الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 128320
تحميل: 7024

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128320 / تحميل: 7024
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

للشريعة، بل عمل بالشريعة نفسها، على شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها، فيكتفي المضطر بما يدفع عنه الضرورة والضيق، وبارتفاع الضرورة يرتفع المسوغ الشرعي والعقلي، ويبقى الشيء على حكمه الأول، ويكون التعدي بغياً وعدواناً «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إِثم عليه». «فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإِن اللّه غفور رحيم». «وقد فصل لكم ما حرم عليكم إِلا ما اضطررتم إليه».

معنى الاضطرار:

ليس للاضطرار ضابط خاص يرجع إليه الفقيه، وإِنما يختلف باختلاف الأشخاص، والعوامل الخارجية، والدوافع النفسية، فرب حالة تعد اضطراراً بالقياس إِلى إِنسان دون غيره، بل رب حالة تكون اضطراراً لإنسان في مورد ولا تكون اضطراراً له في مورد آخر، ولذا قيل: لكل مقام مقال، ولكل سؤال جواب، ولكل حادث حديث.

وعلى أي الأحوال فليس معنى الاضطرار - في مقامنا هذا - أن يكون الإنسان مجبراً على الفعل، على نحو لا يكون له معه مندوحة إلى الترك، فإن الفعل - والحالة هذه - لا يتصف بحسن أو قبح، ولا يحكم عليه بحل او تحريم، لأنه خارج عن القدرة والاختيار، وإِنما المقصود من الإضطرار أن يكون الإنسان قادراً على الفعل والترك معاً، ولكنه يختار الفعل لعامل خارجي أو دافع نفسي، كمن لا يملك إلا ثوباً واحداً يتستر به، فاضطره الجوع إلى بيعه، ليشتري بثمنه رغيفاً يسد رمقه، ويقيم أوده.

وقد ذكر الفقهاء أسباباً تخفف على المجرم عقاب الجريمة، وأعذاراً تعفي المضطر من كل عقاب، غير أنهم لم ينظموها في مبحث واحد، بل جاءت متفرقة في أبواب الفقه هنا وهناك، ولو جمعت لكانت كتاباً مستقلاً.

٣٢١

اسباب التخفيف:

ومن أسباب التخفيف التي ذكرها الفقهاء: أن الزاني إذا كان أعزب أو متزوجاً يتعذر عليه الوصول إلى زوجته لمرض أو سفر فعقابه الجلد دون الرجم، وإذا كان متزوجاً يمكنه الوصول إلى زوجته ساعة يشاء يعاقب بالرجم، وأن السارق تقطع يده، إذا نقب نقباً، أو كسر قفلاً أو باباً، أما إذا أخذ المال من غير حرز كسرقة الثمرة على الشجرة، أو السرقة من الحقل والبيدر فلا تقطع يده(١) .

الدفاع عن المال والنفس والحريم:

ومن الأعذار التي تعفي المضطر من كل عقاب، الدفاع عن المال والنفس والعرض، ولو أدى الدفاع إلى قتل المعتدي، وعليه جميع المذاهب، قال صاحب المغني ج ٧ «لا أعلم فيه خلافاً» وقال صاحب الجواهر والمسالك «القتل دفاعاً عن النفس والمال لا يوجب قصاصاً. ومن وجد مع زوجته رجلاً يزني بها فله قتلهما معاً، ولا إِثم عليه» وفي الآية الكريمة «ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً» والمعتدي قتل ظالماً لا مظلوماً، وقال الشهيد في المسالك «ألا قوي وجوب الدفاع عن النفس والحريم مع الإمكان، ولا يجوز الإستسلام» أي يجب على الإنسان أن يدافع عن نفسه وحريمه بكل وسيلة، ولو بقتل المعتدي، على شريطة أن يعتمد في الدفاع على الأسهل فالأسهل، كالصياح أولاً، ثم الضرب ثم الجرح، وأخيراً القتل، أما الدفاع عن المال فجائز فعله وتركه.

حاجة المضطر إلى الطعام

ومن الأعذار: حاجة المضطر إلى الطعام، فقد أباح فقهاء المذاهب للجائع الذي يخاف التلف على نفسه أن يتناول كل ما يحفظ به نفسه، ويسد رمقه، فأباحوا له أكل الميتة، والسرقة والنهب والقتل، قال صاحب المغني في باب الصيد والذبائح ج ٨ «إذا لم يجد المضطر إِلا طعاماً لغيره، فإن لم يكن صاحبه مضطراً إليه لزمه بذله للمضطر، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه، لأنه مستحق له دون مالكه، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله قتاله، فإن قتل المضطر فهو شهيد، وإن آل أخذه إلى قتل صاحب الطعام فدمه هدر لأنه ظالم» وقال صاحب المسالك ج ٢ باب الأطعمة والأشربة: «إن كان المضطر قادراً على صاحب

_____________________

(١) المغني طبعة ثالثة ج ٧ ص ٢٤٨، والجواهر والمسالك باب الحدود.

٣٢٢

الطعام قاتله، فإن قتل المضطر كان مظلوماً، وإن قتل صاحب الطعام فدمه هدر».

ومن الطريف ما ذكره كثير من فقهاء السنة والشيعة وإن المضطر إِن لم يجد إلا نفسه جاز له أن يقطع بعض أعضائه غير الرئيسة التي لا يؤدي قطعها إلى هلاكه، ويأكلها، وأنه إذا وجد إنساناً ميتاً جاز له أن يأكل من لحمه.

وأول ما يختلج في النفس أن الفقهاء قد استوحوا هذا الفرص وأمثاله، من الفقر والحرمان في العصر الذي عاشوا فيه، وإن شأن المضطر في حركاته وسكناته أشبه بشأن الجماد تسيره قوة خارجة عنه، لأنه لا يصغي ولا يمكن أن يصغي لقول: هذا حسن يجب فعله، وذاك قبيح يجب تركه:

وقد التقت النظرية القائلة «إن الفقر ليتحدى كل فضيلة» بنظرية الفقهاء «لا عقاب مع اضطرار» بل هي عينها، وكفى بالفقر عقاباً.

