الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 127040
تحميل: 6894

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127040 / تحميل: 6894
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمَام

لأي صفة يتسع هذا المقام إذا حاولت التعبير عن بعض صفات الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ! ألزهده وعدله، أو لعقله وعلمه، أو لشجاعته وكرمه، أو لتواضعه وعفوه، أو لتضحيته وخدماته، أو لفصاحته وبلاغته !.

وهل يحتاج الكاتب عن هذه الشخصية إلى الاستشهاد بقول مستشرق غربي، أو مؤرخ شرقي!. هل يحتاج إلى نقل الرواة ثقة عن ثقة، ويبحث في سند الرواية ونصوصها، ثم يجهد الفكر في الاستنباط والتأويل والتخريج !. كلا، ليس الكاتب بحاجة إلى شيء من هذا، فلا مدعي ومنكر، كي نلجأ إلى طرق الاثبات والاقناع، ولا اجتهاد وتقليد، كي يفحص المجتهد عن الدليل، والمقلد عمن يوثق بقوله.

نشأ الإمام في محيط يعبد الاصنام، وما سجد لصنم، وافتتح حياته بالجهاد ضد الشرك والالحاد، والبغي والاستبداد، بات على فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معرضاً نفسه للقتل فداء للرسول الأعظم، وقتل يوم بدر صناديد قريش، منهم الوليد وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن سعيد، وحقق اللّه على يد الرسول ويده أول عز للإسلام والمسلمين، وقتل يوم اُحد جماعة من الأعداء، منهم طلحة بن طلحة وبني عبد الدار أصحاب الراية، وقتل في وقعة خيبر مرحبا بطل اليهود، ويوم الخندق عمرو بن ود الذي كان يقوم بألف رجل، قاتل وقتل هؤلاء وغيرهم لا لسلطان ولا لمال ولا أخذاً بثأر، قاتلهم بعد أن جحدوا إِله العالمين، واستعلوا على البائسين، واستعبدوا المستضعفين، قاتلهم بعد أن دعاهم إلى الحق فرفضوه، فلم ير لهم دواء إلا السيف فأعمله في رقابهم، وشفى صدور قوم مؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم.

وقد اعتاد الناس أن يقولوا: أنت كريم لمن سرق ألفاً، وبذل منه واحداً، بل اعتادوا أن يلقبوه بالمحسن الكبير. إِذن بأي لفظ نعبر عمن بذل حياته وجميع ما يملك للناس، بقي الإمام هو وزوجته بنت الرسول، وولداه الحسنان ثلاثة أيام لا يذوقون شيئاً، حيث آثروا بطعامهم على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وباع حديقة لا يملك غيرها باثني عشر ألف درهم وزعها على المحتاجين، ولم يبق لأهله درهماً واحداً، وهم أحوج من يكون إلى المال.

واعتاد الناس أن يقولوا للرئيس: أنت عادل، وإن عاش في النعمة والترف، وشعبه في البؤس والشقاء، إذن بأي لفظ نعبر عن الإمام، وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض في الكوفة، وسكن في كوخ مع الفقراء، وهو خليفة المسلمين، وامتنع عن أكل الطيبات، لأن في أطراف مملكته من لا

٣٠١

عهد له بالشبع، ولا طمع له بالقرص.

قال له العلاء الحارثي: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصماً. قال: ماله ؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال: عليّ به، فلما جاء قال: يا عدو نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى اللّه أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها !. أنت أهون على اللّه من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك. قال: ويحك، إِني لست كأنت، إن اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس.

بهذا القياس، بالشعب بالضعفاء والمساكين والفقراء قاس الإمام، وهو الحاكم المطلق، نفسه وأخاه عقيلاً وولديه حسناً وحسيناً، فلقد شمل عدله القريب والبعيد، والعدو والصديق، كما شمل الغيث المؤمن والملحد، بل شمل عدله الحيوان كما شمل الإنسان، فكان يوصي من في يده إِبل الصدقة أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، وأن لا يبالغ في حلبها خشية أن يضر ذلك بولدها، وأن لا يركب ناقة ويدع غيرها، بل يعدل بينها في الركوب، وبين صواحباتها، فيا للعدالة المساواة تشمل الأحياء جميعاً، مساواة بين أفراد الحيوان، فضلاً عن أبناء الإنسان.

أما العفو فهو فوق العدل، وعفو الإمام فوق كل عفو، قد يعفو الإنسان عمن يسيء إليه بكلمة نابية، أو يعتدي على بعض ما يملك، أما الإمام فقد ظفر بألد أعدائه مروان بن الحكم وعمرو بن العاص فعفا عنهما، وكل واحد منهما أخطر عليه من جيش بخاصة ابن العاص، وحال جند معاوية بينه وبين الماء في صفين، وقالوا له: لن تذوق الماء حتى تموت عطشاً، فأجلاهم عنه، وسقاهم منه، وأوصى بقاتله ابن ملجم خيراً، وقال لأهله: اعفوا هو أقرب للتقوى.

أما علمه فقد ملأت أقواله كتب اللغة بشتى فروعها، وكتب الفلسفة والأخلاق والفقه بخاصة القضاء، وهو أول رجل في الإسلام، وربما في العالم وضع العلماء كتباً مستقلة في قضائه، وقوله الفصل والحجة القاطعة في ذلك كله، وبكلمة متى ثبت القول عن علي فلا يسأل عن قول سواه، لأنه ينطق بلسان الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى. وأجمع وأروع كلمة قيلت في وصف الإمام هي كلمة صاحبه ضرار، حيث قال له معاوية: صف لي علياً، فقال: كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحدته، كان واللّه عزيز الدمعة، طويل الفكرة،

٣٠٢

يقلب كفيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ونحن واللّه مع تقريبه لنا، ودنوه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، وإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه، وهو يقول: يا دنيا اليَّ تعرضت، أم إليَّ تشوقت: هيهات هيهات غري غيري، لا حين حينك، فقد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطبك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق(١) .

