الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 128556
تحميل: 7041

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128556 / تحميل: 7041
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشاه عباس:

استتب له الأمر سنة ٩٩٦ هجري، وكان معروفاً بأصالة الرأي، وقوة العزم، وحسن التدبير، والعدل في الرعية، وكانت البلاد الإيرانية حين تولى الملك مجزأة الأطراف، موزعة بين الأتراك والتركمان بسوء إدارة أسلافه، فاسترجعها ووحدها تحت سلطانه، وأنشأ لأول مرة في تاريخ إيران، أو الصفويين العلاقات السياسية والعلمية والعسكرية بين إيران، ودول أوروبا، كفرنسا، وانكلترا، وإيطاليا.

وما أن أخضع الثائرين والخارجين عليه، حتى حشد الأتراك على الحدود الإيرانية مائة ألف جندي، فصدهم الشاه عباس، وأرجعهم خاسرين، وقد تبين له من حربه مع الأتراك أن الجيش الإيراني ينقصه التدريب والنظام، فاستقدم الخبراء الأجانب، فنظموا له الجيش على الطرق الحربية الحديثة يومذاك، ولما اطمأن إلى جيشه زحف به على بقية الأقطار التي انتزعها الأتراك من الإمبراطورية الإيرانية، واستردها قطراً بعد قطر، حتى استرجع أذربيجان وشطوط بحر قزوين وبلاد الجراكسة والعراق والموصل وديار بكر وكردستان وما يليها، وكانت جيوشه - بعد أن دربت تدريباً حديثاً - تتغلب على جيش العدو الذي كان يبلغ - أحياناً - ضعفي عدد عساكره.

وقد اتخذ اصفهان قاعدة ملكه، ونظم أحوالها، واحسن تدبيرها، وكانت العاصمة قبله مدينة تبريز، ثم قزوين.

الشاه عباس والعمران:

لا نعرف سلطاناً كان يملك عقلاً عمرانياً، ويفكر ويعمل ليل نهار لراحة الرعية ورفاهيتها أكثر من الشاه عباس، لقد وهب هذا الشاه نفسه وخزينته، وكل ما يملك لصلاح الشعب وإصلاحه، وجعل العمل للخير العام هدفه الأول ومثله الأعلى، وآثاره القائمة إلى اليوم أصدق الشواهد. إن وجود ملك في عصر الظلمات تتسم جميع أعماله بطابع الإنسانية والمصلحة العامة لهو من خوارق العادات، ولنشرع الآن في تقديم الأمثلة:

منها: أنه استقدم العديد من الخبراء بالتجارة والصناعة، مع عائلاتهم من الأرمن وغيرهم، وبنى لهم مدينة خاصة في ضواحي أصفهان عاصمة ملكه، وأنشأ فيها الكنائس والأسواق، وأطلق لهم الحرية الدينية بكامل معانيها، وقد تعلم الإيرانيون من هؤلاء أنواعاً من الفنون والصناعات، وكانوا عاملاً قوياً في حضارة إيران، ورفع مستواها الاقتصادي.

١٦١

قال شاهين مكاريوس في «تاريخ إيران»: خطت البلاد في أيامه خطوة واسعة إلى العظمة والتقدم، فكثرت التجارة مع الإفرنج، وتردد التجار والسائحون إلى البلاد، وتوطدت العلاقات الطيبة مع دول أوربا وسلطان الهند. وشاد الصروح الفخمة، وزين المدائن، وأمر بالعدل، وترك من الآثار العظيمة ما يخلد الذكر، بخاصة في أصفهان التي ليس لها مثيل في الشرق(١) وهو أعظم سلاطين المشرق، وأشهر ملوك إيران، حتى أن الإيرانيين يطلقون عليه عباس شاه الكبير، ويظنون أن كل ما في إيران من الآثار القديمة هي من حسناته».

وقال صادق نشأت، ومصطفى حجازي في «صفحات عن إيران»: «وقد نشط الشاه عباس الكبير في إقامة علاقات سياسية مع دول أوربا مما ساعد على تبادل المعلومات الصحيحة بين إيران وأوروبا، وكان عباس الكبير يبدي روح التسامح الديني نحو غير المسلمين، وكان يهتم بترقية إيران صناعياً، وقد أحضر ثلاثمائة من الصناع الصينيين المهرة في صناعة الخزف، مع عائلاتهم، ليعلموا الصناع الإيرانيين الجودة في هذه الصناعة، ويدربوهم على إتقانها، وأخذت إيران تنتج الخزف بكميات هائلة. أما الصناعات الأخرى فإن صناعة السجاد قد بلغت في عهد الصفويين حدا من الروعة والاتقان كان أساساً لتفوقها الكبير، كذلك ارتفعت صناعة المنسوجات الحريرية ذات الخيوط الفضية والذهبية والنماذج الزخرفية البديعة».

ومنها: اهتمامه البالغ بشق الطرق وتعبيدها، وتسهيل المواصلات بالأساليب المألوفة في عهده، حتى أنه بنى ألف خان، يتسع الواحد منها لمئات المسافرين

_______________________

(١) بعد أن ننتهي من الكلام عن الصفويين ندرج فصلاً عجيباً عن هذه الآثار التي تشبه السحر والأساطير، نقلناه عن جريدة النهار البيروتية.

١٦٢

مع دوابهم وحمولتهم، وكانوا يأوون فيها دون أي مقابل، ومعلوم أن هذه الخانات كانت ضرورية لمواصلة السير والتنقل، ولولاها لاستحال على المسافرين أن يقطعوا المسافات النائية. وما زالت آثار هذه الخانات قائمة، حتى اليوم.

ومنها: عنايته بالرياضيين المعروفين في إيران «بالبهلوان» فقد خصص لهم جناحاً خاصاً في قصره، واعتبرهم من رجال بلاطه.

ومنها: تشييده المساجد والمدارس الفخمة على أحدث طراز.