وقال الشيخ محمد الأعسم في منظومة الأطعمة والأشربة(١) :

الفضل للخبز الذي لولاه

ما كان يوماً يعبد الإله

ومن الأمثلة عندنا في جبل عامل «الجوع كافر» ولعل مصدر هذا المثل قول أبي ذر: «إِذا ذهب الفقر إِلى بلد قال له الكفر خذني معك» فقد تجول هذا الصحابي في قرى العامليين - جنوب لبنان - ينذر ويبشر أهله، عندما نفاه عثمان إلى بلاد الشام.

وليس الفقر كفراً فحسب، بل هو الموت الأكبر، كما قال الإمام علي بن أبي طالب ع، موت للعقل والروح والجسم، فلا صحة ولا علم، ولا فضيلة مع فقر، فالجهاد للقضاء على الفقر أفضل من كل جهاد عند اللّه سبحانه، لأنه جهاد في سبيل الإيمان باللّه والعمل بشريعته وأحكامه.

_____________________

(١) الشيخ محمد علي الأعسم عالم من علماء النجف وشعرائها، له منظومات في الفقه والعربية، توفي سنة ١٢٤٧ هجرية.

٣٢٣

اليمين وأحكامها *

وردت اليمين في كلام اللّه سبحانه، كقوله عز وجل: والقرآن، والعصر، والنجم، والتين والزيتون، وما إلى ذلك مما جاء في الكتاب العزيز، ووردت في كلام الأنبياء والأئمة فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يحلف: والذي نفس أبي القاسم بيده، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، وكان الإمام (ع) يحلف: والذي أصوم وأصلي له، وتجدها في كلام العلماء والجهال، والملوك والصعاليك، وتكاد توجد حيث يوجد ضمير المتكلم، وأكثر ما تكون استعمالاً في كلام التجار والنفعيين.

وعرفت اليمين كتب الشرائع والقوانين، وأطال الفقهاء الكلام في أقسامها وأحكامها وفي الحالف وشروطه، والمحلوف عليه وبه، قال الشيعة الإمامية: لا يتحقق معنى اليمين إِلا إذا كان القسم باللّه وأسمائه الحسنى وصفاته الدالة عليه صراحة، فمن حلف بالقرآن والنبي والكعبة، وما إلى ذلك لا يكون القسم شرعياً، ولا يترتب على مخالفته إِثم ولا كفارة، ولا تُفصل به الدعاوى في المحاكمات، ووافقهم على ذلك أبو حنيفة.

قال الشافعي ومالك وابن حنبل تنعقد اليمين إذا كان الحلف بالمصحف، وتفرد ابن حنبل عن الجميع بأنها تنعقد بالحلف بالنبي(١) وثبت من طريق الشيعة والسنة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: من كان منكم حالفاً فليحلف باللّه أو ليذر. ومن طريق الشيعة أن محمد بن مسلم سأل الإمام الباقر (ع) عن قول اللّه عز وجل: والليل

_____________________

* - نشر في العرفان آذار سنة ١٩٥١.

(١) الدرر شرح الغرر ج ١ باب الإيمان. وميزان الشعراني ج ٢ باب الإيمان.

٣٢٤

إِذا يغشى، والنجم إذا هوى وما أشبه ذلك فقال: إِن للّه عز وجل أن يقسم من خلقه بما شاء. وليس لخلقه أن يقسموا إِلا به.

وتنقسم اليمين إلى أربعة أقسام:

١ - يمين اللغو، وهي التي لا يعتد بها الناس، فلم يقصدوا بها جلب مغنم، ولا دفع مغرم وإنما تدور على ألسنتهم جرياً على المعتاد، كما تقول لمن قال لك: ألا تحبني: بلى واللّه، ولمن قال لك: أرأيت فلاناً أو معك صرف ليرة: لا واللّه، وقولك: فلان رجل طيب واللّه، تقول ذلك من غير قصد اليمين، وليس لهذه اليمين أي أثر عند السنة والشيعة، فصاحبها غير مؤاخذ ولا تجب عليه كفارة سواء أطابق قوله الواقع أم لم يطابق، لأنها ليست بيمين حقيقية، ولا تشبهها في شيء إلا في الصورة والصيغة.

وفي سورة البقرة آية ٢٢٥ «لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، واللّه غفور رحيم».

القسم الثاني: يمين المناشدة، وهي الحلف على إنسان ليفعل أو يترك، وهذه لا أثر لها عند السنة والشيعة لا بالنسبة إلى المقسم، ولا بالنسبة إلى المقسم عليه، وعن الإمام الصادق في رجل أقسم على آخر قال: ليس عليه شيء، إنما أراد إكرامه، وتسمية هذا القسم باليمين ضرب من التجوز.

القسم الثالث: يمين الغموس، وهي الحلف باللّه سبحانه على شيء في الماضي أو الحال مع تعمد الحالف الكذب، وسميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الذنوب الآثام، وبها تفصل الدعاوى في المرافعات، وتستعملها الناس كثيراً لينفوا عنهم ما نسب اليهم من فعل أو ترك أو لإرضاء المحلوف له، أو ترغيبه كيمين التجار والنفعيين، وهي من أعظم الكبائر مع عدم الصدق، وتكرر النهي عنها في القرآن الحكيم «لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم. تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم. لا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل اللّه ولكم عذاب عظيم. ولا تطع كل حلاف مهين. يحلفون باللّه لكم ليرضوكم واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إِن كانوا مؤمنين.

٣٢٥

يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا فإِن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين» والدخل الخيانة، وفي الحديث أن موسى نبي اللّه أمر أن لا يحلفوا باللّه كاذبين وأنا آمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين ولا صادقين، واتفق السنة والشيعة على أنها توجب الإثم والعقاب ولا توجب الكفارة، لأنها أعظم من أن يكفر عنها إلا الشافعي حيث أوجب التكفير(١) .

