الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان0%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 128555
تحميل: 7041

توضيحات:

الشيعة في الميزان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128555 / تحميل: 7041
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

استنكاره مبدأ النص على خليفة الرسول، وزعمه بأنه بدعة استوردها الشيعة من الخارج، وأن النبي أقر مبدأ الشورى والانتخاب. ثم ناقض نفسه، ورد عليها بنفسه، حيث اعترف في كتاب «يوم الإسلام» بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يكتب في مرضه الذي مات فيه كتاباً يعين من يلي الأمر بعده، فحال عمر دون إرادته. وهذا ما قاله صاحب «فجر الإسلام» بالحرف الواحد في كتابه الأخير «يوم الإسلام» ص ٤١ طبعة ١٩٥٨: «أراد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه الذي مات فيه أن يعين من يلي الأمر بعده، ففي الصحيحين - البخاري ومسلم - أن رسول اللّه لما احتضر قال: «هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده» وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن رسول اللّه قد غلب عليه الوجع(١) وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه، فاختلف القوم، واختصموا فمنهم من قال: قربوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من قال: القول ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم قوموا فقاموا، وترك الأمر مفتوحاً لمن شاء جعل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة، حتى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين». وقال في ص ٥٣: «اختلف الصحابة على من يتولى الأمر بعد الرسول، وكان هذا ضعف لياقة منهم، إذ اختلفوا قبل أن يدفن الرسول» مع العلم أن علياً كان مشغولاً بتجهيز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال في ص ٥٢: «كان مجال الخلاف الأول - أي بين الصحابة - في بيت النبي. والثاني في سقيفة بني ساعدة. وأخيراً تم الأمر لأبي بكر على مضض». وقال في ص ٥٤: «بايع عمر أبا بكر، ثم بايعه الناس، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر: إنها غلطة وقى اللّه المسلمين شرها، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر».

وقال في ص ٥٨: «وكان أهم ما نقم الناس على عثمان:

١ - طلب منه عبد اللّه بن خالد بن أسيد الأموي صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم. ٢ - أعاد الحكم بن العاص بعد أن نفاه رسول اللّه، وأعطاه مائة ألف درهم. ٣ - تصدق رسول اللّه بموضع سوق المدينة على المسلمين، فأعطاه عثمان للحارث الأموي. ٤ - أعطى مروان فدكاً، وقد كانت فاطمة طلبتها بعد أبيها، فدفعت عنها. ٥ - حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية. ٦ - أعطى عبد اللّه بن أبي السرح جميع ما أفاء اللّه من فتح إفريقيا بالمغرب، من غير أن يشرك فيه أحداً من المسلمين.

____________________

(١) في صحيح البخاري ج ٦ ص ٩ طبعة ١٣١٤ هجري «ما شأنه - أي النبي - أهجر؟».

٦١

٧ - أعطى أبا سفيان مائتي ألف ومروان مائة ألف من بيت المسلمين في يوم واحد.

٨ - أتاه أبو موسى الأشعري بأموال كثيرة من العراق، فقسمها كلها في بني أمية.

٩ - تزوج الحارث بن الحكم، فأعطاه مائة ألف من بيت المال.

١٠ - نفى أبا ذررحمه‌الله إلى الربذة، لمناهضته معاوية في كنز الذهب والفضة.

١١ - ضرب عبد اللّه بن مسعود، حتى كسر أضلاعه.

١٢ - عطل الحدود، ولم يرد المظالم، ولم يكف الأيدي العادية.

١٣ - كتب إلى عامله في مصر يأمره بقتل قادة الثورة».

وقال في ص ٥٧: «وكان من أكبر الشخصيات البارزة في محاربته، وتأليب الناس عليه عائشة بنت أبي بكر».

وقال في ص ٦١: «إن قتل عمر وعلي كان حادثة فردية، ومؤامرة جزئية، أما مقتل عثمان فقد كان ثورة شعبية للأقطار الإسلامية» أي أن علياً وعمر لم يقتلهما المسلمون، أما عثمان فقد قتله المسلمون أنفسهم.

وقال في ص ٥٣: «كره كثير من الصحابة أن يجمع بين النبوة والخلافة، ولعلمهم بشدة علي في الحق وعدم تساهله».

ولو عطفنا هذه الأقوال بعضها على بعض جاءت النتيجة كما يلي:

إن مبدأ النص على الخليفة مصدره الأول رسول اللّه دون سواه، وإن الذين خالفوه، وحالوا بينه وبين أن ينص على من يليه في سجل مكتوب لا يقبل التأويل والتبديل هم بالذات الذين خالفوا تلك النصوص غير المكتوبة. قال الشيخ محمد رضا المظفر في كتاب «السقيفة»: «وإذا كانوا في حياته لا يطيعون أمره في هذه السبيل، فكيف إذن بعد وفاته؟».

وإن ترك النص على الخليفة قد فرّق الأمة، ومزق كلمتها، وأوقعها في التطاحن والتناحر إلى آخر يوم. والسبب في ذلك كله هو الخليفة الثاني، ومن آزره في رأيه، وأعانه على منع الرسول أن يكتب لهم كتاباً لا يضلون بعده أبداً.

وإن بيعة أبي بكر وعمر لم تكن بالنص ولا بالشورى، وإنما كانت مجرد

غلطة، ومعنى غلطة أنها على غير الحق. أما عثمان فخالف الإسلام، ولذا ثارت عليه الأقطار الإسلامية بتحريض السيدة عائشة، فكانت الثورة عليه شعبية إسلامية، لا شعوبية، ولا من الشذاذ وقطاع الطرق - كما قيل -.

وإن الأصحاب الذين حالوا بين علي والخلافة إنما فعلوا ذلك لسببين:

٦٢

الأول: إنه شديد في الحق، لا يتساهل به أبداً.

الثاني: التعصب على أهل البيت، حيث كرهوا أن تجتمع في بيت واحد، وهو بيت محمد النبوة والخلافة.

وإذا أبى من أبى تعصباً وعناداً أن يعترف لعلي بالخلافة، لا لشيء إلا لأنه على حق، ومن أهل البيت، فإن الشيعة آمنوا بخلافته، لأنهم يؤمنون بالحق، وأحبوه، لأنهم يحبون النبي وأهل بيته الأطهار.