ومنها: تكريمه العلماء والفقهاء بشتى أنواع التكريم والتعظيم، حتى كثرت في عهده المؤلفات في الفقه والحديث والأصول والأخلاق، وغيرها. قال السيد محسن الأمين في الجزء الثاني من «معادن الجواهر»: «كان سوق العلم في عصره بأصفهان في رواج عظيم، وكان يصدر عن رأي المحقق السيد الداماد، والشيخ بهاء الدين العاملي في خطير الأمور وحقيرها، وألف البهائي كثيراً من الكتب باسمه، كالجامع العباسي وغيره».

إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة، هذا، وكان يرفض التفخيم والتعظيم، ويأبى أن يطلق عليه الألقاب، وأن يُدعى بغير وكيل الرعية، لأن هذا هو واقع كل حاكم، ومن حاد عن مفهوم الوكالة وحدودها فهو طاغية مستبد. وكان شديد الاتصال بالناس مهتماً بمعرفة أحوالهم، وما هم عليه من بؤس أو نعيم، وكان يلبس كل ليلة لباس الدراويش ويتنقل في الشوارع يتنسم الأخبار، ويتفقد الفقراء والمعوزين، وكان يفعل ذلك في حروبه أيضاً، ومن طريف ما حدث له أنه دخل ذات ليلة إلى جيش الأتراك حين تجمع على حدود إيران، متنكراً بغير زيه هو وبعض أعوانه، ولما رآهم بعض الضباط دعوهم إلى تناول الطعام، فلبى الشاه الدعوة، وأكل مظهراً الغبطة والسرور، ثم دعا أولئك الضباط إلى زيارة معسكر الإيرانيين، ومناولة الطعام، فقالوا: نتمنى ذلك من صميم الفؤاد، عسى أن يقع نظرنا على الشاه الذي اشتهر هذه الشهرة الكبرى، وهو بعد في مقتبل العمر، وجاء الضباط مع صاحب الدعوة إلى معسكر الإيرانيين، وما أن دخلوا المعسكر، حتى عرفوا الحقيقة، فأكرمهم الشاه وأولم لهم الولائم، ثم أعادهم إلى أماكنهم، فعظمت مكانته في نفوسهم، وظلوا يتحدثون عنه

١٦٣

بالإكبار والإجلال(١) .

الشاه عباس والتشيع:

أشرنا فيما تقدم إلى عناية الشاه بعلماء المذهب، وصدوره عن رأيهم، وكثرة تآليفهم في عهده، وكان مع كثرة حروبه ومغازيه لا يقعده شيء عن إحياء الشعائر المذهبية، وله آثار باقية، حتى اليوم في مشاهد الأئمة بالعراق وإيران، وهو الذي بنى الحضرة العلوية في النجف وصحنها بهندسة الشيخ البهائي، وحجره بالكاشي على الهيئة التي هي عليها اليوم، وقد أودع في خزانة أمير المؤمنين وحفيده الرضا التحف الثمينة، ومن آثاره النهر المعروف في النجف بنهر الشاه، وقد حفره سنة ١٠٣٢ هجري بعد أن فتح بغداد، كما أن من آثاره في النجف آباراً واسعة كثيرة، وهي تسمى اليوم «الشاه عباسات»(٢) .

ولد الشاه عباس سنة ٩٧٩، واستقل بالملك سنة ٩٩٦، وتوفي سنة ١٠٣٨.

وتولى الملك بعده أولاده وأحفاده، وليس فيهم من يستأهل الذكر سوى حفيده الشاه عباس الثاني ابن الشاه صفي، قال صاحب «تاريخ إيران»: إنه اظهر سياسة واقتداراً، وإنه عقد صلحاً مع الأتراك، فلم تحدث الحروب في أيامه، كما نمت المتاجر وتقدمت العلوم والصنائع، ورتعت البلاد في بحبوحة الأمن والراحة».

وقال السيد الأمين في «معادن الجواهر»: «كان عارفاً بتدبير شؤون الملك مكرماً العلماء، وقد أمر المولى خليل القزويني بشرح كتاب الكافي للكليني بالفارسية، والمولى محمد تقي المجلسي بشرح كتاب من لا يحضره الفقيه، وأحضر المولى محسن الكاشي، وألزمه بإقامة الجمعة والجماعة، واقتدى به».

واستمر ملك الصفوية من سنة ٩٠٥ هجري إلى سنة ١١٤٨، وهي السنة التي جلس فيها نادر شاه أفشار على أريكة السلطنة.

ومن علماء الدور الصفوي المحقق الكركي، والسيد الداماد، والشيخ حسين

_________________________

(١) كتاب «تاريخ إيران» لمكاريوس ص ١٥٣ طبعة ١٨٩٨.

(٢) معادن الجواهر للسيد الأمين ج ٢ وتاريخ الشيعة للشيخ المظفر.

١٦٤

عبد الصمد، وولده الشيخ البهائي، والمجلسي الكبير صاحب البحار، وصدر المتألهين صاحب الأسفار، والمحقق الأردبيلي، والملا عبد اللّه اليزدي، والفيض الكاشي، وغيرهم، وقال بركلمن في الجزء الثالث من «تاريخ الشعوب الإسلامية»: «والحق أن الشاه عباس عني بالفلسفة والعلوم الطبيعية فضلاً عن الفقه، وكذلك ازدهر الشعر والموسيقى في ظل عباس أيضاً».

أصفَهان مَدينَة العجَائِب

في سنة ١٩٦١ أرسلت جريدة «النهار» البيروتية أحد محرريها إلى أصفهان، وهو الأستاذ كمال سنو، ليكتب لها عن الآثار العجيبة التي يتوارثها الإيرانيون جيلاً بعد جيل، والتي تحكي عظمة الإيرانيين بعامة، والصفويين بخاصة، فكتب مقالاً مطولاً، نشر في عدد ١٣ ايلول سنة ١٩٦١.

