الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 126949
تحميل: 6890

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126949 / تحميل: 6890
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العِلم دين يُدان به *

رأى بعض الغيورين على الدين إعراض الشباب عنه وعن أهله، وإقبالهم على كل جديد مفيد وغير مفيد، فحاول أن يرغبهم في الدين ويقنعهم بأن جديدهم هذا غير جديد، لأن الدين بزعمه قد تحدث عن كل شيء تصريحاً أو تلويحاً، وأشار إلى ما كان ويكون من الآلات والمخترعات الحديثة، ثم أورد هذا الغيور الشواهد على دعواه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية حملها على غير محملها، وفسرها بغير حقيقتها، فسر قول القرآن الكريم «ويخلق ما لا تعلمون» بالطيارة والسيارة، وفسر «ويوم تأتي السماء بدخان مبين» بالغازات السامة، وفسر «الكتاب المبين» بالتسجيل الهوائي للاصوات، إذن يصح لنا أن نقول بناء على هذا القياس: أن قول القرآن الحكيم «من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» إشارة إلى تحطيم الذرة، وان الفقرة الأولى تشير إلى استخدام الذرة في الأغراض السلمية النافعة، والفقرة الثانية تشير إلى استعمالها في الحرب المهلكة المدمرة.

إن هذا التفسير، وإن دل على طيب السريرة وسلامة القصد، فإنه لا يقل ضرراً عن الرجعية والجمود. إن الخير كل الخير ان نقف بالدين عند واقعه وحقيقته، وحسب الدين فضيلة أنه أمر بكل شيء نافع، ونهى عن كل ما فيه شائبة الضرر، حسبه فضيلة أنه حارب الجهل والفقر كما حارب الظلم والكفر.

إن القرآن لم يشر إلى وجود هذه الآلات والمخترعات، ولا إلى وجود اديسون وانشتين، وإلى وجود هتلر وموسيليني ولكنه أعرب بلسان عربي فصيح أن

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشرت في مجلة الأحد في شهر رمضان المبارك ١٩٥٥.

٣٦١

« من قتل نفساً بغير نفس.. فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» وقتل النفس يكون بالسيف ويكون بالجهل والبطالة وخنق الحريات وما إلى ذلك من الوقوف في طريق الحياة والنبوغ، كما أن إحياءها يكون بالعلم وإفساح المجال للعمل وحرية الفكر وظهور النبوغ والعبقريات، وبالنتيجة يكون هتلر وأمثاله من الذين قتلوا الناس جميعاً، وأديسون وانشتين من الذين أحيوهم جميعاً، أجل إن اللّه علم الإنسان ما لم يعلم، حيث وهبه العقل والإدراك، ورفع عنه الحجر والوصاية، ولكنه في نفس الوقت نهاه أن يبخس الناس اشياءهم، ويعيث في الأرض فساداً.

إن العلم قد يكون سلاحاً فتاكاً، وقوة هدامة تدمر الحضارة، وتعود بالإنسانية إلى ظلمة التوحش والبربرية، ووسيلة تخيف الناس على أرواحهم وأموالهم، وتجعلهم في جزع مستمر، وقد يكون العالم قوة منتجة، وأداة لتطور الحياة وتقدمها.

والإسلام يحدد موقف العلم، أو قل يحدد مسؤولية من في أيديهم قوة العلم ووسائله، ويوجب عليهم أن يستخدموه للحياة لا للممات، إن الإسلام يحث على العلم ويرفع من شأن العاملين به، وهم المعنيون بقوله سبحانه «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون - يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» وقال الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام «العلم دين يدان به». أي أن العلم حق، وعلى كل إنسان أن يدين بالحق، ويعمل به، وإنما يكون العلم حقاً وديناً مقدساً إذا خلقنا خلقاً جديداً ينهض بنا إلى حياة أفضل، كما خلق الإسلام مجتمعاً جديداً في التفكير والمعيشة والسلوك، أما العلم الذي ينتهي بنا إلى سوء المصير فقد تعوذ منه الأنبياء والمصلحون، كما تعوذوا من الشيطان الرجيم، بل تعوذوا من علم لا ضرر فيه ولا نفع، قال الرسول الأعظم ص: أعوذ باللّه من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، فما قولكم بالعلم يتخذ آلة للصوصية ! أما القلب الذي لا يخشع فهو الذي لا يشعر صاحبه بالمسؤولية، ولا يكترث بالدين والوجدان، والنفس التي لا تشبع هي التي تحرص على الاحتكار واحتياز الثروات، وتعمى عن سوء العاقبة والمصير.

٣٦٢

حَديث رَمضَان *

لقد غير العلم فهم الإنسان لحقيقة الحياة، وقضى على كثير من التقاليد والمعتقدات، قضى على المعتقد الذي أقام الخرافة مقام العلم، والأحلام مقام الملموس والمنظور، وفسر الطبيعة وحوادثها باشياء لا تمت إليها بسبب. فسر المرض بلمس الجن، فعالجه بالرقى والتعاويذ، ونسب الفقر إلى القدر، فأوجب الاستسلام له والانقياد، وأسند سلطة الحاكم إلى اللّه، فأمر الناس بالسمع له والطاعة. هذه هي العقيدة التي ناصرها الظلم، وقاومها العلم، ودعمها الاقطاع، وكذبها الوعي، ودللها الاستعمار وخنقها التطور.

أما الدين الذي يحارب الخرافات والأوهام، ويدعو إلى تفسير الطبيعة بأسبابها، ويتصل بحياة الإنسان مباشرة، ويهدف إلى أن تكون الفضيلة عملاً مجسماً يحسه ويشعر به كل فرد فانه يسير مع العلم جنباً لجنب حليفين متناصرين، وهل يحارب العلم ديناً أساسه الدعوة إلى العلم، وحدّه العدالة والمساواة، وهدفه سعادة الإنسانية ورفاهيتها ؟ إن مثل هذا الدين يرفع الإنسان إلى مستوى أعلى، فقد رفع الإسلام قبائل العرب المتوحشة إلى أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه من التقدم والحضارة في ذلك العهد، وهذا التاريخ طبع كثيراً من الحضارات بطابع الدين وسماته، فوصف هذه بالحضارة الإسلامية، وتلك بالحضارة المسيحية، وثالثة بالحضارة البوذية، ولو كان العلم يعاند الدين لما كان للحضارة الدينية في التاريخ ذكر، وللكنائس ورجالها في أميركا وأوروبا عين ولا أثر أثر في هذا العصر الذي يجري فيه تيار العلم بأقصى ما يجري تيار في جميع العصور.

يتبين من هذا أن العلم لا يعاند اللاهوت، وأن عدو اللاهوت هو اللاهوتي

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشرت في جريدة التلغراف في شهر رمضان المبارك ١٩٥٢.