وبالإجمال فإن ما قاله الإمامية في هذا الباب لا يزيد في حقيقته شيئاً عما قاله أحمد أمين في كتاب «يوم الإسلام» الذي ألفه في أيامه الأخيرة، وبعد أن أقام الدنيا، ولم يقعدها على الإمامية في فجر الإسلام وضحاه. وسبق أن أثبتنا بالأرقام أن من أنكر التقية يقول بها، وأن التهمة بالجفر بمعنى علوم الغيب، وبتحريف القرآن، وما إلى ذاك هي أليق وألصق بمن اتهم وتهجم.

ومن الخير أن نذكر بهذه المناسبة ما قاله الشيخ محمد رضا المظفر في كتاب «السقيفة» ص ٦٦ وما بعدها طبعة ١٩٥٣، قال:

«ما بال عمر بن الخطاب لم يعتقد بهجر أبي بكر حين أوصى له بالخلافة من بعده، مع أن أبا بكر كان مريضاً حين الوصية، حتى أغمي عليه من شدة الوجع، وأثناء تحرير الاستخلاف الذي كان يتولاه عثمان بن عفان، فأتم عثمان النص على عمر دون أن يعلم أبو بكر، خشية أن يدركه الموت قبل الوصية. وحين استفاق أمضى ما كتب عثمان.

لقد علم عمر أن النبي سينص في الكتاب على علي لا محالة، ذلك أنه قال: أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً، وكان أن سبق وعبّر مثل هذا التعبير في حديث الثقلين، حيث قال: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي. لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما أبداً. ففهم عمر ماذا يريد الرسول، ولذا قال: إنه يهجر، أو وجع».

وبالتالي نكرر القول إن ما من شيء تدين به الإمامية إلا وله أساس عند السنة، ولم ينكر هذه الحقيقة إلا جاهل، أو متجاهل يبغي الدس وإيقاظ الفتنة. وقد اعترف أحمد أمين نفسه بذلك، قال في ص ١٨٧:

« هل للمسلمين أن يشتد وعيهم الديني، ويفهموا طول التجارب أنه لم يعد هناك وجه للخلاف بين سني وشيعي وزيدي، وغير ذلك من المذاهب، لأنهم لو رجعوا إلى أصل دينهم ما وجدوا لهذا الخلاف محلاً، ولوجدوا أنه خلاف مصطنع لا خلاف أصيل، وأن الامم الإسلامية في

٦٣

موقفها الحاضر أحوج ما تكون إلى لمّ شعثها، وإصلاح ذات بينها، وتوحيد كلمتها، وهي ترى كيف تهاجم من كل جانب، وكيف يتخذ إسلامها وسيلة من وسائل الكيد لها، وإذا اتحد أهل الباطل على باطلهم، فأولى أن يتحد أهل الحق على حقهم».

وهذا اعتراف صريح من أحمد أمين بأنه كان مخطئاً في فجر الإسلام وضحاه، وأنه اصطنع الخلاف بين السنة والشيعة، دون أن يكون لهذا الخلاف أصل ولا أساس، وأن الجميع على حق، ويجب عليهم أن يتحدوا على حقهم، كما اتحد أهل الباطل على باطلهم.

بَينَ السُّنّة وَالشِّيعَة

كثيراً ما يدور على الألسن هذا السؤال: ما الفرق بين السنة والشيعة، مع العلم بأن الإسلام يجمع الفريقين ؟

الجواب:

يتفق السنة والشيعة على أن الدين عند اللّه الإسلام، وأن الطريق إليه كتاب اللّه، وسنة نبيه، وأن الكتاب هو هذا الذي بين الدفتين دون زيادة أو نقصان، وإن اختلفوا في شيء ففي بعض أسباب النزول، أو في فهم بعض الآيات. واتفقوا أيضاً على وجوب العمل بالسنة النبوية واختلفوا في طريق ثبوتها، وبكلمة لم يختلفوا في النبي، بل عنه كما قال الإمام علي، وهذا الاختلاف في فهم بعض الآيات وفي السبيل التي تثبت بها السنة النبوية انتج الخلاف في بعض الفروق في الأصول والفروع، وحاصلها أن القضايا الدينية تنقسم إلى أصول عقائدية أساسية، ومسائل فرعية تشريعية، وسنبين فيما يلي ما اتفقا عليه، وما اختلفا فيه مما يتصل بالعقائد، أما المسائل التشريعية فنتعرض لمداركها، وللمبادئ التي تستخرج منها، كالكتاب والسنة، وما إليهما، أما المسائل نفسها فلا حصر لها، وقد تعرضنا إلى كثير منها في كتاب «الفقه على المذاهب الخمسة». و«الزواج والطلاق على المذاهب الخمسة». و«الوصايا والمواريث على المذاهب الخمسة».

العقائد:

إن المسلمين جميعاً يؤمنون باللّه، ونبوة محمد، وبالبعث والحساب، واتفقوا بكلمة واحدة على أن من جحد أصلاً من هذه الأصول الثلاثة فليس من الإسلام في شيء، وأيضاً اتفقوا على أن من أنكر وجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة، واستحل شيئاً من المحرمات الضرورية، كالخمر والزنا والسرقة والقمار والكذب وقتل النفس المحرمة، وما إلى ذاك مما ثبت بضرورة الدين، واتفقت

٦٤

عليه كلمة المسلمين فليس بمسلم، حتى ولو قال: «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه»، لأن إنكار شيء من هذا النوع يستدعي إنكار نبوة محمد وشريعته، وهذه هي المبادئ التي تجمع فرق المسلمين على كثرتهم وتنوع آرائهم.

ثم اختلف السنة(١) والشيعة في أمور، منها ما يتصل بالعقيدة، ومنها يتصل بمبادئ التشريع، فمن الأولى:

معرفة اللّه:

١ - بعد أن اتفق الإمامية والسنة على أن معرفة اللّه واجبة على كل إنسان، بمعنى أن عليه أن يبحث، وينظر إلى الدلائل التي تؤدي به إلى الجزم واليقين بوجود الخالق اختلفوا في مصدر هذا الوجوب: هل هو العقل أو الشرع ؟

قال الإمامية: إن معرفة اللّه تجب بالعقل، لا بالشرع، أي إن العقل هو الذي أوجب على الإنسان أن يعرف خالقه، أما ما جاء في الشرع من هذا الباب كقوله تعالى «فاعلم أنه لا إله إلا هو» فهو بيان وتأكيد لحكم العقل، وليس تأسيساً جديداً من الشارع.

