الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 126956
تحميل: 6893

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126956 / تحميل: 6893
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القرآن محدث

قال السنة: القرآن كلام اللّه، وشأن من شؤونه، واللّه قديم، فالقرآن قديم. وقال الإمامية: انه محدث، وليس بقديم، وان اللّه سبحانه خلق الكلام، كما خلق سائر الأشياء، أي أوجد حروفاً وأصواتاً في أجسام دالة على المراد.

تفسير القرآن

من الآيات ما بلغت الغاية من الوضوح، كقوله تعالى «قل هو اللّه أحد. وهو على كل شيء قدير» وهذا النوع يجوز أن يفسره العالم والجاهل، ومنها دون ذلك في الظهور كقوله سبحانه «ويقولون حجراً محجوراً. لا يبغون حولاً» ومثل هذا يجوز أن يفسره من عرف اللغة العربية صناعة وذوقاً دون الجاهل، ومنها المتشابه، وهو ما اشتبهت معانيه، وإنما يقع الاشتباه في أمور الدين - غالباً - كنفي التشبيه والجور عن اللّه جل ثناؤه. وقد بين صاحب مجمع البيان الحكم في المتشابه عند تفسير «وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم» ٧ آل عمران قال: ان الراسخين في العلم هم الضابطون له المتقنون فيه.. ومما يؤيد هذا أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن، ولم يتوقفوا بأن قالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا اللّه، وكان ابن عباس يقول في هذه الآية: انا من الراسخين في العلم.

ولا تجوز الإمامية لأحد أن يستنبط الأحكام الشرعية من القرآن إلا إذا درس مع العلوم العربية العلوم الدينية كالأصول والفقه والحديث، ووقف على أسباب النزول، واجتنب الغلو، لأن في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومجملاً ومبيناً، فمن الآيات لا يعمل بها مطلقاً، كالآية ٢٤١ البقرة «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إِخراج» فكان على المرأة إذا مات زوجها أن تعتد سنة كاملة بحكم هذه الآية، ثم نسخت بالآية ٢٣٥ البقرة «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً» فاستقر حكم عدة الوفاة على المرأة أربعة أشهر وعشرة أيام. ومن الآيات التي لا يؤخذ بعمومها الآية ١٧٧ البقرة «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر» قال الفقهاء: إِن الأب لا يقتل إذا قتل ولده ظلماً وعدواناً. ومن الآيات المجملة ما ورد في وجوب الصلاة والصوم والزكاة، وما إليها، إِذن من الآيات يجوز أن يفسرها العالم والجاهل، ومنها ما يفسرها العالم الضابط، ومنها يفسرها المجتهد في الفقه.

٢٨١

وقال الإمامية: إن الحديث يفسر ويخصص آيات القرآن، ولا يجوز أن ينسخ آية من آياته، وإنما تنسخ الآية بآية مثلها. والقرآن هو الدليل الأول من الأدلة الأربعة للشريعة، وهي الكتاب والسنة والاجماع والعقل، وعدد آياته نحو ستة آلاف آية، وآيات الأحكام منها نحو خمسمائة، أكثرها في العبادات والأحوال الشخصية.

كتب التفسير للإمامية

وللإمامية عدة كتب في التفسير منها مجمع البيان للطبرسي طبع مراراً، وكتاب التبيان للشيخ الطوسي مطبوع، وتفسير النعماني لمحمد بن ابراهيم، وخلاصة التفاسير لسعيد بن هبة اللّه الراوندي، وآلاء الرحمن للشيخ جواد البلاغي، طبع منه الجزء الأول، وقلائد العقيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ أحمد الجزائري مطبوع، وزبدة البيان في تفسير آيات الأحكام لملا أحمد الأردبيلي، وكنز العرفان في آيات الأحكام أيضاً للمقداد بن عبد اللّه السيوري وغيرها *.

_____________________

* - المصادر: مجمع البيان، وشرح التجريد للعلامة الحلي، وتقريرات النائيني للشيخ محمد علي الخراساني، ورسائل الشيخ الأنصاري، والجزء الأول من أعيان الشيعة، والجزء الأول من آلاء الرحمن، وأوائل المقالات للمفيد.

٢٨٢

عِلم الحَديث عِندَ الإمَاميَّة *

الف علماء اللغة كتباً جمعوا فيها ألفاظ المفردات مع بيان معانيها، وكتباً دونوا فيها القواعد العربية كالصرف والنحو، والف الإمامية كتباً لجمع الحديث، وكتباً لرواة الحديث، وكتباً لنقد الحديث، ويحوي النوع الأول المعتقدات والانباء، والأوامر والنواهي، وأنواع المعاملات تتصل بالتسلسل إلى المعصوم، والنوع الثاني يشتمل على أسماء الرواة، فيذكر كل راوٍ باسمه وصفاته، ويسمى هذا علم الرجال، وفي النوع الثالث يذكر فيه النظم العامة والقواعد الكلية لمعرفة الأحاديث الصحيحة من غيرها، ويسمى علم الدراية، والغرض من هذه الأنواع الثلاثة واحد، وهو إِثبات السنة النبوية بالطريق الصحيح.

كتب الحديث

ومن كتب الحديث الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني «ت ٣٢٨ هجري» وفيه ١٦٠٩٩ حديثاً وكتاب من لا يحضره الفقيه لمحمد بن بابويه المعروف بالصدوق «ت ٣٨١ هجري» وفيه ٩٠٤٤ حديثاً وكتاب التهذيب لمحمد بن الحسين الطوسي «ت ٤٦١ هجري» وفيه ١٣٠٩٥ حديثاً، وكتاب الاستبصار للشيخ الطوسي المذكور، وفيه ٥٥١١ حديثاً، وكتاب الوافي المعروف بمحسن الفيض «ت ١٠٩١ هجري» وهو ١٤ جزءاً، وكتاب الوسائل للحر العاملي «ت ١٠٣٣ هجري» وهو ٦ مجلدات وغير ذلك مما يضيق المقام عن ذكره، وهذه الكتب مبوبة مرتبة، يذكر في كل

_____________________

* - نشر في العرفان كانون الأول ١٩٥٤.

