الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 126950
تحميل: 6890

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126950 / تحميل: 6890
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المستعلي:

وفي عهد المستعلي وهنت الدولة الفاطمية، وقامت الحروب الداخلية والخارجية، فقد نازع المستعلي أخوه نزار على الملك، ودارت بينهما حروب وفتن، كما بدأ الصليبيون يغيرون على سواحل بلاد الشام، فاستولوا على إنطاكية وتوابعها، ثم تابعوا سيرهم، حتى وصلوا إلى بيت المقدس، ودارت بينهم وبين جيوش الفاطميين معارك حامية، ولكن الصليبيين استولوا بالنهاية على فلسطين والمدن الساحلية ببلاد الشام.

وتوفي المستعلي سنة ٤٩٥، وقام بعده ابنه الآمر بأحكام اللّه.

الآمر:

استخلف الآمر، وله من العمر ٥ سنين، وكان الوصي ومدبر شؤون البلاد الوزير الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش. ونقل صاحب «النجوم الزاهرة» في الجزء الخامس ص ١٧٠ طبعة سنة ١٩٣٥ عن الحافظ الذهبي:

إن الآمر كان رافضياً كآبائه، ولي الأمر، وهو صبي، فلما كبر قتل الأفضل وعين في الوزارة المأمون البطائحي، فظلم وأساء السيرة، فقتله الآمر وصادر أمواله، وفي أيام الآمر أخذ الصليبيون عكا سنة ٤٩٧، وأخذوا طرابلس سنة ٥٠٢، وقتلوا وسبوا، وجاءت نجدة المصريين بعد فوات الأوان، وسنة ٥١١ أخذوا تبنين، وتسلموا صور سنة ٥١٨، وأخذوا بيروت سنة ٥٠٣، وصيدا سنة ٥٠٤، ثم قصد الملك بردويل مصر ليأخذها، فهلك قبل أن يصل العريش، وهكذا تضعضع ملك الفاطميين في عهد الآمر المشؤوم الطلعة.

وفي سنة ٥٢٤ تعاهد تسعة رجال على اغتيال الآمر، وانتظروا الفرصة، حتى مر في بعض الطرق فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، وضربوه بالسكاكين، حتى أن واحداً منهم ركب وراءه، وضربه عدة ضربات، وأدركهم الناس، وقتلوا

التسعة. (النجوم الزاهرة ج ٥).

وقام بعده ابن عمه الحافظ لدين اللّه عبد المجيد بن محمد بن المستنصر.

الحافظ:

ولي الحافظ الخلافة بعد قتل ابن عمه الآمر الذي لم يترك ولداً ذكراً، ووزر للحافظ أبو علي أحمد بن الفضل، وقويت شوكة هذا الوزير، وصار صاحب الأمر كله، قال أبو المحاسن في الجزء الخامس من النجوم الزاهرة:

١٤١

ضيق الوزير على الحافظ، وحجر عليه، ومنعه من الظهور، وأودعه في خزانة لا يدخل إليه أحد إلا بأمر الوزير، ثم أهمل الوزير خلفاء بني عبيد - أي الفاطميين - والدعاء لهم، لأنه كان سنياً كأبيه. وغير قواعد الشيعة، فأبغضه الأمراء والدعاة، لأن غالبهم كانوا من الشيعة، بل الجميع، فلما كرهه الشيعة المصريون صمموا على قتله، فكمن له جماعة، وقتلوه، وأخرجوا الحافظ، وبايعوه ثانية.

وهذا الحافظ كان كثير المرض بعلة القولنج، فعمل له شير ماه الديلمي طبل القولنج الذي كان في خزائن الفاطميين، ومن خاصته أنه إذا ضربه أحد خرج الريح من مخرجه، ولهذه الخاصية كان ينفع الطبل من القولنج، ولما ملك صلاح الدين الأيوبي كسر هذا الطبل، لا لشيء إلا لأنه من آثار الفاطميين.

ومات الحافظ سنة ٥٤٤، وخلفه ولده إسماعيل الملقب بالظافر باللّه.

الظافر:

وكان الظافر حين ولي الخلافة ابن سبع عشرة سنة وأشهر، وكانت أيامه مضطربة، لحداثة سنه، واشتغاله باللهو، فقد ترك كل شيء، وانصرف إلى شاب مثله، وهو نصر ابن وزيره عباس الصنهاجي، حتى انتهى الأمر بالخليفة أنه كان يخرج من قصره لزيارة ابن عباس في داره، واغتنم الوزير مخالطة الخليفة لولده، وأوعز إليه باغتياله ففعل. واتهم عباس الوزير الذي دبر اغتيال الخليفة، اتهم اخوة الخليفة بقتله، وقتلهم، وكان للخليفة ابن اسمه عيسى، وله من العمر خمس سنين، فبايعه الوزير، ولقبه بالفائز بنصر اللّه، وأقام نفسه وصياً عليه، وذلك سنة ٥٤٩ ومات الفائز سنة ٥٥٥، وهو ابن عشر سنين أو نحوها، وقام بعده العاضد لدين اللّه، وكان ابن ١١ سنة، وخلعه صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٦٧، وخطب للخليفة العباسي ببغداد، وبالعاضد زالت الدولة الفاطمية التي استمرت من سنة ٢٩٦ إلى سنة ٥٦٧، وقد استعمل الأيوبي سياسة الإفناء والاستئصال مع الفاطميين.

الفاطميون والحضارة:

بلغت الحضارة في عهد الفاطميين اقصى الغايات، فبنوا المدن، واقاموا المساجد، وأنشأوا دور الكتب والجامعات، واتسعت في أيامهم التجارة، وتحسنت الزراعة، وانتشرت الآداب، وفنون الحكمة وأنواع العلوم.

قال الأستاذ عنان في «الحاكم بأمر اللّه» إن العصر الفاطمي من أسطع عصور مصر الإسلامية، إن لم يكن أسطعها جميعاً.