وبالنظر لأهمية المقال، وفائدته من الوجهة العلمية والتاريخية، وخوفاً من ضياعه، وأن يطوى مع الأيام، كما تطوى أعداد الجرائد، رأيت أن أحتفظ به لوقت الحاجة، وهذا وقتها، وأدرجته في كتابي هذا مسروراً مغتبطاً، لأن في ذلك خدمة للدين والعلم معاً. وليس من شك أن القارئ سيخرج منه، وهو على يقين بأن الصفويين قد بلغوا الذروة في المدنيّة والحضارة، وأنهم قدموا للعالم الإسلامي، وللناس أجمع أجل الخدمات وأعظمها في هذا الميدان. وقد أردنا نحن من حديثنا عمن تحدثنا عنهم من دول الشيعة أن نثبت أن الشيعة ساهموا في عمل الحضارة الإسلامية والعربية، تماماً كما ساهم غيرهم من الطوائف، وأنهم ليسوا في ذلك بأقل حظاً من سواهم، إن لم يكونوا أكثر وأوفر.

قال الأستاذ سنو:

١٦٥

في مدَينَة العجَائب وَالمسَاجد رأيتُ خَطّ الإمَام عَلي في أصفهَان

وقفت تحت قبة مسجد شاه وصفقت مرة واحدة، فإذا بالصدى يعيد التصفيق ٧ مرات.

وقفت على مئذنة منارة جمجم وهززتها، فإذا بها تهتز، ثم تهتز المئذنة المقابلة، ثم يهتز البناء كله.

طفت حول البركة الواسعة في قصر الأربعين عموداً (جهل ستون) لأرى عجائب هندسة العشرين عموداً التي تظهر في المياه في أي زاوية وقفت من زوايا البركة الواسعة.

تأملت الثقب في قبة مسجد جهارباخ، الذي تدخله الشمس في زاوية محددة لا تتغير من الشروق حتى الغروب، وإذا أمطرت الدنيا لا تتسرب نقطة ماء من الثقب إلى داخل باحة المسجد.

صعدت سلالم بناية «علي قابو» التي تبدو من الخارج طابقين، فإذا هي في داخلها سبعة طوابق، وخصص طابقها الأعلى لغرفة الموسيقى عندما كان يدخلها الموسيقيون فيعزفون ساعة أو أكثر ثم يخرجون ويقفلون الباب وراءهم، وعندما يأتي السلطان، يفتح الباب ويدخل مع نسائه فيعود صدى الموسيقى يتردد طوال الليل حتى يقفل الباب.

تجولت في السوق القديمة (البازار) التي تعتبر من أقدم الأسواق في العالم.

زرت مسجد الشيخ لطف اللّه، وكان أول مسجد بني بدون مئذنة، وخصص الطابق تحت الأرض للنساء، والطابق الأعلى للرجال.

قضيت نصف يوم بين أركان مسجد جمعة، الذي يجمع آثار عدة فتوحات فترى فيه منابر الفتح الإسلامي، ومنابر الفتح المغولي، ومنابر السلاطين الفرس.

وسمعت الحديث عن المياه الساخنة الأزلية وكيف حرم منها أهل المدينة بسبب الفضول الإنكليزي.

وسمعت قصصاً عن أركان كثيرة، في نواح عديدة، ينطق كل منها بصفحة من صفحات التاريخ.

كان ذلك في أصفهان، مدينة العجائب.

كل ما عرفته عن أصفهان قبل أن أزورها أنها مدينة صناعة السجاد. وكانت فيما مضى مهداً أدبياً، ومسرحاً حضارياً خلال فترة طويلة من الزمن. وبعد أن زرتها عرفت وجهاً آخر لها.

١٦٦

إنها مدينة السجاد، ومدينة المساجد، ومدينة العلم، ومدينة العجائب، ومدينة الإيمان، ومدينة الصناعة اليدوية، ومدينة من السماء.

وعندما تحلق الطائرة فوق سماء أصفهان، وتجول أكثر من جولة قبل أن تهبط في المطار، تتيح لك فرصة مشاهدة أروع منظر يمكن أن تطل عليه عين من الجو.

مآذن عديدة تعكس الشمس ألوانها الزاهية، وخضرة منتشرة في كل مكان، وميادين رحبة، وتربة صفراء.

وعندما تمشي في شوارعها تشعر بأنك تعيش مع ألفي سنة من التاريخ، أو ثلاثة آلاف سنة، إذ تقول أسطورة فارسية أن أصفهان بناها (تحمورش) الذي هزم ديفس وجيش العمالقة، وتفتش عن بقايا نبوخذ نصر والإسكندر.

ويروون أسماء عديدة لأصفهان: أسبانادا، سافاهان، سياهان، سياهيان، ولكن أصفهان هو الاسم الذي بقي لها من جميع ما أطلق عليها من أسماء. وقد أطلق عليها هذا الاسم سنة ٦٤٤ مع الفتح الإسلامي. ومنذ ذلك الحين بقي هذا الاسم سائداً، واحتفظت المدينة بطابعها الإسلامي وهندستها الإسلامية، وخلال ألف سنة تعاقب خلالها على حكم إيران العرب والمغول والأتراك والافغان والحكام الفارسيون ترك هؤلاء آثارهم وما يدل عليهم. ولكن الحقيقة الدائمة هي أن أصفهان مدينة الصفويين وعاصمتهم، كانت أبهى أيامها في حكم الشاه عباس الكبير الذي جعل منها عاصمة حكمه في العام ١٥٩٠. وشهدت أصفهان أياماً بيضاء كثيرة وأياماً سوداء أكثر. كانت عاصمة بعض الحكام المحليين، وكانت عاصمة إمبراطورية السلجوقيين (من أيام ملك شاه ١٠٤١ حتى أيام محمد شاه ١١١٧) ولكنها دفعت الثمن أيام فتح جنكيزخان وهولاكو.

ميدان التاريخ:

وعندما تقف في الميدان الكبير، ميدان شاه، قلب أصفهان، تشعر وكأنك مكان الشاه عباس، وفي الميدان نفسه الذي كانت تجري فيه ألعاب الفروسية والبطولة، وكان يشهد استعراض الأسرى أو تعذيب المتآمرين.

وفي أطراف الميدان، روائع الهندسة القديمة وعجائبها، فإذا التفت يميناً وقعت على أثر، وإذا التفت يساراً شمخت وأنت تتأمل مئذنة ترتفع أكثر من خمسين متراً في السماء.