وبالتالي فلا أريد مما قدمت أن أمهد لذكر فضائل الإمام ومناقبه، وإنما غرضي الوحيد أن أبين أن الولاء للإمام هو ولاء للإنسانية والحق والعدالة، ولا

_____________________

(١) كتاب حديقة الأفراح، لأحمد الشرواني ص ٤٣ طبعة سنة ١٢٩٨ هجرية.

٣٠٣

استدل على ذلك بنص ولا أصل ولا إجماع، وإنما أحيل من يطالبني بالدليل إلى سيرة الإمام وتاريخه، ثم يحكم بما يوحيه عقله وضميره، بل أحيله إلى سيرة الأمويين مع الإمام، وسيعلم من حقدهم عليه، واغراقهم في بغضه مكانته من الحق، لأنهم أعداؤه الألداء، وخصومه الأشداء.

قيل لمعاوية: قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن هذا الرجل، فقال: لا واللّه، حتى يربو عليها الصغير، ويهرم الكبير، هذا قول من وصف بالحلم الذي ورثه عن أمه هند، فكيف بغير الحليم منهم !.

المنَاجَاة *

لقد بذل الأئمة الهداة (ع) أقصى ما لديهم من جهد ليُخلّقوا شيعتهم بأخلاقهم، ويقصدوا بهم قصدهم، وسلكوا لذلك كل سبيل، ولم يقتصروا على إلقاء الخطب والمواعظ، والدروس والمحاضرات، وضرب الأمثال والحكم، وإيراد القصص والحكايات، بل أوجدوا لهم آثاراً أخرى من غير هذا النوع، وغير الأساليب المألوفة في فن التربية الحديثة ودور المعلمين والمعلمات وعنوا بها عناية خاصة، لأنها أجدى وأبلغ في التأثير والتهذيب.

وقد اصطلح الشيعة على تسمية تلك الآثار التي لا يقدر قدرها إِلا من فتح اللّه عليه باب علمه وهدايته، اصطلحوا على تسميتها بالأدعية والزيارات، ولكنها في واقع الأمر إِشراق إلهي يكمل ما في النفس البشرية من نقص، ويطهر ما فيها من رجس، ويصلح ما فيها من فساد، هي وحي ما في ذلك شك، ولكنها وحي المحبة والإخلاص، وفيض الضمير والوجدان الحي أراد أئمة الشيعة أن يجردوا من كل نفس رقيباً ملازماً لها في السر والعلانية مسيطراً عليها سيطرة السيد على عبده والقائد على جنده يقربها من الطاعة ويبعدها عن المعصية، فسنوا لأتباعهم أدعية ومناجاة رتبوها على الأيام والأوقات، وأمروهم بتكرارها ومعاودتها حتى تصبح لهم طبيعة ثانية: فدعاء للصباح، وآخر للمساء، وفي كل يوم من أيام الشهر، وفي كل ليلة من ليالي الجمعة دعاء خاص، ولكل من رجب وشعبان ورمضان ولياليه عشية وسحراً وأيامه ظهراً وعصراً أدعية معينة، وأودعوا هذه

_____________________

* - نشر في العرفان أيار ١٩٥٠ بعنوان قرآن رقم ٢ عند الإمامية، وابدلت العنوان هنا، لأن جماعة من الأفاضل انتقدوه.

٣٠٤

الأوراد مكارم الأخلاق بكاملها، وعلى الأصح أودعوها أخلاقهم الكريمة بالذات، وهي لا تعد ولا تحصى، وقد جمعها علماء الإمامية في كتب خاصة، منها الصحيفة السجادية، والاقبال لابن طاووس، ومصباح الكفعمي، وجامع الأدعية والزيارات نذكر منها في مقامنا هذا بعض الفقرات على سبيل الشاهد والمثال:

«ما لي كلما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي.. إِلا هي لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فأقصيتني، أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني، أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني.. اللهم ألبسني زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ، وحسن السيرة، والسبق إلى الفضيلة، والقول بالحق وإن عز، والصمت عن الباطل وإِن نفع، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قل من قولي وفعلي.. اللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني والتظني والحسد ذكراً لعظمتك، وتفكيراً في قدرتك، وما أجرى على لساني من لفظة فحش أو هجر أو شتم عرض أو شهادة باطل أو اغتياب غائب أو سب حاضر نطقاً بالحمد لك، وإغراقاً في الثناء عليك.. اللهم الحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، وخذ بي سبيل الصالحين.. اللهم إني أعوذ بك من الكسل والفشل والهم والحزن والجبن والبخل والغفلة والقسوة والذلة والمسكنة والفقر والفاقة، وأعوذ بك من نفس لا تقنع، وبطن لا يشبع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، وعمل لا ينفع، وصلاة لا ترفع».

فهل ترى وسيلة أيسر من هذه الوسيلة، وأبعدها أثراً وأعمها نفعاً ؟ وهل ترى شيئاً أقرب إلى النفس، وأدنى من القلب والعقل من هذه الخشية والسكينة ؟ وهل ادعى إلى التفكير والتأمل والرجوع بالنفس، إلى بارئها من هذا الشعور الديني الذي يبعث في القلب رغبة ورهبة وحناناً ورحمة.