١٤٢

وقال المستشرق «سيديو» في تاريخ العرب العام ص ٢٤٤ طبعة ١٩٤٨:

أخذ العرب يلقون أسطع الأنوار من القاهرة لا من بغداد، حيث ازدهرت التجارة والصناعة والزراعة والآداب والفنون والعلوم في عهد الفاطميين بمصر، كما ازدهرت في عهد خلفاء بني العباس الأولين، وكانت عاصمة الفاطميين تنافس أجمل مدن آسيا، وسلك ابن يونس المصري سبيل فلكيي العراق، فكان له مرصد، ولم يقصر الفاطميون في صنع ما ينسى الناس به بغداد. ولم يلبثوا أن صار لهم مثل دخل هارون الرشيد تقريباً.

وقال المستشرق «بروكلمان» في «تاريخ الشعوب الإسلامية» ص ١٠٨ ج ٢ طبعة ٩٥٤:

إن آثار الفاطميين العظيمة مثل جامع الحاكم والجامع الأزهر الذي لا يزال مزدهراً إلى يومنا هذا كأعظم المؤسسات المدرسية في الإسلام لتشهد للهمم العالية التي ابتدعتها.

وقال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب» ص ٥١٠ طبعة ١٩٣٨:

كان الفاطميون في أول عهدهم كالبطالسة الأولين يشجعون العلم، ويكرمون العلماء، فشيدوا الكليات والمكاتب العامة ودار الحكمة، وحملوا إليها مجموعات

عظيمة من الكتب في سائر العلوم والفنون والآلات الرياضية، لتكون رهن البحث والمراجعة، وعينوا لها أشهر الأساتذة، وكان التعليم فيها حراً على نفقة الدولة، كما كان الطلاب يمنحون جميع الأدوات الكتابية مجاناً، وكان الخلفاء يعقدون المناظرات في شتى فروع العلم، كالمنطق والرياضة والفقه والطب، وكان الأساتذة يتشحون بلباس خاص عرف بالخلعة، أو العباءة الجامعية - كما هي الحال اليوم - وارصدت للانفاق على تلك المؤسسات، وعلى أساتذتها، وطلابها وموظفيها املاك بلغ ايرادها السنوي ٤٣ مليون درهم، ودعي الأساتذة من آسيا والأندلس لإلقاء المحاضرات في دار الحكمة، فازدادت بهم روعة وبهاء.

١٤٣

الفاطميون والتشيع:

اتفق المؤرخون على أن الدولة الفاطمية قامت على أساس الدعوة الشيعية، وأنها قد حرصت جد الحرص على نشرها بمختلف الوسائل، وأن الفاطميين اتخذوا بناء المساجد ومعاهد العلوم سبيلاً لغزو عقائد المجتمعات «وقد وجدت العقائد الشيعية في مصر مرعى أكثر خصباً ونماء منه في شمال إفريقيا، وسرعان ما ترعرعت وعم أثرها»(١) .

فالمؤذنون ينادون على المآذن «حيّ على خير العمل» والخطباء في المساجد يفتتحون كلامهم بالصلاة على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة البتول، والحسن والحسين سبطي الرسول، وحلقات الدروس في الأزهر وغيره ترتكز على مذهب الشيعة، وأحكام القضاة تصدر وفقاً لهذا المذهب.

وكتب المعز على الأماكن خير الناس بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وجعلوا اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم غدير خم يوم عيد، «وأصبح الاحتفال به في كل سنة من أهم الاحتفالات الدينية التي كانت تهتز لها جوانب القاهرة فرحاً وسروراً»(٢) .

وعن خطط المقريزي «إن شعائر الحزن يوم العاشر من المحرم كان أيام

_______________

(١) حسن إبراهيم في تاريخ الدولة الفاطمية ص ٣٧٦ طبعة ثانية.

(٢) المصدر السابق ص ٦٥٢.

١٤٤

الأخشيديين، واتسع نطاقه في أيام الفاطميين، فكانت مصر في عهدهم توقف البيع والشراء، وتعطل الأسواق، ويجتمع أهل النوح والنشيد يطوفون بالأزقة والأسواق، ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة، وهم نائحون باكون»(١) . وقال السيد مير علي في مختصر تاريخ العرب: «وكان من أهم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين الحسينية، وهي بناء فسيح الأرجاء تقام فيه ذكرى. مقتل الحسين في موقعة كربلاء». وأمعن الفاطميون في إحياء هذه الشعائر وما إليها من شعائر الشيعة، حتى أصبحت جزءاً من حياة الناس.

ولولا سياسة الضغط والتنكيل التي اتبعها صلاح الدين الأيوبي مع الشيعة لكان لمذهب التشيع في مصر اليوم وبعد اليوم شأن أي شأن.

وإذا لم يكن الفاطميون على مذهب الاثني عشرية فإن هذا المذهب قد اشتد أزره، ووجد منطلقاً في عهدهم، فقد عظم نفوذه، ونشطت دعاته وعملوا على نشره وتوطيده، وأقبل الناس عليه آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم ذلك أن الاثني عشرية والإسماعيلية وإن اختلفوا من جهات فإنهم يلتقون في هذه الشعائر، بخاصة في تدريس علوم آل البيت، والتفقه بها، وحمل الناس عليها.

___________________

(١) تاريخ الشيعة للشيخ المظفر.

١٤٥

الدَولَة الحَمْدَانيَّة

الحمدانيون نسبهم ومذهبهم:

من هم الحمدانيون؟ وما هو مذهبهم؟

ينتسب الحمدانيون إلى قبيلة تغلب، وكان بنو تغلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، وكانوا من نصارى العرب في الجاهلية، لهم محل في الكثرة والعدد. ثم كان منهم في الإسلام ثلاثة بيوت: آل عمر بن الخطاب العدوي، وآل هارون المغمر، وال حمدان بن حمدون.