٢٨٣

باب جميع ما يتصل به من الأحاديث، والكتب الستة الآنفة الذكر معروضة للبيع مع غيرها في المكتبات العامة بإِيران والعراق.

كتب الرجال

ومن كتب الرجال المطبوعة: كتاب الرجال لأحمد بن علي النجاشي «ت ٤٥٠ هجري» وكتاب الرجال للشيخ الطوسي، وكتاب معالم العلماء لمحمد بن علي بن شهر اشوب «ت ٥٨٨ هجري» وكتاب منهج المقال للميرزا محمد الاسترابادي «١٠٢٠ هجري» وكتاب إتقان المقال للشيخ محمد طه نجف «١٣٢٣ هجري» وكتاب الرجال الكبير للشيخ عبد اللّه المقمقاني من علماء هذا القرن، إلى غير ذلك مما كتب علماء الشيعة في هذا الموضوع.

ومن الكتب المطبوعة في نقد الحديث كتاب البداية في علم الدراية للشيخ زين الدين بن علي العاملي «٩٦٦» وكتاب الوجيزة للشيخ البهائي العاملي «١٠٣٢» وكتاب شرح الوجيزة للسيد حسن الصدر من علماء هذا القرن، وكتاب مقياس الهداية للشيخ عبد اللّه المقمقاني، إلى غير ذلك من الكتب.

أقسام الحديث

وقسم الشيعة الحديث إلى قسمين متواتر، وآحاد، والمتواتر أن ينقله جماعة بلغوا من الكثرة حداً يمتنع اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب. وهذا النوع من الحديث حجة يجب العمل به. أما حديث الآحاد فهو ما لا ينتهي إلى حد التواتر، سواء أكان الراوي واحداً أم أكثر، وينقسم حديث الآحاد إلى أربعة أقسام:

١ - صحيح، وهو ما إذا كان الراوي إِمامياً ثبتت عدالته بالطريق الصحيح.

٢ - الحسن، وهو ما إذا كان الراوي إمامياً ممدوحاً، ولم ينص أحد على ذمه أو عدالته.

٣ - الموثق، وهو ما إذا كان الراوي مسلماً غير شيعي، ولكنه ثقة أمين في النقل.

٤ - الضعيف وهو غير الأنواع المتقدمة، كما لو كان الراوي غير مسلم أو مسلماً فاسقاً أو مجهول الحال أو لم يذكر في سند الحديث جميع رواته.

٢٨٤

العمل بالحديث

وقد أوجبوا العمل بالحديث الصحيح والحسن والموثق لقوة السند، والاعراض عن الضعيف لضعف السند، ولكنهم قالوا: إن الضعيف يصبح قوياً إذا اشتهر العمل به بين الفقهاء القدامى، لأن أخذهم بالضعيف مع علمنا بورعهم وحرصهم على الدين وقربهم من الصدر الأول يكشف عن وجود قرينة في الواقع اطلع أولئك الفقهاء عليها، وخفيت علينا نحن، ومن شأن هذه القرينة أن تجبر هذا الحديث. وتدل على صدقه في نفسه مع قطع النظر عن الراوي، كما أن القوي يصبح ضعيفاً إذا أهمله الفقهاء القدامى، فإن عدم عملهم به مع أنه منهم على مرأى ومسمع يكشف عن وجود قرينة تستدعي الاعراض عن هذا الحديث بالخصوص، وإن كان الراوي له صادقاً.

ومن علامات وضع الحديث عند الشيعة أن يكون مخالفاً لنص القرآن الكريم، أو لما ثبت في السنة النبوية، أو للعقل، أو ركيكاً غير فصيح، أو يكون إِخباراً عن أمر هام تتوافر الدواعي لنقله، ومع ذلك لم ينقله إلا واحد، أو يكون الراوي مناصراً للحاكم الجائر.

تعارض الحديثين

إذا ورد حديثان، وأثبت أحدهما ما نفاه الآخر، فإن كان أحد الحديثين معتبر السند دون الثاني، أخذنا بالمعتبر وطرحنا غيره، ولا يتحقق التعارض في هذه الحال، وإنما يقع التعارض إذا كان معاً معتبرين بحيث يعمل بكل منهما، لو كان بدون معارض.

٢٨٥

ومتى تم التعارض يؤخذ بأشهر الحديثين، والمراد بالأشهر أن يكون معروفاً عند الرواة، ومدوناً في كتب الحديث أكثر من الطرف الثاني، وإن تساويا بالشهرة، أخذ بالأعدل والأوثق، وقال المرزا النائيني في تقريرات الخراساني «باب التعارض»: ليس المراد بالأعدل والأوثق من كان أكثر زهداً في الدنيا، بل من كان أعدل في صدق القول وأوثق في النقل، وإذا تساويا في الصدق عرض الحديثان على كتاب اللّه، وأخذ بالحديث الموافق دون المخالف، وإذا كانا معاً لا يتنافيان مع ظاهر الكتاب، وتساويا في سائر الجهات، فالقاعدة المستفادة من الأحاديث الثابتة الصحيحة تستدعي التخيير في العمل بأحدهما، وترك الآخر، وقيل: تعارضا تساقطا كما هو الأصل، أي يترك العمل بهما معاً وتصير الواقعة مما لا نص فيها.

وبالتالي إن الإمامية يعتقدون أن الحديث مصدر من مصادر العقيدة الإسلامية، وأصل من أصول الشريعة المحمدية، وإن إِهماله إهمال للدين ومبادئه. لذا كانوا وما زالوا يجدون ويجتهدون في نقد الحديث وتمحيصه والاحتفاظ به، وبكل ما يمت إلى الإسلام بسبب قريب أو بعيد. *

_____________________

* - المصادر: كتاب تأسيس الشيعة للسيد حسن الصدر، والجزء الأول من أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين. وكتاب منهج المقال للمرزا محمد، وكتاب مقياس الهداية للشيخ عبد اللّه المقمقاني، وتقريرات النائيني للخراساني، ورسائل الشيخ الأنصاري.