القسم الرابع: اليمين المنعقدة، وهي الحلف على آت في المستقبل فعلاً كان أم تركاً، وفي ميزان الشعراني ج ٢ باب الأيمان «إن هذه اليمين تنعقد عند الأئمة الأربعة في الطاعة والمعصية والمباح» وفي الدرر ج ١ باب الأيمان «لو حلف إنسان على معصية كعدم الكلام مع أبيه، وترك الصلاة تنعقد اليمين ويحنث ويكفر - والحنث هو عدم العمل بموجب اليمين - ولو قال كل حلال عليَّ حرام فالقياس أن يحنث عند انتهائه من هذه الجملة لأنه تنفس، بل تنعقد اليمين ولو كان الحالف مكرهاً أو مخطئاً كما لو أراد أن يقول اسقني الماء فسبق لسانه وقال واللّه لا أشرب الماء» وفي ميزان الشعراني «لو حلف لا يكلم فلاناً أو ليضربنه مائة سوط تنعقد اليمين ويحنث، أو حلف ليقتلن فلاناً وكان يعلم أنه ميت تنعقد ويحنث مع قول مالك أنه لا يحنث» وفي الجزء الثاني من حاشية الباجوري على شرح الغزي على متن أبي شجاع «لو حلف لا يصلي فصلى تنعقد اليمين ويحنث إلا صلاة الجنازة لأنها لا تسمى صلاة».

وقال الشيعة الإمامية: إِن اليمين لا تنعقد، ولا يكون لها أي أثر إذا كانت على محرم أو مكروه أو ترك مستحب، فمن حلف أن يشرب الخمر أو لا يصلي أو لا يكلم أباه أو زوجته أو ولده أو يقتل إنساناً أو يضربه أو لا يعود مريضاً، وما إلى ذلك تقع اليمين منه لغواً فلا توجب حنثاً ولا كفارة، لأنها حلف على عمل غير مشروع، وتحليل للحرام أو تحريم للحلال أو استكراه لمستحب أو مباح وإنما تكون اليمين صحيحة عند الشيعة لها أثرها الشرعي إذا حلف على عمل واجب أو مستحب أو مباح على الأقل على نحو تعود اليمين بالمصلحة على الحالف أو عدم الضرر، ولو حلف على ترك شيء وكان في صالح الحالف حين الحلف، ثم احتاج إليه تنحل اليمين، ومثاله أن يحلف إنسان على ترك أكل اللحم لغاية صحية، تنعقد اليمين، فإِذا أكل اللحم والحالة هذه يأثم ويكفر، ولو تحسنت

_____________________

(١) ميزان الشعراني ج ٢ باب الأيمان.

٣٢٦

صحته بعد ذلك ، واحتاج إلى أكل اللحم ، تنحل اليمين ، ويصبح في حل منها. فكما أنها لا تنعقد أبداً على ما كان تركه أولى وأرجح، فإنها تنحل بعد انعقادها إذا صار مرجوحاً.

أما كفارة هذه اليمين المنعقدة لو خالف الحالف فعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، ومن عجز عن ذلك كله فصيام ثلاثة أيام عند جميع المذاهب للآية ٨٩ من سورة المائدة «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم».

أما يمين البراءة من الحق فحرمتها مؤكدة عند جميع المذاهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: أنا بريء من دين محمد إن لم أفعل كذا فما كلمه الرسول حتى مات، وفي الحديث أن من حلف بالبراءة من الحق فقد برئ منه كاذباً كان أو صادقاً. اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه.

٣٢٧

نحوَ فِقْه إسْلامي في أسْلوبٍ جَديد *

إن من تتبع آيات الأحكام وأحاديثها، وتدبر معانيها وأسرارها يرى أن التشريع الإسلامي يرتكز على أصول ومبادئ عامة هي:

الحرية، وحقن الدماء، وصيانة الفروج والأموال، واحترام العقائد، وعدم الضرر والحرج، والوفاء بالعهد، وحفظ النظام، وعقوبة الجاني، وتغريم المعتدي، وعدم الغش والخيانة، وإباحة الطيبات، وتحريم الخبائث، ومراعاة العقل والعدل، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، وفصل الخصومات بالصلح والحسنى مع الإمكان، وإلا فبالقوة على أساس الحق، والأخذ بالمعرف مع عدم وجود النص المعاكس والمساواة بين الناس جميعاً، وما إلى ذلك مما تستدعيه الحاجة، ويفرضه الظرف، ويقره المنطق السليم.

إن هذه المبادئ هي الأسس الثابتة للتشريع الحديث، والمصادر الأولى التي يستقي منها المشرع العصري أحكامه وأراءه، أسس راسخة لا تتغير بتغير الزمن، ولا تتبدل بتبدل الأحوال، وإنما تتطور الأسباب والحاجات التي تمثل هذه المبادئ. فقبل عصر الآلة كان العرف يعتبر قيوداً وشروطاً في البيع والتجارة لا تتم بدونها، وبعد أن زاد الإنتاج، وتطورت وسائل النقل، واتسعت حدود التجارة وأسبابها براً وبحراً لم تعد تلك القيود مرعية عند العرف، وأصبح التاجر الشرقي يشتري من التاجر الغربي الصفقات الكبرى بهاتف أو برقية، ويتم البيع بينهما قبل استلام المثمن وقبض الثمن، ثم يبيع الشرقي هذه الصفقات بالوسيلة نفسها، فالشرع - والحالة هذه - يلغي الشروط التي كانت معتبرة قبلاً، ويلزم

_____________________

* - نشر في النشرة القضائية أيار ١٩٥١.

٣٢٨

المتابعين بما التزما، والزمتهما به غرفة التجارة، فالمعول شرعاً على العرف الذي يختلف باختلاف الزمن، ولا ينظر إلى الوسائل مهما كان نوعها ما دامت لا تحرم حلالاً، ولا تحلل حراماً، وبهذا نجد تفسير الحديث المشهور «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» أي أن المفاهيم العامة كالبيع مثلاً بمعناه الشامل كان حلالاً في عهد محمد ص، وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة، وإن تطورت أفراده بتطور الزمن.