إن هذا النحو من التأديب لم يكتشفه فن التربية الحديثة بعد ولم تهتد إليه رجاله الاخصائيون، فلم يكتف الإمام بتعداد المساوئ، وإضافة كل سيئة إلى نتيجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها بحال، وإنما علم الإنسان كيف يتصل بخالقه رأساً ومن غير واسطة، وكيف يخلد إلى ضميره

٣٠٥

ووجدانه، ويعكف على نفسه فيهذبها ويجرد منها وازعاً يقف سداً بينها وبين شهواتها واندفاعاتها، متجهاً بها إلى الخير والكمال، ناهجاً السعادة والفضيلة.

على هذا الأساس، أساس الشعور باللّه وبالخير المطلق، والتجرد من الشهوات والأهواء وتهذيب الأخلاق والطباع، وتثقيف العقول والمواهب. على هذا الأساس أراد أئمة الشيعة أن يقيموا بنيان الإنسانية لتسيطر المحبة والعدالة، ويعم الأمن والسلام.

وقعت البشرية في أشد مما هي فيه اليوم من الجهل والعدوان وإفشاء الرذيلة والفحشاء، ولم تنشلها من تلك الهوة السحيقة العميقة القنابل والطائرات، إن هذه تزيد المشاكل تعقداً وتقف حجرة عثرة في سبيل الصلاح والإصلاح لأن الأدواء والأوباء لا تعالج بإِيجاد اسبابها الباعثة على نموها وانتشارها. لقد وقع العالم في شر مما هو فيه الآن، فكان خلاصه على يد الرسل والأنبياء، رسل الرحمة والسلام، وانبياء الإنسانية والعدالة، إن احياء روح الفضيلة في النفوس هي السبيل الوحيدة الموصلة إلى الراحة وحسن العاقبة والسعادة في الدنيا والآخرة.

ليس الغرض من هذه الأوراد التقرب إلى اللّه سبحانه بتلاوتها وترديد ألفاظها، وإنما القصد أن نتفهم معانيها ومغازيها، فتغمر بها نفوسنا، ويستغرق بها تفكيرنا، لنعمل جاهدين معتقدين أن من ورائنا قوة خفية تراقب وتحاسب، فتعين المخلص على جهاده، وتمهد له سبيل النجاح، وتشجعه على المضي والنشاط:

«ربي قوّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي وهب لي الجد في خشيتك، والدوام في الاتصال بخدمتك، حتى أسرع إليك في ميادين السابقين، واشتاق إلى قربك في المشتاقين، وأدنو منك دنو المخلصين، واخافك مخافة الموقنين».

وهل القرب من اللّه غير الجهاد في سبيل الصالح العام ؟ وهل السباق في ميادين اللّه غير المسارعة إلى الفضائل والخيرات ؟ وهل الاتصال بخدمة اللّه غير المثابرة على العمل الذي يعود بالنفع عليك وعلى أهلك وأطفالك ؟

«اللهم أعطني السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرة العين في الأهل والمال والولد والصحة في الجسم والقوة في البدن والسلامة في الدين».

إن هذه ثمرات ينتجها السعي مع التوكل على الواحد الأحد، وهل تجد شيئاً أمس بالعاطفة، وأسرع تأثيراً وإنفعالاً من قول الإمام زين العابدين (ع): «اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعل أوسع رزقك عليّ إذا كبرت، واحسن أيامي يوم ألقاك».

٣٠٦

وأي حرمة أو هيبة للمرء عند زوجه وأولاده إذا شاب رأسه وقل ماله ؟ ولا يوم كيومه الأخير الذي عليه مدار سعادته أو شقائه الابديين.

وبعد، فإن هذه الكنوز ليست بأدعية ولا أوراد فحسب، وإنما هي كتاب الدهر ومدرسة الحياة، وثروة القلب والعقل، فيجب أن يقرأها المؤمن والملحد، لأنها الوازع الوجداني في هذه الحياة، فضلاً عما فيها من لذة ومتعة وجمال.

كان الشيعة الإمامية منذ عهد أئمتهم إلى زمن قريب يحافظون على هذه الآثار ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً، يجثمون في المساجد وفي البيوت يكررونها خاشعين متضرعين، فيشعر كل واحد أنه خلق لعمل الخير لا للشر، ووجد للطاعة لا للمعصية، ثم أهملوها كما أهملوا غيرها من الشعائر والعادات المقدسة التي كانوا بها مثلاً أعلى لصدق الإيمان ورسوخ العقيدة.

التقيَّة

قال ابن أبي الحديد في أول الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة ما يتلخص بأن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عماله برئت الذمة ممن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته، وأن يمحوا اسم كل شيعي من دواوين العطاء، وينكلوا به، ويهدموا داره، وامتثل العمال أمر سيدهم، فقتلوا الشيعة تحت كل حجر ومدر، وطردوهم وشردوهم، وقطعوا الأيدي والأرجل، وسملوا الأعين، وصلبوهم على جذع النخل. وزاد الضغط بعد معاوية أضعافاً، وبالأخص في ولاية عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين، وولاية الحجاج «بن يوسف» حيث قتل الشيعة كل قتلة، وأخذوا بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعي.

ومن هذا الضغط التزم الشيعة طريق (التقية). ومعناها عندهم الحيطة والحذر من القوي الظالم الذي يأخذ المتهم دون أن يحاكمه ويأذن له بالدفاع عن نفسه.

واليوم لا أثر للتقية عند الشيعة حيث لا خوف عليهم، ولا هم يرهبون.