٢٨٦

الإجمَاع *

نشأ الاجماع عند المسلمين في المدينة المنورة، وبعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين الصحابة خاصة، ففي عهد الرسول لا مرجع سواه في الأمور الدينية، وفي عهد الصحابة لا فقه ولا فقهاء إلا في المدينة أو منها، فكان من السهل معرفة آراء المجمعين من ذوي القول، لقلتهم والعلم بمكانهم ومكانتهم، وبعد أن اتسعت البلاد الإسلامية، وصار في كل بلد حلقات للدرس، وأقطاب للشرع أصبح الحصول على الإجماع متعذراً أو متعسراً، خاصة أن التأليف والتدوين لم يكن معروفاً ولا مألوفاً في الصدر الأول.

وللإجماع أقسام عديدة، ولكل قسم فروع، ونخص الكلام - هنا - عن أهم الأقسام التي تصلح أصلاً للشرع، ودليلاً للفقيه، وينقسم الإجماع باعتبار الزمان إلى ثلاثة أقسام.

إجماع الصحابة

١ - إِجماع الصحابة بأن تتفق كلمة الأصحاب جميعاً على حكم شرعي، وقد أوجب السنة والشيعة الأخذ بهذا الإجماع، واعتباره أصلاً من أصول الشريعة، ولكنهم اختلفوا في الدليل الدال على اعتباره ولزوم الأخذ به، فقال الشيعة: هو حجة، لوجود الإمام مع الصحابة، وقال السنة هو حجة لحديث «ما اجتمعت أمتي على ضلالة» وعلى أي الأحوال فإن النتيجة واحدة، وهي العمل بإجماع الأصحاب عند جميع المذاهب.

_____________________

* - نشر في العرفان عدد شباط ١٩٥٢.

٢٨٧

إجماع أحد الصحابة

أجمع المذاهب الأربعة على العمل بقول أحد الصحابة إذا لم يقم على خلافه دليل من الكتاب أو السنة النبوية، لأنه اعلم بمراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفضل رفقته له، ومشاهدته لعصر التنزيل، فاجتهاده يقدم على اجتهاد المتأخر عنه(١) .

وذهب الغزالي والآمدي والشوكاني إلى أن قول الصحابي ليس بحجة لأن الصحابة أنفسهم اتفقوا على جواز مخالفة كل واحد منهم للآخر في الاجتهاد، وإذا كان قول الصحابي غير حجة عند الصحابة أنفسهم، فكيف يكون حجة بالقياس إلى غيرهم ! وهذا يتفق مع ما عليه الشيعة فتوى ودليلاً.

اجماع العلماء في عصر الصحابة

٢ - اتفاق العلماء في جميع الأمكنة والبلدان الإسلامية في عصر غير عصر الصحابة، والخلفاء الراشدين. أما الإجماع الإقليمي، أي اتفاق خاص، كإِجماع أهل العراق أو أهل الحجاز، فليس موضوعاً للبحث لأنه ليس إِجماعاً في واقع الأمر.

واتفاق علماء عصر واحد أو عصرين في كل مكان هو المراد - في الغالب - من لفظ الإجماع الموجود في كتب الفقه ومحاورة الفقهاء. ويقع الكلام عن هذا الإجماع في جهتين، الأولى في إمكان الاطلاع على فتوى كل عالم بالذات، والجهة الثانية في دليل هذا الاجماع، وحجة اعتباره.

أما الجهة الأولى، وهي الاطلاع على جميع أقوال علماء عصر من العصور في جميع الأمصار فعسير جداً، وخاصة في العصور الأولى، حيث لم يكن التأليف والتصنيف معروفاً، وبعد أن عرف التأليف لم تكن وسائل النشر متوافرة، هذا وليس كل عالم مؤلفاً، على أن التأليف كان مقصوراً على جمع الأحاديث ونقل الروايات من غير فتوى، وابداء رأي المؤلف، ورب فقيه كبير لم يعلم مكانه،

_____________________

(١) كتاب المدخل إلى أصول علم الفقه، للدكتور الدواليبي ص ٢٥٢ و٢٥٣ و٢٥٥.

٢٨٨

وفقيه عرف واشتهر، ولكن لم يعرف رأيه في مسألة خاصة.

مدعي الإجماع

ومن ادعى أو يدعي أنه استقصى أقوال جميع فقهاء عصره أو عصر من تقدم عليه، وأنه اطلع على أقوالهم واحداً فواحداً، من ادعى ذلك فإنه لا يستند في دعواه إلا على الحدس والتخمين، رأى قول بعض العلماء فظن أنه قول الجميع قياساً للغائب على الشاهد، والمجهول على المعلوم، وقد رأيت كثيراً من الفقهاء يسألهم السائل عن حكم قضية هي من صميم الحياة تتصل بالدماء والأموال والأعراض، فيرجعون إلى كتاب من كتب فروع الفقه التي ذكرت الفرع من غير أصله «ولم يسنده المؤلف إلى دليله، ثم يحكم بقول صاحب الكتاب، كأنه كتاب اللّه المنزل، أو سنة نبيه المرسل، وإذا سألته عن الدليل اكتفى بدعوى الإجماع، والذي يظهر للمتتبع أن هذه الطريقة مألوفة عند المتقدمين أيضاً، فقد طعن العلماء على إِجماعات ابن إدريس، وابن زهرة، والشيخ الطوسي، وغيرهم، وقد جمع الشهيد الثاني أربعين مسألة «ادعى فيها الشيخ الإجماع، وهي مورد الخلاف، بل الشيخ نفسه خالف في أكثرها في موارد أخرى وقال العلامة المجلسي في كتاب الصلاة من كتاب البحار «ان الفقهاء لما رجعوا إلى الفروع نسوا ما أسسوه في الأصول فادعوا الإجماع في أكثر المسائل، سواء أظهر فيها الخلاف أم لا، وافق الروايات المنقولة أم لا، حتى أن السيد وأضرابه كثيراً ما يدعون الإجماع فيما يتفردون به» وقال الميرزا حسين النائيني في تقريرات الخراساني «إذا كان الحاكي للإجماع من المتقدمين على العلامة والمحقق والشهيد فلا عبرة بحكايته» والخلاصة أن الإجماع المنقول بلسان أحد العلماء لا يكون دليلاً لحكم شرعي، وإن كان الناقل شيخ الأولين والآخرين، لأن دين اللّه لا يصاب بحدس فقيه وبما يختلج في خياله.