وحمدان هذا هو جد الأمراء الحمدانيين، وكان على جانب من الثراء، ورب قبيلة، تنظر إليه بقية القبائل بالتجلة والاحترام، وكان أميراً على قلعة ماردين القريبة من الموصل من قبل العباسيين، ثم أعلن الاستقلال عنهم سنة ٢٨١ هجري، وكان ذلك في خلافة المعتضد، ودارت بين حمدان والخليفة العباسي معارك كانت الغلبة فيها على حمدان.

وأنجب حمدان سبعة أولاد(١) منهم أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وأبو العطاف.

أما تشيع الحمدانيين فلا يختلف فيه اثنان، وقد ظهر ذلك جلياً في هجرة علماء الشيعة إليهم، كالشريف أبي ابراهيم جد بني زهرة، وفي مدح الشعراء لهم، كالسري والصنوبري وكشاجم والناشي والزاهي وغيرهم، وفي سنة ٣٥٤ هجري ضرب سيف الدولة دنانير جديدة كتب عليها «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاطمة الزهراء الحسن والحسين جبريلعليهم‌السلام ».

_____________________

(١) السيد محسن الأمين «أبو فراس».

١٤٦

ويأبى المستشرقون إلا أن يفسروا الأشياء على أهوائهم وبغير حقيقتها.

قال كبيرهم بركلمن في الجزء الثاني من «تاريخ الشعوب الاسلامية» ص ٨٩ طبعة ١٩٥٤ ترجمة منير بعلبكي: «إن سيف الدولة أظهر الطاعة للفاطميين عندما نشروا سلطانهم على مصر، وبالتالي اتبع المذهب الشيعي» أي إن سيف الدولة تشيع إرضاء للفاطميين مع العلم بأن سيف الدولة توفي قبل دخول الفاطميين مصر(١) .

الاثنا عشرية:

بقي أن نعرف إلى أي مذهب شيعي تنتسب اسرة الحمدانيين، إلى الزيدية أو الإسماعيلية أو الاثني عشرية؟

ويجيب عن هذا التساؤل مصطفى الشكعة في كتابه «فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين»، ويتلخص قوله بما يلي:

إن شعر أبي فراس يكشف لنا هذا اللغز الذي ظل غامضاً، حتى الآن، والذي لم يحاول أحد من المؤرخين القدامى، ولا من المحدثين أن يدرسه، وبذلك يكون الشعر قد أسدى إلى علم التاريخ مآثر جليلة، وكشف حقيقة كان الأولى بالتاريخ أن يحتصنها.

يقول أبو فراس من قصيدته الميمية:

يا للرجال أما لله منتصف

من الطغاة أما للدين منتقم

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر تملكه النسوان والخدم

محلئون فأقصى شربهم وشل

عن الورود وأوفى ودهم لمم

فالأرض إلا على ملاكها سعة

والمال إلا على أربابه ديم

وبعد هذه المقدمة المشحونة بالعطف على آل البيت ينتقل الأمير الشاعر إلى هجاء العباسيين، لأنهم نالوا الخلافة بالرسول، ثم لم يراعوا حرمة آل بيته، ويعقد مقارنة بين بني علي، وبني العباس، ويقول:

لا يطغين بني العباس ملكهم

بنو علي مواليهم وإن زعموا

____________________

(١) مات سيف الدولة سنة ٣٥٦، ودخل جوهر قائد الفاطميين مصر سنة ٣٥٨

١٤٧

أتفخرون عليهم لا أبا لكم

حتى كأن رسول الله جدكم

وما توازن فيما بينكم شرف

ولا تساوت بكم في موطن قدم

ولا لكم مثلهم في المجد متصل

ولا لجدكم معشار جدهم

قام النبي بها يوم الغدير لهم

والله يشهد والأملاك والأمم

وصيرت بينهم شورى كأنهم

لا يعرفون ولاة الحف أيهم

تاللّه ما جهل الأقوام موضعها

لكنهم ستروا وجه الذي علموا

ثم ادعاها بنو العباس إرثهم

ولا لهم قَدم فيها ولا قِدم

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن

أبوهم العلم الهادي وأمهم

لا بيعة ردعتكم عن دمائهم

ولا يمين ولا قربى ولا رحم

وهكذا يرمي بني العباس بالغدر الذي يتضاءل أمامه ما لاقوه على أيدي بني أمية:

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت

تلك الجرائم إلا دون نيلكم

كم غدرة لكم في الدين واضحة

وكم دم لرسول اللّه عندكم

أأنتم آله فيما ترون وفي

أظفاركم من بنيه الطاهرين دم

يا جاهداً في مساويهم يكتمها

غدر الرشيد بيحيى كيف يكتتم

وبعد هذه الحملة الشعواء على العباسيين يعطينا أبو فراس مفتاحاً لمذهبه الشيعي، حيث يذكر موسى الكاظم وعلي الرضا، وهذان الإمامان ليسا من الأئمة عند الزيدية ولا عند الإسماعيلية ، وإنما هما من أئمة الاثني عشرية. قال:

ليس الرشيد كموسى في القياس ولا

مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم

خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا

يوم السؤال وعمالين إن عملوا

لا يغضبون لغير اللّه إن غضبوا

ولا يضيعون حكم اللّه إن حكموا

تبدو التلاوة من أبياتهم أبداً

ومن بيوتكم الأوتار والنغم

منكم علية أم منهم وكان لكم

شيخ المغنين إبراهيم أم لهم

ما في ديارهم للخمر معتصر

ولا بيوتهم للسوء معتصم

١٤٨

والركن والبيت والأستار منزلهم

وزمزم والصفا والحجر والحرم

صلى الإله عليهم أينما ذكروا

لأنهم للورى كهف ومعتصم

وإذا كان الشاعر قد أعطانا في هذه القصيدة إشارة عابرة إلى أنه يعتنق مذهب الاثني عشرية، فإنه ينتقل بنا إلى التصريح والتأكيد في الأبيات التالية التي عدد فيها الأئمة الاثني عشر واحداً بعد واحد:

