التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه0%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18334 / تحميل: 5518
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(صلّى الله عليه وآله) قوله: (رفع عن أُمّتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلْق ما لمْ ينطق بشفة) (1) .

وكما يُثبّت هذا الحديث الشريف قاعدة عامّة برفع المسؤولية عن المضطرّ والمكرَه، نجد كذلك في قول الرسول (صلّى الله عليه وآله): (لا ضرر ولا ضرار)، حُكماً في رفع الضرر عن النفْس والمال والعِرض، إذا كان الواقع يمكن رفعه بإظهار التوافق مع الوضع السياسي أو الفكري وأمثالهما، الذي يشكّل خطراً حقيقياً على النفْس والمال والعِرض، ما زال القلب مطمئنّاً بالحقّ، وثابتاً على الإيمان والإخلاص لإرادة الله سبحانه.

وعلى أساس كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم (صلّى الله عليه وآله)، التزم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وفقهاؤهم بمبدأ التقية في المجال السياسي والفكري، عندما أصابهم الظلم والاضطهاد والتقتيل والتعذيب والتشريد، الذي أخبرهم به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقوله:

(إنّا أهلُ بيتٍ اختار الله لنا الآخِرة على الدُنيا. وإنّ أهل بيتي سيلقونَ بعدي بلاءً وتشريداً وتطريداً...) (2) دفاعاً عن النفْس، وحمايةً لذلك الكيان الفكري والسياسي الأصيل، الذي كان يقوده أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، كقوّة معارضة للحُكمَين الأُمَوي والعبّاسي، اللذَين عُرِفا بالعداء والتنكيل بأئمّة أهل البيت وأتباعهم وفكرهم المعبّر عن الوعي الأصيل، والفهْم العميق، والموقف الرافض لتسلّط الحاكم الظالم، وقد أوضح علماء أهل البيت مجال انطباق التقية وتوظيفها.

روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (التقية في كلّ ضرورة، وصاحبها أعلم

____________________

(1) الشيخ الصدوق / الخصال: ص 417 (باب 9).

(2) سُنن ابن ماجة 2: 1366 / ح 4082.

٢٢١

بها حين تنزل به) (1) .

وروي عنه قوله (عليه السلام): (إنّما جُعِلَتْ التقية ليُحقَنَ بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية) (2) .

وروي عنه قوله (عليه السلام): (التقية في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم، فقد أحلّه الله له) (3).

وهكذا يوضّح الإمام الباقر (عليه السلام)، أنّ التقية هي موقف دفاعي في حالة الضرورة والاضطرار وحفظ النفْس.

فالتقية كما اتّضح لنا ليست مِن اجتهاد الفكر الشيعي، إنّما هي نصٌّ إسلاميٌّ نطق به القرآن، وأقرّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومارسه الصحابة وأوضحه المفسّرون، مِن مختلف الاتّجاهات والآراء، كما قرأنا آنفاً؛ لرفع الضرر ومعالجة الضرورة، ولحقْن الدماء، كما أوضح الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) ذلك.

وتأسيساً على هذا المبدأ أفتى فقهاء الإمامية بوجوب التقية، فللمسلم أن يُبْطِنَ الحقّ مِن عقيدةٍ وموقفٍ سياسيٍّ وقناعةٍ تشريعية وعبادية، ويُظهر خلافها دفاعاً عن النفْس والمال والعِرض، كما أجاز له القرآن والسنّة ذلك.

قال الشيخ الطوسي: (والتقية - عندنا - واجبة عند الخوف على النفْس، وقد روي رخصةً في جواز الإفصاح بالحقّ عندها) (4) .

وعرَّف الشيخ المفيد التقية بقوله: (التقية: كتمان الحقّ، وسَتر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترْك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدِين أو الدنيا، وفرْض

____________________

(1) الكليني / الأُصول مِن الكافي 2: 219.

(2) المصدر السابق: ص 220.

(3) المصدر السابق.

(4) الطوسي: التبيان في تفسير القرآن 2: 435.

٢٢٢

ذلك إذا عُلِم بالضرورة، أو قويَ في الظنّ، فمتى لمْ يُعلَم ضرراً بإظهار الحقّ، ولا قويَ في الظنّ ذلك، لمْ يجب فرض التقية.