١٦٧

وولد هذا الميدان مع مولد المدينة، وأروع ما قيل فيه تضمنته الشاهنامة التي نظمها الفردوسي في القرن الحادي عشر، ويبلغ طوله أكثر من نصف كيلو متر وعرضه مائة وستين متراً. وفي جنباته، بوابة السوق القديمة، ومسجد الشيخ لطف اللّه الذي أعيد ترميمه سنة ١٦١١ والمبنى المشهور باسم علي قابو، ومسجد شاه.

وفي شرفة مبنى علي قابو كان يجلس الشاه عباس الكبير وحوله ضيوفه لمشاهدة الألعاب الفروسية والرياضية والرقصات الشعبية الفارسية.

أجمل مسجد في العالم:

والحقيقة التي يعترف بها الجميع أن مسجد شاه هو أجمل مسجد في العالم، وتعتبر واجهته التي ترتفع ٤٨ متراً من أروع القطع الفنية، بألوانها الزاهية، وزخرفتها الأنيقة، وهندستها الرائعة وشكلها البديع. كما ترتفع فوقها مئذنتان إلى علو ٥٢ متراً.

وقد استغرق بناء هذا المسجد ١٨ سنة (من ١٦١٢ إلى ١٦٣٠) وجيء بالمرمر الذي استعمل في بنائه من أردستان التي تبعد مائة ميل عن أصفهان ولا يزال هذا المرمر يحتفظ بلمعانه حتى اليوم، وكأنه قطع من المرايا الصافية.

وفي المسجد ثلاث باحات للصلاة، وهناك باحة في الهواء الطلق، والباحات الثلاث الأخرى داخلية، وجميع الباحات حافلة بالنقوش البديعة، كما كتبت على الجدران الآيات القرآنية الكريمة.

والأعجوبة الهندسية في هذا المسجد تكمن تحت قبته العالية، إذ تقف تحتها فتصفق مرة واحدة، وإذا بالصدى يعيد الصوت سبع مرات.

والكثيرون يقفون تحت القبة ويصرخون «يا اللّه» فإذا بالصدى يكرر «يا اللّه سبع مرات».

أقرب مكان للإيمان:

١٦٨

أما مسجد الشيخ لطف اللّه(١) فإنه يستجلب النظر لسببين:

أولاً: لأنه مسجد بدون مئذنة.

وثانياً للون العاجي الزاهي الذي يكسو قبته، والنقوش البديعة من حوله، والخطوط الجميلة التي كتبت بها الآيات القرآنية، وقد بنى هذا الجامع الشاه عباس تكريماً للشيخ لطف اللّه، فحمل المسجد اسمه وكان هذا المسجد مخصصاً في البداية للنساء، ولكنه فيما بعد أصبح طابقين: طابق تحت الأرض للنساء وطابق فوق الأرض للرجال.

والشعور الذي ينتاب زائر مسجد الشيخ لطف اللّه هو الشعور الدافق بالإيمان، حتى أن أحد شعراء فارس قال:

«داخل مسجد الشيخ لطف اللّه شعرت بأني قريب جداً من اللّه».

وعلى الرغم من مرور ٣٥٠ سنة على بنائه فإن ألوانه وبناءه لا تزال الآن كما كانت في الماضي لم يطرأ عليها تبديل أو اهتراء، رغم حرارة الطقس في الصيف وسقوط الثلوج في الشتاء.

موسيقى في الطابق السابع:

وفي وسط ميدان شاه يقف مبنى علي قابو، المكان المفضل عند السلاطين الصفويين، وقد بناه الشاه عباس في القرن السادس عشر لينزل فيه ضيوفه من الأجانب، ثم جعله قصره يستقبل فيه السفراء والعظماء والزوار ويقيم فيه حريمه.

_____________________

(١) من علماء جبل عامل، هاجر من قرية ميس إلى خراسان في عهد الشاه عباس، فقربه ورفع من شأنه، وبنى له مدرسة وجامعاً، توفي سنة ١٠٣٣ هجري.

١٦٩

وقد زينت جدرانه بلوحات أنيقة جميلة، تعطي صورة صادقة عن فن الرسم الفارسي، ومعظمها يعكس فكرة الحب، وعندما جاء الحكم القاجاري قام بتغطية هذه الرسوم والنقوش. ولكن الحكم البهلوي أعاد النقوش إلى ما كانت عليه.

وهذا المبنى الذي يبدو من الخارج طابقين له ثلاثة مداخل، اثنان للنساء وواحد للرجال وسلمه يتألف من ١١٧ درجة، وهو في الواقع سبعة طوابق وأطراف وأغرب ما فيها الطابق السابع، الذي يبدو سقفه على هيئة آلات موسيقية مجوفة في الجدران والسقف.

وهذا الطابق كان طابق الانشراح والمرح عند الشاه عباس، وكان الموسيقيون يدخلون إلى غرفة خاصة في هذا الطابق ويعزفون الألحان التي يفضلها الشاه، ويخرجون بعد ذلك ويقفلون الباب وراءهم. وعندما يأتي الشاه عباس يفتح الباب ويجلس مع ندمائه ونسائه، فيعيد الصدى ما عزفه الموسيقيون، ويستمر الطرب والانشراح إلى أن يقفل الباب فتسكت الموسيقى.

ولا تزال هندسة غرفة الموسيقى سراً مغلقاً على الكثيرين، إذ كيف كانت تحتفظ هذه الغرفة بالأنغام ثم تعيدها ؟

مسجد عمره ألف سنة:

وفي أصفهان مسجد قديم قديم، يرجع عمره إلى ألف سنة هو مسجد جمعه. وهذا المسجد يضم عدة أقسام، بنى كل واحد منها فاتح أتاح له القدر فرصة الحكم في أصفهان. ويكاد يتميز كل قسم من هذا الجامع بالطابع الخاص الذي يملكه فنانو كل فتح، ويقول البعض إن هذا المسجد إنما هو في الواقع كتاب تاريخ. فلقد بني هذا المسجد سنة ٧٠٠ ميلادية، ويقال إنه بني في المكان نفسه الذي كان مصدر المياه الساخنة الأزلية. وقد أعيد ترميم هذا المسجد أيام حكم الخليفة العباسي المعتصم في النصف الأخير من القرن التاسع. ولحق به الدمار في العام ١٠٥٠ خلال حكم السلجوقيين وأعيد ترميمه في العام ١٠٥٧.