لست أرجو النجاة من كل ما

أخشاه إلا بأحمد وعلي

وببنت الرسول فاطمة

الطهر وسبطيه والإمام علي

والتقي النقي باقر علم

اللّه فينا محمد بن علي

وابنه جعفر وموسى ومولا

نا علي أكرم به من علي

وأبي جعفر سمي رسول اللّه

ثم ابنه الزكي علي

وابنه العسكري والمظهر

حقي محمد بن علي

فبهم أرتجي بلوغ الأماني

يوم عرضي على مليك علي

في البيت الأول ذكر علياً، وفي البيت الثاني ذكر الحسن والحسين وعلي بن الحسين، وفي البيت الثالث ذكر محمداً الباقر، وفي البيت الرابع ذكر جعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا، وفي البيت الخامس ذكر أبا جعفر، وهو محمد الجواد وعلي الهادي، وفي البيت السادس ذكر الإمام العسكري والمهدي المنتظر، له أبيات أخرى يتوسل بها ويطلب الشفاعة بمحمد وفاطمة والأئمة الاثني عشر:

شافعي أحمد النبي ومولا

ي علي والبنت والسبطان

وعلي وباقر العلم والصا

دق ثم الأمين ذو التبيان

وعلي ومحمد بن علي

وعلي والعسكري الداني

والإمام المهدي في يوم لا

ينفع إلا غفران ذي الغفران

وإذا عرفنا أن أبا فراس ربي في حجر سيف الدولة منذ كان طفلاً صغيراً، ونشأ على يديه، وتعلم تحت رعايته، وأنه قد اختار له معلماً ومربياً اثني عشريّاً، إذا عرفنا ذلك عرفنا أن سيف الدولة بخاصة، والحمدانيين بعامة كانوا يعتنقون المذهب الاثني عشري.

١٤٩

ناصر الدولة:

كان لحمدان وأولاده شأن كبير في الدولة العباسية، ثاروا على الخلافة أكثر من مرة، وسجنوا مرات، وتولوا كثيراً من المناصب الكبرى في داخل بغداد وخارجها، فحمدان نفسه كان أميراً في قلعة ماردين، وابنه الحسين تولى ديار ربيعة، ثم قم وقاشان، واحتل مصر بعد انتصاره على الطوليين، وأخوه العلاء تولى الموصل، ثم تولاها بعده أخوه أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وبقي والياً عليها إلى أن قتل سنة ٣١٧، وترك عليها ابنه ناصر الدولة.

وكانت الدولة العباسية في هذا الوقت تعاني النزع والانحلال بظهور سلطان المتغلبين في أطراف المملكة والثغور، فقامت في فارس دولة بني بويه، وفي مصر وسورية دولة الأخشيديين، وفي إفريقيا دولة الفاطميين، وفي إسبانيا دولة الأمويين، واستقل بنو سامان في خراسان، والقرامطة بالبحرين، وأعلن البريدي حكمه على البصرة وواسط، وزحف إلى بغداد، يحدث هذا كله، والحمدانيون ينتظرون الفرصة، ويعدون أنفسهم لما هو أهم من الولاية والإمارة، مع أن الحكم في الموصل لهم وحدهم، ولا شيء للخليفة سوى الاسم.

ولم تمض الأيام، حتى يهرب الخليفة المتقي من بغداد خوفاً من البريديين، ويلتجئ إلى ناصر الدولة في الموصل، فألف ناصر الدولة جيشاً من العاصمة، حتى نزح عنها البريدي إلى واسط، فتبعه سيف الدولة، وانتزعها منه، ولما استقرت الحال بالخليفة جعل ناصر الدولة أمير الأمراء، وأخذ ناصر في مزاولة سلطته الجديدة في بغداد، فبدأ بالعمارة، وحال دون عبث التجار والصيارفة وضرب دنانير جديدة، وهدد بإنزال العقاب على كل من لم يقلع عن الربا والغش، إلا أن إمرة الأمراء لم تطل مدتها في الحمدانيين لاضطراب الأمور في بغداد، فترك ناصر الدولة هذه الإمرة، وعاد إلى الموصل ليبسط سلطانه عليها، وعلى الديار المجاورة، وعاد سيف الدولة، ليفتح حلب، ويوطد بها ملكه.

وظل ناصر الدولة يحكم الموصل بيد من حديد في حين يوطد أخوه سيف الدولة ملكه في حلب، ويغزو بلاد الروم إلى سنة ٣٥٦، وهي السنة التي مات فيها سيف الدولة، فقبض أبو تغلب على أبيه الأمير، واعتقله(١) ودارت حروب

____________________

(١) توفي ناصر الدولة سنة ٣٥٨ كما في الجزء ال٢٢ من أعيان الشيعة.

١٥٠

وخلافات بين أبي تغلب وأخيه حمدان، وكان خلاف ابناء ناصر الدولة، وقيام بعضهم ضد بعض مدعاة لأن يتقدم عضد الدولة البويهي إلى الموصل، ويطرد أبا تغلب منها، ويستولي عليها بعد أن دامت في أيدي الحمدانيين من سنة ٢٩٣ إلى سنة ٣٦٧ التي استولى فيها عضد الدولة عليها، وكان الحمدانيون يجلون بعض الوقت عن الموصل خلال هذه المدة ثم يعودون إليها.

سيف الدولة:

كانت حلب كالريشة في مهب الريح تخضع تارة للخليفة العباسي في بغداد، وتارة للاخشيديين في مصر ودمشق، وهي إلى ذلك على حدود البيزنطيين، وكان سيف الدولة قد طلب من أخيه ناصر الدولة ولاية، فقال له: دونك الشام فلا أحد يمنعك عنها، وجهزه بألف فارس، فسار إلى حلب، ودخلها سنة ٣٣٣ بدون مقاومة، ثم سار إلى دمشق وانتزعها من الأخشيديين، ونشبت بينهما حروب كان النصر فيها أولاً حليف سيف الدولة، وأقام بدمشق مدة وجبى خراجها، ثم استردها الأخشيديون منه، وأخيراً تم الصلح بينهما، وتزوج سيف الدولة فاطمة بنت الأخشيد، وتقرر أن تكون حلب وحمص وإنطاكية لسيف الدولة، ودمشق وما وراءها، حتى مصر للأخشيديين.