وقد أمَر الصادقون (عليهم السلام) جماعة مِن أشياعهم، بالكفّ والإمساك عن إظهار الحقّ والمباطنة والسَتر له عن أعداء الدِين، والمظاهرة لهم بما يزيل الرَيب عنهم في خلافهم، وكان ذلك هو الأصلح لهم.

وأمَروا طائفةً أُخرى مِن شيعتهم، بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحقّ؛ لعِلمهم بأنّه لا ضرر عليهم في ذلك.

والتقيّة تجب بحسب ما ذكرناه، ويسقط فرضها في مواضع أُخرى على ما قدّمناه) (1) .

____________________

(1) الشيخ المفيد / شرح عقائد الصدوق: ص 241.

٢٢٣

لماذا التقية؟

ونستطيع أن نتفهّم ظروف التقية السياسية والفكرية، إذا فهِمنا محنة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم في العهدَين الأُمَوي والعبّاسي؛ بسبب معارضتهم الفكرية والسياسية للظلم السياسي، والعبث بأموال الأُمّة، وانحراف الحكّام والولاة عن السلوكية الإسلامية.

فقد نقل المؤرّخون صوَراً مروّعة مِن سياسة البطْش والإرهاب والقتْل والسجن، ابتداءً مِن عهد معاوية بن أبي سفيان الذي قتل عدداً مِن أتباع الإمام عليّ ووَلَديه الحسن والحسين (عليهم السلام)، أمثال الصحابي الجليل حجر بن عدي الذي وصفه الحاكم في المستدرك بقوله: (إنّه راهب أصحاب محمّد) (1) ، وشريك ابن شداد الحضرمي، وصيفي بن شداد الشيباني، وعمرو بن الحمق الخزاعي، ورشيد الهجري، وعبد الله بن يحيى الحضرمي، وعبد الرحمن بن حسّان العنزي، وعشرات أمثالهم.

وحين ولِيَ السلطة ابنه يزيد أقدَمَ على أفدح جريمة في تاريخ الإسلام، ضدّ أهل بيت النبوّة وصحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله) والتابعين لهم بإحسان، حيث جرت مذبحة كربلاء المروّعة، التي قُتل فيها الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) وسبع عشَر رجُلاً مِن أهل بيته، وستون مِن أصحابه، وهم كلّ الذين كانوا برفقته، ثمّ ديس جسد الحسين الطاهر بحوافر الخيل تشفيّاً وانتقاماً...

تلك المذبحة التي لمْ يقف فيها العدوان عند حدّ قتْل المقاتلين، وسلب أموالهم، بل ذبح الأطفال ومنعوا شُرب الماء، وأُحرقت خيام آل محمّد، وسيقت نساؤهم سبايا مِن العراق إلى الشام

____________________

(1) الحاكم / المستدرك على الصحيحين 3: 468.

٢٢٤

وحُملت رؤوس الشهداء إلى دمشق الشام، على رؤوس الأعواد والرماح.

وحين امتدّ الصراع بين طلائع المسلمين، والمعارضين للحزب الأُمَوي، وانتفضت مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) على سلطة يزيد بقيادة عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، بعد شهادة الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، فزحف الجيش الأُمَوي على المدينة في واقعة الحرّة، فسفَك الدماء، وانتهك الحُرُمات، وهتَك الأعراض، ونهب الأموال.

وقد نقل ابن قتيبة الدينوري صورة مِن تلك المأساة بقوله: (وذكروا أنّه قُتل يوم الحرّة مِن أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ثمانون رجُلاً، ولمْ يبقَ بدريّ بعد ذلك، ومِن قريش والأنصار سبعمائة، ومِن سائر الناس مِن الموالي والعرب والتابعين عشَرة آلاف، وكانت الوقعة في ذي الحجّة لثلاث بقين منها، سنة ثلاث وستين) (1) .