٣٦٣

الذي يفسر الطبيعة بالخيال والوهم، ويتخذ من أقوال السلف برهاناً على الحقيقة، ولو كذبتها التجربة والعيان، ويحاول إِقناع الناس بأن دينه خير الأديان، وأن طائفته تسعد غداً في جنات النعيم، وسائر الطوائف تشقى بنار الجحيم.

ليست مهمة رجل الدين أن ينظر إلى السماء وحدها، ويغض الطرف عن الأرض التي يعيش فيها، أو ينظر إليها من خلال نفسه وجامعه وكنيسته، فيبشر بدينه، ويهاجم سائر الأديان، ويتعصب لطائفة ضد الطوائف الأخرى، وإنما واجب رجل الدين أولاً وقبل كل شيء أن يتخذ من كل ما عليه مسحة دينية من عمل يؤدى في معبد، أو قول في كتاب مقدس، أو دعاء يكرر في الصلوات وأيام الصيام أداة توجيه وإِرشاده إلى تعاون جميع الطوائف الذين يجمعهم وطن واحد، وآمال واحدة، وأهداف مشتركة، إلى تعاون الجميع على تحقيق هذه الآمال والأهداف، وهدم الفروق والحواجز التي تحول بينها وبينهم، أن يعملوا يداً واحدة على حل ما يعانونه من مشكلات لا يصح الاغضاء عنها، ولا التقصير فيها. إِن الشعب الذي لا يتعاون ابناؤه على ازدهاره ورفع مستواه المادي والروحي لا دين له ولا إيمان.

ليس الدين ذلاً ولا انكساراً وزهداً في الحياة وملذاتها، ولا صلاة وصياماً يذوب له الصائمون، إن الصلاة رمز إلى إيمان المصلي، إيمانه بحق الإنسان وخالقه، وتعبير عن حبه للنظام الذي يحقق الحرية والرخاء للجميع، وانه يتقبل هذا النظام، ويحافظ عليه، ويخضع له بمحض إرادته واختياره. فالصلاة الصحيحة هي ما ينتهي بها المصلي، ويتورع عن كل ما فيه ضرر لنفسه ولغيره، ويأتمر ويفعل كل ما فيه الخير والصلاح له وللمجتمع، وبهذا نجد تفسير الآية الكريمة «ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر».

أما الصيام فقد أمر به الإنجيل قبل أن يأمر به القرآن «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» وليست الحكمة من وجوب الصيام أن يتذكر الصائم الجائعين، فيحسن إليهم. ويتصدق عليهم بالقرش والرغيف - كما قيل - ولو كانت هذه فائدة الصيام لوجب الصيام على الأغنياء دون الفقراء، ولكان حقاً على اللّه أن يسلط على الناس حاكماً ظالماً يظلمهم، ويستعبدهم ليتذكروا المظلوم، وينتصروا له من الظالم.

إن قول اللّه سبحانه كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون إشارة إلى أن الحكمة من وجوب الصوم، وامتناع الإنسان عن طعامه وشرابه - وهما في بيته ومتناول يده - أن يضبط الصائم نفسه بوازع يردعه عن استغلال الناس واستثمارهم، والتعدي على طعامهم وشرابهم. أن يدرك عملاً لا قولاً ان اطلاق العنان لانانيته واهوائه يجعل أقوات الناس ومقدراتهم رهناً بمقدرته على الاحتكار

٣٦٤

واللعب بالأسواق، وبمهارته في فن الغش والتدليس وفي ذلك خطر كبير عليه وعلى المجتمع. أن يدرك أن حرية الفرد واستقلاله ومصالحه - مهما بالغنا في احترامها - هي دون حرية المجتمع واستقلاله ومصالحه. أن الحر فرداً كان أو مجتمعاً هو من لا يستغل ولا يستغل، لا يستعبد ولا يستعبد. وبالتالي أن يهيِّئ الصائم نفسه بنكران ذاته، وكبح شهواته ليكون عضواً صالحاً في مجتمع يسير في سبيل النجاح والازدهار.

أن الدين أمر بالصوم تحدياً للجوع والعطش، لا رغبة في الجوع والعطش، تحدياً للأهواء التي تفرض على الناس ضريبة الجوع والعطش، وتعيق سير التقدم بجشعها الذي لا يقيد بقيد، ولا ينتهي إلى حد. قال الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الصائم من يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجل اللّه سبحانه، وقال: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. أجل، لأن صيامه لم يحد من طمعه، ولم يرق به إلى احترام الحياة، والإيمان بحقوق الإنسان. وجاء في بعض الأدعية التي يتلوها المؤمنون في شهر رمضان المبارك: اللهم ارزقني الجد والاجتهاد، والقوة والنشاط لما تحب وترضى. والوجل منك، والرجاء لك والتوكل عليك، والثقة بك، والورع عن محارمك، ان الخوف من اللّه سبحانه، والورع عن محارمه، والنشاط لما يرضيه، كل ذلك، إنما يكون بالتحرر من عبودية الهوى، وحب السيطرة والاستئثار، والبعد عن الكسل والخمول، عن سبيل الذين يقامرون بقرش الفقير، ورغيف البائس، ولا عمل لهم سوى الانتقال من مقهى إلى بار، ومن ملهى إلى حانة، إن اللّه لا يحب، ولا يرضى عن مجتمع لا يجد ويجتهد، ولا يكافح ويناضل في سبيل حياة أرقى وأبقى، ولو ملأ الشوارع بالكنائس والجوامع، والفضاء بالأجراس والأذان ان المجتمع الذي يحبه اللّه ورسوله، ويحب اللّه ورسوله هو الذي لا ترى فيه إِلا عاملاً في مصنع، أو زارعاً في حقل، أو راعياً على منحدر جبل، أو سماكاً يجذب شباكه، أو فناناً يرسم على لوحة، أو طبيباً في عيادة، أو عالماً في مختبر، أو أديباً ينقد الأوضاع.

إن مثل هذا المجتمع خليق بأن يعبد اللّه مخلصاً له الدين والصلاة والصيام.

٣٦٥

العيد *

إن الأعياد لا تختص بأمة دون أمة، ولا بدين دون آخر، فنجدها جلية واضحة في تاريخ الأمم والأديان جميعاً. وتنقسم الأعياد إلى دينية وشعبية، وأعياد خاصة ليست بشعبية ولا دينية، بل هي في نظر الأديان بدعة وضلالة، وعند الشعوب سخف وجهالة، كالاحتفال بتتويج ملك ليس له أثر يذكر، ولا منقبة تشكر. والغبطة بمثل هذا العيد لا تتعدى المتوج وأسرته، فإذا زال النفوذ والسلطان، وجاءت الأعياد كانت عليهم عذاباً وحسرات.