وقال السنة: بل تجب المعرفة بالشرع لا بالعقل، أي أن اللّه وحده هو الذي أوجب على الناس أن يعرفوه.

رؤية اللّه:

٢ - قال بعض السنة: رؤية اللّه ممكنة في الدنيا والآخرة، والبعض قال بإمكانها في الآخرة فقط، بل قال الحنابلة: إنه جسم، ولكن لا كالأجسام.

وقال الإمامية: إن رؤية اللّه محال وغير ممكنة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

صفات الباري:

٣ - قال السنة: إن صفات اللّه غير ذاته.

وقال الإمامية: بل هي عينها.

_____________________

(١) نريد من السنة الأشاعرة، لأن السنة الموجودين الآن كلهم أتباع حسن الأشعري.

وقال السنة: إن أفعال اللّه لا تعلل بالأغراض والمقاصد، أي إنه تعالى لا يفعل شيئاً لغاية خاصة، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

٦٥

وقال الإمامية: إن جميع أفعاله معللة بمصالح تعود على الناس، أو تتعلق بنظام الكون «سبحانك ما خلقت هذا باطلاً».

وقال السنة: كلام اللّه قديم وغير مخلوق.

وقال الإمامية: بل هو حادث ومخلوق.

وقال الإمامية: إن أمر اللّه بالشيء يدل على إرادته له، وإن نهيه عنه يدل على كراهيته للمنهي عنه، ومحال أن يأمر بما يكره، وينهى عما يحب.

وقال السنة: إن اللّه يأمر بما لا يريد، بل ربما أمر بما يكره، وإنه ينهى عما لا يكره، وربما نهى عما يحب.

وقال السنة: الخير والشر من اللّه، وإنه هو الذي فعل ويفعل الظلم والشرك، وجميع القبائح، لأنه خالق كل شيء.

وقال الإمامية: الخير من اللّه، بمعنى أنه أراده وأمر به، ومن العبد أيضاً، لأنه صدر منه باختياره ومشيئته، أما الشر فمن العبد فقط، لأنه فاعله، وليس من اللّه، لأنه نهى عنه، والقبائح يستحيل فعلها على اللّه عز وجل.

وقال السنة: يجوز أن يكلف اللّه الناس بما لا يطيقون، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الإمامية: التكليف بغير المقدور ممتنع عقلاً وشرعاً.

وقال الإمامية: الإنسان مخير لا مسير.

وقال السنة: إنه مسير لا مخير.

وقال السنة: إن العقل لا يدرك حسناً ولا قبحاً، وإنما الحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه، ولو أمر بما نهى عنه لصار حسناً، بعد أن كان قبيحاً، أو نهى عما أمر به لصار قبيحاً، بعد أن كان حسناً. ولذا يقولون: هذا حسن، لأن اللّه أمر به، وهذا قبيح، لأنه نهى عنه.

وقال الإمامية: إن العقل يدرك الحسن والقبح مستقلاً عن الشرع، ويقولون: أمر اللّه بهذا، لأنه حسن، ونهى عنه، لأنه قبيح.

وقال الشيعة: إن جميع المسببات ترتبط بأسبابها، فالماء هو الذي يروي والطعام هو الذي يشبع، والنار هي التي تحرق.

وقال السنة: لا سبب إلا اللّه فهو الذي يحدث الري عند الشرب وهو الذي يحدث الشبع عند الأكل، والإحراق عند النار، وقال بعضهم: بتكفير من اعتقد أن اللّه أودع قوة الري في الماء،

٦٦

والإحراق في النار، وما إلى ذاك.

بعثة الأنبياء وعصمتهم:

قال السنة: لا يجب على اللّه أن يبعث أنبياء يبينون للناس موارد الخير والشر، ويجوز أن يتركهم بلا هادٍ ولا مرشد، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الإمامية: بل تجب بعثة الأنبياء، لأنهم يقربون الناس إلى الطاعة، ويبتعدون بهم عن المعصية.

وقال السنة: تجوز الذنوب على الأنبياء الكبائر منها والصغائر قبل أن يصبحوا أنبياء، أما بعد النبوة فلا يجوز عليهم الكفر ولا تعمد الكذب، وتجوز عليهم الصغائر عمداً وسهواً، والكبائر سهواً لا عمداً.

وقال الإمامية: الأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها، قبل النبوة وبعدها، ولا يصدر عنهم ما يشين لا عمداً ولا سهواً، وإنهم منزهون عن دناءة الآباء، وعهر الأمهات.

الإمامة:

قال السنة: إن الإمام يتعين بالانتخاب، ويكفي أن يبايعه شخص واحد، حتى تتم له البيعة، والعصمة ليست بشرط عندهم في الإمام. وأوجب المالكية والشافعية والحنابلة الصبر على جور الحاكم وظلمه، ومنعوا من الخروج عليه.

وقال الإمامية: يتعين الإمام بنص النبي، أو بنص إمام معصوم، وإن النبي قد نص بالخلافة على علي بعده بلا فاصل وأوجبوا له العصمة، كما أوجبوا الخروج على الحاكم الجائر بقيادة الإمام المعصوم، أو بفتوى المجتهد العادل.

وقال السنة: يجوز أن يتقدم المفضول على الفاضل، وغير الأعلم والأكمل على الأعلم والأكمل.

وقال الإمامية: يجب تقديم الأعلم والأكمل. وقد أبى عمر بن الخطاب أن يساوي في العطاء بين الفاضل والمفضول، علاوة على تقديم الثاني على الأول.

٦٧

هذي هي مجمل الفروق بين السنة والشيعة فيما يتصل بالعقيدة(١) أما الفروق التي ترجع إلى مدارك الأحكام فتتلخص بما يلي:

الكتاب:

اتفقوا جميعاً على أن الكتاب أحد مصادر التشريع، بل هو المصدر الأول، وأيضاً اتفقوا على أن عموماته تخصص بالخبر المتواتر الذي يفيد العلم، وبالخبر المشهور والمفيد للاطمئنان، ومثال

ذلك آيات المواريث بين الأقارب، فإنها تخصص بحديث «لا يرث القاتل» لأنه من الأحاديث المتواترة عند السنة والشيعة، واختلفوا في تخصيص عمومات الكتاب بالخبر الواحد الذي لم يصل إلى حد التواتر أو الشهرة.