وترك الأتراك والعرب والمغوليون والفرس آثارهم في هذا المسجد، حتى أن هناك أثراً يعود إلى الأيام التي حكم فيها الأفغان مدينة أصفهان.

ولمسجد جمعه ثمانية أبواب، أجملها مدخل الجنوب الذي ترتفع فوقه مئذنتان وله واجهة آية في النقش الجميل والألوان الجذابة.

١٧٠

وعندما فتح المغول أصفهان أنشأوا قسماً خاصاً في المسجد كتبوا على محرابه صلاة خاصة محفورة في الخشب، كما جاؤوا بمنبر من الخشب حفر بكل إبداع، ولا يزال موجوداً حتى الآن ويعود تاريخه إلى القرن السادس عشر.

وفي مسجد جمعة جناحات مختلفة لتلقي دروس الدين، وللصلاة وفيه باحات كبيرة للصلاة.

ويوم الجمعة من كل اسبوع يغص مسجد جمعه بالمصلين، ويقدر عدد الذين يصلون فيه يوم الجمعة بأكثر من ثلاثين الف شخص.

مدرسة واعجوبة هندسية:

وهناك مكان له عدة اسماء: مدرسة جهارباخ، أو المدرسة، أو مسجد جهارباخ، أو المدرسة السلطانية. وهذا المكان آخر ما بناه الحكام الصفويون في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، وقد بنى المكان الشاه سلطان حسين الذي قتل في احدى غرف هذا البناء الذي يضم ١٣٤ غرفة. والذي أقيم في الأساس ليكون مدرسة لاهوتية يتخرج فيها علماء الدين، وقد انفق على بناء هذه المدرسة ومسجدها مبلغ طائل، وبنيت على أساس تحمل شتى طوارئ الطبيعة وتقلبات الجو، وجعل باب المدرسة من الفضة، وان كانت تحجب الفضة اليوم قطع خشبية.

وفي مسجد جهارباخ اعجوبة هندسية، ففي قبة المسجد فوهة يدخل منها النور في اتجاه معين منذ شروق الشمس حتى غيابها فلا يتغير. حتى ان هذه الفوهة لا يتسرب منها الماء إلى باحة المسجد اذا امطرت السماء.

وقد روى لي مرافقي خلال زيارتي لمسجد ومدرسة جهارباخ فقال:

لقد وضع الشاه سلطان حسين كل همه في بناء المسجد والمدرسة، ولم يكن يهمه من شؤون الدولة سوى انجاز هذا البناء والتفرغ لعبادة اللّه. وعندما بدأت الهجمات على إيران، كان يقول: ليأخذوا إيران وليتركوا لي أصفهان، وعندما بدأ الهجوم على أصفهان قال: ليأخذوا أصفهان وليتركوا لي هذه المدرسة والمسجد، وعندما هجموا على المدرسة لجأ إلى المسجد وقال: ليأخذوا المدرسة وليتركوا لي المسجد، ولكنه قتل في احدى غرف مدرسته، وحتى الآن لم تعرف الغرفة التي قتل فيها.

١٧١

قصر الاربعين عموداً:

والمكان العجيب الآخر هو «جهل ستون» أو قصر الأربعين عموداً، وليس في القصر سوى عشرين عموداً، أما الأعمدة العشرون الأخرى فتنعكس صورتها في بركة الماء الفسيحة التي تمتد امام الأعمدة العشرين بحيث ترى ظلها في أي زاوية تقف عندها من زوايا البركة.

وكان هذا المكان عندما أنشئ استراحة خاصة للشاه عباس، ثم جعله مجلس العرش.

أما اليوم فيستعمل دائرة للآثار ومتحفاً.

واغلى ما في المتحف وثيقة تعود إلى أيام الفتح الإسلامي الأولى، وقد وقفت أتأمل هذه الوثيقة أكثر من نصف ساعة.

إنها الوثيقة التي أرسلها الإمام علي بن أبي طالب إلى المسيحيين يؤمنهم فيها على حياتهم. ورأيت توقيع الإمام علي وبعضاً من خط يده.

وإلى جانب ذلك نسخ مخطوطة عديدة للقرآن الكريم، مع أنواع قديمة للعملة التي كانت تستعمل في سالف الزمان، ولوحات فنية رسمت منذ أكثر من ثمانمائة سنة تمثل الحروب والفتوحات.

يضاف إلى هذا الرسوم الأصلية التي وجدت في قصر الأربعين عموداً عند إنشائه، ومعظمها لوحات فنية للحسان والشباب والصيد والخمر.

المآذن الهزازة:

والاعجوبة التي لا تكاد تصدق في إيران هي «منارة جمجم»، وفيها مئذنتان، وعندما قال لي مرافقي ان هذه المآذن تهتز إذا هزها الانسان، ظننته يمزح.

وصعدت إلى المئذنة الأولى، وهززتها، فإذا بالمئذنة المقابلة تهتز أولاً، ثم تهتز المئذنة التي أقف فيها، ثم يهتز البناء كله.

وكدت لا أصدق ما جربت.

ثم صعد مرافقي إلى المئذنة وفعل ما فعلت، ورأيت اهتزاز المئذنتين والبناء. وسر هندسة هذا البناء الهزاز لا يزال مغلقاً حتى اليوم.

١٧٢

المياه الأزلية الساخنة:

ويتحدثون في أصفهان عن المياه الأزلية الساخنة فيقولون أن أصفهان كانت تنعم بالمياه الساخنة دائماً، ولم يستطع أحد أن يعرف سر هذه المياه الساخنة ومن أين تأتي وما الذي يسخنها.

حتى جاءت بعثة من العلماء الإنكليز فاستغربت مصدر المياه الساخنة وأخذت تبحث عنه، حتى وصلت إلى مكان وجدت فيه خزاناً كبيراً يصب فيه الماء، وقد حفر في الصخر، ووضعت تحته شمعة سوداء صغيرة مضاءة، طولها بضعة سنتمترات.