ويستمرّ الحزب الأُمَوي في الإرهاب وسفْك الدماء، على امتداد مراحل وجوده في السلطة، فيُسجّل لنا التاريخ حوادث أُخرى، تحكي أبشع صوَر الإرهاب والاستخفاف بقِيَم الحقّ والعدْل أيّام عبد الملك بن مروان، وقتْله سعيد بن جبير، وقد جاء في كتاب عبد الملك بن مروان، الذي ولّى فيه خالد بن عبد الله القسري:

(أمّا بعد: فإنّي ولّيتُ عليكم خالد بن عبد الله القسري، فاسمعوا له وأطيعوا، ولا يجعلنّ امرؤ على نفْسه سبيلاً، فإنّما هو القتْل لا غير، وقد برِئَت الذمّة مِن رجُلٍ آوى سعيد بن جبير، والسلام. ثمّ التفت إليهم خالد، وقال: والذي نحلف به، ونحجّ إليه، لا أجده في دار أحدٍ إلاّ قتلته، وهدمتُ داره، ودار كلّ مَن جاوره، واستبَحْتُ حُرمته. وقد أجّلت لكم فيه ثلاثة أيّام...) (2) .

____________________

(1) ابن قيتيبة الدينوري / الإمامة والسياسة 1: 185.

(2) المصدر السابق 2: 42.

٢٢٥

ثمّ يُلقى القبض على سعيد بن جبير، الذي كان مِن طلائع الموالين لآل البيت النبويّ، ويُسلَّم إلى الحجّاج السفّاح الشهير في تاريخ الإسلام، الذي قتَل عشرات الآلاف مِن معارضي السلطة، فيقتله.

وتستمرّ سياسة التعسّف والاضطهاد لجماهير الأُمّة، وطلائع المعارضة العلَوية، وتتراكم المِحَن وممارسة الإرهاب، فينطلق زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب بثورته سنة (121 هـ)، ويُقتَل في نفَرٍ مِن أصحابه، في خلافة هشام بن عبد الملك، فيُحرَق جسده الطاهر، ويذرّ في الفرات والبساتين، ويرتدّ أَثَرُ هذه الثورة على أخيه الإمام الباقر محمّد بن عليّ وولده الصادق (عليهما السلام)، فتفرَض الرقابة عليهم، ويسلّط الإرهاب والملاحقة؛ لتطويق حركتهما السياسية والفكرية في تلك المرحلة.

وقد حفظ لنا التاريخ نصّاً لأحد قادة المعارضة الموالية لأهل البيت، يصوّر عُمق المأساة والكوارث التي حلّت بالحزب العلَوي، وبأتباع آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فقد خاطب هذا الرجُل أصحابه يدعوهم إلى الثبات والاستمرار، على حمْل راية المعارضة والموالاة لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله) قائلاً: (إنّكم كنتم تُقتَلون، وتقطع أيديكم وأرجلكـم، وتُسمَل أعينكـم، وتُرفعون على جذوع النخل في حبّ أهل بيت نبيّكم، وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم) (1) .

وفي العهد العبّاسي لاقى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم، ألوان المآسي والقتْل والتشريد، الذي تصاغر أمامه الإرهاب الأُمَوي.

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يوضع تحت المراقبة والرصد والملاحقة، وتُحصى عليه أنفاسه.

____________________

(1) تاريخ الطبري 7: 104 (حوادث سنة 65).

٢٢٦

وفي عهد الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام)، تضطرّ الممارسات السُلطوية والإرهاب العبّاسي - ضدّ آل البيت وأتباعهم - الحسين بن عليّ بن الحسن، فينطلق في ناحية (فخ) في ثورة عارمة عام (168 هـ)، ضدّ الحاكم العبّاسي موسى الهادي، وتحلّ الفاجعة بآل البيت النبويّ، ويُقتل الحسين الثائر، ويُقتل معه نفَرٌ مِن أصحابه، فيصف الإمام محمّد الجواد هذه المأساة بقوله: (لمْ يكن لنا بعد الطفّ (1) مصرع أعظم مِن فخ) (2) .

ثمّ يُزَجّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في سجون الرشيد الرهيبة سنين عديدة، حتّى يُستشهد في سجن السندي بن شاهك - مدير شرطة الرشيد - مسموماً معذّباً، في الخامس والعشرين مِن شهر رجب عام (183 هـ).