«وكانت علائق الأخشيديين كصلات الحمدانيين اسمية مع خلفاء بغداد، واشتهر الأخشيديون، وهم عجم، بشحهم، واشتهر الحمدانيون العرب في مغالاتهم بالكرم، وكان الأخشيديون من أهل السنة، والحمدانيون من الشيعة، ولذلك كثر التشيع في شمال الشام على عهدهم(١) ».

وقضى سيف الدولة حياته في حروب داخلية وخارجية، فقبل أن يفتح حلب حارب البريدي في واسط، وانتزعها منه، وفي سنة ٣٢٦، غزا أرض الروم، فاستقبلوه بمائتي ألف فارس، فأعمل فيهم السيف وهزمهم، وأسر سبعين بطريقاً، وسنة ٣٢٨ كان انتصاره على الروم أعظم، حيث خرج غازياً مدينة فاليقا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينة أسموها هفجيج، فلما علموا

_____________________

(١) خطط الشام لكرد علي ص ٢١٨ ج ١ طبعة ١٩٢٥

١٥١

بمسيره خربوا المدينة وهربوا، وظل سيف الدولة يتقدم في بلاد الروم - قبل فتحه حلب - حتى وطأ مواطئ لم يصل إليها أحد من المسلمين(١)

وبعد أن فتح حلب، واستقر له الأمر كانت لا تمر سنة دون غزوة أو أكثر، قال كرد علي في الجزء الأول من خطط الشام: «غزا سيف الدولة الروم أربعين غزوة، له وعليه، وقد حفظ بغزواته بيضة العرب والإسلام، ولولاه لتقدم الروم في بلاد الشام، وربما استصفوها كلها بعد أن ضعف العباسيون. وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً، وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليه في لحده. فنفذت وصيته».

وأما الفتن الداخلية التي واجهها أيام ملكه في حلب فهي ثورة بني كلاب سنة ٣٤٣ وبني عقيل، وبني قشير، وبني العجلان، ثم الفتنة التي قام بها رشيق النسيمي في إنطاكية سنة ٣٥٤، وفتنة مروان العقيلي بحمص، وفي سنة ٣٥٥ ثار دزبر الديلمي بإنطاكية. وهكذا كان سيف الدولة يغزو بلاد الروم، ثم يعود إلى مقره وعاصمته ليقضي على الفتن الداخلية.

وتوفي سيف الدولة سنة ٣٥٨، وقام بعده ابنه أبو المعالي الملقب بسعد الدولة، ومات سنة ٣٨١، وتولى بعده ابنه أبو الفضائل الملقب بسعيد الدولة، ومات سنة ٣٩٢، وبموته انتهت إمارة الحمدانيين التي استمرت على الموصل وحلب، وما يتبعهما من سنة ٢٩٣ إلى سنة ٣٩٢.

عظمة سيف الدولة:

تحدث الناس قديماً وحديثاً عن عظمة سيف الدولة، وتغنى بها الشعراء، وأشاد بها المؤرخون والأدباء في الشرق والغرب، ووضعوا في آثاره وأعماله الكتب والمجلدات، وخير ما قرأت في هذا الباب كتاب «سيف الدولة وعصر الحمدانيين» لسامي الكيالي، وقدم له إسماعيل أحمد أدهم، اقتطف من كلامهما القطعة التالية:

«سيف الدولة أحد أبطال التاريخ، وصاحب شخصية حافلة بالحياة والنشاط،

__________________

(١) فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين ص ٧٥

١٥٢

وذو نواح متعددة، تتراقص على جنباتها المغامرة، والشعر والسيف والقلم، والبطولة والأدب، فهو من الشخصيات التي تثير الإعجاب، وتسترعي النظر. مر بتاريخ العرب في فترة كانت الفوضى تقتلها، فنجح في أن يلجم الفوضى، وأخرج منها نظاماً، وخلق من ضعف العرب قوة، وصمد لقوات الروم، وقاد جموع العرب يذود عن دولته بحد سيفه، وهو في هذا كله يذود عن العرب والإسلام.

قال غوستاف سيشلمبرجر: شغل سيف الدولة أذهان المؤرخين والكتاب والشعراء في القرن العاشر الميلادي، فما أن تقرأ صفحة لمؤرخ بيزنطي، أو قطعة لكاتب من كتاب ذلك العصر، أو قصيدة من قصائد شاعر من شعراء العرب أو اليونان، حتى يستهويك الوصف والحديث عنه.

لقد أقسم مؤرخ زار حلب في عصر سيف الدولة أن قصور الخلفاء في بغداد، وقصور ملوك الروم في القسطنطينية كانت أقل بهاء من قصور سيف الدولة، وأن الفنون على تباين أنواعها كانمت مضطهدة في عاصمة المسيحية، ولكنها كانت تنعم بتسامح كبير في عاصمة الحمدانيين، وكان المصورون والمثالون من الروم يهربون من قيصر إلى سيف الدولة، فيستقبلهم، ويكرمهم ويشجعهم، ويستفيد من عبقرياتهم».

وقال بروكلمن في «تاريخ الشعوب الاسلامية» ص ٩١ ج ٢: «ولئن كان سيف الدولة مديناً بما تم له من شهرة عريضة لنضاله الموفق ضد الروم في المحل الأول فليس من شك في أنه مدين بذلك في المحل الثاني لعطفه على الفنون والعلوم، ورعايته لها».