دليل الإجماع

الجهة الثانية: وهي دليل الإجماع استدل السنة على أن الإجماع أصل من أصول الشريعة بحديث من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية، وبحديث لا تجتمع أمتي على ضلالة أو على خطأ. فالإجماع عندهم أصل مستقل بنفسه، مثل الكتاب والسنة.

ويلاحظ عليهم أولاً: أن الاطلاع على أقوال جميع علماء العصر متعذر، كما أسلفنا، ثانياً: وفي حالة إِمكان الاطلاع على أقوالهم جميعاً نتساءل: لو اتفق علماء عصر واحد على خلاف من تقدم عليهم ممن يعتد بقوله، فهل يسمى اتفاقهم هذا إِجماعاً لأمة محمد ؟ كلا. إن إِجماع

٢٨٩

الأمة معناه إجماع العلماء في جميع الأعصار والأمصار، وإِجماع علماء الأمة في كل عصر ومصر لا يرتاب في حجته عاقل، كما يأتي:

أما الشيعة فلم تثق بحديث لا تجتمع أمتي على خطأ، وقالوا: يكون الإجماع حجة إذا كشف عن رأي المعصوم، وعليه لا يكون الإجماع دليلاً مستقلاً، بل يدخل في السنة، أي أن السنة تثبت بالإجماع كما تثبت بقول الثقا من الرواة.

ويلاحظ على قول الشيعة أن الإجماع إِذا حصل في زمن المعصوم يمكن أن يكشف عن قوله، ولكن لا يكون الإجماع هو الدليل، بل الدليل قول المعصوم، وفي زمن غيابه لا يمكن أن يكشف الإجماع عن قول المعصوم بحال، إِذن لا يكون الإجماع دليلاً في كلتا الحالتين، ولذا قال الشيخ الأنصاري في كتابه المعروف بالرسائل «ان السنة هم الأصل للإجماع، وهو الأصل لهم»، ومعنى هذا أن الشيعة لا تعترف بمثل هذا الإجماع.

وحاول بعض العلماء أن يجعل الإجماع أصلاً شرعياً بما قرره من أن اتفاق العلماء، وخاصة المتقدمين القريبين من عصر الأئمة إِذا اتفقوا على حكم ديني مع اختلافهم في كثير من الأحكام وثقتنا بدينهم وعلمهم. أن اتفاقهم - والحالة هذه - يدل دلالة واضحة أن هناك دليلاً صحيحاً معتبراً قد اطلعوا عليه، وخفي علينا، ويرد هذا القول انه يعتمد على الحدس والتخمين والأحكام الشرعية لا تصاب بالحدس.

وبعد هذا البيان يتضح أن الحكم الديني الذي اتفق عليه أهل عصر واحد أو عصرين هو محل للاجتهاد والجدال والنقاش، سواء أقلنا بقول الشيعة أم السنة، وان من خالف مثل هذا الإجماع لا يكون خارجاً على الأصول الشرعية الإسلامية.

إِجماع العلماء في جميع الأعصار والأمصار

إِذا أجمعت علماء المذاهب الإسلامية في جميع الأعصار والأمصار من عهد الرسول الأعظم إلى يومنا هذا على أمر فلا يسوغ مخالفتهم بحال، حيث يصبح الحكم ضرورة دينية حتمية، ومن يخالفه يخرج عن الأصول الإسلامية. أما إِذا أجمع علماء مذهب يكون الحكم ضرورة مذهبية، ومن يخالفه يخرج عن الأصول المذهبية لا الإسلامية.

العاملون بخلاف الإجماع

خالف بعض العلماء المراجع القسم الثاني من الإجماع، أي اتفاق علماء عصر أو أكثر: منهم السيد كاظم صاحب العروة الوثقى، قال في كتاب الملحقات باب الوقف: ان ظاهر إجماع الإمامية على أن الوقف لا يتم إلا مع الصيغة اللفظية الدالة عليه صراحة، لأن لفظ وقفت،

٢٩٠

وتصدقت ورد في حديث أهل البيت، ومع اعتراف السيد بصحة النص، ووجود الإجماع افتى بعدم وجوب الصيغة في الوقف، إستناداً إلى سيرة الناس وعاداتهم، فإنهم يوقفون بلا صيغة، بل بالمعاطاة، ويكون ذلك وقفاً عندهم، فيكون وقفاً في الشرع أيضاً.

ومنهم المرزا حسين النائيني وغيره من العلماء المتأخرين خالفوا إجماع المتقدمين على أن العقود لا يجوز أن تكون معلقة على شيء، فالوكالة باطلة، إذا قلت لإنسان: أنت وكيلي يوم الجمعة في بيع داري، قال النائيني في تقريرات الخونساري «ليس هذا الإجماع تعبدياً - أي لا يجب العمل به - لأن العلماء أبطلوا هذه العقود لتوهم اعتبار التنجيز أو مانعية التعليق».

ومنهم السيد أبو الحسن، حيث قال في الوسيلة الكبرى «إذا قال أحد أهالي السواد جوزت بدل زوجت صح» مخالفاً في ذلك إجماع العلماء على أن صيغة الزواج يجب أن تكون على العربية الفصحى، وكذلك خالف علماء هذا العصر إجماع المتقدمين على اشتراط العربية في صيغ البيع، كما خالف من قبلهم الإجماع على منزوحات البئر.