قال الحنفية: يطرح الخبر الواحد، ويبقى الكتاب على عمومه.

وقال الإمامية والمالكية والشافعية والحنابلة: الخبر يخصص عمومات الكتاب(٢) .

وفي كتاب «أصول الفقه» للخضري أن الشافعي قال: إن الكتاب ينسخ بالكتاب، ولا ينسخ بالسنة، وقال الجمهور - أي بقية المذاهب -: لا مانع من نسخ الكتاب بالسنة.

وعند الإمامية: أن الكتاب ينسخ بالخبر المتواتر، ولا ينسخ بالخبر الواحد.

وعلى أية حال، فقد اتفق الجميع على عدم العمل بظواهر الكتاب إلا بعد

_____________________

(١) ما نقلناه عن السنة مصدره الجزء الثامن من كتاب المواقف للايجي وشرحه للجرجاني، وشرح التجريد للقوشجي، والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة، أما مصادر الإمامية فالتجريد وشرحه، وكشف الفوائد في شرح العقائد، المتن للطوسي، والشرح للعلامة الحلي.

(٢) قال أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق: «إن الإمامية مختلفون فيما بينهم في تخصيص الكتاب بالخبر» وقال الميرزا النائيني الإمامي في تقريراته: إن هذه المسألة متفق عليها، وذكرها في كتب الأصول لا تدل على أنها خلافية، وقال الشيخ الخراساني في كفاية الأصول: إن سيرة العلماء والأصحاب على ذلك خلفاً عن سلف.

٦٨

الفحص والرجوع إلى السنة النبوية، ومقابلة الآية المبينة للحكم مع الأحاديث التي وردت في بابه، لأن السنة بيان وتفسير للقرآن.

السنة النبوية:

أجمع المسلمون بكلمة واحدة على أن ما ثبت عن الرسول بطريق اليقين فهو حجة متبعة، تماماً كالقرآن، لقوله تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».

ولكن أبا حنيفة لم يثبت عنده من أحاديث الرسول إلا سبعة عشر حديثاً، لأنه لا يقبل الحديث إلا إذا رواه جماعة عن جماعة، أو اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أو رواه صحابي، ولم يخالفه فيه أحد. وهذا التشدد في الحديث أدى به إلى تضييق العمل بالسنة، أو طرحها بالنتيجة، والتوسع في العمل بالرأي، سواء أكان الرأي قياساً أم استحساناً أم مصالح مرسلة. «والأمور الظاهرة في فقه أبي حنيفة الحيل الشرعية، وقد أصبحت فيما بعد باباً واسعاً من أبواب الفقه في مذهب أبي حنيفة وغيره من المذاهب، وإن كانت في مذهب أبي حنيفة أظهر»(١) .

ومعنى اقتصار أبي حنيفة على العمل ب١٧ حديثاً فقط أنه في النتيجة لا يعتمد على السنة كمصدر للتشريع، وأن صحيح البخاري ومسلم، وبقية الصحاح المحتوية على مئات الأحاديث ليست بشيء، مع أن الحنفية يعتبرونها، ويعملون بها خلافاً لمبدأ إمامهم أبي حنيفة.

أما ابن حنبل فيأخذ بالحديث الصحيح إن وجده، وإلا فبما أفتى به الصحابة، وإن اختلفوا تخير، وإلا فبالحديث المرسل والضعيف، وإن فقد كل هؤلاء التجأ إلى الرأي من قياس واستصلاح. ولا يعمل به إلا عند الضرورة.

وبهذا يتبين الفرق بين مسلك ابن حنبل، ومسلك أبي حنيفة، فالأول يوسع دائرة الأخبار، ويضيق دائرة الرأي، والثاني على العكس يوسع دائرة الرأي، ويضيق دائرة الأخبار، ومن هنا كان المدى بعيداً بين فقه المذهبين.

أما مالك فوسط بين الاثنين، فهو لا يشترط في الحديث الشهرة كأبي

_____________________

(١) ضحى الإسلام لأحمد أمين ج ٢، والمدخل إلى علم أصول الفقه للدواليبي.

٦٩

حنيفة، ولا يأخذ بالضعيف كما هي الحال عند ابن حنبل، ويعمل بالخبر الواحد بشرط عدالة الراوي، أو أمانته، ولكنه يقدم عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح، ويرى أن الناس لهم تبع، وإذا أعوزه عمل أهل المدينة، والحديث الصحيح لجأ إلى الرأي بجميع أقسامه من قياس واستحسان واستصلاح.

أما الشافعي فيأخذ بالحديث إذا رواه ثقة عن ثقة مشهوراً كان أو غير مشهور، وإذا لم يجده عمل بالقياس فقط دون الاستحسان والاستصلاح.

أما الإمامية فيأخذون بكل حديث يرويه الثقات عن رسول اللّه، أو عن أحد أئمتهم الأطهار(١) ويعتقدون أن أقوال الإمام في الشريعة هي عين أقوال جدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سواء أأسندها إليه، أم أرسلها بدون إسناد، وأن الكذب والخطأ محال في حقه، وبهذا كان عندهم من الأحاديث ما يغنيهم عن الرأي بشتى أقسامه، قال الشيخ جعفر في كتابه «كشف الغطاء» المسألة السادسة والأربعون: «إن الفقيه - أي الإمامي - لا يحتاج إلى الأدلة الظنية، لأنه في غنى - غالباً - بالآيات القرآنية، والأخبار المتواترة المعنوية والسيرة القطعية المتلقاة خلفاً بعد سلف من زمان الحضرة النبوية والإمامية».

ومن هنا كان الاختلاف بين فقهاء الإمامية أقل وأضيق من الاختلاف بين أئمة المذاهب الأربعة، لأن العمل بالحديث وبالرأي عند الأربعة يختلف سعة وضيقاً، أما الإمامية فهم متفقون على مصادر التشريع ومدارك الفقه.

ورب قائل: إن الإمامية يعدون العقل من الأدلة الفقهية، ويلجأون إليه، حيث يعوزهم النص، وهذا عين العمل بالرأي، أو قريب منه.