فأي حكم يتنافى مع مبدأ من هذه المبادئ فهو محل للاعتراض والطعن، ولا يسوغ نسبته إلى الإسلام وشريعته، وإن كان الحاكم به مرجع المؤلفين قديماً وحديثاً، وشيخ المجتهدين علماً وورعاً، بل إذا كان الحديث مخالفاً لهذه المبادئ يجب إهماله أو صرفه عن ظاهره، وإن كان راويه من السابقين الأولين، حيث ثبت بطريق السنة والشيعة أن النبي أمر أن يعرض ما روي عنه على كتاب اللّه، فما وافقه فهو قائله، وما خالفه لم يقله(١) .

وعلى الرغم من إيمان فقهاء السنة والشيعة بهذه المبادئ العامة، واعترافهم بأن الشريعة الإسلامية ترتكز عليها، وتستنير بضوئها فإنك تجد في كتبهم أحكاماً لا تتفق مع مبدأ من مبادئ الإسلام، وقد تجاوزت هذه الأحكام حد الإحصاء. نقدم بعضها بين يدي القارئ ليكون شاهداً على ما نقول منها: ما أجمع عليه فقهاء الشيعة أنه إذا كانت عين في يد إنسان فأقرّ بها لآخر، ثم أقرّ بها لغيره، كما لو قال: هي لزيد، بل هي لعمر وجب على المقر أن يدفع العين للأول، وثمنها بكامله للثاني، لأنه ساوى بينهما في الإقرار. يعطي العين للأول لتقدم الإقرار له وثمنها للثاني، لأنه أحال بينه وبين حقه. وهذه «الحيلولة» بمنزلة التلف(٢) . ان مثل هذا الحكم ضرر فاحش على المقر، حيث حكم عليه بأكثر مما ثبت في الواقع، وأن أحد المحكوم لهما أخذ منه ما لا يستحقه ظلماً وعدواناً بحكم القضاء.

ومنها: ما أجمع عليه فقهاء الشيعة أيضاً أنه إذا ظلم قوي عاملاً فحبسه حائلاً

_____________________

(١) كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري من الشيعة، وكتاب فجر الإسلام نقلاً عن الموافقات للشاطبي من السنة.

(٢) كتاب الجواهر، باب الاقرار، وجميع كتب الفقه للشيعة.

٣٢٩

بينه وبين عمله الذي يدر عليه وعلى عياله القوت قالوا: إن القوي آثم يستحق الذم والعقاب، ولكن لا يجوز الحكم عليه بالمبلغ الذي فوته على العامل أي لا يحكم عليه بالعطل والضرر «أما لو غصب دابة ضمن منافعها سواء استوفاها الغاصب أم لا»(١) مستندين في ذلك إلى أن العامل نفسه إنسان حر لا يتقوم بمال، فمنافعه كذلك، بخلاف الدابة فإنها تتقوم هي ومنافعها بالمال(٢) . وهذا الحكم يتنافى مع مبدأ الحرية واحترام الأنفس والأموال. والعرف لا يرى أدنى تفاوت بين حبس عامل لو ترك حراً لحصل على المال، وبين التعدي على ماله الحاصل.

ومنها: ما ذكره صاحب المسالك، وصاحب الجواهر من فقهاء الشيعة في باب الطلاق «إذا كرهت المرأة زوجها، وأرادت انفساخ عقد الزواج، فارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه. فاذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قبل منها وتمت الحيلة» ومثل هذا الاحتيال على الدين لتحقق الأهواء والشهوات لا يقره عقل ولا شرع سماوي أو وضعي(٣) .

ومنها: ما جاء في كتاب الميزان للشعراني من السنة (ج ٢) باب الصيد والذباحة: أن ابن حنبل قال (لا يحل صيد الكلب الأسود - ووجهة صاحب الكتاب - بأنه شيطان، وصيد الشيطان رجس، لأنه لا كتاب له، ولو كان له كتاب لحل صيده) وفي باب الشهادات من الكتاب المذكور نقلاً عن ابن حنبل أيضاً: أنه لا تقبل شهادة البدوي على القروي.

وفي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج ٤ ص ٢٨٩) (إذا أراد رجل أن يقول لزوجته: أنت ظاهر، فسبق لسانه، وقال: أنت طالق يحكم القاضي بصحة الطلاق.

_____________________

(١) كتاب الوسيلة الكبرى، باب الغصب للسيد أبو الحسن.

(٢) كتاب الجواهر باب الغصب.

(٣) عرضت لي هذه الحادثة حين كنت قاضياً في محكمة بيروت الشرعية. كرهت امرأة زوجها وطلبت منه الطلاق فامتنع، فأشار عليها بعضهم بالارتداد، فارتدت عن الإسلام إلى النصرانية، وسجلت ارتدادها عند المحافظ وفي دائرة الاحصاء وقدمت لي طلباً بفسخ الزواج، فأصدرت قراراً بتاريخ ١٩ شباط سنة ١٩٤٩ برد طلبها وبقاء الزواج فاستأنفت قراري فأصدرت محكمة الاستئناف الشرعية قراراً بتاريخ ٨ كانون الأول سنة ١٩٤٩ بفسخ الزواج بينها وبين زوجها، وبعد هذا القرار رجعت إلى الإسلام وتزوجت غيره وتمت الحيلة.

٣٣٠

وفي كتاب الذخائر الأشرفية لابن الشحنة الحنفي باب النكاح «إذا علق رجل طلاق امرأته على رؤية شيء، وقد كانت حاملاً، فخرج إلى السوق، ورأى ذلك الشيء ووضعت امرأته حملها، وعندما رجع إلى بيته وجدها متزوجة برجل آخر فيصح الطلاق من الزوج، والزواج من الآخر».

إن هذه الأحكام وأمثالها التي يجدها المتبع في كتب الفقه لرجال الدين لا تعتمد على غير الحدس والاقيسة الباطلة، فمن الخطأ نسبتها إلى شريعة خالدة ذات مبادئ صحيحة ثابتة كالشريعة الإسلامية، إن هذا النوع من الأحكام لا يجوز بقاؤه بحال من الأحوال في كتب الفقه الإسلامي التي يقدسها الأستاذ والطالب، ويعتمد عليها المرجع الأكبر في علمه وعمله.