وممن خالف الإجماع السيد المرتضى وابن زهرة قالا: إذا طلقت اليائس، والصبية المدخول بها التي لم تبلغ التاسعة فعليهما العدة(١) ، ومنهم الصدوق والشيخ الطوسي والعلامة ونجيب الدين بن سعيد قالوا: إذا مات الزوج، ولم يكن هناك وارث إلا الزوجة ترث الربع بالفرض ويرد الباقي عليها مع غيبة الإمام(٢) ، ومنهم الشيخ محمد رضا آل يس قال في كتاب بلغة الراغبين «باب الإرث»: لا عدة على المتوفى عنها زوجها إذا جرى العقد في مرضه الذي مات فيه، ولم يدخل، ومنهم ابن أبي عقيل وابن الجنيد والصدوق قالوا: تحل ذبيحة أهل الكتاب(٣) .

والخلاصة أن إجماع علماء عصر أو عصرين لا يجعل الحكم قطعياً، وضرورة دينية أو مذهبية، بل يكون اجتهادياً ظنياً يقبل الجدال والنقاش، ومن خالفه لا يكون خارجاً عن الأصول الشرعية. والإجماع الذي يجب العمل به، ولا يكون محلاً للاجتهاد هو إجماع الأمة في كل عصر ومصر من عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا العهد، وعليه يكون الحكم ضرورة من ضرورات الدين.

_____________________

(١) كتاب المسالك للشهيد الثاني «باب الطلاق».

(٢) نفس المصدر «باب الارث».

(٣) نفس المصدر «باب الصيدوالذباحة».

٢٩١

دَليلُ العَقْل *

على المجتهد أن يستخرج أحكامه - قبل كل شيء - من أحد الأدلة الثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع، فمع وجود واحد منها لا يبقى مجال لدليل العقل، وإذا فقدت جميعها لجأ الفقيه إلى الدليل الرابع.

وكان هذا الدليل في الصدر الأول «فكرة المصلحة»(١) التي تختلف باختلاف الأنظار والآراء، فلم يكن الأصحاب يعرفون القياس، والبراءة، والاستصحاب، وما إلى ذلك من الأصول التي عرفت بعد عصر الصحابة، فكان الصحابي إذا عرضت له مسألة اجتهد برأيه على أساس المصلحة روح الإسلام غير مقيد بضابط خاص، أو قاعدة معينة، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها هذه الفتوى للخليفة الثاني عمر بن الخطاب:

روى مالك أن الضحاك بن قيس ساق خليجاً له، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى فقال له: تمنعني، وهو لك منفعة ! تسقي منه ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فأمر عمر محمداً أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا. قال له عمر: لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك. فقال محمد: لا. فقال له عمر: واللّه ليمرن به ولو على بطنك(٢) .

وبعد عصر الصحابة تركز الاجتهاد على أصول خاصة، وقواعد معينة، وقد اختلفت كلمة المذاهب الإسلامية في تعيين الدليل الرابع.

_____________________

* - نشر في العرفان عدد نيسان ١٩٥٢.

(١) كتاب المدخل إلى علم أصول الفقه ص ٨٣ للدكتور الدواليبي.

(٢) المدخل إلى علم أصول الفقه ص ٢٥٩ للدكتور الدواليبي.

٢٩٢

مذاهب السنة والدليل الرابع

قال الحنفية والمالكية: هو القياس، والاستحسان، والاستصلاح(١) .

وقال الشافعية: هو القياس فحسب، ولا يعتمد على الاستحسان والاستصلاح(٢) وقال الحنبلية هو القياس والاستصلاح(٣) .

والقياس هو إِلحاق أمر غير منصوص عليه بآخر منصوص عليه، إِلحاقه به في الحكم الشرعي لاتحاد بينهما في العلّة(٤) مثلاً نص الشرع على أن الجدة لأم ترث، ولم ينص على الجدة لأب، فنورث الجدة لأب قياساً على الجدة لأم، لأن كلتيهما جدة، وهذا أشبه شيء بقياس المساواة، ومن أدلتهم على اعتبار القياس، قوله تعالى (واعتبروا يا أولي الأبصار)(٥) والشيعة الإمامية منعوا العمل بالقياس، ومن المأثور عنهم، والمشهور على ألسنتهم وفي كتبهم «ليس من مذهبنا القياس» واستثنوا من حرمة العمل بالقياس حالتين: العلة المنصوصة، مثل لا تشرب الخمر، لأنه مسكر، ومفهوم الأولوية، مثل لا تقل لهما أف، والحقيقة انهما ليسا من القياس في شيء، لأن النص في المثال الأول أثبت الحرمة لكل مسكر خمراً كان أو غيره، فالحكم لغير الخمر ثبت بالنص، لا بالقياس، وكذا في المثال الثاني، فإن النص أثبت الحرمة لكلي الاهانة الشاملة للشتم والضرب، وعُبِّر عن العام بأضعف أفراده، وهو التأفيف، للتنبيه على أهمية الطاعة والتأدب مع الوالدين.

أما الاستحسان فقد عرّفه أبو الحسن الكرخي من الأحناف أنه العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي العدول، وقال ابن العربي من المالكية أنه العمل بأقوى الدليلين(٦) وفسره بعضهم بأنه دليل ينقدح

_____________________

(١) المرجع السابق ص ٣٢٣ - ٣٢٦.

(٢) نفس المرجع ص ٣٣٢.

(٣) نفس المرجع ص ٣٣٦.

(٤) نفس المرجع ص ٢٧٩.

(٥) شرح جمع الجوامع لابن السبكي المطبوع مع حاشية البناني ج ٢ ص ٢١٥ وفلسفة التشريع للأستاذ المحمصاني ١٢٢ طبعة ثانية.

(٦) المدخل إلى علم أصول الفقه ص ٢٧١ - ٢٧٢ للاستاذ الدواليبي.

٢٩٣

في نفس المجتهد تقصر عنه عبارته(١) .