واستدلوا على تشريع التقية بالآية ١٠٦ النحل «إِلا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». قال المفسرون في سبب نزولها: إِن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وقسوا عليه، وأكرهوه على قول السوء بحق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعطاهم ما أرادوا، فوصل خبره إلى الرسول، وهو مع جماعة من أصحابه، فقال بعضهم: كفر عمار، فأجابه الرسول: كلا، إِن عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه، ودخل عليهم عمار باكياً على ما صدر منه، فمسح الرسول عينيه، وقال له: لا تبك، إِن عادوا لك فعد لهم بما قلت.

٣٠٧

الأصْل في الأشيَاء

من عقيدة الإمامية أن الأصل في الأشياء الاباحة حتى يرد فيها نهي، فهم لا يخطئون من يفعل شيئاً لا يعلم المنع عنه، فعدم العلم بالمنع كاف للحكم بالإباحة، ولا نحتاج إلى دليل خاص يدل على الترخيص، فمن قال: هذا حلال، أو هذا طاهر، لا يسأل عن الدليل، وإنما يطلب الدليل ممن يدعي التحريم أو النجاسة، لأن الأصل في الأشياء الحل والطهارة حتى يثبت العكس.

وينقلب هذا الأصل إلى ضده في بعض الوقائع، أي أن الأصل فيها المنع حتى يثبت العكس، منها حقوق الناس، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على غيره بالقتل أو الضرب أو الشتم، أو التصرف في أمواله حتى يعلم بوجود المسوغ، ومنها مقاربة النساء، فلا يجوز مقاربة أية امرأة أو العقد عليها إلا بعد العلم بالحل والجواز، ومنها اللحوم فلا يجوز تناول أي نوع من اللحم حتى يثبت أنه من حيوان يؤكل لحمه، وأنه ذكي حسب الأصول المقررة.

والسر أن الزواج في النوع الأول مطلق غير مقيد بشيء، أما جواز التصرف بحق الغير، بدمه أو ماله، وجواز مقاربة المرأة، وتناول اللحم فمقيد بشرط خاص لا بد من إِحرازه والتثبت من وجوده، وبمجرد الشك في الشرط ينتفي الجواز والترخيص.

٣٠٨

هَل يَجبُ على المتَديّن أن يقَلد في أعمَالِه الدّينية ؟ *

جاءني هذا السؤال من أحد المهاجرين المؤمنين، ثم أخبرني بعض القادمين من المهجر أن هذه المسألة كثر حولها الكلام والحوار بين الجالية اللبنانية في سيراليون.

لكل إنسان أن يستقل بحريته وإِرادته، فيقول ويفعل ما يشاء ما لم يتعد بأقواله وأفعاله على حرية الغير، وبتعبير أهل الشريعة ما لم يحلل حراماً أو يحرم حلالاً، وليس له أن ينسب كلمة واحدة أو فعلاً من الأفعال إلى الدين أو القانون أو لأي شيء آخر ما لم تثبت النسبة لديه بالطرق العلمية الصحيحة.

والمتدين عندما يؤدي عملاً إِنما يؤديه بدافع ثبوته في الدين مدعياً أن الدين نفسه أمره بذلك، ولا ريب أن يكون كاذباً مفترياً على اللّه ورسوله في دعواه هذه إذا لم يتحقق من ثبوتها في الشريعة بأحد طرق الإثبات، ومصادر الشريعة أربعة: كتاب اللّه، وسنة نبيه، والإجماع، وأدلة العقل، ولمعرفة الحكم الشرعي الثابت في هذه الأصول طريقان(١) .

الطريق الأول: أن يكون للمتدين الأهلية التامة لاستخراج الحكم من دليله بنفسه وبلا واسطة، ولا تتحقق هذه الأهلية إلا لمن عرف اللغة العربية من معاني الكلمات وهيئاتها وتراكيبها واطلع على كتب الشريعة، وموارد اجماع العلماء والمشهور من أقوالهم، واتقن أصول الفقه اللفظية والعقلية، ومتى تمت هذه المعلومات للمتدين استطاع بعد بذل الجهد في البحث والتنقيب وإمعان النظر أن يرد الفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، ويستخرج الأحكام الشرعية

_____________________

* - نشر في العرفان تشرين الثاني ١٩٥٤.

(١) هذان الطريقان محل وفاق بين الفقهاء أما الاحتياط فقد اختلفوا فيه ولذا لم نذكره.

٣٠٩

من أدلتها وبهذا يصبح عالماً مجتهداً يعمل برأيه، ولا يرجع إلى غيره.

الطريق الثاني: يختص بمن لا أهلية له لاستخراج الحكم الشرعي من دليله، وقد عبر عنه الفقهاء بالمقلد، والتقليد تارة يراد منه التقليد بالرأي، أي الأخذ بقول القائل بصفته الشخصية دون أن يطالب بالحجة والدليل، بل يجعل قوله «العندي» هو الدليل والحجة، كما لو حكم إنسان بصحة شيء أو فساده، لأن فلاناً حكم بذلك بحيث يكون القول هو الدليل الوحيد لا غير، وهذا هو التقليد الأعمى المحرم عقلاً وشرعاً وعرفاً، وهو المعني بما جاء في القرآن الكريم «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون».

