، فأعطني رجلين يحرسانه، حتى يؤدي إليّ حقي. فأعطاه الربيع شرطيين، فمضيا معه، فلما بعد عن المسجد، قال له العلوي: يا خبيث تؤدي إليَّ حقي؟

١١٨

قال الأموي: نعم يا ابن رسول اللّه. فقال للحارسين: انطلقا عنه. ثم أطلقه، فقبل الأموي رأس العلوي، وقال: بأبي أنت وأمي، اللّه أعلم حيث

يجعل رسالته، ثم أخرج جواهر ودفعها إليه، وقال: أرجو أن تشرفني بقبولها.

قال: نحن أهل بيت لا نقبل على المعروف ثمناً، وقد تركت لك أعظم من هذا، وهو دم أبي زيد الذي قتله أبوك هشام، فانصرف ووارِ شخصك.

ولا بدع إذا عفا حفيد أمير المؤمنين عن ابن قاتل أبيه، فجده من قبل صفح عن ألد أعدائه ابن العاص، وابن أرطأة، وابن الحكم، وصاحبة الجمل، وأوصى بقاتله خيراً.

ولما توفي محمد بن زيد تولى من بعده الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي ابن الحسين المعروف بالأطروش، وأقام في الحكم ١٣ سنة يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يده خلق كثير، وذهبوا مذهب التشيع، وبنى المساجد والمعابد(١) .

وفي كتاب «الأدب في ظل بني بويه» ص ١٥ أن أهل الديلم كانوا وثنيين، مع أن بلادهم افتتحت منذ عهد عمر بن الخطاب، وقد استمروا خاضعين للحكم الإسلامي مع بقائهم على وثنيتهم، حتى حل بينهم الحسن بن علي الأطروش، فدخلوا في الإسلام، واعتنقوا مذهب التشيع على يده.

وقال المسعودي في آخر الجزء الرابع من كتابه «مروج الذهب»: أقام الأطروش في الديلم والجبل سنين، وهم جاهلية، ومنهم مجوس، فدعاهم إلى اللّه، فاستجابوا، وأسلموا إلا قليلاً منهم في مواضع من بلاد الجبل، والديلم جبال شاهقة، وقلاع وأودية، ومواضع خشنة، وقد بنى الأطروش في بلادهم المساجد.

وقتل سنة ٣٠٤ هجري، فقام بعده صهره الحسن بن القاسم العلوي، وقتل سنة ٣١٦، وبه انتهت هذه الدولة العلوية التي استمرت ٦٧ سنة، وبسببها أسلمت وتشيعت بلاد الديلم.

_______________________

(١) تاريخ الشيعة للشيخ محمد الحسين المظفر.

١١٩

دَولَة البويهيّين

من هم بنو بويه:

إن قصة بني بويه تشبه الخرافات والأساطير، وأي إنسان يقرأ أن رجلاً فقيراً لا يملك، ولا يقدر على شيء وينقل الحطب على رأسه من الجبال إلى البيوت ليحصل على الرغيف يقفز من حاله هذه إلى الملك الطويل العريض، والسيطرة على بلاد العرب والعجم، أي إنسان يقرأ هذا، ولا يراه أسطورة وخرافة؟ ولكن هذا ما حصل بالفعل لآل بويه.

كان في أوائل القرن الرابع الهجري في بلاد الديلم رجل فقير يدعى «أبو شجاع بويه» ماتت زوجته، وخلفت له ثلاثة بنين، وهم أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسن أحمد، فاشتد حزنه، وضاقت به الأرض، فقال له أحد أصحابه يعزيه ويسليه: ارفق بنفسك، وأولادك هؤلاء المساكين، ثم أخذه مع أولاده إلى منزله، وهيأ لهم الطعام، وشغل أبا شجاع عن مصابه وآلامه.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢١:

فبينما هم كذلك إذ مر رجل يصيح ويقول عن نفسه: منجم، ومفسر للمنامات، ويكتب الرقى والطلسمات.

فدعاه أبو شجاع، وقال له: رأيت في منامي كأنني أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت، حتى كادت تبلغ السماء، ثم صارت ثلاث شعب، وتفرع عن كل شعبة عدة شعب، فاضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لها.

فقال المنجم: هذا منام عظيم لا أفسره إلا بخلعة.

فقال له أبو شجاع: واللّه لا أملك إلا الثياب التي على جسدي، فإن اخذتها

بقيت عرياناً.

قال المنجم: فعشرة دنانير.

قال أبو شجاع: واللّه لا أملك ديناراً واحداً.

قال المنجم: اعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق، كما علت تلك النار، ويولد لهم ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعَب.

فقال أبو شجاع: أما تستحي تسخر منا؟ أنا رجل فقير، وأولادي هؤلاء فقراء مساكين، فكيف يصيرون ملوكاً؟

١٢٠