ويلاحظ أن العرب يهتمون ويحتفلون بالأعياد الدينية أكثر من الأعياد الشعبية، على عكس الغربيين الذين يهتمون بالأعياد الشعبية أكثر من غيرها، ولعل السر أن الشرق مصدر الأديان، وأن العرب لم يستردوا بعد كامل حقوقهم وسيادتهم، وسالف عزهم ومجدهم.

ومهما يكن فإن الأعياد الدينية تختلف باختلاف البواعث والأسباب، فعيد الميلاد يرمز إلى المودة والرحمة والإنسانية التي دعا إليها السيد المسيح، ومولد النبي من الذكريات الخالدة التي لها أعظم الأثر في تاريخ الإنسانية، فقد كان مولده إِيذاناً بانتهاء عهد الجاهلية والاستبداد، وبزوغ عهد الحضارة والحرية والحكمة من عيد الهجرة النبوية ان يلتفت المسلمون إلى الماضي ليجددوا وحدتهم، ويعملوا يداً واحدة لأنفسهم لا لغيرهم، ويناضلوا بروح التضحية والإخلاص في سبيل مبادئهم القومية، وإرجاع مجدهم، وإحياء تراثهم، ويحرروا بلادهم وعقولهم من كل قيد يعيقهم عن السير في طريق الحرية والحياة.

وهذان العيدان المولد والهجرة لم يكونا معروفين في عهد الرسول، ولا

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية في عيد رمضان المبارك ١٩٥٣.

٣٦٦

في عهد خلفائه الراشدين، فالمولد لم يصبح عيداً مقرراً عند المسلمين إلا في القرن الثامن الهجري، وعيد الهجرة تقرر بالأمس في هذا القرن. والحقيقة أن هذين العيدين هما من الأعياد الشعبية عند المسلمين لا من الأعياد الدينية، ولذا لا تجوز فيهما صلاةُ العيد. أما عيد الأضحى والفطر فإنهما من الدين في الصميم، فقد ثبت أن النبي كان يحتفل بهما، ويحتفل معه المسلمون، ويصلون فيهما خلفه صلاةَ العيد.

وعيد الأضحى يهدف إلى توثيق آصرة القربى بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وديارهم ولغاتهم، ويذكرهم بأنهم أسرة واحدة ينتظم فيها مئات الملايين. وعيد الفطر تحية القيام بالواجب، حيث يجدر بالصائم الذي جاهد شهواته شهراً كاملاً، وانتصرت قوى إِيمانه وعقيدته على أهوائه وميوله أن يعيد عيد النصرِ والفوز، عيدَ انتصارِ النظام على الفوضى، والعقل على العاطفة، عيداً يبتهج فيه لتغلب الحق على الباطل، والمبدأ المقدس على المنافع الخاصة.

لقد كان الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى في عصر الإسلام الأول بسيطاً متواضعاً، كان النبي يوسع على عياله يوم العيد، ويأمر أصحابه بالتوسعة على عيالهم، وكان يغتسل ويتطيب ويلبس أجمل ثيابه، ويقول: إِن اللّه جميل يحب الجمال، وقال الإمام جعفر الصادق في تفسير هذه الآية من سورة الأعراف «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إن اللّه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق» قال: إن معنى الآية تزينوا والبسوا أفخر ثيابكم في الجمعات والأعياد، وكلوا من طيبات ما أحل اللّه، ولا تأكلوا حراماً ولا باطلاً.

لقد استحب القرآن الزينة والأكل والشرب من الحلال الطيب، ونهى عن التبذير والإسراف، لأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وقرش واحد يؤخذ من غير حل، أو ينفق في معصية اللّه، في الفسق والفجور فهو إِسراف وتبذير ومجاوزة للحدود. وإذا ضممنا الآية التي أمرت بالزينة إلى هذه الآية من سورة النور الموجهة إلى النساء «ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ابنائهن أو ابناء بعولتهن أو اخوانهن أو ابناء اخوانهن أو ابناء اخواتهن أو نسائهن» إذا ضممنا الآيتين معاً تكون النتيجة أن القرآن أباح للرجال أن يتزينوا إِذا خرجوا إلى المساجد والمحافل في الأعياد وغيرها، أما النساء فلا تباح لهن الزينة في يوم العيد ولا في غير العيد إِلا إذا كانت الزينة للأزواج لا للأجانب، وفي عصرنا هذا تكاد تنعكس الآية عند بعض النساء، فانهن يقابلن الأزواج بثياب المطبخ، وبشعرهن المنفوش، كأنه صوف على غنم، وبالكلام الجاف الموحش، وإِذا أردن الخروج تزين بأفخر الزينة، ولبسن الحلي والحلل، وزججن الحواجب والعيونا، وملأن المحافظ بأنواع المساحيق

٣٦٧

يضعنها على الخدود، وهن سائرات في الشارع، أو راكبات في السيارة. وفي الحديث عن الرسول الأعظم «أيما امرأة تزينت لغير زوجها فعليها لعنة اللّه. إِن خير نسائكم الولود الودود السيّرة العفيفة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها المتبرجة مع زوجها الحصان على غيره التي تسمع قوله، وتطيع أمره».

وفي أيام الأعياد تتجلى العواطف الزوجية والأبوية والأخوية بأجلى معانيها حتى عند المتشائمين المشككين الذين يعمون عن الأثمار والأزهار، ولا يرون إلا الحنظل والأشواك، وتظهر هذه العاطفة الإنسانية في أبناء القرى أكثر منها في ابناء المدينة، فليس العيد في القرية ملابس وكعكاً وذبائح فحسب، فقبل كل شيء يجتمع أهل القرية في المسجد لصلاة العيد جماعة، ثم يتصافحون ويتعانقون متبادلين كلمات التهاني والدعاء بالخير (كل عام وأنتم بخير) يقولونها بصدق وإخلاص، ويرجون للأعزب أن يروه في العام المقبل عريساً سعيداً، وللمتزوج الذي لم يولد له أن يروا له ولداً مباركاً، ومن استوفى نصيبه من ذلك يتمنون له الخلاص من الذنوب والآثام. وحج بيت اللّه الحرام.

ثم ينتشرون زرافات ووحدانا إلى زيارة المرضى ومعايدتهم وتفقد الفقراء والأيتام فيجمعون لهم المعونة لنفقات العيد، ويبذلون أقصى الجهود لإصلاح ذات البين، فيؤلفون بين عائلتين متباغضتين أو شخصين متحاسدين، وإذا عجز أهل القرية عن التأليف بين القلوب المتنافرة استنجدوا بالقرى المجاورة، فيلبون مسرعين مخلصين، وإذا كان أهل بيت في حزن وحداد على فقد عزيز رغبوا إليهم في ترك الحداد، وتناسي المصاب، وإلا حدّت لأجلهم القربة بكاملها.