الجواب:

إن الفرق بين الرأي الذي يعتمده السنة، وبين العقل الذي يعتمده الإمامية تماماً كالفرق بين الذات والموضوع. فالسني حين يعتمد على الرأي يتخذ من نفسه مشرعاً للأحكام، ويصرف النظر عن المشرع الحق، أما الإمامي حين

_____________________

(١) لا يشترط الإمامية في الراوي أن يكون إمامياً، ويكتفون بصدقه وأمانته سنياً كان أو شيعياً، وقد صرحوا بذلك في جميع كتب الرجال، منها كتاب «تنقيح المقال» للمامقاني قال في ج ١ ص ٢٠٦: «ورد النص عن الإمام أن نأخذ برواية من خالفنا دون ما رآه، وقد لزمنا بذلك العمل بالخبر الموثوق الذي هو في اصطلاح العلماء من كان ثقة غير إمامي».

٧٠

يعتمد العقل فإنه يعتمده كطريق كاشف عن حكم الشرع - مثلاً - السني يحكم بنجاسة النبيذ لمجرد ظنه وحدسه بأن سبب النجاسة هو السكر، دون أن يعتمد في ذلك على نص من الكتاب أو السنة. أما الإمامي فيقول: لا يسوغ لنا أن نستخرج من عند أنفسنا علة النجاسة ما دام الذي حرم الخمر وأوجب نجاستها لم ينص على العلة، أما إذا نص عليها، وقال: الخمرة نجسة، لأنها مسكرة ساغ لنا، والحال هذه، أن نعمم الحكم لكل مسكر، وبدون هذا النص لا يجوز لنا بحال أن نتأول ونتمحل، وإلا اتخذنا لأنفسنا صفة التشريع ووضع الأحكام.

وقد مثل الإمامية لحكم العقل بقضايا عقلية بحتة، كحكمه بقبح الظلم، والإعانة على الاثم، وقبح الكذب الضار، وحسن الصدق النافع، ورد الوديعة، والبراءة الأصلية فيما لا نص فيه، لقبح العقاب بلا بيان، وكتقديم الأهم على المهم، وما إلى ذاك مما يعلم فيه حكم الشرع بالضرورة والبداهة، على أن أكثر القضايا التي استقل العقل بإدراكها قد ورد فيها نص صريح من الشرع مؤكداً لحكم العقل.

الصحابة:

قال السنة: إن الصحابة جميعهم عدول، ولا تطلب تزكيتهم (مسلم الثبوت وشرحه وأصول الفقه للخضري).

وقال الإمامية: إن الصحابة كغيرهم، فيهم الطيب والخبيث، والعادل والفاسق.

واتفق السنة على أن فتوى الصحابي ليست حجة على صحابي مثله، واختلفوا هل هي حجة على غير الصحابي.

قال مالك والشافعي في القديم وابن حنبل في رواية: إن قول الصحابي حجة على غير الصحابي، تماماً كسنة رسول اللّه (مسلم الثبوت وشرحه).

وقال الامامية: إن فتوى الصحابي ليست بحجة على أحد، وإنه من هذه الجهة لا يمتاز في شيء عن غيره.

الاجتهاد:

أقفل السنة باب الاجتهاد مقتصرين على المذاهب الأربعة منذ القرن الرابع الهجري، وما زال مقفلاً عندهم، حتى اليوم، وفي الأيام الأخيرة دعا أفراد من علمائهم إلى فتحه، كالشيخ محمد عبده والشيخ المراغي وشيخ الأزهر فضيلة الشيخ شلتوت.

وباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه عند الإمامية لكل من له الأهلية والكفاءة.

٧١

وأجاز السنة أن يقلد الجاهل في الأحكام الشرعية العالم الميت. وأكثر الإمامية على عدم الجواز.

قال السيد محسن الأمين في الجزء الأول من «أعيان الشيعة»: «إن سد باب الاجتهاد عند السنة أقرب إلى المصلحة ما داموا عاملين بالرأي، لأن العمل به يستدعي تعدد الأقوال، وإشاعة الخلافات والمنازعات، أما فتحه عند الشيعة فلا يستدعي شيئاً من ذلك، لأن مدارك الأحكام عندهم ترتكز على أساس معين ومحدد. وفات السيدرحمه‌الله أن فتحه عند الشيعة جرّأ الكثير من جهالهم على انتحاله كذباً وافتراءً.

وبالمناسبة نذكر محاورة طريفة جرت بين السيد الأمين، وعالم سني بدمشق، قال هذا العالم للسيد: أنا لو علمت مذهب الإمام جعفر الصادق لما عدوته، ولكن لا سبيل إلى العلم به، لأن الشيعة يكذبون في نسبة مذهبهم إليه.

قال له السيد: إن مذهب كل إنسان يعلم من أتباعه، ويؤخذ منهم، فقد علمنا مذهب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين، وعلمنا مذهب أبي حنيفة مما نقله عنه أتباعه الأحناف، وكذلك مذهب الشافعي وأحمد ومالك، فيجب أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لمذهب الإمام الصادق.

فقال العالم السني: لا بد من حكَم خارج عن الفريقين.

فقال السيد: إذن نحكّم اليهود والنصارى.

قال السني: كيف تقول هذا ؟

قال السيد: أنت قلته، لا أنا. فبهت وسكت.

التصويت والتخطئة:

قال الإمامية: إن للّه في كل واقعة حكماً معيناً، فمن ظفر به فهو المصيب، وله أجران، أو أكثر. ومن أخطأه فهو المجتهد المخطئ، وله أجر واحد على بحثه واجتهاده.

واختلف السنة فيما بينهم، فقال الشافعي بمقالة الإمامية (اللمع لأبي إسحق الشيرازي الشافعي).

وقال الغزالي في المستصفى ج ٢ ص ٣٦١ سنة ١٣٢٤ هجري: «ذهب بسر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع. فمن أخطأ فهو آثم. وتابعه على هذا ابن علية وأبو بكر الأصم، ووافقه جميع نفاة القياس، ومنهم الإمامية».

٧٢

وغريب هذا الخطأ الفاضح المشين من عالم كالغزالي، فقد ذكر الإمامية في كتب الحديث والفقه والأصول أن المجتهد المخطئ معذور، وفي كتاب «كشف الغطاء» للشيخ جعفر البحث السابع والأربعين ص ٣٩ ما نصه بالحرف «اشتهر على لسان الفريقين - أي السنة والشيعة - رواية أن الفقيه إذا أخطأ كان له حسنة، وإذا أصاب فله عشر».