لقد آن لقادة الدين في النجف والأزهر أن يصفوا الحساب مع هذه الكتب، فيدرسوها دراسة علمية صحيحة، ويختاروا منها ما يتفق مع حاجاتنا الاجتماعية والاقتصادية، ومع المبادئ العامة للتشريع الإسلامي، ويظهروا ما في بطونها من كنوز وفوائد لا نجدها في قانون قديم وحديث، ويهملوا هذه السخافات التي تعود بنا إلى عهد الجهل، ودور الوحشية، وتعوقنا عن التفكير في مسايرة الحياة وأطوارها.

اعتمد التشريع الإسلامي في بدايته على الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وكان هذان الأصلان يومذاك كافيين وافيين باغراض الحياة الساذجة البسيطة في عهد الرسول، وبعد أن تطورت الحياة، وفوجئ المسلمون بأمور لا يعرفون عنها وعن أحكامها كثيراً أو قليلاً، ورأى فقهاؤهم أن الجمود عند نصوص الكتاب والسنة لا يزيل جهالة، ولا يرشد إلى هداية لجأوا إلى أصول أخرى للتشريع غير الكتاب والسنة، فقال السنة: عندنا القياس، وقال الشيعة: عندنا العقل، ولكن الكثيرين منهم وخاصة «المتأخرين» دونوا أحكاماً تتنافى مع روح التشريع الإسلامي ومبادئه العامة، ولا يؤيدها قياس صحيح أو عقل سليم.

يجب على الفقيه إذا عرضت له مسألة من المسائل أن يستخرج حكمها - قبل كل شيء - من آيات الأحكام وأحاديثها الثابتة على أن يراعي في تخريج الحكم المبادئ العامة للتشريع فإذا وجد آية أو رواية تتنافى بظاهرها مع مبدأ منها وجب أن يصرفها عن ظاهرها، ويؤولها بما يتفق مع العقل والمنطق، وإذا فقد النص من الكتاب والسنة تتبع أقوال الفقهاء، فإن وجد لها أثراً في كلامهم نظر إلى دليلهم غير مقلد لأحد في أصل أو فرع كائناً من كان، فإن كان معقولاً وكفيلاً

٣٣١

بالغاية المنشودة من الشرع عمل به، وإن لم يجد لمسألته أثراً في كتبهم، أو وجد حكمها من النوع الذي نقلناه، اعرض غير مكترث بالمتون والشروح والحواشي، ورجع إلى عقله واجتهاده، وركز حكمه على مبادئ التشريع مسترشداً بالقواعد العامة التي قررها العقل، ووضعت لحل المشكلات والمعضلات. يجب أن نسترشد بكل قاعدة وأصل وضع لرفع مستوى التشريع سواء أكان واضعه شيخاً قديماً أو جديداً، ما دام الأصل يتفق مع منطق العقل، وروح الشرع.

نحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية شريعة خالدة تمتاز بروح المرونة، والتطور مع كل عصر، وأن الشرائع الحديثة قد اقتبست الكثير من أحكامها. ولكن هذا لا يمنعنا من إعلان الحق بأن فيها إلى جانب ذلك أحكاماً دخيلة ابتدعها التعصب والجهل، وأنها في أشد الحاجة إلى التقليم والتطعيم، وهذا لا يحط من شأنها، ولا ينزلها عن عرشها، فهذه أرقى القوانين الحديثة التي هي نتيجة التفكير العميق، والدراسة الصحيحة ما زالت معرضاً للتعديل والتبديل، والزيادة والنقصان، فأحرى أن يعرض ذلك لما في كتب الفقه التي مضى عليها قرون عديدة، وهي على وضعها وطبعها، وترتيبها وتبويبها، مع أن أصحابها لا يعلمون الغيب، ولا يتنزهون عن الخطأ.

وضع الفقهاء كتباً، وبوبوا أبواباً خاصة للأمور الاجتماعية والاقتصادية كالزواج والطلاق، والتجارة والاجارة، وأكثروا فيها من الفروع والقروض، ومع هذا كثيراً ما تعرض لنا مسائل من هذه الأبواب نجهل حكمها، فنرجع إلى كتبهم وأبوابهم باحثين عن الحكم فلا نجد له أثراً في فروعهم وفروضهم على كثرتها، فكيف بما لم يفردوا له باباً مستقلاً، ولا عنواناً خاصاً كالملاحة والتجارة البحرية ونظم البريد التي هي من صميم الحياة، والتي وضع لها المشرع العصري قوانين في مجلد ضخم يبلغ مئات الصفحات.

لقد تطورت الحياة، وتعددت شؤونها واحداثها، ولم يبق شيء حقير أو خطير على ما كان عليه في عهد الفقهاء السالفين، فمن المستحيل أن تبقى الأحكام جامدة راكدة، وموضوعاتها في تغير مستمر، ان الحكم متفرع من موضوعه فيثبت بثبوته وينتفي بانتفائه ويتطور بتطوره.

٣٣٢

مَعرَكة في الأزهَر * بين المجددين والمحافظين

قامت في الجمهورية المصرية معركة عنيفة حول الأزهر ومشاكله، واستمرت شهرين على التقريب. يضم الأزهر من العلماء والطلاب ما يربو على العشرين ألفاً، كما أن ميزانيته تربو بكثير على المليون من الجنيهات.

وسبب المعركة أن الاستاذ خالد محمد خالد وجه إلى الشيخ عبد الرحمن تاج على أثر توليه مشيخة الأزهر ستة خطابات مفتوحة يحثه فيها على أن يسير بالأزهر إلى الامام. وأن لا يبقى ما كان فيه على ما كان، وحركت خطابات الاستاذ خالد أفراداً من داخل الأزهر وخارجه، فناصره فريق، وعارضه فريق. ورأيت أن الخص لقراء العرفان أقوال الطرفين، لما فيها من فائدة ومتعة، ولما للأزهر من قدر ومكانة في نفوس القريبين والبعيدين.