وأطفأ العلماء الإنكليز الشمعة وأخذوها إلى بلادهم ليحللوها، ولكنهم لم يستطيعوا إعادة إشعالها، كما أنهم لم يستطيعوا معرفة المادة التي تتألف منها.

ولا تزال قصة هذه المياه الساخنة لغزاً من الألغاز في تاريخ أصفهان(١) .

جسور قديمة.

وفي أصفهان بعد ذلك جسور قديمة ترجع إلى مئات السنين، وكلها رائعة الهندسة جميلة المنظر، وبعض الجسور أقيمت لتكون معبراً ولتكون استراحات للناس، وتضمنت هذه الجسور غرفاً يجلس فيها المتنزهون أو يقضون سحابة نهارهم، يجري الماء من تحتهم وهم يطالعون أو يمرحون.

وفي أصفهان أماكن أثرية عديدة، معظمها يرتدي الطابع الديني.

وعندما نقول الطابع الديني فلا نقصد بذلك الطابع الإسلامي وحده، إذ

_____________________

(١) إن هذه الشمعة، والمئذنة وغيرها من الأعاجيب في أصفهان التي كانت في عهد الشاه عباس هي من فكر الشيخ البهائي العاملي وعمله، فقد اهتدى إلى تحطيم الذرة واستخدمها في كثير من الاختراعات، قبل أن يهتدي إليها علماء هذا العصر.

١٧٣

أن في أصفهان عدداً كبيراً من الكنائس والمجامع لطوائف عديدة، وقد يستغرب البعض أن توجد حتى اليوم في أصفهان طائفة زارادشتية تعيش في مجتمعات صغيرة، ومركزها الرئيسي في نجف آباد وأرداستان.

طابع أصفهان الجديد:

وإلى جانب طابع أصفهان القديم هناك طابعها الجديد كمدينة صناعية، مشهورة بصناعة النسيج، وبشكل خاص السجاد الفاخر، والنقوش الفضية، وصناعة الدقة في تزيين الأواني الخزفية والزجاجية والخشبية.

وعلى الرغم من أن البناء الجديد أخذ يشق طريقه إلى أصفهان، إلا أن الكثيرين من الأثرياء لا يزالون يتبرعون لإقامة مزارات للأولياء يصرون على أن يكون بناؤها مطابقاً للبناء القديم. وأبرز بناء حديث على الطراز القديم، جامع السيدة زينب الذي بني منذ خمسة وعشرين عاماً.

والظاهرة الكبرى في أصفهان هي الدراجات.

إن الطلاب والعمال والموظفين والتجار كلهم يملكون الدراجات ويعتمدون عليها كوسيلة للتنقل، ويندر أن تجد في أصفهان شخصاً لا يملك دراجة.

السوق القديمة:

ولا تكتمل زيارة أصفهان، إذا لم يقم الزائر بجولة في السوق القديمة.

وتستطيع أن تشم رائحة التاريخ وأنت تجتاز السوق القديمة ماراً بدكاكين تبيع كل المنوعات من الزيت إلى السجاد إلى الخشب المنقوش والفضة المزخرفة والقماش المطبوع (كالأمكار) إلى الأشياء الصغيرة التي يحملها الإنسان معه تذكاراً لزيارته.

ومن خلال السوق القديمة تشاهد بنايات أثرية قديمة: سراي ساروتاغي، سراي غولشان، سراي مقصد باغ، سراي مخلص، سراي تالار، ومسجد جرشي ومسجد ذو الفقار.

وفي طريق العودة، لا بد لك من أن تحمل معك أطيب ما في أصفهان:

من السماء الذي امتازت به هذه المدينة. مدينة العجائب. مدينة المساجد.

١٧٤

عَدَد الشيعَة وَبُلدانهُم

الغرض:

ليس الغرض من هذا الفصل أن نثبت أفضلية الشيعة، أو فضلهم بكثرة عددهم، وانتشارهم في البلدان، وأكثريتهم في بعضها. لأن الكثرة لا تكشف عن الحق، والقلة لا تدل على الضلال، وقديماً قيل «إن الكرام قليل» وقال أمير المؤمنين الذي يدور الحق معه كيفما دار: «لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة». ولو كانت الكثرة تغني عن الحق شيئاً لكانت الطوائف غير الإسلامية أفضل ديناً، وأصح عقيدة من المسلمين، وإنما الغرض الأول أن نثبت أن الشيعة كسائر الفرق والطوائف التي لها كيانها وتأثيرها بغض النظر عن أن عقيدتها صحيحة أو زائفة. وأن الذين يتجاهلون وجودها، وينظرون إليها كفئة قليلة يمكن استئصالها، كالحفناوي ومحب الدين الخطيب، ان هؤلاء بعيدون عن الواقع كل البعد، ولا يعبّرون إلا عن رغباتهم وأحلامهم. إن القضاء على الشيعة لن يكون إلا بالقضاء على جميع المسلمين، ولن يكون ذلك، حتى لا يبقى على وجه الأرض ديار.

الدين والدولة:

كانت الدول فيما مضى - شرقية كانت أم غربية - تقوم على أساس الدين، فتخول لنفسها حق التدخل في شؤون الإنسان الداخلية والخارجية، لأنها نائبة عن اللّه. ومن هنا كانت تعامل الناس على أساس أديانهم ومعتقداتهم، لا على المؤهلات العلمية والخلقية، فتحابي أبناء دينها، وتضطهد الآخرين، او تتجاهل وجودهم كرعايا ومواطنين. ومحال أن تسير مثل هذه الدول على سبيل العدل والمساواة، ويكون لها مبادئ عامة تطبقها على الجميع دون امتيازات واختصاصات إلا إذا انسلخت كلية عن الدين، أو كان من دينها عدم الفرق والتفاوت بين الأديان. وحينئذ لا تكون دينية بالمعنى المألوف المعروف بين الناس.