ولمْ تقف معاناة أئمّة أهل البيت وأتباعهم مِن الحكّام العبّاسيين عند هذا الحدّ، بل تستمرّ بأشدّ صوَرها، فيلاقي الإمامان عليّ الهادي وولده الحسن العسكريّ (عليهما السلام) مِن بعده، أشدّ المعاناة مِن الحكّام العبّاسيّين الذين عاصروهما.

ولنا أن نقرأ بعضاً مِن نصوص التاريخ في العهد العبّاسي؛ لنعرف أساليب الاضطهاد والإرهاب الموجّهة ضدّ أئمّة أهل البيت، فنفهم جانباً مِن حياة الاضطهاد والتعسّف والإرهاب، الذي اضطرّت أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم إلى الالتزام بالتقيّة في تلك المرحلة.

فقد وصف عليّ بن إبراهيم - أحد أصحاب الإمام الحسن العسكريّ - جانباً مِن تلك المعاناة بقوله: (اجتمعنا بالعسكر، وترصَّدنا لأبي محمّد (عليه السلام) يوم ركوبه، فخرج توقيعه: ألا لا يُسلِّمَنَّ عليَّ أحد، ولا يُشِر إليّ بيده، ولا يُومِئ؛ فإنّكم

____________________

(1) الطفّ: هو اسم مِن أسماء أرض كربلاء، التي قُتل فيها الإمام السبط الحسين بن عليّ (عليه السلام).

(2) العلاّمة المجلسي / بحار الأنوار 48: 165.

٢٢٧

لا تأمنون على أنفسكم) (1) .

وروى أبو هاشم الجعفري عن داود بن الأسود وقّاد حمام أبي محمّد (عليه السلام)، قال: دعاني سيّدي أبو محمّد، فدفع إليّ خشبة، كأنّها رِجْل باب مدوّرة طويلة، مِلء الكفّ، فقال: صِرْ بهذه الخشبة إلى العمري، فمضيت، فلمّا صرت إلى بعض الطريق عرَض لي سقّاء معه بغْل، فزاحمني البغْل على الطريق، فناداني السقّاء: صِح على البغْل، فرفعت الخشبة التي كانت معي، فضربت البغْل، فانشقّت، فنظرتُ إلى كسرها، فإذا فيها كتب، فبادرت سريعاً، فرددت الخشبة إلى كُمّي، فجعل السقّاء يناديني ويشتمني، ويشتُم صاحبي، فلمّا دنَوت مِن الدار راجعاً، استقبلني عيسى الخادم عند الباب، فقال: يقول لك مولاي لِمَ ضربتَ البغْل، وكسرت رِجْل الباب، فقلت له: يا سيّدي، لَمْ أعلم ما في رِجْل الباب، فقال: ولِمَ احتجْتَ أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه، إيّاك بعدها أن تعود إلى مِثلها، وإذا سمعت لنا شاتماً، فامضِ لسبيلك التي أُمرت بها، وإيّاك أن تجاوب مَن يشتمنا، أو تعرّفه، مَن أنت، فإنّنا ببلَدِ سوء، ومِصْر سوء، وامضِ في طريقك، فإنّ أخبارك أحوالك ترِد إلينا، فاعلم ذلك) (2) .

وروى محمّد بن عبد العزيز البلخي، قال: (أصبحت يوماً فجلست في شارع الغنم، فإذا بأبي محمّد (عليه السلام) قد أقبل مِن منزله، يريد دار العامّة، فقلت في نفسي: تُرى إنْ صحتُ أيّها الناس هذا حجّة الله عليكم فاعرفوه يقتلوني؟ فلمّا دنا منّي، أَومَأ بإصبعه السبابة على فِيه: أن اسكُت، ورأيته تلك الليلة يقول: إنّما هو الكتمان أو القتْل، فاتّق الله علـى نفْسـك) (3) .

____________________

(1) المصدر السابق 50: 269.

(2) ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب 4: 427 - 428.

(3) عليّ بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي / كشْف الغمّة في معرفة الأئمّة 3: 218 - 219.