يعتقد الأستاذ خالد أن الأزهر عقدة التنفس للمصريين وغيرهم من العرب والمسلمين وانه إنما وجد لخير العروبة والإسلام، ولكن الكثير من شيوخه لم يفهموا هذه الرسالة، أو فهموها ولم يعملوا لها، بل تاجروا بالإسلام بغير مبرر، وباعوه بغير ثمن، وقد أزاح الاستاذ خالد الستار عن بعض ما يعانيه الأزهر من الأدواء، وقدم الحلول لعلاجها واستئصالها.

من هذه الأدواء أن بعض حملة العمائم ينعقون مع كل ناعق لا يردعهم رادع من دين أو عقل. ففي عام ١٩٥١ جاء إلى مصر مدير أقلام المخابرات الإنكليزية في الشرق الأوسط، واستحصل من شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ووكيل الأزهر على فتوى بأن الإسلام يحرم تحديد الملكية. وفي عام ١٩٣٧

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان ١٩٥٤.

٣٣٣

كان الاستاذ يدرس في الأزهر عند أحد الشيوخ، وكان هذا الشيخ يمقت الإمام الراحل المراغي، ويلتمس له العثرات ليحدث تلاميذه بها، وذات يوم رأى التلاميذ شيخهم هذا يقبل يد المراغي، وينحني له كأنه في ركوع، وفي أثناء الدرس سأل التلاميذ شيخهم عن تلك المودة والخضوع، فأجاب الشيخ: يا أبنائي «نقبلها ونلعنها» وقد تأكد التلاميذ فيما بعد أن «نقبلها ونلعنها» قاعدة مطردة يلتزمها معظم شيوخ الأزهر. وفي عام ١٩٣٦ كان الاستاذ خالد يدرس كتاباً كبيراً في الفقه يضم بين دفتيه حشداً من المسائل التافهة، منها «مسألة» من صلى وهو يحمل قربة فساء، فهل تصلح صلاته أم تكون باطلة، ويذكر مثلاً آخر من كتاب التوحيد الذي يدرسه طلاب كلية أصول الدين في الأزهر. قال صاحب هذا الكتاب «لا يجوز عزل الإمام بالفسق والخروج عن طاعة اللّه، ولا بالظلم والجود على عباد اللّه. لأنه قد ظهر الفسق، وانتشر الجور من الائمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، وكان السلف ينقادون لهم. ولا يرون الخروج عليهم».

ويوم ابتدع فاروق لنفسه نسباً كاذباً برسول اللّه ص قام خطباء المساجد يسألون اللّه أن يوفق مليكهم المعظم ويرعاه، وقال بعض الشيوخ: «لقد علم اللّه أن مليكنا الصالح من سلالة نبيه الكريم، فألهم والده العظيم أن يختار له اسماً قريباً من النبوة ألا وهو الفاروق» وبعد أن ذهب فاروق هذا وقف شيخ من العلماء بين يدي اللواء محمد نجيب فحوقل وبسمل وقال إن فرعون (أي فاروق) علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً.

واجتمعت مرة لجنة الفتاوى بالأزهر، وقررت إِخراج أبي ذر من الإسلام، وظهرت الصحف تحمل طعن العمائم فيه لأن المصلحين والجائعين يستشهدون بأقوال هذا الصحابي الجليل، ونشرت جريدة الأهرام حديثاً لشيخ الأزهر السابق. قال فضيلته: إن الشعب الروسي شقي وتعس، ونظامه الاقتصادي فاشل، والبطالة متفشية، والعمال ساخطون. مع أن هذا الشيخ لو سئل عن حي الزمالك لما عرف أين يقع !

وخاطب الأستاذ خالد شيخ الأزهر قائلاً: أن مهمتك تبدأ من الأجابة على هذا السؤال: هل الأزهر مقبرة أم جامعة ؟ فإِذا كان مقبرة فليبق كما هو، وإِذا كان جامعة فليمض على الدرب الذي خطته الحياة للجامعات. ثم يلتفت ويقول: ان الأزهر في الحقيقة أكثر من جامعة، إِنه غدة تفرز للناس في بلادنا ما لا غنى عنه، وقد خرج في القديم رجالاً لا يستوحون في أعمالهم وأقوالهم غير الدين والعلم. دخل الخديو مرة على شيخ يلقي درسه في فناء الأزهر وقد تحلق الطلاب حوله

٣٣٤

على الحصير، وبسط الشيخ ساقه بسبب مرض بها، فوقف الخديو على الحلقة، فلم يتحول الشيخ من مكانه، ولم يجمع ساقه الممدودة في وجه الخديو، ويعجب الخديو بهذا الشيخ البسيط، ويأمر له بنفحة من المال، فيردها الشيخ قائلاً للرسول: قل لأفندينا: ان الذي يمد رجله لا يمد يده. وعندما توفي الشيخ محمد عبده أرسل الخديو رسولاً إلى شيخ الأزهر يبلغه أن يمتنع هو والعلماء عن تشييع جنازة الإمام، فيلتفت إلى أبناء الأزهر، ويقول على مسمع من رسول الخديو: هيا يا مشايخ إِلى تشييع الجنازة، فيبهت الرسول، ويقول للشيخ: ألا تمتثل رغبة أفندينا ! فيجيب الشيخ في غضب صاعق: ان اللّه وحده هو أفندينا.

ومن الذين ناصروا الأستاذ خالداً في ثورته، ورجا أن لا يخمد لهبها الشيخ حمد حبش من علماء الأزهر ومدرس بأحد معاهده قال: طالما خالجتني المعاني التي تناول شرحها وعلاجها الأستاذ خالد، لكنني كنت أجبن من أن أجهر بها. وذكر مأساة حصلت له. قال: زارني أحد المفتشين وأنا أدرس في بعض المدارس الدينية، فسأل الطلبة في نواقض الوضوء هذا السؤال: رجل من غير دبر، وفتحنا له فتحة في بطنه فما الحكم ! وناصره الأستاذ موسى جلال، ونقل صورة لعالم يحمل الشهادة العالمية من الأزهر قال: جرت مسابقة لوظيفة الإمامية في عهد مصطفى عبد الرزاق حين كان وزيراً للأوقاف، وكان من ضمن الأسئلة هذا السؤال «ماذا تعرف عن قرطبة ؟» فأجاب الشيخ بخط يده ما نصه بالحرف «قرطبة على وزن فعللة، وهي امرأة صحابية جليلة تزوجت صحابياً جليلاً، وانجبت منه تابعين وأتباع التابعين».