ومنذ سنوات كنت أقيم في بعض القرى الواقعة على حدود لبنان الجنوبية، فحدث شجار دام بين عائلتين كبيرتين لأسباب مادية، فحاولت الصلح بينهما فلم أفلح حتى جاء يوم العيد، فأقبل أهل القرية إلى بيتي صباحاً يقدمون لي التهاني كعادتهم في كل عيد، فقلت لهم: إِني حزين لا أقبل التهنئة من أحد أياً كان، وسألوني عن السبب مستغربين، قلت: لا احتفل بالعيد أبداً ما دام في البلد اخصام. فانبرى شيوخ القرية وجمعوا المتخاصمين، وأتوا بهم جميعاً إلي، فتكلمت ورغبت إليهم أن يتصافحوا ويتعانقوا، ففعلوا، وزال ما كان في قلوبهم من غل. وهكذا اتفق أهل القرية الذين ما زالوا على الفطرة الإنسانية الطيبة التي فطرهم اللّه وفطر الناس جميعاً عليها، لا أهل القرية فحسب، وإنما فسد، وأفسد من ساءت تربيته وعلاقاته الاجتماعية.

٣٦٨

ولولا أن تمتد بعض الايدي الأثيمة إلى كثير من القرى تثير فيها الفتنة والشغب لكانت كل قرية كهذه، ويتناسى أهلُها جراحَهم ودماءهم، ويسيرون وراء كل من يتجه بهم إلى النجدة والصالح العام.

إن المشاركة الوجدانية تظهر بأصدق معانيها في ابناء القرية يوم العيد، ويلمسها كل من أقام بينهم، وشهد أعيادهم. أما المدينة فيكاد لا يوجد لهذه المشاركة أثر يذكر لا في أيام الأعياد ولا في غيرها. وليس السبب في هذا التفاوت ما قيل أو يقال بأن القرية صغيرة، وكل واحد من أهلها يرى الآخر صباحاً ومساء، فهم كأهل البيت الواحد، وإنما السبب الحقيقي أن التفاوت في العيش بين أبناء القرى يسير جداً، فلا يوجد فيها كوخ متواضع إلى جانب قصر شامخ، كما هي الحال في المدينة. والغني من أهل القرية من يملك قوته الضروري ولباسه وفراشه، فهم لذلك يشعرون بالمسؤولية، ويجتمعون على النجدة، ويبتهجون بالعيد جميعاً.

أما المدينة ففيها مملكتان منفصلتان انفصالاً تاماً مملكة الغني الكبير الذي يحوز الملايين، ومملكةُ الفقير المعدم الذي لا يملك شيئاً. ومن هنا ضعف الشعور بالمسؤولية، وساءت العلاقة بين الهيئات، واختص الابتهاج والاحتفال بالعيد ومظاهره ورسومه بذوي القوة والغنى والترف. أما الفقير فإِنه يكذب على نفسه ويخدعها يوم العيد، فيبتهجُ ويبتسم متجاهلاً أتعابه وأوجاعه، لأنه لا يَود أن تكون حياته كلها سلسلة من الأحزان والآلام، فهو يفر من الحزن الواقعي إلى الفرح الكاذب، ومن الاتعاب الحقيقية إلى الراحة الوهمية. إِن احتفال البائسين بالأعياد أشبه بالمريض والجائع يلجأ إلى الفن ليخففَ أعباء الواقع.

إن القائلين بأن الابتهاج والسعادة ينبعان من القلب مغالون جداً بل أن ابتهاج القلب وسعادته ينبعان من هذه الأشياء المحسوسة الملموسة القائمة على وجه الأرض، والكامنة في بطنها، والتي لا تستقيم الحياة بدونها أبداً، ولا تتم السعادة إلا بها.

إن العيد السعيد حقاً هو اليوم الذي لا يقل فيه الصادر عن الوارد، والخارج عن الداخل، عيد النهضة الكبرى، نهضةُ الزراعةِ والصناعة، والقضاء على الفقر والبطالة والأمية، وعلى اليد التي تثير التفرقة والفتنة والفساد، وعلى كل مشروع يهدف إلى الاستثمار، والوقوف في سبيل الحرية والحياة.

ربنا هيِّئ لهذا البلد من أمره رشداً وقرب هذا اليوم لنتخذه شعاراً لنهضتنا، وعيداً لأولنا وآخرنا، وما ذاك عليك، ولا على المخلصين من عبادك بعزيز.

٣٦٩

كاشِفُ الغطاء الكبير وَالمصَلّون *

إن من يدعي الإصلاح دينياً كان أو سياسياً لا يكون مصلحاً حتى ينكر ذاته، وينسى شخصيته، فيحاسب نفسه وأهله وولده، وكل من يلوذ به قبل أن يحاسب الناس، وأن من تظاهر بالصلاح والإصلاح، وعمل في الخفاء لحساب شهواته وملذاته فهو مراءٍ منافق، وظالم لئيم.

إن نكران الذات هو الأساس الوحيد الذي يجب أن تبنى عليه دعوة الداعين إلى الخير والصالح العام.

كان المغفور له الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر المرجع الأول للشيعة، وكان الاقبال عليه عظيماً من جميع الطبقات، وكان الناس يجتمعون الوفاً للصلاة خلفه، وفي ذات يوم تجمع الناس في المكان الذي يصلي فيه الشيخ ينتظرونه كالمعتاد، ولما أبطأ عن ميعاده قام كل واحد إلى صلاته يؤديها منفرداً. ودخل الشيخ فرآهم على هذه الحال، فغاظته هذه النزعة الفردية، وهذا الانحلال، فوبخهم قائلاً: لماذا لم تختاروا رجلاً منكم يؤمكم في الصلاة ؟ ثم قصد رجلاً عادياً يصلي في طرف المسجد، فاقتدى به، وصلى خلفه.

ربما كان تأخير الشيخ عن قصد وعمد، ليرى ما هم صانعون، إذا غاب هو عنهم، فلما رأى شتاتهم وتفككهم أنكر عليهم وضرب لهم من نفسه مثلاً حياً لنكران الذات، واقتدى برجل عادي.

رأى الشيخ من إقبال الناس عليه، وثقتهم به، وتعظيمهم له، ما أخافه،

_____________________

* - نشر في مجلة الأحد سنة ١٩٥٢.

٣٧٠

وأقلقه. خاف، وهو الحارس على الدين ومبادئه، وحامي الشريعة وتعاليمها أن يتوهم متوهم أنه هو وحده الذي يستحق التكريم والتعظيم من دون الناس أجمعين، وإن من عداه ليس أهلاً أن يكون إِماماً للجماعات في الصلاة، ولا في غير الصلاة فحارب هذه الأرستقراطية، وهذا الاحتكار بأفعاله قبل أقواله، وأحيا مبدأ الرسول الأعظم الذي قال: «إن في كل حي نجيباً، وإن شر الناس من أحقر الناس».