وبالتالي، فإن مدينة حلب في عهد سيف الدولة جمعت أكابر رجال ذلك العصر على اختلاف بلدانهم وتباين ثقافتهم، كالفارابي والشريف أبي إبراهيم جد بني زهرة، وابن نباتة والمتنبي والصنوبري وابن خالويه وابن جني والبكتمري والنامي وكشاجم وابن أبي الفياض وأبي الفرج العجلي، وكثيرين غيرهم من القضاة والنحويين والأدباء والشعراء والفنانين العرب وغير العرب.

الحمدانيون والتشيع:

انتشر التشيع، وارتفع شأنه في الموصل وحلب، وما إليهما في عهد الحمدانيين، واشتد بهم أزر الشيعة في العراق، قال آدم متز في «الحضارة الإسلامية»: «وكان الحمدانيون أول أسرة تدخل في أمور بغداد».

١٥٣

وقال الشيخ المظفر في «تاريخ الشيعة»:

«ارتفع شأن التشيع في سورية أيام سيف الدولة، وانتشق أهله الهواء الطلق بعد أن حبسه عنهم أرباب السلطات المتعاقبة. فكانت سورية أيام الحمدانيين مكتظة بالشيعة. وإذا دخلت المسجد الأموي الرفيع بناية، والمشيد عمارة، وتوسطته واقفاً تحت قبته، فارفع رأسك لتنظر اسم علي والحسن والحسين في باطن القبة، فأين اسم معاوية ويزيد وملوك آل مروان الذين رفعوا بناء ذلك المسجد؟!».

وقال كرد علي في المجلد السادس من خطط الشام ص ٢٥٨:

«كان أهل حلب سنة حنفية، حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح - في عهد سيف الدولة- فصار فيها شيعة وشافعية، وأتى صلاح الدين، وخلفاؤه فيها على التشيع، كما أتى عليه في مصر، وكان المؤذن في جوامع الشهباء يؤذن بحي على خير العمل، وحاول السلجوقيون مرات القضاء على التشيع، فلم يوفقوا إلى ذلك، وكان حكم بني حمدان، وهم شيعة من جملة الأسباب الداعية إلى تأصل التشيع في الشمال، ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل جوشن بظاهر حلب ذكر الأئمة الاثني عشر، وقد خرب الآن.

ووصف ابن جبير المذاهب المتغلبة على الشام في القرن السادس، فقال: «للشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنييّن بها، وقد عموا البلاد بمذاهبهم».

وحين أراد صلاح الدين الأيوبي الاستيلاء على حلب، استنجد الوالي بأهلها، وطلب منهم العون، وأن يعبئوا أنفسهم تعبئة عامة، فاشترط عليه الشيعة إن أجابوه أن يعيد في الأذان حيّ على خير العمل في جميع المساجد، وينادي باسم الأئمة الاثني عشر أمام الجنائز، ويكبر على الميت خمس تكبيرات، ويفوض أمر

العقود والأنكحة لشيخ الشيعة أبي المكارم حمزة بن زهرة، فقبل الوالي ذلك كله.

إن الحمدانيين لم يكرهوا أحداً على التشيع، ولم يغروه بالمال والمناصب، ولم يؤلفوا الهيئات والمنظمات للدعاية، بل تركوا الناس يختارون لأنفسهم ما يشاؤون، ويعتقدون ما يريدون، فانبرى الدعاة المخلصون، وأعلنوا الحق، فآمن به من آمن، حيث لا ضغط ولا إكره، على عكس العباسيين والأمويين، وصلاح الدين.

١٥٤

لقد حمل الأيوبي معه إلى مصر وسورية تياراً هائلاً من التعصب الأعمى - وكل تعصب هو أعمى - كان له أسوأ الأثر في حياة المسلمين، وما زالوا يعانون منه، حتى اليوم أما الحمدانيون فقد كانوا أصحاء في عقولهم، كما كانوا على حق في دينهم، لذا تسامحوا، وتركوا للناس حرية القول والتفكير مما جعلهم ملجأ وملاذاً للعلماء والفلاسفة والأدباء ورجال الفكر من جميع الأديان والمذاهب، حتى أن رجال الفن من الروم كانوا يهربون من مليكهم قيصر إلى سيف الدولة، حيث يجدون عنده ما لم يجدوه في بلادهم وعند أبناء دينهم ولغتهم. من هنا ترك لنا عصر الحمدانيين هذه الآثار والكنوز.

ولو افترض أن صلاح الدين الأيوبي كان على حق في تسننه، وأن الشيعة كانوا على ضلال في تشيعهم فأي مبرر له في قتلهم واستئصالهم؟ إن قوانين الدول المتحضرة تنص على أن لكل إنسان الحق في إعلان آرائه ومعتقداته، بل والترويج لها ما دام لا يتعدى على حق غيره. وهؤلاء المسلمون في كل مكان يعتقدون أن العين بالعين والسن بالسن، وقوانين دولتهم تنص على خلاف ذلك، ولكنها لا تعاقب أحداً منهم، ما دام لم يسمل عين أحد، أو يكسر سن أحد.

لقد أراد صلاح الدين الأيوبي، ومن على شاكلته أن يقضي على الشيعة والتشيع، ويأبى اللّه إلا أن يتم نور آل الرسول المنبثق عن نور اللّه بالذات.

١٥٥

الدَّولَة الصّفويَّة

من ينظر إلى الدولة الأموية وتاريخها يعلم إلى أي مدى كانت مكروهة عند الناس، ثقيلة الوطأة عليهم، وكيف قامت الفتن والثورات على عهدهم، وكثر الدعاة ضد حكمهم وسلطانهم. فإذا ما خلا الأستاذ بتلاميذه حدثهم عن استهتار الأمويين بالقبائح والمعاصي، وإذا انتقل المسافر من قطر إلى قطر بث مساوئهم ومظالمهم.