بل رأينا رؤساء الدول في هذا العصر يحابون أبناء ملتهم، ويرفعونهم فوق الناس والأجناس، وفي الوقت نفسه يدعون بأنهم حكام زمنيون، لا تمت دولاتهم وحكوماتهم بسبب إلى مذهب أو دين. رأينا كيف قامت قيامة الدول المسيحية في أميركا وأوربا، حين قتل مسيحي في أقصى الأرض أو أدناها، حتى ولو كان القتل لسبب مشروع. وكيف حشدت تلك الدول صحفها وإذاعاتها بالاحتجاج والضجيج. وكيف تجاهلت مذبحة العرب في فلسطين على أيدي اليهود، والدماء التي

١٧٥

أجرتها فرنسا أنهراً في الجزائر. إن مجرد وصف الدولة، أية دولة بأنها دينية معناه التحيز، وعدم التحرر، وتفضيل بعض الأديان على بعض حتى ولو لم تقم على أساس الدين، وينص دستورها على أنها دينية. أجل، قد تكون بعض الدول أكثر تسامحاً من غيرها، ولكنها لا تتخلى كلية عن المحاباة، فالامتياز موجود في الحالين، وعند الدولتين، وإن اختلف في الشدة والضعف.

عدد الشيعة:

ومن هنا كان التفاوت في عدد الشيعة والسنة قلة وكثرة حسب الدول القائمة الحاكمة ديناً ومذهباً، ففي عهد الأمويين والعباسيين كان السنة أكثر عدداً من الشيعة، وفي عهد البويهيين والفاطميين كانت الكثرة في جانب الشيعة، وفي عهد السلجوقيين والأيوبيين والعثمانيين ازداد عدد السنة، حتى أصبحوا على تعاقب الأجيال والقرون أضعاف عدد الشيعة، قال السيد محسن الأمين في الجزء الأول من أعيان الشيعة:

«ما زال التشيع يفشو ويقل، ويظهر ويختفي، ويوجد ويعدم في بلاد الإسلام على التناوب، وغيره بحسب تعاقب الدول الغاشمة وغيرها، وتشددها وتساهلها، حتى أصبح عدد الشيعة اليوم في انحاء المعمورة يناهز الخمسة والسبعين مليوناً(١) منها نحو اثنين وثلاثين مليوناً في الهند، ونحو خمسة عشر مليوناً في إيران،

_____________________

(١) قال الأستاذ حسن الأمين ابن المؤلف معلقاً على قول أبيه: كان هذا يوم تأليف الكتاب، أي منذ أكثر من ثلاثين سنة، والعدد اليوم أكثر من ذلك بكثير.

١٧٦

ونحو عشرة ملايين في روسيا وتركستان، ونحو خمسة ملايين في اليمن، ونحو مليونين ونصف في العراق، ونحو مليون ونصف في بخارى والأفغان، ونحو مليون في سوريا ومصر والحجاز، ونحو سبعة ملايين في الصين والتبت والصومال وجاوى، ونحو مليون في البانيا وتركيا، ومرادنا بشيعة الهند وسوريا خصوص الإمامية غير الإسماعيلية الآغاخانية، وبشيعة اليمن ما يعم الزيدية والاثني عشرية، وبشيعة الألبان غير البكتاشية».

وغريب حقاً أن يكون للشيعة هذا العدد بعد أن ظلوا هدفاً لاضطهاد الحكومات مئات السنين، وتعرضوا لموجات من تعصب إخوانهم السنة في كثير من البلدان والأزمان، وقد وضعنا كتاباً خاصاً «الشيعة والحاكمون» في معاملة الحكام للشيعة، ونذكر هنا مثلاً واحداً مما جاء في كتب السير والتاريخ(١) لتعصب السنة ضد الشيعة:

نقل ياقوت في معجمه أنه في سنة ٦١٧ هجري مرّ على مدينة الري فوجد أكثرها خراباً، ولما سأل بعض عقلائها عن السبب أجاب بأنه كان في المدينة ثلاث طوائف: شيعة وأحناف وشافعية، فتظاهر الأحناف والشافعية على الشيعة، وتطاولت بينهم الحروب، حتى لم يتركوا من الشيعة إلا من نجا بنفسه. ثم وقعت الحرب بين الأحناف والشافعية. فتغلب هؤلاء على أولئك. وهذا الخراب هو في ديار الشيعة والأحناف فقط.

وتدلنا هذه الحادثة على أن التعصب كان بين مذاهب السنة ضد بعضها البعض تماماً، كما كان بين السنة والشيعة، ولكن الجميع يد واحدة على العدو المشترك.

من بلدان الشيعة:

ليس لدي من المصادر لبلدان الشيعة سوى كتاب الأعيان للسيد الأمين، وتاريخ الشيعة للشيخ المظفر، وهما - كما رأيتُ - غير كافيين، ولذا جعلت العنوان «من بلدان الشيعة»:

_____________________

(١) انظر المجلد الثامن من المنتظم لابن الجوزي. وحوادث سنة ٤٠١ و٤٠٦ و٤٠٨ و٤٤٣ و٤٤٤ من الكامل لابن الأثير.

١٧٧

العراق:

قال الشيخ المظفر: إن جنوب العراق شيعة، ولئن وجد الخليط في بعض بلاده فلا يكون إلا أفراداً قلائل، ويشمل الجنوب الكوت، والعمارة، والغراف، وما سواها من بلاد دجلة، وأيضاً يشمل السماوة والديوانية والناصرية، وما سواها من بلاد الفرات.

أما البلاد الشمالية فسكانها على العموم من أهل السنة إلا أن الشيعة فيها ليسوا بالقليل.

أما البلاد الوسطى كالحلة فهي شيعة خالصة سوى أفراد معدودين في نفس القصبة، ولواء بغداد أكثريته من الشيعة، ومثله لواء ديالى، بعكس لواء الديلم، ومع هذا فالشيعة فيه غير قليل، وعليه فالعراق اليوم سبعة من ألويته شيعة، وفيها شعوب من غيرهم، وخمسة سنة، وفيها خليط من الشيعة، ولواءان مختلطان يغلب عليهما التشيع، هذا ما يعرفه المستقرئ لبلاد العراق(١) .