أراد الشيخ من اقتدائه برجل عادي أن يخلق الثقة في نفس كل فرد بأنه أهل للإمامة في الصلاة، وقيادة الجماعات في كل عمل نافع، ما دام يذعن للحق، وينكر الباطل، وأن يفهم الناس جميعاً أن القيادة ليست وقفاً على ذوي المناصب والانساب، وأن في السوق والشارع نفوساً طيبة، وقلوباً ذكية تصلح أن تقود جماعة، ويقتدي بها حتى الشيخ الأكبر، والمرجع الأول أمثال كاشف الغطاء.

إن اتباع الشيخ ومقلديه لا يرون غيره أهلاً لهذه الإمامة، فهو وحده القائد، وإِمام الصلاة. ولو كان الشيخ من طلاب الرئاسة ومحبيها، لسره هذا الشعور من الجماهير، وأقرهم عليه، واغراهم به ليغالوا بالاقبال عليه، والاعراض عمن سواه، ولكن الشيخ نظر إلى هذا الشعور بمنظار الدين والواقع لا بانفعاله الذاتي، وانانيته الضيقة، فرأى أن إقرارهم عليه تضليل وخيانة، فردعهم عنه، وأرشدهم إلى الحق مقتدياً برجل عادي إطاعة لواجب الدين والعلم.

٣٧١

السّيّد محسِن الأمِين *

ربما يتساءل الناس إِذا كان لم يعد للدين وزن ولا أثر في النفوس في هذا العصر فمن أين هذه العظمة للأمين المحسن، وهو رجل الدين الأول، ورئيس العلماء الأكبر ! وما هذا الدوي الهائل الذي كنا نسمعه خلف جثمانه، وهذا السيل الجارف من الشعب والحكومة في سوريا ولبنان حول الجثمان وخلفه وأمامه، هذا الحشد الذي ضم جميع الهيئات الدينية والسياسية والشعبية كبارها وصغارها من جميع الطوائف والأديان، ولماذا ملأت الصحف في الأقطار الغربية أعمدتها على الصفحات الأولى تشيد بعظمة الفقيد تعدد فضائله ومناقبه ! وما سبب هذه الهزة العنيفة التي زلزلت العالم العربي والإسلامي عندما سمع نبأ وفاته !

أجل لقد غيرت التطورات الأخيرة كثيراً من الأفكار والاتجاهات، وكشفت الغطاء عن كل مموه زائف، ولكنها عجزت عن مقاومة الحق الذي يتمثل بشخصية الفقيد، فأرغمت على الاعتراف بسلطانه، والنزول على حكمه.

اعتمد الفقيد على العمل والاخلاص لا على الرياء والتضليل، ولا على الأنساب والألقاب، وهل يفخر بأكفان الأموات وترابهم غير الحقير الأعزل من سلاح الحياة، انتسب الفقيد إلى حقيقة الدين وجوهره لا إلى اسمه ومظهره، فانتسب إليه العلم والدين فهذي المدرسة المحسنية مضى على خدمتها للعلم والإنسانية نصف قرن، وهذي المؤلفات تعد بالعشرات، وهذا كتاب الأعيان من أعظم وأضخم ما تركت أمة من تراث خالد وهذا الجهاد المستمر لتوحيد الكلمة، وجمع الصفوف، وهذا الكفاح لكل مستعمر ومستثمر، خلال اصطفى لها اللّه أمينه

_____________________

* - نشر في العرفان أيار سنة ١٩٥٢.

٣٧٢

المحسن.

إن الكثير منا يملك العلم والذكاء، ولكن ماذا يجدي العلم والذكاء إِذا أديا إلى لغو لا خير فيه ! وماذا يجدي الجاه والمال إِذا كانا سبباً للتحاسد والتباغض ! بل ماذا تجدي الهجرة إلى النجف والأزهر واكسفورد والسوربون إذا لم تكن لغايات إنسانية ولم تدفع بالحياة إلى التقدم وكيف تتقدم بنا الحياة أو نتقدم بها، إذا كنا نجهل الحياة، وتستعبدنا الشهوات !.

لقد انبعثت نفس الفقيد من صميم العصر الذي عاش فيه، وتجرد عن ذاته وغايته، فكان كفوءاً لكل ما ألقي عليه من مسؤوليات، تسعين عاماً من حياته قضاها مجاهداً في سبيل العلم والخير مدافعاً عن الحق دفاع من لا يبغي حطاماً، ولا يخشى سلطاناً، فكان في عاملة والعراق ودمشق لا وزن عنده إلا للحق، ولا فضل إلا لعامل على خير الوطن والصالح العام كائناً من كان سنياً أم شيعياً، مسلماً أم غير مسلم، وهذه هي السبيل الواضحة التي يصل منها الإنسان إلى العظمة المطلقة التي تتخطى حدود الأمصار والأديان، لأنها كالشمس فوق الحدود جميعاً، لقد كان الإنسان إنساناً قبل أن يكون شرقياً أو غربياً، وقبل أن يكون مسلماً أو نصرانياً، وهكذا العظمة وحب الخير لا يجنسان جغرافياً ولا تاريخياً ولا دينياً، ولا هوية لهما غير حقيقة الإنسان بمعناه الشامل، إن الزمان والمكان لا يغيران شيئاً من حقيقة الإنسان، وإِنما هما ظرفان لما يقوم به من أعمال، وأن معنى الدين هو الشعور بالمسؤولية تجاه أخيك الإنسان، ومعنى الإيمان هو إخضاع حياتك لهذا الشعور، أن المسيح لا يريد النصراني الماروني أو الرومي وإنما يريد النصراني الإنساني، ومحمد لا يريد المسلم السني أو الشيعي، وإنما يريد المسلم الإنساني، هكذا فهم الفقيد الإسلام والإيمان فأخضع حياته لهذا الشعور، وبهذا كان عظيماً عند المسيحيين كافة والمحمديين كافة.

وربما يتساءل المرء: كيف اجتمعت هذه العظمة مع تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها الفقيد والبساطة في مظاهره كلها في مأكله وملبسه ومسكنه، فلا بواب ولا حجاب، ولا سيارة فخمة، وبناية ضخمة، وقد رأيته، وأنا جار له في الشياح واقفاً في دكان قصاب يشتري اللحم ويحمله بيده إلى أهله، ورأيته منفرداً متثاقلاً يدفع بجسمه المريض المتهدم يزور العمال البائسين في بيوتهم، فيجلس إليهم ويطايبهم، ويسمع منهم، ويستمعون إليه، قد يتساءل المرء: أهذا حقاً هو الذي احتشدت الأمة بقضها وقضيضها خلف جثمانه ! أهذا حقاً هو الذي كان بالأمس يحمل اللحم بيده ! أهذا حقاً هو الذي كان يمشي وحيداً في الشارع، ويجلس على الحصير مع البائس والفقير ! نعم هو هو !