وقد ساعدت السياسة الأموية البغيضة أنصار العلويين، وأمدتهم بأبلغ الحجج وأقواها، حتى أثمرت دعوتهم، وآتت أكلها في الأقطار الإسلامية، بخاصة في إيران التي هي أقرب بلد إلى عاصمة الخلافة، وأهلها أكثر اختلاطاً بالعرب من غيرهم، ولكن الدعوة العلوية استغلها العباسيون لمصلحتهم، كما هو معروف، وكما بيناه في كتاب «الشيعة والحاكمون»، فالتشيع لآل البيت دخل إيران قبل أن يذهب الإمام الرضا إلى خراسان، ولكن العباسيين زعموا أنهم هم الآل دون غيرهم(١) وبعد ذهاب الرضا إلى خراسان عرفت الحقيقة، وظهر فيها التشيع الحق.

وقد ذكرنا فيما تقدم أن أفراداً من التابعين ذهبوا سنة ٨٣ هجري إلى قم، ونشروا التشيع بين أهلها، ومن هاتين القاعدتين: قم وخراسان انطلق التشيع إلى كثير من الربوع الإيرانية، حتى جاء الصفوين فعمها جميعاً، وتجاوز إلى ما وراء الحدود.

_______________________

(١) وهكذا زعم الأمويون من قبل، روى المسعودي في مروج الذهب أن العباسيين حين فتحوا الشام، وانتزعوها من الأمويين حلف لهم أشياخ أهل الشام وأرباب النعم والرياسة أنهم ما علموا أن لرسول اللّه قرابة ولا أهل غير بني أمية، حتى ذهب الأمويون، وجاء العباسيون.

١٥٦

الشاه إسماعيل:

هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم (ع). وهو أول ملوك الصفوية، ومؤسس دولتهم، وكان آباؤه وأجداده من العرفاء وشيوخ الصوفية، فلقبوا لذلك بلقب سلطان، وما أن أتم إسماعيل العام الرابع عشر من عمره، حتى ألف جيشاً من أتباع أبيه ومريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران يومذاك موزعة الأطراف بين عديد من الملوك والأمراء ورؤساء القبائل، فاستخلصها منهم الواحد تلو الآخر، ووحدها تحت سلطانه.

في سنة ٩٠٥ هجري استولى على شيروان بعد أن قتل حاكمها، وفي سنة ٩٠٦ فتح تبريز بلا مقاومة، وفي سنة ٩٠٧ توجه إلى همدان، واستولى عليها بلا كبير عناء، وفي سنة ٩٠٩ ملك كيلان، وفي سنة ٩١٢ أخذ ديار بكر، وفي سنة ٩١٤ دخلت بغداد في حكمه.

قال «رونلدس» في كتاب «عقيدة الشيعة» معرب ص ٧٧ طبعة ١٩٤٦: «مد الشاه إسماعيل سلطانه من خراسان حتى هراة، فضلاً عن ضمه المقاطعات الجنوبية إلى أملاكه، حتى إذا جاء عام ١٥٠٩ م كانت رقعة مملكته تمتد من نهر جيحون إلى خليج البصرة، ومن بلاد الأفغان إلى الفرات».

وخاف الأتراك على سلطانهم من قوة الشاه إسماعيل، فهاجمه بايزيد بجيش مؤلف من الأتراك والتركمان، ففرق الشاه شمله، وانتصر عليه. ولما خلع بايزيد، وقام مقامه ولده السطان سليم هاجم إيران بمائة وخمسين ألف جندي ومائتي مدفع، وتوغل في إيران، حتى دخل العاصمة تبريز، وكان الشاه غائباً عنها في همدان، وكان الأتراك يحاربون بالمدافع والأسلحة الحديثة، والإيرانيون يدافعون عن أنفسهم بالسلاح القديم، ولكن الأتراك اضطروا للانسحاب حين جاء الشتاء، لشدة البرد، وقلة الزاد، وانتشار الوباء في جيوشهم، وكان السلطان التركي قد قتل عشرات الألوف من الشيعة.

قال «لونكريك» في كتاب «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص ١٧ الطبعة الثانية: «كانت بطولة القضية السنية أول حجة تذرع بها سليم لإعلان الحرب.

وقد خلد الأشهر من حكمه بالذبح المتقن لجميع الشيعة أينما وجدوا». هذا بعد أن استحصل السلطان من شيوخ السوء على فتوى باستباحة دماء الشيعة وحريمهم وأموالهم. وقال السيد الأمين في ج ١١ من «الأعيان» ترجمة الشاه اسماعيل: «قتل السلطان سليم أربعة وأربعين ألفاً، وقيل سبعين ألفاً من الشيعة في الأناضول، وفي هذا العصر استولى الاسبانيون على بلاد الأندلس، وأزالوا دولة بني الأحمر العربية، واستنجد بنو الأحمر بالسلطان التركي والد السلطان

١٥٧

سليم، فلم ينجدهم، حتى فعل بهم الاسبانيون ما فعلوا، ولكن السلطان التركي قتل الشيعة المسلمين في بلاده، وحارب السلطان الفارسي المسلم.. وهكذا كان بأس الملوك المسلمين بينهم».

الشاه إسماعيل والتشيع:

قال المستشرق الكبير «براون» المتخصص بالأدب الإيراني في كتاب «الأدب في إيران» معرب ص ٢٠ طبعة ١٩٥٤: «كان الفاطميون في مصر أكبر خصوم العباسيين من الناحية الدينية والسياسية، وكانوا يمثلون فريقاً من الفريقين العظيمين اللذين انقسم إليهما المتشيعون لعلي، فالفريق الأول هم الإسماعيلية الذين ينتسب إليهم الفاطميون، والفريق العظيم الآخر من فرق الشيعة هم الاثنا عشرية، وكان الفرس دائماً يميلون إليه، حتى اتخذوه مذهباً رسمياً لهم عند قيام الدولة الصفوية على يد الشاه عباس سنة ٩٠٨ هجري».