وتارة يراد بالتقليد الأخذ بالرواية أي الأخذ بما ينقله القائل عن غيره، لا من عند نفسه، كالأخذ بقول الطبيب إن هذا الشيء يحتوي على مادة كذا، وبقول المحامي إن القانون ينص على كذا، وبقول المهندس إن هذا الأساس يحمل طابقين من البناء أو أكثر، وكأخذ القاضي بشهادة من يعلم بعدالته، والأعمى بقول البصير الذي يرشده إلى الطريق، وما إلى ذلك من رجوع من لا يعلم إلى من يعلم، وهذا النوع من التقليد، وهو العمل بالرواية لا بالرأي، هو الذي أوجبه الفقهاء، فقد كانوا وما زالوا يرشدون الناس إلى ما ثبت في كتاب اللّه وسنة رسوله لا إلى شيء من آرائهم وأقوالهم الخاصة، فالجاهل يسأل العالم عن الحكم الثابت في الشريعة، فيفتيه به، ويرويه له لفظاً أو معنى، لقد أوجب الفقهاء السؤال على الجاهل للآية الكريمة «فاسألوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون» وأوجبوا على العالم أن يجيب ويبين لقوله تعالى «وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه»

وبهذه المناسبة ننقل إلى القراء ما قاله محمد بن علي الشوكاني من علماء السنة في رسالته المسماه القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد طبعة سنة ١٩٢٩ ص ١٧ و١٨ و٢٨ «ان حدوث التمذهب بمذهب الأئمة الأربعة إِنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة، وانهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وان هذه المذاهب إنما أحدثها العوام المقلدة من دون أن يأذن بها إِمام من الأئمة المجتهدين. وكأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب اللّه وسنة رسوله قد صارت منسوخة، والناسخ لها ما ابتدعوه من التقليد في دين اللّه، فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة، بل لا شريعة لهم إِلا ما تقرر في المذاهب، أذهبها اللّه».

٣١٠

فوَائدُ الصَّوم *

اعتاد فريق أن يكتبوا في كل سنة عن فوائد الصوم في عدد رمضان من مجلة العرفان الغراء، ونحن إذ نشكر العرفان التقية السخية، ولهذا الفريق حسن النية، نرجو ألا يكتب أحد في هذه السنة وفي السنين التالية الشيء الذي كان قد كتب في الأجيال الخالية، إن ما ينشرونه في كل عام، هو تكرار لما قيل وسطر من مئات الأعوام.

قالوا: إن فائدة الصوم تنقية المعدة، وفائدة الوضوء النظافة وفائدة الصلاة الرياضة، وأنا استغفر اللّه تعالى عن إخواني الأفاضل من هذا التعليل والتحليل، إن تناول حبة واحدة من الصيدلية لا تدع في المعدة كبيرة ولا صغيرة، وإن الغسل بالماء الساخن والصابون يغني عن عشرين وضوءاً من حيث النظافة، وإن حركة رياضية فنية تغني عن ألف ركعة من حيث الرياضة.

إن العبادة صلة خاصة بين العبد وربه، وفائدتها أخروية محضة، فلا يسوغ تفسيرها بأشياء دنيوية، ولا صلة لها بهذه الحياة سوى إظهار العبودية، والانقياد التام، والطاعة العمياء للّه سبحانه، فكل ما يعود إلى العبادة يجب التسليم به من غير قيد ولا شرط، وقول كيف ولماذا ؟ عقوق، وهذا معنى قول الفقهاء إن العبادة من الأمور التوقيفية، أي يجب الوقوف منها عند أمر اللّه تعالى.

أما حديث «صوموا تصحوا» فلعله جواب لمن يزعم أن الصوم يمرض الصحيح، لا إنه يصحح المريض، ولهذا يحرم الصوم على المريض مع الضرر،

_____________________

* - نشر في العرفان أيار ١٩٥٢.

٣١١

وعلى الصحيح إذا أدى به إلى المرض.

وقالوا: إن من فائدة الصوم أن يتذكر الصائم الفقير، ليتصدق عليه بالفرش والرغيف، ولو صح هذا لوجب الصوم على النواب فقط ليتذكروا الجياع والعطاشى الذين انتخبوهم، وجعلوهم نواباً.

كيفَ يَجبُ أن نَفهَم الِعبَادَة *

المواضيع التي تعرض لها الإسلام

يبحث الإسلام عن العقائد، عن الإيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر، وعن محاسن الأخلاق ومساوئها، كالعفاف والصدق، والثبات والوفاء، والكرم والأمانة، وعن الغضب والحسد، والإسراف والبخل، والرياء والكذب، والغش والخلاعة، وما إلى ذلك، ويبحث عن العبادة، كالصلاة والصيام والحج، وعن النظم الاجتماعية، كالزواج والطلاق، والوصايا والمواريث، والجيش وتعيين الولاة، وتنظيم القضاء، ويبحث عن التجارة والزراعة، وما إِليهما من العقود.

ومن يرغب في لقب عالم بالديانة الإسلامية فعليه أن يعرف هذه الأمور، ويأخذها من أصولها المقررة، وأدلتها المفصلة، وبقدر معرفته بها قوة وضعفاً تكون منزلته من العلم بالإسلام وشريعته.

وليس من غرضنا في هذا المقام أن نبين حقيقة كل نوع من هذه الأنواع، والوصف الذي يخصه، ويميزه عن سواه، وإنما الغرض أن نبين الفرق بين العبادة وغيرها من المعاملات، ومنه يتضح القصد مما قلناه عن العبادة في العرفان الأغر عدد شعبان سنة ١٣٧١ هجري، وجواب ما كتبه الدكتور عمر فروخ، وما كتبه الأستاذ الشيخ عبد اللّه الخنيزي حول رأينا في معنى العبادة.

_____________________

* - نشر في العرفان أيلول ١٩٥٢.