ولم تستطع هذه التعاريف، ولا غيرها أن تحدد لنا حقيقة الاستحسان، وتبين مراد القائلين به، فهي كما ترى لا نفهم منها معنى معيناً يتميز عن غيره، ويحملنا هذا على الظن أن القائلين بالاستحسان أنفسهم لم يفهموه فهماً صحيحاً يرتكز على أساس معقول.

والأمثلة التي ذكروها للاستحسان مختلفة أشد الاختلاف، فمنها ما تنطبق عليه قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» ومنها تنطبق عليه تقديم الأهم على المهم، ومنها ما يدخل في المصالح المرسلة، وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس للاستحسان ضابط معين، وأن اعتماد الفقيه عليه يؤدي إلى الفوضى في الأحكام، ولذا قال الشافعي: من استحسن فقد شرع، أي أحدث شرعاً من قبل نفسه(٢) .

أما الاستصلاح أو المصالح المرسلة فهو أن يُستخرج الحكم من طبيعة المصلحة على شريطة عدم وجود النص، مثل إنشاء الدواوين، وإِقامة المحاكم للفضل بين الناس، وما إلى ذلك مما تستدعيه المصلحة(٣) ولم أَر في أقوال العاملين بالمصالح المرسلة وأمثلتهم ما يتنافى مع شيء من مذهب الشيعة الإمامية، لأنها في الحقيقة تطبيق للقواعد الكلية، والمبادئ الإسلامية عند فقدان النص.

الشيعة الإمامية والدليل الرابع

إِذا أراد الشيعة الإمامية أن يستخرجوا حكماً شرعياً لمسألة تعرض لهم بحثوا - قبل كل شيء - في نصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء باذلين أقصى الجهد في الفحص والتنقيب، فاذا وجدوا نصاً خاصاً أو إجماعاً وقفوا عنده وعملوا وإذا لم يجدوا ذلك لجأوا إلى العمومات والقواعد الكلية التي وردت في نصوص الكتاب والسنة، أو قام عليها الإجماع، مثل أوفوا بالعقود، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي، والولد للفراش، والحدود تدرأ بالشبهات، وكل شرط جائز

_____________________

(١) شرح جمع الجوامع لابن السبكي المطبوع مع حاشية البناني ص ٢٢٤.

(٢) نفس المرجع والصفحة.

(٣) المدخل إلى علوم أصول الفقه ص ٢٧٣ - ٢٧٧ وما بعدها للأستاذ الدواليبي.

٢٩٤

إلا ما حلل حراماً أو حرم حلالاً، وما إلى ذلك، فإذا جهلوا حكم معاملة وقعت بين اثنين، وانه هل يجب الوفاء بالعقد الذي اتفقا عليه أو لا يجب ؟ حكموا بوجوب الوفاء تمسكاً بعموم أوفوا بالعقود، وإذا حامت الظنون حول مولود ولد من زوجة شرعية، حامت أنه ولد الزوج الشرعي أو غيره حكموا بأنه ابن شرعي للزوج عملاً بعموم الولد للفراش، وإذا ترددوا في جواز قتل مجرم، حقنوا دمه أخذاً بحديث الحدود تدرأ بالشبهات، وإذا تلف مال الغير في يد إنسان، حكموا عليه بدفع البدل من المثل أو القيمة حتى يقوم الدليل على العكس، وإذا اشترط إنسان على نفسه شرطاً محللاً، ألزموه به استناداً إلى حديث كل شرط جائز إلا ما يحلل حراماً أو يحرم حلالاً، ومتى أعوزهم الإجماع والنصوص الخاصة والعامة لجأوا إلى الدليل الرابع، وهو عندهم الاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، والتخيير، وهذه الأصول الأربعة تشترك جميعها بأنها وظيفة الجاهل بحكم الواقعة بسبب فقدان النص والإجماع، قالوا: إن المجتهد لو طبق عمله على مؤداها يكون معذوراً عند اللّه والناس غير مستحق للوم ولا عقاب أخطأ أم أصاب.

ومعنى الاستصحاب هو الأخذ بالحالة السابقة إلى أن يثبت العكس - مثلاً - استأجر زيد داراً من عمرو، وسكن فيها عشرات السنين حال حياة عمرو، ثم توفي عمرو، فطالب ورثته زيداً بالاجار، فقال: إني تملكت الدار من أبيكم، وسكنتها أمداً طويلاً في حياته دون أن أدفع له درهماً واحداً، لأنها انتقلت إلي بطريق مشروع، فهذ القول لا يسمع من زيد، وذلك عملاً بالاستصحاب، أي كنا نعلم أن زيداً وضع يده على الدار في بدء الأمر على سبيل الاجار، فنأخذ بالحالة الأولى لليد إلى أن تقوم البينة المعاكسة، فكما علمنا بالاجار السابق يجب أن نعلم بحدوث الملك اللاحق، لأن العلم لا يرفعه إلا العلم، والحجة لا تدفع إلا بالحجة، وهذا معنى قول الإمام الصادق ع «من كان على يقين ثم شك فلا ينقض اليقين بالشك ان اليقين لا ينقضه إلا اليقين».

أما أصل البراءة فمورده الشك بالتكليف مع عدم العلم بالحالة السابقة، كحضور الأفلام السينمائية، وتسجيل الأصوات، وما إلى ذلك من المواضيع التي وجدت بعد عصر التشريع، والتي ستوجد، فنحكم بإِباحتها استناداً إلى ما ثبت شرعاً من أن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، وعقلاً من أن العقاب بلا بيان قبيح.

٢٩٥

أما الاحتياط فواجب مع العلم بوجود التكليف الملزم، واشتباه الشيء المكلف به مردداً بين أمرين أو أمور محصورة، كما لو علمنا أن شفاء المريض في شيء من شيئين، أحدهما ينفعه، والآخر لا يضره ولا ينفعه، ولم نستطع التمييز بين الاثنين، فيجب - والحالة هذه - الاحتياط بشربهما معاً، أو علمنا أن هناك أمرين، أحدهما يضره، والآخر لا يضره ولا ينفعه، وعليه يجب تركهما معاً، فالاحتياط يكون بالفعل كما يكون بالترك، ومستند الاحتياط حكم العقل بوجوب دفع الضرر والبعد عنه.