٣٧٣

وهذا الرسول الأعظم الذي قرن اسمه باسم اللّه فيه الصلاة، وعلى المنابر والمآذن، ودانت بأقواله ملايين الملايين في مشارق الأرض ومغاربها هو الذي كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه بيده ويعقل البعير، ويقطع اللحم، ويحلب الشاة، ويطحن مع الخادم، ويجلس على الأرض مع الأسود والأبيض، وهكذا كان الرسول الأعظم، وهكذا اقتدى به سليله المحسن الكبير، وما هذا الاحتقار للمادة إِلا مظهر الكمال، والاعتداد بسلامة النفس، الاعتداد بالعلم والنزاهة والعمل والإخلاص وحيثما وجدت الترف والزينة وجدت الاستغلال والخيانة، وحيثما وجدت التواضع وجدت الحق والصدق.

كان مسجد الرسول الأعظم في عهده وعهد الخلفاء الراشدين هو البرلمان والسراي الكبير وقصر العدل، ولم يكن هذا الجامع سوى قليل من الطين وسعف النخل ولكن منه انبعثت القوة التي حطمت تاج كسرى وقيصر، ومنه شع النور الذي ملأ الآفاق والأكوان، وبه سادت الفضيلة على الرذيلة، وتغلب الضعيف المحق على القوي المبطل. أما القصور الشامخة أما ناطحات السحاب فأساسها البغي والاستثمار وحيطانها التحاسد والتباغض، وسقفها الطمح والجشع، وأثاثها العجب والرياء، من سكنها أغوته، ومن اغتر بها أردته، والسلام على أمير المؤمنين حيث وصف المخلصين «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» والعكس بالعكس.

أنكر أهل الجاهلية الرسول الأعظم، لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يملك كنزاً ولا بستاناً أهذا الذي بعثه اللّه رسولاً ؟ «وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إِليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إِليه كنز أو تكون له جنة» ولو كان محمد ص في هذا العصر لقال له البعض: كيف تكون نبياً، وأنت لا تملك سيارة!

وما تجلت هيبة الحق في شيء، كما تجلت في حياة متواضعة وزهد في زخرف الأرض وزينتها، كان للفقيد - الذي لا يملك سيارة - صور للهيبة والجلال تتعدد بتعدد من ارتدى عمة مثل عمته، ولبس جبة وقفطاناً كما لبس. وقد أعار لكل واحد صورة أكسبته احتراماً وتقديراً حتى إِذا ذهب الأصيل ذهبت تلك الصورة عن الدخيل، واسترد المستعار، وبرز الجميع عراة إِلا من لبس ثوبه من غزله، وحاكه على نوله.

* * *

إلى هنا أكتفي بجمع ما تألف منه هذا الكتاب، وهو جزء مما نشرت وأذعت في مدة تقرب من عشرين عاماً، وأؤمل أن يوفقني اللّه سبحانه لجمع الجزء الباقي في مستقبل الأيام.

٣٧٤

وأسأل القارئ المعذرة عما يجد من أخطاء لم يتهيأ لي التحرز عنها حين وقوعها، وما على الإنسان من غضاضة في خطأ غير مقصود يرجع عنه عند ظهور الصواب، والسلام على الإمام علي بن أبي طالب حيث قال «ليس كل من رمى أصاب» واللّه سبحانه من وراء القصد، وهو العالم بصدق النية، وطيب السريرة.

الاثنَا عشريَّة وَأهل البيَت (ع)

الاثنَا عشريَّة

الاثنا عشرية نعت يطلق على الشيعة الإمامية القائلة باثني عشر إماماً تعيّنهم بأسمائهم.

تمهيد: واجه الإسلام ما واجهته سائر الأديان من التقسيم إلى فرق، ثم تقسيم كل فرقة، على مرّ الّزمن، إلى فرق.. وفي التاريخ العديد من الشواهد على ذلك «ولو شاء ربك لجعل النَّاس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين» (هود - ١١٨) ولا يقف هذا الاختلاف على الطوائف وأهل الأديان بعضها مع بعض.

بل يتعداها إلى اتباع الدين الواحد. ولا نعرف أهل دين أجمعوا على عقيدة واحدة من جميع جهاتها، دون أن يتفرّقوا شيَعاً وأحزاباً. ورغم هذا الشتات والنزاع - وربما الحرب والصراع - فإن بين الفرق من كل طائفة قاسماً مشتركاً يجمع شملها.

ويربطها بالدّين الأصيل، وإلا لم تكن فرقاً لدين واحد، فلا بد لكل فرقة أن تأخذ بنصيب من دينها، أمّا مقدار هذا النصيب، وأيّ الفرق أكثر ملاءمة للأصل والمصدر فلا يعرف من كثرة الأتباع وقوّتهم، وسلطانهم.

الفرق الإسلامية

والذي نراه ونرجّحه أن أسباب الإختلاف والتعدّد في الفرق الإسلامية، على ما بينها من رابط قويّ أو ضعيف، هي واحدة تتّحد مفهوماً، وتختلف مصداقاً. ومن هذه الأسباب أن الذين انتموا إلى الدّين، عند بدايته، منهم من انتمى إليه حقاً وصدقاً، ومنهم من انتمى إليه شكلاً وظاهراً ابتغاء ما يجنيه من وراء هذا الانتماء، تماماً كما ينتمي كثيرون إلى حزب من الأحزاب لمنافع شخصية.

٣٧٥

ومنها أن التعاليم التي أتى بها النبيّ لم تطبق بكاملها في عهده وحياته. ولمّا جاء دور تطبيقها والعمل بها، نظر إليها كلّ من زاويته الخاصّة، وواقع بيئته، ومنطق عقله. هذا وإنّ كثيراً من التعاليم المنسوبة إلى النبيّ لم ينطق بها صراحة، وإنّما استنبطها الأتباع من إيماءة أو تصرّف، أو من شيء لا يمتّ إليه بسبب. بل اختلفوا في الأحكام التي طبقها النبي، وعمل بها. فلقد توضأ مئات المرات أمام ألوف من المسلمين، ومع هذا اختلف السنّة والشيعة في صورة الوضوء، وادعت كل فرقة أنها هي التي تتوضأ بوضوئه دون غيرها.

ومنها أن فئة من الأتباع قد تثق برجل ثقة عمياء، وتواليه ولاء دين وعقيدة وأخرى تتّهمه وتهاجمه.