٣١٢

معنى العبادة

والفرق بين العبادة وجميع المعاملات أن العبادة لا تصح بحال بل لا تسمى عبادة إلا بشرطين: الأول: أن يثبت وجوبها بطريق النقل لا بطريق العقل. الثاني: أن يكون الدافع الأول على الإتيان بها إِطاعة اللّه سبحانه، وامتثال أمره الخاص المتعلق بالفعل نفسه، فمن عمل عملاً متعبداً به، وقاصداً منه وجه اللّه من دون أن يثبت أمره فإن عمله يكون بدعة وضلالة، وكذا من صام وصلى من غير أن يكون الدافع الأول على عباته إِطاعة الأمر المتعلق بالعبادة يكون عمله لغواً، فليس للإنسان كائناً من كان أن يعبد اللّه تعالى بعمل خاص يخترعه من عند نفسه، أو يزيد أو ينقص فيما رسم اللّه، مستنداً في ذلك إلى الأوامر المطلقة المجملة، كقوله سبحانه «وما اُمروا إِلا ليعبدوا اللّه. واعبدوا اللّه مخلصين له الدين. وما خلقت الجن والانس إِلا ليعبدون» وليس له أيضاً أن يشرك مع طاعة اللّه أي باعث من البواعث المادية، فمن توضأ بداعي الطاعة والنظافة معاً، أو صلى بداعي التعبد والرياضة، أو صام بداعي الوجوب والصحة يقع عمله في غير موقعه.

معنى المعاملة

أما معاملات التجارة، وعقود الزراعة، والأحوال الشخصية، وتنظيم دوائر الحكومة، وما إلى ذلك مما لا يدخل في باب العبادات ولا يمت إليها بصلة قريبة أو بعيدة، فكلها تصح وتنفذ من غير حاجة إلى أمر من اللّه سبحانه، على شريطة أن لا تزاحم حقاً من الحقوق الخاصة أو العامة، فلو فرض أن الناس اصطلحوا فيما بينهم على إيجاد نوع من التجارة أو الزراعة أو الصناعة أو عادة من العادات، ولم يكن شيء منها معروفاً في عهد الرسول فتصح وتسمى شرعية أيضاً، وإن لم يرد فيها نص خاص، تسمى شرعية للمبادئ العامة التي أقرها الدين، مثل «أوفوا بالعقود. وأحل اللّه البيع. والناس عند شروطهم. وكل صلح وشرط جائز إلا ما حلل حراماً أو حرم حلالاً» وأعلن الفقهاء هذه الحقيقة في كتب الفقه وأصوله بقولهم أنه ليس للمشرع حقيقة دينية شرعية واصطلاح خاص لمعنى الألفاظ إلا في العبادات، أي يرجع إليه في تفسير العبادة وأجزائها وشروطها، أما غيرها من المعاملات فهو كأحد الناس لا فرق بينه وبين أي إنسان من أبناء العرف في هذه الجهة.

٣١٣

وإذا وجد أمر خاص في الكتاب أو السنة بغير العبادات، كالأمر بالزواج والتجارة، فلا يجب على الإنسان أن يفعل المأمور به تقرباً إلى اللّه، وامتثالاً لأمره الخاص، كما يجب ذلك في العبادات، فمن تزوج لإشباع الغريزة الجنسية أو للولد، فالزواج شرعي صحيح، ومن باع أو اشترى، لغاية مادية فمعاملته صحيحة نافذة، بل لو قصد التوصل إلى الحرام من البيع كمن باع بعض ما يملك ليستعين به على الاثم والعدوان، فالبيع صحيح، وقد أجمع الفقهاء على أن من باع وقت الأذان إلى الصلاة من يوم الجمعة يأثم، ولكن بيعه صحيح نافذ الأثر، يأثم للآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع» ويصح البيع، لأن النهي عن المعاملة لا يدل على الفساد.

نتيجة الفرق بين العبادة والمعاملة

وبعد أن اتضح أن الأحكام الشرعية، منها عبادات، ومنها معاملات، وأن العبادة تتوقف على أمر اللّه، وعلى إِتيانها بامتثال هذا الأمر على العكس من المعاملة ينتج أن العبادة من الأمور الروحية التي تقرب فاعلها من طاعة اللّه، وتبعده عن معصيته، وانها لا تمت إلى المادة بصلة، بل هي للّه وحده «فاسجدوا للّه واعبدوا. فاعبد اللّه مخلصاً. وأقم الصلاة لذكري» ولازم ذلك أن كل متدين يجب عليه أن يفعل العبادة عن طيب نفس من غير قيد ولا شرط.

ويبحث الإسلام عن المعاملات على أساس مادي، أي أساس تنظيم الحياة الدنيوية تنظيماً يصون مصلحة المجتمع، ولا تتصل المعاملات بالروح والحياة الأخرى إِلا تبعاً لهذه المصلحة، فمن تجاوز حدودها فقد تجاوز حدين، وخالف حقين، حق اللّه، وحق الناس، أي الحق الخاص والحق العام، ومن أخل بشيء من العبادة فقد تجاوز حداً واحداً، وخالف حقاً واحداً، هو حق اللّه فحسب، فالمعاملات التجارية والزراعية والصناعية يصح منها ما يتلاءم مع الحياة وتقدمها ويفسد منها ما لا يتفق مع الصالح الدنيوي، والصحيح نافذ بحق كل إنسان مؤمناً كان أم جاحداً.

ويتسع على الفقيه مجال الاجتهاد في المعاملات، ويضيق في العبادات، إِذ ينحصر في البحث عن الأمر التعبدي، فإِن وجده التزم به، وإِلا توقف عن القول، واعمال الفكر.