اما التخيير فواجب فيما إِذا تردد فعل بين أن يكون إِما واجباً لا يجوز تركه، وإِما محرماً لا يجوز فعله، كما لو علمنا أن إنساناً حلف على شيء، ولكن لم يتذكر أنه حلف على فعله يوم الجمعة مثلاً أو على تركه، فيختار - والحالة هذه - الفعل أو الترك، أو فيما إذا كان هناك واجبان متساويان في الأهمية، ولا يستطيع المكلف الإتيان بهما معاً، فيختار حينئذ فعل أحدهما وترك الآخر، أو فيما إذا علم المكلف بوجوب أحد شيئين، وحرمة الآخر، وعجز عن التمييز بين الواجب والمحرم، فيختار أيضاً فعل أيهما شاء وترك الآخر، لأنه إن تركهما معاً يقع في المخالفة القطعية بترك الواجب، وإن فعلهما معاً يقع فيها بفعل المحرم، وإن فعل أحدهما دون الآخر يحتمل أن الذي أتى به هو الواجب، وبذلك يحصل الفرار من المخالفة القطعية إلى الموافقة الاحتمالية(١) ومعنى المخالفة القطعية أن يعلم الإنسان أنه خالف الحق والواقع يقيناً، خالفه بتركه الواجب، أو بفعله المحرم، ومعنى الموافقة الاحتمالية أن يحصل له هذا العلم.

وقد أخذت مذاهب السنة بالاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير في كثير من الموارد كما أخذت الشيعة بالاستصلاح والعلة المنصوصة ومفهوم الموافقة، ولكن أركان الدليل الرابع وأقسامه الرئيسية عند أولئك هي القياس والاستحسان والاستصلاح، وعند هؤلاء الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير.

_____________________

(١) رسائل الأنصاري المطلب الثالث من باب الشك في المكلف به.

٢٩٦

نكتفي بهذه الإشارة إلى أقوال المذاهب تاركين التفصيل في بيان الشروط والأقسام، والمقارنة، لأن المقام لا يتسع للمزيد، فقد وضع علماء الأصول من السنة والشيعة في هذا الدليل كتباً ضخمة مستقلة، على أن غرضنا ينحصر هنا في التعريف بالدليل الرابع فحسب، لنثبت أنه من أبرز مظاهر الاجتهاد، ولهذا سمي بالدليل الاجتهادي.

وقد وجد علماء الشيعة فيه ميداناً فسيحاً لاجتهادهم، فأحدث المتأخرون قواعد فقهية جديدة، وعدلوا كثيراً من القواعد القديمة، فنفوا أحكاماً أثبتها المتقدمون، وأثبتوا أحكاماً لم يعرفها أحد ممن سبقهم، قلّموا وطعَّموا جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات فمن القواعد التي اكتشفوها من عهد قريب: قاعدة مجهول التاريخ(١) والأصل المثبت وقاعدة اليقين، والشبهة المصداقية(٢) ، وما إلى ذلك مما يصدق عليه بحق أنه فقه جديد بالقياس إلى فقه المتقدمين، وهذا كتاب رسائل الشيخ الأنصاري، وكفاية الخراساني، وتقريرات النائيني دليل على هذه الحقيقة.

والخلاصة أن الاجتهاد يكون مع وجود الأدلة الأربعة، فمع نصوص القرآن يكون في الفهم والاستنباط، ومع السنة يكون في سند الحديث، وفهم ألفاظه، ويكون في الإجماع في إِمكان تحققه، وفي عدم الأخذ به إذا علم سببه، وإذا حصل في عصر أو عصرين، أما الدليل الرابع فكما قدمنا من أبرز مظاهر الاجتهاد، حيث لا نص ولا إِجماع.

على هذا الأساس، أساس الاجتهاد في فهم الأدلة الأربعة، والعمل بمقتضاها نستخرج أحكاماً شرعية تتلاءم مع طبيعة الحياة، ولا تتنافى مع شيء من نصوص الكتاب والسنة، وإِجماع الأمة ودليل العقل، وبهذا المقياس نقيس جملة من الأحكام الموجودة في كتب الفقه، فننفي منها ما تأباه الضرورة، ولا يدل عليه دليل شرعي، ونقر ما أقرته الحاجة والشريعة الإسلامية.

_____________________

(١) قاعدة مجهول التاريخ نشرت مفصلة بجميع أقسامها وأحكامها في النشرة القضائية لوزارة العدلية اللبنانية عدد آب سنة ١٩٥١.

(٢) الأصل المثبت، وقاعدة اليقين، والشبهة المصداقية نشرت مفصلة في مجلة رسالة الإسلام المصرية بعنوان أصول الفقه بين القديم والجديد عدد رمضان ١٣٦٩ هجري.

٢٩٧

الإمَامَة عِندَ الشِّيعَة الإماميَّة

الإمامة

تجمع الرئاسة الزمنية والدينية لرجل يتولاهما خلافة عن النبي ص فالسلطات بكاملها تنحصر بالإمام وهو وحده يعين القضاة والولاة وقادة الجيش وأئمة الصلاة، وجباة الأموال وسائر الموظفين، يعينهم بمرسوم خاص أو بقانون أو بواسطة نائب عنه يخول له ذلك.

الأقوال في الإمامة

اختلف المسلمون في وجوب نصب الإمام بعد النبي وعدم وجوبه، وافترقوا في ذلك إلى فرق. قال الشيعة: يجب على اللّه أن ينصب إماماً للناس. وقال السنة: لا يجب ذلك على اللّه، وإنما يجب على الناس. وقال الخوارج: لا يجب نصب الإمام مطلقاً، لا على اللّه ولا على الناس.