الخلافة

لهذه الأسباب ولغيرها افترق المسلمون إلى فرق وشيع. وقامت بينهم حدود وحواجز، وأهمّها مسألة الخلافة وما يتّصل بها، بخاصة الطريق الذي يعين الخليفة بعد الرسول، وهل هو النصّ من الرسول، أو اختيار الوجهاء والأعيان ؟ قال الشيعة بالأول، وقال السنة بالثاني. وآمن كل بما رأى، وأصبح إيمانه هذا جزءاً من عقيدته ونظامها. وهذا - كما ترى - اختلاف في المنهج والطريق المثبت للخلافة، لا في أصل الخلافة: فالقول بأنها من عقيدة الشيعة خطأ. ما دام الكلّ متفقين على أصل الفكرة، وأنها تستند إلى الدين باعتبارها رئاسة عامة في الدين والدنيا نيابة عن الرسول باتفاق الجميع، إذن ليست الخلافة، من حيث الفكرة، شيعيّة فقط، أو سنّية فقط وإنما هي عقيدة لجميع المسلمين.

أجل، إن فكرة النص من النبي على الخليفة شيعية لأن السنّة لا يقولون بها، كما أن فكرة الانتخاب سنّية لأن الشيعة لا يقولون بها.

وبعد أن أناط السنّة تعيين الخليفة بانتخاب الوجهاء خاصة، وهم الذين عبّروا عنهم «بأهل الحلّ والعقد» قالوا مبرّرين رأيهم هذا إن الجماعة - أي الوجهاء - منزّهون ومعصومون عن الخطأ، وإن اللّه يهديهم إلى الحقّ والصواب، لحديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» ولما رواه البخاري في «صحيحه» (٩: كتاب الأحكام) من أن النبيّ قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر،

فإنّه ما أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية».

٣٧٦

وردّ الشيعة هذا الحديث، وكلّ حديث يتضمّن عصمة الجماعة، لأنَّها قد تخطئ بل جاء في الآية ١٨٧ من «الأعراف» «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» فبالأولى القلّة وإن كانوا «أهل الحلّ والعقد».

هذا، إلى أن السنّة والشيعة متفقون قولاً واحداً على أن أيّ حديث يأتي من الرّسول يجب أن يعرض أولاً على «كتاب اللّه» فإن تناقض معنى أحدهما مع معنى الآخر، وجب طرح الحديث وإهماله. وليس من شك أنّ بين قوله «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» وبين حديث عصمة الجماعة تناقضاً ظاهراً، فيجب طرحه وإهماله.

وأيضاً: بعد أن أناط الشِّيعة تعيين الخليفة بنصّ النبيّ عليه اسماً وعيناً قالوا مستدلين على ذلك: «إن محمداً نصّ على علي بن أبي طالب (ع) باسمه وعينه ونسبه، وعقد له الخلافة على المسلمين من بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة له، وأعلمهم أن طاعته طاعة اللّه ورسوله» ونقل الشيعة عن ج ١ من «مسند» الإمام أحمد بن حنبل وج ٢ من «تاريخ» الطبري، وجلد ٢ من «تاريخ» ابن الأثير، وج ٣ من «مستدرك» «الصحيحين» للنيسابوري ومن «السيرة الحلبية» نقلوا عن هذه الكتب وغيرها.

إن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله حين نزلت عليه هذه الآية: «وأنذر عشيرتك الأقربين» ٢٦ (الشعراء) (٢١٤)، جمع عشيرته في بيته. وبعد أن أكلوا من مائدته، قال لهم مشيراً إلى علي (ع): هذا أخي ووصيّي وخليفّتي فيكم، فاسمعوا له، وأطيعوا. وعلّق الأستاذ محمد عبد اللّه عنان المصري، في كتابه على ذلك «تاريخ الجمعيّات السريّة»: فقال: من الخطأ أن يقال إن الشيعة إنما ظهروا لأول مرّة عند انشقاق الخوارج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرّسول، حين أمر بإنذار عشيرته بهذه الآية: «وأنذر عشيرتك الأقربين» ثم ساق الحديث إلى نهايته.

ووضع علماء الشيعة الاثني عشرية العديد من الكتب في النصّ على عليعليه‌السلام ، وجمعوا فيها الآيات والأحاديث من طرق السنة والشيعة.

من هذه الكتب «الشافي» للمرتضى، «ونهج الحق» للعلامة الحلّي، والجزء الثاني «من دلائل الصدق» للمظفّر، «ونقض الوشيعة» والجزء الأول من «أعيان الشيعة» للسيّد الأمين، و«المراجعات» لشرف الدّين، «والغدير» للأميني.

٣٧٧

وممّا قدّمناه نستخلص:

أولاً - إن فكرة العصمة لم يقل بها الشيعة وحدهم، فإن السنّة يقولون بها أيضاً، والاختلاف بينهم في التطبيق فقط. فالسنّة يجعلونها للجماعة، والشيعة للإمام المنصوص عليه، فنسبة الفكرة من حيث هي إلى الشيعة دون السنّة خطأ واشتباه، تماماً كما هي الحال في فكرة الخلافة من حيث هي، ونسبتها إلى الشيعة دون غيرهم.

ثانياً - إنّ فكرة النصّ على عليعليه‌السلام بالذات هي فكرة دينية إسلامية تستند إلى الكتاب والسنة، وليست فكرة سياسية - كما قيل - ترتكز على حق الوراثة في الحكم، ولا فكرة عاطفية صرف، لا مصدر لها إلا قرابة النسب والسبب بين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثالثاً - إن مبدأ النص على عليعليه‌السلام بالخلافة فارق أساسي، وحاجز منيع بين السنة والشيعة. وقد كان له المقام الأول في الإيمان والعقيدة، وتعدد الفرق الإسلامية، والتأثير البالغ في السياسة، والفلسفة، وعلم الكلام، وفي الفقه، وفي التفسير والحديث، والتصوف، والأدب الإسلامي في جميع مراحله، بل والأساطير التي يبرأ منها الكتاب والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلي وأبناؤهعليهم‌السلام ، والمحقون من شيعتهم. قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : «ما شيعتنا إلا من يقول علينا حقّاً».

بدء التشيع:

قال الشيعة: إن رسول اللّه هو الذي غرس بذرة التشيع لعليعليه‌السلام بالنص عليه، وبالمدح والثناء بما لم يثن به على غيره من الأصحاب.

كقوله: «يا علي، لا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق» وقوله: «علي مع الحق، والحق مع علي» بل هو الذي أطلق على أتباع عليعليه‌السلام

لفظ الشيعة، وأسماهم بهذا الاسم، حيث قال له: «يا أبا الحسن أنت وشيعتك في الجنة» وقال: «تأتي أنت وشيعتك راضين مرضيين» نقل الشيعة هذا الحديث عن كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر الشافعي.