٣١٤

بني الإسلام على خمس

ولا شيء أصرح في الدلالة على ما قدمنا من الحديث الذي اتفقت عليه جميع المذاهب الإسلامية «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إِله إِلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وحج البيت» فلم يبنَ الإسلام على شيء من الزراعة والصناعة والتجارة، لأن هذه تبنى عليها الحياة المطلقة في جميع صورها وألوانها، الحياة الطبيعية المادية التي يحياها في هذه الدار كل فرد متديناً أم غير متدين، أما الصلاة والحج والصيام فإنها أركان الحياة الروحية الدينية، فمن أقرَّ بها لزمه أن ينقاد إليها انقياداً تاماً، ولا يجوز له أن يعللها بشيء من المادة، إِذ يتنافى ذلك مع إِسلامه وإِيمانه.

الصلاة تنهى عن الفحشاء

وعلى الأساس الذي ذكرناه لمعنى العبادة نستطيع أن نفسر قوله سبحانه «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» وغيرها من الآيات والأحاديث التي تعرضت لبيان الحكمة من العبادة، فالقصد منها أن الإنسان لو عبد اللّه حقاً لتمشى على دين اللّه، وانتهج صراطه المستقيم، فانتهى عن المنكر والفحش، وعمل الخير والمعروف إِلا فقد حكم على نفسه بنفسه بأنه دجال منافق خير منه من أعلن الكفر والجحود وبهذا تجد تفسير قوله تعالى «فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون»

ما قال ربك ويل للأولى سكروا

بل قال ربك ويل للمصلينا

وثبت عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إِلا بعداً. وقال: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة. وطاعة الصلاة أن ينتهي المصلي عن الفحشاء والمنكر» وقال الإمام الصادق ع: «من أحب أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه».

٣١٥

المتعَة عِندَ الشيعَة الإمَاميَّة *

ويسمونها بالزواج المنقطع، وبالزواج إلى اجل، وهي كالزواج الدائم لا تتم إلا بعقد صحيح دال على قصد الزواج صراحة، ويحتاج العقد إلى إيجاب. وهو قول المرأة أو وكيلها: زوجت أو أنكحت أو متعت، ولا يكون بغير هذه الألفاظ الثلاثة أبداً، وإلى قبول من الرجل، وهو قبلت أو رضيت.

وكل مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون هذا العقد فهي سفاح. وليست بنكاح حتى مع التراضي والرغبة الأكيدة. وإذا كان العقد بلفظ أجرت أو وهبت أو أبحت ونحوها، فهو لغو لا أثر له أبداً. ومتى تم العقد كان لازماً يجب الوفاء به، وألزم كل واحد من الطرفين بالعمل على مقتضاه.

ولا بد في عقد المتعة من ذكر المهر، وهو كمهر الزوجة الدائمة لا يتقدر بقلة أو كثرة، فيصح بكل ما يتراضى عليه الرجل والمرأة، ويسقط نصفه بهبة الأجل، أو انقضائه قبل الدخول، كما يسقط نصف مهر الزوجة بالطلاق قبل الدخول.

ولا يجوز للرجل أن يتمتع بذات محرم كأمه، واخته، وبنته، وبنت أخيه، وبنت اخته، وعمته، وخالته، نسباً ولا رضاعاً، ولا بأم زوجته ولا بنتها، واختها، ولا بمن تزوج أو تمتع بها أبوه أو ابنه، ولا بمن هي في العدة من نكاح غيره، ولا بمن زنى بها وهي في عصمة غيره، فالمتعة في ذلك كله كالزوجة الدائمة من غير تفاوت.

وعلى المتمتع بها أن تعتد مع الدخول بعد انتهاء الأجل، كالمطلقة، سوى أن المطلقة تعتد بثلاث حيضات، أو ثلاثة أشهر، وهي تعتد بحيضتين أو بخمسة

_____________________

* - نشر في العرفان تشرين الأول ١٩٥٠.

٣١٦

وأربعين يوماً. أما العدة من الوفاة فهما فيها سواء، ومدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أحصل الدخول أم لم يحصل.

والولد من المتعة كالولد من الزوجة الدائمة في الميراث والنفقة وسائر الحقوق المادية والأدبية.

ولا بد من أجل معين في المتعة يذكر في متن العقد، وبهذا تفترق المتعة عن الزواج الدائم، ولكن الطلاق يفصم عرى الزواج، كما يفصمه انتهاء الأجل في المتعة، فانتهاء الأجل طلاق في المعنى، ولكن بغير أسلوبه.

ولا ميراث للمتمتع بها من الزوج، ولا نفقة لها عليه، والزوجة الدائمة لها الميراث والنفقة ولكن للمتمتع بها أن تشترط على الرجل ضمن العقد الانفاق والميراث، وإذا تم هذا الشرط كانت المتمتع بها كالزوجة الدائمة من هذه الجهة أيضاً، ويكره التمتع بالزانية والبكر.

هذه هي المتعة، وهذي حدودها وقيودها، كما هي مدونة في جميع الكتب الفقهية للشيعة الإمامية، ولم تستعمل المتعة شيعة سوريا ولبنان، ولا عرب العراق، والمنقول أن بعض المسنّات في بلاد إيران يستعملن المتعة.

والخلاصة أن الشيعة الإمامية يقولون بإِباحة المتعة، ولكن على الأساس الذي بيناه. وعلى الرغم من ذلك فإنهم لا يفعلونها، وما هي بشائعة في بلادهم. وإنما الزواج الشائع بينهم هو الزواج الدائم المعروف المألوف عند جميع الطوائف والأمم. ولا أثر لها في محاكمهم الشرعية.

وقد اتفق السنة والشيعة على تشريع زواج المتعة في عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودلت عليه الآية ٢٤ من سورة النساء «فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة»، وفي الحديث ما ذكره مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه، قال: «استمتعنا على عهد رسول اللّه وأبي بكر وعمر».