وقال الغزالي ومالك وأبو حنيفة: ان كل مجتهد مصيب، لأن الحكم الواقعي يتبع ظن المجتهد، ويقال لهؤلاء مصوبة. (المستصفى واللمع والخضري).

وعلى أية حال، فمن نسب إلى جميع السنة القول بالتصويب فقد اشتبه، كما اشتبه الغزالي في نسبته إلى الإمامية القول بأن المجتهد المخطئ آثم.

رائحة التشيع:

قال لي أحد الإخوان: أصحيح أن السنة يشترطون في الراوي أن لا تكون فيه رائحة التشيع ؟ وهل وجدت في كتبهم مصدراً لهذا القول ؟

قلت له: هذا قول المتعصبين منهم، وليس مبدأ عاماً عند علمائهم.

إن المحققين والمنصفين يشترطون فيما يشترطون للأخذ برواية الراوي أن لا يستحل الكذب في دينه، وكفى. نقل الغزالي في كتاب «المستصفى» عن الشافعي أنه قال: «تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لمن وافقهم بالمذهب».

وقال الخضري في كتاب «أصول الفقه» ص ٢١٣ سنة ١٩٣٨: «أما المبتدعون ببدع غير مكفرة فأكثرهم على القول بقبول رواياتهم. وهو المعقول ما داموا لا يدينون بالكذب، ولا نظن هذا معتقداً لأي طائفة من المسلمين، وإن نسب إلى الخطابية أنهم يدينون بالشهادة

٧٣

لمن يوافقهم في الاعتقاد»(١) .

وروى أصحاب الصحاح الستة عن رجال من الشيعة كإبان بن تغلب، وجابر الجعفي، ومحمد بن حازم وعبيد اللّه بن موسى وغيرهم.

وعلى سبيل التفكهة ننقل ما ذكره نظام الدين الأنصاري في كتاب «فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت» المطبوع مع المستصفى سنة ١٣٢٤ هجري. ص ١٤٠ ج ٢، قال:

«أما المبيحون للكذب فلا تقبل روايتهم البتة، لأنهم لما جاز في دينهم على زعمهم الكذب لا يبالون بالارتكاب عليه، ومنهم الروافض الغلاة والإمامية، فإن الكذب فيهم أظهر وأشهر، حتى صاروا مضرب المثل في الكذب، وجوزوا ارتكاب جميع المعاصي. فلا أمان لهم أن يكذبوا على رسول اللّه، ولا هم يبالون بالكذب على رسول اللّه وأصحابه، ومن نظر في كتبهم لم يجد أكثر المرويات إلا موضوعة مفتراة».

وإذا كان أكثر روايات الإمامية كذباً وافتراء، فمعنى ذلك أن التوحيد ونبوة محمد والبعث والنشر سخف وهراء، ووجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة سراب وهباء، وتحريم الزنا والكذب والسرقة جهل وعماء، لأن روايات الإمامية جلها في ذلك. تعالى اللّه ورسوله علواً كبيراً.

ولا نعرف فرقة من المسلمين تشددت في تحريم الكذب بعامة، وعلى اللّه والرسول بخاصة كالإمامية. فإنهم حكموا بخروج مستحله من الإسلام، وأخذوا الصدق في تحديد الإيمان، فلقد رووا عن أئمتهم أخباراً تجاوزت حد التواتر «إن الإيمان أن تؤثر الصدق، وإن ضرك على الكذب، وإن نفعك». واختصوا دون سائر الفرق بالقول إن تعمد الكذب على اللّه أو رسوله من المفطرات، وإن على هذا الكاذب القضاء والكفارة، وبالغ جماعة منهم، حيث أوجبوا عليه

_____________________

(١) اختلف السنة في الأخذ برواية الجن فمنهم من أجاز، ومنهم من منع، وأجاز السيوطي للجن أن يرووا عن الإنس، ولم يجز للإنس أن يرووا عن الجن لعدم الثقة بعدالتهم. (انظر كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي ص ٢١٤ مطبعة مصطفى محمد بمصر).

٧٤

أن يكفر بالجمع بين عتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكيناً.

هذا ما جاء في كتب الإمامية. فمن يكون الكذاب الكفار الإمامية، أو الذي يفتري على الأبرياء الأصفياء ؟!

وغريب أن ينسب إلى الإمامية هذا المتقول استحلال الكذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنه جاء في كتب السنة أنفسهم أن جماعة منهم تعمدوا وضع الأحاديث على لسان رسول اللّه، واحتجوا بأنهم يكذبون تأييداً لدينه، وانتصاراً لشريعته، فكذبهم كان للنبي لا عليه. (أضواء على السنة المحمدية لأبي رية ص ١٠٢ طبعة سنة ١٩٥٨).

وهكذا يستحلون الكذب على رسول اللّه، ثم ينسبونه إلى غيرهم، ويقولون بالتقية، ثم يشنعون على من قال بها، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب.

المهدِي المنتَظر

الدين والعقل:

أشاد الإسلام بالعقل وأحكامه، ودعا إلى تحرره من التقاليد والأوهام، ونعى على العرب وغير العرب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويؤمنون بالسخافات والخرافات، وقد أنزل اللّه في ذلك عشرات الآيات، وتواترت به عن الرسول الأعظم الأحاديث والروايات، وأفرد له علماء المسلمين أبواباً خاصة في كتب الحديث والكلام والأصول.

سؤال:

وتسأل - أيها القارئ - هل معنى إشادة الإسلام بالعقل أنه يدرك صحة كل أصل من أصول الإسلام، وكل حكم من أحكام الشريعة، بحيث إذا حققنا ومحصنا أية قضية دينية في ضوء العقل لصدقها وآمن بها إيمانه بأن الإثنين أكثر من الواحد ؟

الجواب:

كلا. ولو أراد الإسلام هذا من تأييده للعقل لقضى على نفسه بنفسه، ولكان وجوده كعدمه. ولوجب أن يؤخذ الدين من العلماء والفلاسفة، لا من الأنبياء وكتب الوحي. إن للعقل دائرة، وللدين أخرى، وكل منهما يترك للآخر الحكم في دائرته واختصاصه، والإنسان بحاجة إلى الاثنين، حيث لا تتم له السعادة والنجاح إلا بهما معاً.