وظهرت هذه البذرة أوّل ما ظهرت حين توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبويع أبو بكر بالخلافة، حيث امتنع عليعليه‌السلام ، ومعه شيعته وأنصاره، واستمرّوا ممتنعين عن البيعة ستة أشهر كاملة. ذكر هذا المؤرخون والكتّاب القدامى والجدد.

وآخرهم الكاتب المصري أحمد عباس صالح، فقد نشر مقالاً متسلسلاً بعنوان «اليمين والثورة» في مجلة الكاتب القاهرية. وممّا قاله في عدد يناير «كانون الثاني» ١٩٦٥: إنّ غالبية المسلمين

٣٧٨

حين توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانوا مع الاتجاه الذي يمثله علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأصحابه. لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان زعيم هذا الاتجاه، وواضع مبادئه الأساسية وقال في عدد فبراير «شباط» ١٩٦٥: «كان حزب كبير من أحزاب المسلمين يعتقدون أن علياًعليه‌السلام كان أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر».

وأخذت بذرة التشيع تنمو وتعلو، وتواصل نموها وعلوها مع الزمن، والحركات الاجتماعية الإصلاحية في الإسلام، حتى أصبحت عقيدة الأصحاب والرواد الأول، والصالحين والمخلصين. ذلك أن علياً كان يسير على الطريق التي رسمها الرسول. قال المسعودي في مروج الذهب: كان مع علي في صفين تسعون ألفاً، فيهم ألفان وثمانمائة من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الخلفاء الاثنا عشر

روى السنة والشيعة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: إن الخلافة في قريش وإن عدد الخلفاء اثنا عشر خليفة، فقد جاء في صحيح البخاري ج ٩ كتاب الأحكام ما نصه بالحرف: «قال رسول اللّه: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان.. ويكون اثنا عشر أميراً». وقال ابن حجر العسقلاني، وهو يشرح هذا الحديث في كتاب فتح الباري ج ١٣ ص ١٨٣ طبعة ١٣٠١ هجري: «كم يملك هذه الأمة من خليفة؟. فقال: اثنا عشر، كعدة نقباء بني إسرائيل».

ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج، فإنهم قالوا: ليست الخلافة في قريش، بل الناس فيها سواء.

وبعد أن اتفق السنة والشيعة على أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، قال الشيعة وأفضل قريش بنو هاشم، لما رواه مسلم في صحيحه ج ٢ بعنوان كتاب الفضائل أن النبي قال: «إن اللّه اصطفى كنانة من إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم». وأيضاً روى مسلم في الكتاب المذكور بعنوان فضائل علي بن أبي طالب أن النبي «قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي، فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه، واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي» كررها ثلاثاً.

وقال الشيعة: فإذا جمعنا بين الأحاديث الثلاثة، في قريش، «والاصطفاء، والثقلين» وعطفنا بعضها على بعض جاءت النتيجة أن الخلافة في أهل بيت رسول اللّه، وهم علي وبنوه.

فالسنة يتفقون مع الشيعة في أن الخلافة لا بد منها، وأنها في قريش دون غيرهم وأن عدد الأئمة اثنا عشر إماماً ويختلفون معهم في أمرين: الأول في حصر الخلافة بالهاشميين، وبصورة أخص بعلي وبنيه. الثاني في تعيين الأئمة الاثني عشر بأسمائهم وأنسابهم، يختلفون في هذين، أما

٣٧٩

أصل فكرة الاثني عشرية فمحل وفاق بين السنة والشيعة الاثني عشرية، وعلى هذا تكون فكرة إسلامية تعم الطرفين، لا سنية فقط، ولا شيعية فقط، تماماً كفكرة العصمة وفكرة الخلافة من حيث المبدأ والقاعدة.

أما السبب لتسمية هذه الفرقة من الشيعة بالاثني عشرية دون غيرها، مع العلم بأن السنة يؤمنون بالأئمة ال ١٢ فهو أن هذه الفرقة قد أجمعت على تعيين ال ١٢ بأسمائهم وأعيانهم، واختلف السنة في ذلك. فمنهم من قال: إن ال ١٢ لم يخلقوا بعد، وسيخلقون، ويملكون بعد ظهور المهدي المنتظر ووفاته، ومنهم من قال: «إن المراد بال ١٢ غير أصحاب الرسول لأن حكم أصحابه يرتبط بحكمه. إذن، كل الأئمة الاثني عشر من بني أمية ما عدا عثمان ومروان، لأنهما صحابيان. وعليه يكون أول الأئمة الذين عناهم النبي يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية،

ثم عبد الملك، وأولاده الأربعة: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام وعمر بن عبد العزيز، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وأخوه إبراهيم، ومروان الحمار. ومنهم من قال: هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، وولده يزيد، وعبد الملك، وأولاده الأربعة، وعمر بن عبد العزيز. ومنهم من قال: المراد وجود ١٢ إماماً في مدة الإسلام، حتى يوم القيامة، وإن لم تتوال أيامهم إلى غير ذلك (فتح الباري للعسقلاني ج ١٣ ص ١٨٣ وما بعدها طبعة سنة ١٣٠١ هجري).

الفرقة الاثنا عشرية

قدمنا أن بذرة التشيع غرست في عهد الرسول، وظهرت حين بويع أبو بكر، ونمت وعلت يوم صفين، ففرقة علي هي أولى الفرق الإسلامية على الإطلاق، تكونت في حياته، وبقيت ثابتة على ولائه إلى أن قتل، فافترقت بعده إلى فرق، وباد أكثر هذه الفرق، وذهب مع الزمن، ومنها ما هي ثابتة قائمة، حتى اليوم، وستبقى إلى آخر يوم، رغم الحملات والمحاولات لمحوها وإبادتها وهكذا جميع الفرق، أية فرق تنطبق عليها قاعدة تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، تماماً كأغصان الشجرة، تتفرع عن أصل واحد، فينمو، ويمتد في النمو، ويحمل من الأزهار والثمار ما يصلح للبقاء والاستمرار، والذي لا يصلح لها يذبل ويجف وينتهي إلى السقوط والضياع.

ومن فرق الشيعة البائدة فرقة قالت: إن علياً لم يقتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً.

وفرقة قالت بإمامة ولده محمد بن الحنفية من بعده وهم المعروفون بالكيسانية.

ومن الفرق الباقية حتى اليوم الاثنا عشرية التي لزمت القول بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه، لأن النبي نص عليه، وعلى أخيه الحسين بقوله: «ولداي هذان إمامان قاما أو قعدا» وبهذا النص انتقلت الإمامة بعد الحسن إلى أخيه الحسين، ثم اوصى بها الحسين إلى ولده علي زين العابدين،

٣٨٠