ولكن السنة قالوا: إن المتعة نسخت واصبحت حراماً بعد أن أحلها اللّه سبحانه، وقال الشيعة: لم يثبت النسخ عندنا، كانت حلالاً، وما زالت على ما كانت عليه.

٣١٧

ضَريبَة الزكَاة عِندَ الإماميَّة *

اجتمعت في القاهرة اللجنة التحضيرية للمؤتمر الشعبي العام الذي سيعقد في ٢٠ أيلول من هذه السنة لبحث التكافل الاجتماعي، وستستأنف اللجنة اجتماعها ثانية لتنهي الأبحاث التي تدرج في جدول أعمال المؤتمر.

ومن الأبحاث التي تحضرها اللجنة الزكاة والوقف الخيري لرعاية المؤسسات الاجتماعية، تبحث هذين الموضوعين مكيفين مع العصر على أساس الشريعة الإسلامية، وقد اختير لهذه الغاية ثلاثة من علماء المسلمين، منهم العلامة الشيخ عبد اللّه العلايلي، واثنان من علماء القاهرة، ولا بد أن يدرس هؤلاء الأفاضل أقوال المذاهب في الزكاة والوقف، إن درس أقوالهم مجتمعة يؤدي حتماً إلى النتيجة المطلوبة، إذ رب فقيه لا تتفق فتواه في مسألة إلا مع عصره وبيئته، وآخر تتفق فتواه في المسألة ذاتها مع عصره، ولو ضمت اللجنة علماء من جميع المذاهب الإسلامية لجاءت الفائدة أتم وأكمل.

وان للشيعة الإمامية اجتهادات في زكاة الأموال واخماسها لا تجدها في أي مذهب إسلامي، وبوسعي أن أورد عشرات الشواهد على ذلك غير أن المجال لا يتسع لأكثر من شاهد: قال اللّه تعالى في سورة الأنفال آية ٤١ «واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل» فقد فسرت المذاهب - عدا الشيعة - الغنيمة بالأموال المكتسبة بطريق الحرب والقتال فأوجبوا الخمس بهذا النوع خاصة، أما الشيعة فقالوا: إن

_____________________

* - نشر في جريدة بيروت ٢٣ نيسان ١٩٥٢.

٣١٨

الغنيمة هي كل فائدة تحصل للإنسان من أي سبيل كان، لا من طريق الحرب فحسب.

فمن ملك منجماً من ذهب أو فضة أو حديد أو نفط أو نحاس أو زفت أو كبريت وما إلى ذلك ففيه الخمس، عشرون بالمائة، ومن وجد مدخراً من آثار السابقين أو أخرج شيئاً من البحر كاللؤلؤ والمرجان أو ورث من إنسان مالاً ثابتاً أو منقولاً، وكان المورث لم يؤد الخمس ففي ذلك كله ضريبة ٢٠ بالمائة وكل ما يكسبه الإنسان من أرباح التجارة والصناعة والعمل والاجارات والوظيفة والهدية والوصية، وما إلى ذلك يستثنى منه مؤنته ومؤنة من يعول سنة كاملة وما زاد عن مؤنة السنة ففيه الخمس، ومن اشترى طعاماً أو وقوداً وفضل منه شيء عن السنة ففيه الخمس، ومن اشترى ثياباً تزيد عن حاجته وبقيت عنده أكثر من سنة ففيها الخمس.

هذا مثال واحد أوردناه للتنبيه على أن المجال عند الشيعة الإمامية يتسع لمن يريد أن يتخذ من الشريعة الإِسلامية أحكاماً تتمشى مع كل زمان ومكان.

إن الشيعة يملكون كنوزاً ثمينة من الاجتهادات التي ترتكز على الكتاب والسنة، ويملكون الإفادة منها في كل تشريع جديد، فمن الخير أن يشترك علماء الشيعة في كل مجتمع ومؤتمر يهدف إلى مثل هذه الغاية السامية.

٣١٩

الضَّرورَة تعفي المضطرّ مِنَ العِقاب *

عدم الحرج:

تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ وأسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة، من أي نوع كان، ومن تلك المبادئ السعة، وعدم العسر والحرج على المكلفين، وهو أصل مطلق غير مقيد، وحاكم غير محكوم، لا ينفيه شيء، وبه ينتفي كل تكليف يوجب العسر والحرج، سواء أكان التكليف من نوع العبادات أو المعاملات أو العقوبات أو الأحوال الشخصية.

وقد أعلن القرآن الكريم هذا المبدأ «وما جعل عليكم في الدين من حرج» «يريد اللّه بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر». «يريد اللّه أن يخفف عنكم» واشتهر الحديث عن الرسول الأعظم: (بعثت بالحنفية السمحة).

قاعدة المصالح والمفاسد:

ومن القواعد التي ترجع إلى عدم الحرج قاعدة المصالح والمفاسد التي قال بها الشيعة والمعتزلة، تتلخص في أن اللّه أمر بالفعل لمصلحة فيه تعود على فاعله، ونهى عنه لمفسدة كذلك، لا ان الفعل يصبح صالحاً لأن اللّه أمر به وفاسداً لأنه نهى عنه، بل أمر به اللّه تعالى لأنه صالح بالذات، ونهى عنه لأنه قبيح بالذات.

ويتفرع على ذلك أنه يجوز للإنسان - إذا اضطرته الظروف - أن يفعل، ويترك ما نص الكتاب والسنة على وجوبه وتحريمه، ولا يعد ذلك مخالفة منه

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان ١٩٥٢.

٣٢٠