قال القوشجي(١) من علماء السنة في كتاب شرح التجريد:

استدل أهل السنة على قولهم بإجماع الصحابة، وهو العمدة، حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات، واشتغلوا به عن دفن الرسول ص وكذا عقيب موت كل إمام، روي لما توفي النبي خطب أبو بكر، فقال: يا أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت، لا بد لهذا الأمر من يقوم به، فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم اللّه.

_____________________

(١) هو علاء الدين علي بن محمد، وله عدة كتب، وهو الذي أكمل رصد سمرقند المشهور بالزيج الجديد، توفي في قسطنطينية ٨٧٩ هجري.

٢٩٨

فبادروا من كل جانب، وقالوا: صدقت، لكننا ننظر في هذا الأمر، ولم يقل أحد أنه لا حاجة إلى إمام.

واستدل الخوارج على عدم وجوب نصب الإمام بأن نصبه يستدعي إثارة الفتن والحروب، لأن كل حزب يؤيد واحداً منه، واتفاق جميع الأحزاب على رجل معين بعيد جداً، فالأولى سد الباب، على أنه لو أمكن اتفاق الكلمة على تعيين من يستجمع الشروط بكاملها جاز أن ينصبوه إماماً لهم.

واستدل الشيعة الإمامية على أن الاختيار في تنصيب الإمام للّه وحده بوجوه الأول: بأن تنصيبه لطف من اللّه في حق عباده، لأن الإمام يقربهم من الطاعة بإرشادهم إليها وحثهم عليها، ويبعدهم عن المعصية بنهيهم عنها وتخويفهم من عواقبها، واللطف منه واجب، فيكون تعيين الإمام وتنصيبه واجباً عليه.

وقال المحقق الأردبيلي(١) : لطف الإمامة يتم بأمور منها ما يجب على اللّه تعالى، وهو خلق الإمام وتمكينه بالقدرة والعلم، والنص عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله اللّه، ومنها ما يجب على الإمام، وهو تحمله الإمامة وقبوله لها، وهذا قد فعله الإمام، ومنها ما يجب على الرعية، وهو مساعدته وقبول أوامره، وهذا لم تفعله الرعية، فكان منع اللطف منهم لا من اللّه ولا من الإمام.

الثاني: أن اللّه ورسوله قد بينا جميع الأحكام حقيرها وخطيرها، ولم يهملا شيئاً من أقوال العباد وافعالهم إلا بينا حكمه بلفظ خاص أو عام، فكيف يترك بيان هذا المنصب الهام الذي تتعلق به جميع الشؤون الدنيوية والأخروية.

الثالث: أن اختيار النبي بيد اللّه، لأن النبوة سر لا يطلع عليه سواه، فهو وحده يعلم حيث يجعل رسالته، كذلك اختيار الإمام يرجع إلى اللّه، لأن الإمامة سر أيضاً لا يطلع عليه إلا هو، بالنظر لخطرها ونيابتها عن النبوة.

صفات الإمام

يشترط الشيعة الإمامية أن يكون الإمام معصوماً، لأن الغاية من وجوده ارشاد الناس إلى الحق، وردعهم عن الباطل. فلو جاز عليه الخطأ في الأحكام، أو المعصية

_____________________

(١) هو أحمد بن محمد الأردبيلي من أعظم علماء الإمامية ومراجعهم الدينية، ولأقواله وكتبه عندهم شأن كبير توفي سنة ٩٩٣ هجري.

٢٩٩

لكان كمن يطهر المكروب بمكروب مثله. وأن يكون أفضل من رعيته علماً وخُلقاً، لأنه لو لم يكن أفضل الجميع فلا يخلو اما أن يكون غيره أفضل منه، واما أن يكون مساوياً له في الفضل، والأول يستدعي تقديم المفضول على الفاضل، والتلميذ على الاستاذ، وهو قبيح عقلاً وشرعاً بدليل الآية ٣٥ من سورة يونس «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى، فما لكم كيف تحكمون». والثاني ترجيح بلا مرجح، وهو عبث تعالى اللّه عنه، فتعين القول بالأفضلية المطلقة.

من هو الإمام بعد النبي

بعد أن أوجب الشيعة الإمامية النص من اللّه على الإمام قالوا: ثبت النص على علي بالخلافة بعد الرسول من القرآن الكريم والسنة النبوية، فمن القرآن الآية ٥٥ من سورة المائدة «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون» فقد نزلت في حق علي باتفاق المفسرين حين أعطى السائل خاتمه، وهو راكع في صلاته، وللولاية معان عديدة، والمراد منها في هذه الآية ولاية التصرف في أمور المسلمين بقرينة سوق الكلام، وعليه تكون نسبة الولاية إلى علي كنسبتها إلى النبي ص. ومن السنة: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى. من كنت مولاه فعلي مولاه. أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعد.. إلى غير ذلك من الأحاديث».

بقية الأئمة:

قال الشيعة الإمامية الاثنا عشرية: إن الإمام بعد علي ولده الحسن ثم الحسين ثم ولده علي ثم ولده محمد ثم ولده جعفر ثم ولده الكاظم ثم ولده الرضا ثم ولده الجواد ثم ولده علي ثم ولده الحسن ثم ولده محمد المنتظر سلام اللّه عليهم جميعاً مستدلين بقول النبي للحسين ابني هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم، وبالنص الثابت من كل إمام سابق على ما بعده.

هذه كلمة موجزة أردنا بها الإشارة إلى جهة الموضوع، ولم نرد شرحه وتفصيله في هذا المقام، وما زال الإمامية منذ أكثر من ألف سنة يؤلفون في الإمامة الكتب المطولة والمختصرة، وينشرون الرسائل والمقالات، ويتلون فيها الخطب والمحاضرات في المحافل وعلى المنابر، وينظمون الدواوين والقصائد، وأوسع كتاب في هذا الموضوع - حسب ما أظن - كتاب الشافي للشريف المرتضى، فقد جمع فيه أقوال المؤيدين والمفندين، وما قيل أو يمكن أن يقال حول الإمامة، ومن جاء بعده أخذ عنه.

وهو مطبوع يعرض للبيع في مكاتب إيران والعراق.

٣٠٠