إيران:

وهي أسبق البلاد الإسلامية - غير العربية - إلى التشيع، فقد دخلها المذهب في عصر الحجاج سنة ٨٣ هجري كما قدمنا، وعملت على نشره وإعزازه بشتى الوسائل، وشيدت حضرات الأئمة وطلت قبابها بالذهب الإبريز، وملأت خزائنها بالثمين والنفيس من المعادن والجواهر.

الأفغان:

وكانت جزءاً من مملكة إيران في عهد الصفويين، وهي الآن من البلدان المستقلة المحايدة، قال السيد الأمين في الأعيان:

«انتشر التشيع في الأفغان في عهد الملوك الصفوية، وعينوا مدرسين ومشايخ إسلام في مدنها الهامة، مثل هرات وكابل وقندهار وغيرها، وكان الشيخ حسين

_____________________

(١) المؤلف الشيخ محمد الحسين المظفر من علماء النجف، وهو أعرف بهذه الإحصاءات من غيره، وقد ألف كتابه تاريخ الشيعة سنة ١٣٥٢ هجري، وعلى هذا يكون عدد الشيعة في العراق أكثر بكثير مما قاله السيد الأمين في أعيانه.

١٧٨

ابن عبد الصمد العاملي والد الشيخ البهائي معيناً شيخ الإسلام في هرات، والآن لا يخلو بلد من بلاد الأفغان من الشيعة، ولكن عددهم غير معلوم على التحقيق إلا أن فيهم كثرة لا يستهان بها تقدر بنحو ٤٠٠ ألف. وفيهم جماعة من أهل العلم يتعلمون في مدرسة النجف الأشرف».

أذربيجان:

ومن مدنها تبريز وخوي وسلماس وأرمية وأردبيل ومرثد، وفي كتاب مراصد الإطلاع أن فيها قلاعاً كثيرة، وخيرات واسعة، قال صاحب الأعيان:

وأهلها اليوم كلهم شيعة ما عدا بعض أهل أرمية، والظاهر أن تشيعهم من عهد الصفويين، وهي داخلة اليوم في مملكة إيران.

الآستانة:

كانت عاصمة العثمانيين الذين انقرض سلطانهم بعد الحرب العالمية الأولى، قال السيد الأمين: فيها عدد كثير من الشيعة هاجروا إليها من إيران، ومن ترك أذربيجان، وهم أهل تجارة وكد وعمل وثروة وتمسك بالدين، يقيمون العزاء لسيد الشهداء، ولا سيما في عشر المحرم، ويعملون الشبيه، ثم يخرجون في الشوارع، وكانت الدولة العثمانية تمنحهم الحرية التامة، وتحافظ عليهم، أما اليوم فيقتصرون على إقامة العزاء فقط.

البحرين والأحساء والقطيف وقطر:

إن تشيع أهل البحرين وقصباتها مثل القطيف والأحساء شائع منذ عهد الصحابة، والسر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث والياً عليها إبان بن سعيد بن العاص الأموي، وكان إبان من الموالين لعلي والمتخلفين عن بيعة أبي بكر، ثم صار عاملاً عليها عمر بن أبي سلمة، وأمه أم سلمة، زوجة رسول اللّه، وفي عهد أمير المؤمنين ولى عليها معبد بن العباس بن عبد المطلب، فغرس هؤلاء الولاة التشيع في أهل البحرين، وأول جمعة أقيمت في الإسلام بعد المدينة كانت في البحرين (أعيان الشيعة ج ١).

وقال الشيخ المظفر في «تاريخ الشيعة»: «حاول عبد الملك أن يحمل أهل البحرين على مفارقة التشيع فأبوا، وأراد أن يستعمل القوة فخاف بأسهم، فصالحهم على نزع السلاح، وأن يرفع عنهم الخراج لقاء ذلك، وداموا على التشيع لا يخشون سلطة حاكم، ولا يرهبون من التصريح به سطوة ظالم، وكان فيها كثير من العلماء والأفاضل والشعراء.

١٧٩

أما القطيف فهي شيعة خالصة، وأما الأحساء فالشيعة يشاطرون غيرهم، كما أن في قطر كثير من الشيعة(١) ولا يزال من هذه البلاد في النجف الأشرف مهاجرون، لتحصيل علم أهل البيت (ع)، وفيها اليوم جماعة من أهل الفضل، وكانت هذه البلاد ممتحنة بسلطة آل عثمان، ولما انتزعها منهم ابن سعود كانت محنتهم أشد».

ومن الخير أن نذكر بهذه المناسبة أن المرحوم السيد محسن الأمين العاملي ألف كتاباً قيماً على أثر هدم السعوديين قبور أئمة البقيع، أسماه «كشف الارتياب» استقصى فيه تاريخ الوهابيين منذ نشأتهم، حتى يومه رحمة اللّه عليه.

جبل عامل:

ويسمى جبل الجليل، وجبل الخليل، وأهله أقدم الناس في التشيع لم يسبقهم إليه إلا بعض أهل المدينة. ومن نظر إلى هذا الجبل وتاريخه نظرة تأمل وإمعان أخذته الدهشة لنشاط أهله وجهادهم في سبيل العلم والدين والحياة منذ القديم، حتى اليوم على الرغم من فقرهم، وقلة عددهم، وما توالى عليهم من الظلم والاضطهاد. رحلوا إلى إيران والعراق ومصر والشام لطلب العلم، وهاجروا إلى جميع القارات وأقصاها طلباً للعيش. ويحمل الآن المئات من شبابهم الشهادات العالية، ويتولون أعلى المناصب في الدولة، مع العلم بأن بعضهم ابن حمال، وآخر ابن ماسح أحذية، أو ابن كناس إلخ.. وليس لدي أي تعليل مقنع لذلك، وما زلت أتساءل: هل هي التربة، أو شملتهم دعوة صالحة، أو عناية من لدن حكيم خبير ؟ ومهما يكن، فإني أدع الحديث هنا للشيخ المظفر في

_____________________

(١) ترد علي بين الحين والحين رسائل من قطر يطلب أصحابها نسخاً عديدة من كل كتاب من مؤلفاتي وغيرها من كتب الشيعة، فأرسلها لهم بدون تأخير، لوفائهم وحسن معاملاتهم.

١٨٠