إن الغرض الأول الذي يهدف إليه الإسلام من الإشادة بالعقل هو أن يؤمن بالإنسان بما

٧٥

يستقل به من أحكام، ولا يصدق شيئاً يكذبه العقل ويأباه. إن العقل لا يدرك كل شيء، وإنما يدرك شيئاً، ولا يدرك شيئاً، والذي يعلم كل شيء هو اللّه وحده. فوجود اللّه وعلمه وحكمته، وإعجاز القرآن الدال على صدق محمد في دعوته، وما إلى ذاك يدركه العقل مستقلاً، ويقدم عليه البرهان القاطع. أما وجود الملائكة والجن، والسير غداً على صراط أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، وشهادة الأيدي، والأرجل على أصحابها، وتطاير الكتب، وسؤال منكر ونكير، ونحو ذلك مما لا يبلغه الإحصاء، وثبت بضرورة الدين، أما هذه فلا تفسر بالعلم، وليس فيه للعقل حكم بالنفي أو الإثبات. إن الدين غير محصور ولا مقصور فيما يدركه العقل، بل يتعداه إلى أمور غيبية يؤمن بوجودها كل من آمن باللّه والرسول واليوم الآخر. ولكن الدين في جميع أحكامه وتعاليمه لا يعلم الناس ما يراه العقل محالاً، أو مضراً،

وبالتالي، فليس كل ما هو حق يجب أن يثبت بطريق العقل، ولا كل ما لم يثبت بالعقل يكون باطلاً - مثلاً - إن مسألة المهدي المنتظر لا يمكن إثباتها بالأدلة العقلية، لا لأنها غير صحيحة، وباطلة من الأساس، بل لأنها ليست من شؤون العقل واختصاصه، إن عجز العقل عن إدراك قضية من القضايا شيء، وكونها حقاً أو باطلاً شيء آخر.

العادة والعقل:

فرق بين ما هو ممتنع الوقوع في نفسه، بحيث لا يمكن أن يقع بحال، حتى على أيدي الأنبياء والأولياء، كاجتماع النقيضين، وجعل الواحد أكثر من اثنين، وبين ما هو ممكن الوقوع في نفسه، ولكن العادة لم تجر بوقوعه، كالأمثلة الآتية، وما كان من النوع الأول يسمى بالمحال العقلي، وما كان من النوع الثاني يسمى بالمحال العادي، وكثير من الناس يخلطون بين النوعين، ويتعذر عليهم التمييز بينهما، فيظنون أن كل ما هو محال عادة هو محال عقلاً.

وإليك الأمثلة: لقد اعتدنا أن لا نرى عودة الأموات إلى هذه الدنيا، وأن يولد الصبي، ولا يكلم الناس ساعة ولادته، وإذا جاع أحدنا لا تنزل عليه مائدة من السماء، وإذا أصابه العمى والبرص لا يشفى بدون علاج، وإذا سبح اللّه وحمده لا تردد الجبال والطير معه التسبيح والتحميد، وإذا أخذ الحديد بيده لا يلين له كالشمع، وإذا سمع منطق الطير لا يفهم منه شيئاً، كما يخفى عليه حديث النمل، ويعجز عن تسخير الجن في عمل المحاريب والتماثيل. ولم يشاهد إنساناً حياً منذ قرون، ولا انقلاب العصا إلى ثعبان، ولا وقوف مياه البحر كالجبال، ولا جلوس الإنسان في النار دون أن يناله أي أذى. فكل هذه، وما إليها لم تجر العادة بوقوعها، ولم يألف

٧٦

الناس مشاهدتها، لذا ظن من ظن أنها مستحيلة في حكم العقل، مع أنها ممكنة عقلاً، بعيدة عادة. بل وقعت بالفعل.

فلقد أخبر القرآن الكريم بصراحة لا تقبل التأويل أن السيد المسيح كلم الناس، وهو في المهد، وأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنزل مائدة من السماء وأنه ما زال حياً، وسيبقى حياً إلى يوم يبعثون، وأن النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم، وأن عصا موسى صارت ثعباناً، وأن الحديد لان لداود، وسبح معه الطير والجبال، وأن سليمان استخدم الجان، وعرف لغة الطيور والنمل. إن هذه الخوارق محال بحسب العادة، جائزة في نظر العقل، ولو كانت محالاً في نفسها لامتنع وقوعها للأنبياء وغير الأنبياء. فكذلك بقاء المهدي حياً ألف سنة أو ألوف السنين واختفاؤه عن الأنظار - كما يقول الإمامية - بعيد عبادة، جائز عقلاً، واقع ديناً بشهادة الأحاديث الثابتة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أنكر إمكان وجود المهدي محتجاً بأنه محال في نظر العقل يلزمه أن ينكر هذه الخوارق التي ذكرها القرآن، وآمن بها كل مسلم، ومن اعترف بها يلزمه الاعتراف بإمكان وجود المهدي، والتفكيك تحكم وعناد، إذ لا فرق في نظر العقل بين بقاء المهدي حياً ألوف السنين، وهذه الخوارق من حيث الإمكان وجواز الوقوع، ما دام الجميع من سنخ واحد.

أحاديث المهدي:

ألف علماء الإمامية كتباً خاصة في المهدي، منهم محمد بن إبراهيم النعماني، والصدوق، والشيخ الطوسي، والمجلسي الذي خصص له المجلد الثالث عشر من بحاره، وذكر هؤلاء العلماء وغيرهم كل ما يتصل بالمهدي من الأحاديث النبوية، بخاصة ما جاء في كتب السنة، وبصورة أخص الصحاح الستة، وقد استقصاها السيد محسن الأمين في القسم الثالث من الجزء الرابع من «أعيان الشيعة» طبعة سنة ١٩٥٤، ورغم ثقتي بهؤلاء الأعلام، ويقيني بصدقهم عما ينقلونه عن غيرهم فإني تتبعت بنفسي ما تيسر لي مراجعته من كتب السنة، خشية الاشتباه بالنقل، أو في فهم الحديث وقبوله للتأويل، ولأن القدامى وأكثر الجدد من علمائنا ينقلون عن الكتاب الذي يبلغ المجلدات دون أن يشيروا إلى رقم الصفحة، ولا تاريخ الطبع، حتى ولا اسم المجلد، وربما اكتفوا بالقول «جاء في كتب السنة أو قال السنة».