أما الذين لم ترق لهم أقوال الأستاذ خالد، وتصدوا للرد عليه فكلمات بعضهم تنبئ بانهم من فصيلة شيخ قرطبة أم التابعين وأتباعهم، وإليك هذه الجملة من تلك الردود «أتى الأستاذ خالد بأمثلة يظن أنها تزري بكتب الفقه من مسائل الطلاق، على أن عين البصير لا ترى هزءاً في ذلك وأي عجب في الصورة التي أبرزها الكاتب - أي خالد - في قول من قال لزوجته «ان لم اقتلك فأنت طالق» أليس يجوز أن يقولها قائل: فهو ان قتل كان قاتلاً، وإن لم يقتل كان مطلقاً».

٣٣٥

أما الآراء التي قدمها الأستاذ خالد، ورآها شافية للأزهر من أدواته، ووافية للسير به في سبيل الحياة والتقدم فتتلخص بأن تتكون لجان تعكف على مراجعة جميع مناهج وكتب التعليم بالأزهر، وتراجع الكتب الدينية المعروضة للثقافة العامة من تفسير وتصوف وسيرة، وتعد قائمة بما لا يتفق منها مع العقل، وتضع اللجان مؤلفاً جديداً يحتوي على خطب تذاع على ملايين المسلمين تكشف لهم النقاب عن الخرافات الدينية، وتنظر اللجان في دراسة الفقه الإسلامي على أن مصدره الكتاب والسنة فقط لا المذاهب الأربعة ولا غيرها.

هذي خلاصة لتلك الخطابات المفتوحة التي وجهها الأستاذ خالد محمد خالد إلى شيخ الأزهر، وما دار حولها من الرد والتأييد، وهي تدل على الوعي والرغبة في أن لا يتخلف الأزهر الشريف عن ركب الحياة السائر دائماً إلى الأمام(١) .

_____________________

(١) المصدر جريدة الجمهورية المصرية العدد ٩ و١٠ و١٢ و١٤ و١٥ و١٧ كانون الثاني ١٩٥٤ والعدد ٦ و٧ و١٠ و١٧ و٢١ و٢٤ شباط ١٩٥٤.

٣٣٦

هَلْ أبو ذرّ اِشتِراكي ؟ *

من الآراء السائدة أن أبا ذر الغفاري ممن آمن بالاشتراكية ودعا إليها وأنه لاقى من جراء ذلك أنواع العذاب، أما سبب هذا الرأي فيعود إلى كفاح هذا الصحابي الجليل في سبيل تنفيذ مبدأ الإسلام ومحاربة البؤس والشقاء.

لم يكن أبو ذر فيلسوفاً ولا صاحب مذهب خاص، بل كان رجلاً ساذجاً عاش في البادية يرعى الماعز والغنم، ثم صحب الرسول الأعظم وأخذ عنه تعاليم الإسلام، فآمن بها، ودعا إليها، فهو لا يعتمد في إيمانه ودعوته على غير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

على هذا الأساس، أساس روح الإسلام ومبادئه حارب أبو ذر قيام الترف والنعيم إلى جانب البؤس والشقاء ونادى بأعلى صوته: لا يحل للإنسان أن يتمتع بثروة لا يحصيها العد والحساب، وجاره جائع يعجز عن القوت، ومريض لا يستطيع التطبيب، وجاهل لا يجد السبيل إلى التعليم.

وإذا دفع الأغنياء من أموالهم ما يسد هذا الفراغ، بحيث تتيسر السبيل إلى الرغيف والدواء والدرس لطلابها فلهم أن يكسبوا الأموال ويجمعوها من حل ويتصرفوا بها كما يريدون ويشتهون ما دامت تصرفاتهم لا تضر بصالح الأفراد ولا الجماعات.

ومن تفهم الإسلام وأخلص له، إخلاص أبي ذر حرم على الإنسان أن يتقلب في نعيم الثراء وأخوه يعذب في جحيم الشقاء، أما إذا كان أخوه في عيشة راضية أو مستور الحال فإن النعيم مباح بل مستحب لكل من وجد السبيل إليه قال تعالى

_____________________

* - نشر في جريدة الجهاد ١٩٥٢.

٣٣٧

في سورة الأعراف آية ٣٢ و٣٣ «قل: من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده. والطيبات من الرزق. قل: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي».

إن هذه الآية الكريمة أباحت للإنسان أن يحيا في نعيم الطيبات ويظهر بمظاهر الابهة والزينة، بل أنكر اللّه على من حرم ذلك، لأن التحريم ينافي الحكمة من خلق الزينة والطيبات التي أخرجها اللّه لعباده، وحرمت الفواحش والخلاعة وانتهاك الأعراض والحرمات، والإثم والبغي.

وعلى هذه الآية يرتكز تشريع القوانين والأحكام الدينية، فتطلق للفرد حريته وسعادته ومواهبه ولا تكون الحكومة ولا غيرها وصياً ولا ولياً عليه، وإنما تكون رقيباً ومحاسباً ورادعاً له عن الإثم والبغي، عن الاضرار بالغير والتعدي على حقوق الناس، كي لا يعيش إنسان على حساب إنسان.

إن للفرد وجوداً مستقلاً عن غيره، ووجوداً بوصف كونه جزءاً من الجماعة، له حقوقه المادية والأدبية.

ليس للإسلام مذهب خاص يسمى الاشتراكية أو الديمقراطية وإنما هو دين وشرع يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمحبة والمساواة يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد تلتقي هذه الدعوة من بعض جهاتها مع المذاهب المادية والآراء الفلسفية، وتفترق عنها من جهات أخرى ولا تعني هذه الملاءمة أن تلك الدعوة هي عين هذا المذهب وحقيقته.