وأمر الشاه عباس أن يؤذن بحي على خير العمل في جميع بلاد إيران، ونقش على النقود اسم علي وآله، ونشر في الأقطار المجاورة لإيران الدعاة لمذهب التشيع، وحين دخل إلى بغداد، وذلك في ٢٥ جمادى الآخرة سنة ٩١٤، فرح الناس بقدومه، والتجأوا إلى عدله، وكانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، وأخذوا يقدمون القرابين والذبائج إكراماً له، وفي اليوم التالي بلا فاصل توجه إلى كربلاء، وأدى مراسم الزيارة، وبات ليلته معتكفاً في الحائر، منكباً على قبر الحسين الشهيد (ع)، وأمر بصنع الصندوق المذهب للقبر الشريف، وعلق بالحضرة ١٢ قنديلاً من الذهب، وفرشها بأنواع السجاد الثمين، كما أمر بصنع صناديق أخرى للنجف الأشرف والكاظمية وسامراء بدلاً عن صناديقها القديمة.

ثم سافر إلى النجف الأشرف، وتشرف بزيارة المشهد العلوي، وقدم القناديل من الذهب والفضة، والمفروشات الثمينة، وفي هذه السنة شرع ببناء حرم الكاظميين والمسجد الكبير المعروف بمسجد الصفويين. وأمر بحفر النهر الذي كان قد حفره عطا ملك، ثم اندثر بمرور الزمن، فجدده

١٥٨

الشاه إسماعيل، ووقف ريعه على خدام المشهدين: العلوي والحسيني، هذا، إلى حبه وتعظيمه العلماء والعلويين، وإنعامه عليهم بالأموال والمناصب، والاستعانة بأهل الكفاءة والمقدرة على نشر المذهب، وإعلان أسماء الأئمة الاثني عشر على المنابر وفي المحافل، وبشتى المناسبات(١) .

ولده الشاه عباس سنة ٨٩٢، وتولى السلطنة سنة ٩٠٥، وتوفي سنة ٩٣٠ في تبريز، ودفن في مقبرة جده صفي الدين بأردبيل، ومدة ملكه ٢٤ سنة وخلفه ولده الشاه طهماسب.

الشاه طهماسب:

وما أن ملك الشاه طهماسب بعد أبيه، حتى قامت في وجهه القلاقل، والفتن الداخلية، وثار عليه أخوه القاص ميرزا، وكان له أعوان وانصار. وأعلن سليمان القانوني ابن السلطان سليم الحرب على الشاه، واستولى على أذربيجان، ودخل جيشه تبريز، ومكث فيها غير أن البرد القارص، والأمطار الشديدة جرفت قسماً من المدفعية، وأماتت الحيوانات، فاضطر الأتراك إلى الانسحاب، واتجه السلطان إلى بغداد، فاستولى عليها، وأفتى له شيوخ السوء بقتل الشيعة المارقين(٢) ، وخرج العراق من أيدي الإيرانيين سنة ٩٤١ هجري، وكانوا قد استولوا عليه سنة ٩١٤، وبنى السلطان قبر أبي حنيفة، كما زار العتبات المقدسة في الكاظمية وكربلاء

_____________________

(١) تاريخ الشيعة للمظفر، وأعيان الشيعة ج ١١ للسيد الأمين، وتاريخ إيران لمكاريوس، وتاريخ العراق بين احتلالين للغزاوي، وأربعة قرون من تاريخ العراق للونكريك، وعقيدة الشيعة لرولندس، والأدب في العراق لبراون وغير هذه الكتب.

(٢) لونكريك في «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص ٢١ طبعة ثانية.

١٥٩

والنجف(١) .

وتدلنا هذه الحوادث، وما إليها أن الدولة الإيرانية، والدولة التركية كانتا أقوى دول الشرق على الإطلاق، وأن غيرهما من الدول والإمارات كانت تتذبذب بين الإمبراطوريتين، فتارة تؤثر طاعة هذه، وأخرى تلك، حسب الظروف والمناسبات.

الشاه طهماسب والتشيع:

وترسم الشاه طهماسب خطى أبيه الشاه إسماعيل في تأييد المذهب، وقد بالغ في إكرام العلماء وأهل الدين، حتى جعل أمر المملكة بيد عالم العصر المحقق الثاني الشيخ علي عبد العال، وقال له فيما قال: أنت أولى مني بالملك، لأنك نائب الإمام حقاً، وأنا عامل منفذ، وكتب إلى جميع الولاة، وأرباب المناصب بإطاعة الشيخ، والعمل بأوامره وتعاليمه، فكان الشيخ يطبق الشرع الشريف، ويقيم الحدود، كما عين الأئمة للصلاة، والمدرسين في المدارس، والوعاظ لبث المذهب ونشره.

ومن آثار الشاه طهماسب ترميم الحائر الحسيني، واصلاحه، وتوسيع الصحن، وتجديد المنارة المعروفة بمنارة العبد.

ولد هذا الشاه سنة ٩١٩ هجري، وملك سنة ٩٣٠، ومات سنة ٩٨٤، وكانت مدة ملكه ٥٤ سنة.

وكان له أولاد كثر، تنازعوا الملك بعده، وتغلب أحدهم على اخوته، وهو إسماعيل الثاني، وبقي في الحكم سنة واحدة وبضعة أشهر، وقام بعده أخوه محمد خدابنده، وكان أعمى، ضعيف الرأي، وقد اضطرب أمر المملكة على عهده، وقامت ثورات وفتن، وانشق عليه ولده عباس، واستقل بالحكم.

______________________

(١) عن كتاب تحفة العالم إن السلطان التركي حين توجه إلى النجف الأشرف، ورأى القبة العلوية من مسافة أربعة فراسخ ترجل عن فرسه، ولما سئل عن السبب قال: اهتزت أعضائي لمرأى القبة، فقيل له: إنك لا تستطيع المشي، فتفأل بالقرآنِ الكريم، فخرجت هذه الآية: «فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى»، فاضطر إلى السير على الأقدام.

١٦٠