وأكتفي هنا بنقل ما جاء في ثلاثة كتب من الصحاح الستة(١) لأن لفظ أحاديثها هو بالذات لفظ الأحاديث المروية في كتب الإمامية. قال ابن ماجة في سننه ج ٢ طبعة سنة ١٩٥٣ الحديث رقم ٤٠٨٢:

٧٧

«قال رسول اللّه: إنا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً شديداً، وتطريداً، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينتصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً، كما ملئت جوراً».

والحديث رقم ٤٠٨٣:

«قال رسول اللّه: يكون في أمتي المهدي، إن قصر فسبع، وإلا فتسع، تنعم فيه أمتي نعمة لم تنعم مثلها قط، تأتي أكلها، ولا تدخر منه شيئاً، والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل يقول:

يا مهدي أعطني. فيقول: خذ».

والحديث رقم ٤٠٨٥: «المهدي منا أهل البيت».

والحديث رقم ٤٠٨٦: «المهدي من ولد فاطمة».

والحديث رقم ٤٠٨٧: «نحن بني عبد المطلب سادة أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي».

وقال أبو داود السجستاني في سننه ج ٢ طبعة سنة ١٩٥٢ ص ٤٢٢ وما بعدها:

«قال رسول اللّه: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول اللّه ذلك اليوم، حتى

_____________________

(١) كتب الحديث الصحيحة عند السنة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.

٧٨

يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً».

وفي حديث آخر: «المهدي مني. يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ويملك سبع سنين».

وجاء في صحيح الترمذي ج ٩ طبعة سنة ١٩٣٤ ص ٧٤:

«قال رسول اللّه: لا تذهب الدنيا، حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي».

وفي ص ٧٥: «قال رسول اللّه: يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللّه ذلك اليوم، حتى يلي».

وجاء في كتاب «كنور الحقائق» للإمام المناوي المطبوع مع كتاب «الفتح المبين» سنة ١٣١٧ هجري ص ٣: «ابشري يا فاطمة المهدي منك».

هذا المهدي الذي أثبته الإمام المناوي وصحاح السنة، وكثير من مؤلفاتهم هو بالذات المهدي المنتظر الذي قالت به الإمامية، فإذا كان المهدي خرافة وأسطورة فالسبب الأول والأخير لهذه الأسطورة هو رسول اللّه. تعالى اللّه ورسوله علوّاً كبيراً، حتى لفظ «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً»، حتى هذه الجملة التي عابوها على الإمامية، وسخروا منها ومنهم هي بحروفها للرسول الأعظم، لا للإمامية، فإن يك من ذنب فالنبي هو المسؤول.

حاشا اللّه والرسول.

إن الذين يسخرون من فكرة المهدي إنما يسخرون من الإسلام، ونبي الإسلام، من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وينطبق عليهم الحديث الذي نقله صاحب الأعيان في الجزء الرابع عن «فوائد السمطين» لمحمد بن إبراهيم الحموني الشافعي عن النبي «من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد».

قال بعض المؤلفين: «اخترع الشيعة فكرة المهدي لكثرة ما لاقوه وعانوه من العسف والجور، فسلوا أنفسهم، ومنوها بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وينصفهم من الظالمين والمجرمين».

ولو كان هذا القائل على شيء من العلم بسنة الرسول لما قال هذا، لقد تخيل أشياء لا أصل لها ولا أساس، ثم أعلنها على أنها عين الحق والواقع، ولست أعرف أحداً أجهل وأجرأ على الباطل ممن يكتب في موضوع ديني، ويعطي أحكاماً قاطعة، قبل أن يرجع إلى كتاب اللّه وسنة الرسول، وقبل أن يبحث وينقب عن أقوال العلماء وآرائهم. إن العلم هو معرفة الشيء عن دليله، أما القول بالظن والتخرص، كما فعل الذين أنكروا وجود المهدي فجهالة وضلالة.

٧٩

وبالتالي، فإن الإمامية لولا هذه الأحاديث التي أوردها أصحاب الصحاح لكانوا في غنى عن القول بالمهدي، وبكل ما يتصل به من قريب أو بعيد، ولكن ما العمل، وهم يتلون قوله تعالى «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».

وبكلمة لقد أخبر النبي بالمهدي فوجب التصديق به، تماماً كما وجب التصديق بمن سبق من الأنبياء، لأن القرآن الكريم أخبر عنهم.

ورب قائل: إن الأحاديث النبوية التي نقلتها عن صحاح السنة إنما دلت على خروج المهدي في آخر الزمان، دون أن تتعرض من قريب أو بعيد إلى وقت ولادته. إذن فمن الجائز أنه يولد في القرن الذي يخرج فيه، لا أنه قد ولد بالفعل وقبل خروجه بقرون، كما قال الإمامية.

الجواب:

إن القول بخروج المهدي وولادته، وكل ما يتصل به لا مستند له إلا الأحاديث النبوية، غاية الأمر أن خروجه في آخر الزمان ثبت بطريق السنة والإمامية، أما ولادته فقد ثبتت بطريق الإمامية فقط، وليس من الضروري لأن يؤمن المسلم بشيء أن يثبت بطريق الفريقين، وإنما الواجب أن يؤمن بما يثبت عنده، على شريطة أن لا يناهض إيمانه حكم العقل ويصادمه، وقد بينّا أن بقاء المهدي حياً تماماً كالخوارق التي حدثت لإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، لا تتنافى وشيئاً مع حكم العقل بالإمكان، لأنها قد حدثت بالفعل، والدالّ على الوقوع دالّ على الإمكان بالضرورة.

هذا، وإن جماعة من كبار علماء السنة قالوا بمقالة الإمامية، وآمنوا بأن المهدي قد ولد، وأنه ما زال حياً، وقد ذكر السيد الأمين أسماءهم في الجزء الرابع من الأعيان، ونقل الثناء على علمهم والثقة بدينهم عن كثير من المصادر المعتبرة عند السنة، وهم:

١ - كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في كتابه «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول».

٢ - محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، في كتابيه «البيان في أخبار صاحب الزمان». و«كفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب».

٣- علي بن محمد الصباغ المالكي في كتابه «الفصول المهمة».

٤ - أبو المظفر يوسف البغدادي الحنفي المعروف بسبط ابن الجوزي في كتابه «تذكرة الخواص».

٥ - محيي الدين بن العربي الشهير في كتابه «الفتوحات المكية».

٨٠