وكثيراً ما يحسن الإنسان بذكائه وصفاء فطرته بمعنى من المعاني فيعبر عنه في معرض حديثه بأسلوب ساذج عادي ثم يقرر هذا المعنى كحقيقة علمية جاءت نتيجة لدرس العلماء وتجاربهم، كقول أبي ذر «إذا ذهب الفقر إلى بلد قال الكفر: خذني معك» فقد اثبت العلم أن سلوك الإنسان وليد لحالاته وظروفه فإذا كان جائعاً لم ينتفع بالحكمة الصالحة والموعظة الحسنة، لأنه يفكر ببطنه لا بعقله ومثل هذا الحس الصائب لا يصح أن نسميه مذهباً في الأخلاق، ونظرية في العلوم التي هي نتيجة البحث والاقيسة والاستنتاج.

إن أبا ذر صحابي، مثله مثل أي صحابي آمن باللّه ورسوله، وبالإسلام ومبادئه ولكنه يمتاز عن غيره بالزهد والجهر بالحق، وهاتان الميزتان هما السبب الوحيد لنسبة الاشتراكية إلى أبي ذر.

٣٣٨

كان لأبي ذر زوجة سوداء وكان يرحمها ويرفق بها، وكان أصحابه ينصحونه ويلحون عليه بأن يتزوج غيرها فلا يقبل منهما النصح، وكان إذا وزع العطاء على المسلمين أخذ عطاءه وانفقه على الفقراء وكانت له غنيمات يرعاها بنفسه، ويحلبها بيده، فيبدأ بجيرانه وأضيافه إذا كان عنده رغيفان أعطى أحدهما لذي حاجة، وكان لا يقبل عطاء من حاكم ولا من غيره إلا إذا كان العطاء عاماً. أرسل إليه عثمان مائتي دينار فجاء الرسول، وقال له: هذه من عثمان، وهو يقول لك: إنها من صلب ماله ما خالطها حرام، فقال له أبو ذر: هل أعطى أحداً من المسلمين مثلما أعطاني ؟ قال كلا، فقال أبو ذر: إذهب أنت والدراهم، إنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم ولست في حاجة إلى المال، فقال له الرسول:

أصلحك اللّه إني لا أرى في بيتك كثيراً ولا قليلاً !

فرفع أبو ذر الوسادة وأراه قرصين من خبز الشعير، وقال للرسول: بل عندي هذان وإني لغني بهما وبثقتي باللّه وإيماني بالحق.

يمقت أبو ذر الاحتكار بشتى انواعه ومعانيه حتى الهدايا، فإنها لا تحل له ولا لغيره إذا لم تكن عامة شاملة للجميع، وهو غني بكوز الماء والشعير لأنهما وسيلة تيسر له الوصول إلى هدفه الأسمى وعقيدته المثلى.

أما صراحة أبي ذر فقد جرت عليه الويلات وسببت له الضرب والبؤس والتشريد، عندما أسلم أبو ذر كان عدد المسلمين لا يزيد على أربعة، فتعرض لصناديد قريش، وجهر بالإسلام وتحداهم منادياً بأعلى صوته: لا إِله إِلا اللّه، محمد رسول اللّه. فضربوه حتى كاد يقضى عليه لولا أن يكفهم عنه العباس بن عبد المطلب، ثم عاود فعاودوا الضرب والعذاب. ولما رأى النبي ص أن أبا ذر معرض للقتل، لأن طبعه يأبى السكوت عن الباطل أمره أن يلتحق بأهله حتى إذا كثر المسلمون أتاه.

ولما توفي النبي ص، ورأى أبو ذر الأموال في عهد الخليفة الثالث يبذرها الأقربون هنا وهناك، والناس يقتلهم الجوع والبؤس ثارت ثورته وجن جنونه وصاح في وجه السلطان وفي كل مكان: جمعتم الأموال من الناس فيجب أن تنفقوها على الناس فطرد، ونفي ومات في الصحراء وحيداً، بعد أن مضت عليه ثلاثة أيام لم يطعم فيها شيئاً، هذا والكثير من زملائه الذين هم دونه سابقة ومنزلة عند الرسول يتدفق عليهم الذهب والفضة وتزخر حياتهم بالنعيم وأطايب العيش، وهذي سبيل الإثم والبغي ما تزال، ولن تزال متبعة ما وجد الباطل أنصاراً.

٣٣٩

اصطدم أبو ذر بأصحاب السيادة والثروة لا لأنه يطلب سلطاناً ومالاً، بل لأنه لا يريد أن يقوم الترف والبذخ إلى جنب الفقر والبؤس.

لم يكن أبو ذر صاحب مذهب خاص أو رأي جديد، صحب الرسول وآمن بدعوته على أنها وحي من اللّه سبحانه، وتفهمها على أساس العدل بين الناس أجمعين، فلا تابع ومتبوع، وسيد ومسود، وكرس حياته لتحقيق هذه الدعوة والظفر بها ولم يتخذها كغيره وسيلة للجاه والعيش، فكان ذلك سبباً لأن يتخذ المصلحون من شخصيته هادياً لسلوكهم ورائداً لأهدافهم.

وأي إنسان أدرك الدين على حقيقته كما بشر به الرسل والأنبياء، أدركه على أنه رسالة إنسانية تجاوزت حدود الفردية والعنصرية والإقليمية والطائفية وإن هذه الرسالة غاية تقصد لذاتها لا وسيلة وأداة للميول والشهوات، وأخلص لها إخلاص أبي ذر يكون كأبي ذر قدوة صالحة لكل مصلح ومثلاً أعلى لكل مؤمن.

ليس رجل الدين من نطق بالحكمة وحفظ الأصول والفروع، ولا من آمن بالأساطير والعفاريت والسحر والتخريف فالأول مشعوذ محترف يقلده الجاهلون باسم العلم والمعرفة، والثاني جاهل مخرف يحترمونه باسم الإيمان والقداسة، ولا شيء أعظم من خطرهما على الدين، إذ يبقى بلا قائد ولا رائد، هذا هو السر في ضعف العقيدة الدينية وانصراف الناس عن الدين وأهله.

٣٤٠