٢٢٨

ولعلّ مِن أهمّ الوثائق التاريخية المهمّة، التي تحكي مأساة آل البيت النبويّ واضطهاد السُلطات الأُمَوية والعبّاسية لهم، هو كتاب (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الأصفهاني، الذي عاش ما بين (284 - 356 هـ)، وقد بلغ حجم الكتاب (460) صفحة مِن القطع الكبير، كرّسها للحديث عن محنة أهل البيت وثوراتهم وسجونهم وأساليب قتْلهم.

وفي هذا الكتاب تحدّث أبو الفرج سطوراً عن موقف المتوكّل العبّاسي مِن آل البيت، فقال: (وكان المتوكّل (1) شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتمّاً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظنّ والتُهمة لهم. واتّفق له أنّ عبيد الله بن يحيى بن خاقان - وزيره - يُسيء الرأي فيهم، فحسّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لمْ يبلغه أحد مِن خلفاء بني العبّاس قبله.

وكان مِن ذلك أن كَرَب قبر الحسين (عليه السلام)، وعفّى آثاره، ووضع على سائر الطُرُق مسالح له، لا يجدون أحداً زاره، إلاّ أتَوه به، فقتله أو أنْهكه عقوبة...

وكان قد بعث برجُل مِن أصحابه يقال له الديزج - وكان يهودياً فأسلم - إلى قبر الحسين، وأمره بكَرْب قبره ومحْوِه وإخراب كلّ ما حوله، فمضى إلى ذلك وخرّب ما حوله، وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مئتي جريب، فلمّا بلغ إلى قبْره لمْ يتقدّم إليه أحد، فأحضر قوماً مِن اليهود فكَرَبوه، وأجرى الماء حوله، ووكّل به مسالح، بين كلّ مسلحتَين ميل، لا يزوره زائر إلاّ أخذوه ووجّهوا به إليه...

ثمّ قال: واستعمل على المدينة ومكّة عُمَر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب مِن التعرّض لمسألة الناس، ومنع الناس مِن البِرّ بهم، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبَرّ أحداً منهم بشيءٍ وإن قلّ، إلاّ أنْهكه عقوبةً، وأثقله غرماً، حتّى كان القميص يكون بين جماعة مِن العلَويّات يُصلّين فيه، واحدةً بعد واحدة، ثمّ يرقّعنّه، ويجْلسْنَ على مغازلهِنّ عواري حواسر، إلى أن قُتل المتوكّل، فعطف المنتصر عليهم، وأحسن

____________________

(1) عاصر المتوكّل العبّاسي الإمام عليّ الهادي (عليه السلام).

٢٢٩

إليهم) (1) .

وتحدّث في موردٍ آخَر عن إحدى حالات القتْل والتعذيب، التي مارسها أبو جعفر المنصور ضدّ آل عليّ بن أبي طالب، فقال: (أتى بهم أبو جعفر فنظَر إلى محمّد بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، فقال: أنت الديباج الأصفر؟ قال: نعم.

قال: أما والله لأقتلنّك قتْلةً ما قتلتُها أحداً مِن أهل بيتك، ثمّ أمَر باسطوانة مبنيّة فَفُرِقَت، ثمّ أُدخلَ فيها، فبُنِيَت عليه، وهو حيّ) (2) .

إنّ إلقاء نظرة تحليلية، وقراءة موضوعية أمينة، في تلك النصوص والعيّنات التاريخية، التي لا تساوي إلاّ جزءاً يسيراً مِن سياسة الاضطهاد والتقتيل والسجون والإرهاب والتشريد والملاحقة، التي مارسها الأُمَويون والعبّاسيون، ضدّ أئمّة أهل البيت وأنصارهم والمتأثّرين بتيّارهم الفكري والسياسي، تكشف لنا بوضوحٍ كامل: لماذا التزم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم بالتقية، أو الكتمان وإخفاء الموقف الفكري والسياسي المعارض لسياسة السلطة ومتبنّياتها.

ولعلّنا ندرك بصورةٍ أوضح موجِبات التقية الفكرية والسياسية، إذا تجاوزنا أحداث التاريخ الماضية، وانتقلنا إلى المعارضة الفكرية والسياسية المعاصرة التي تخوضها الحركات الإسلامية المعارضة، والتزامها بالسرّية والتنظيم السري، والتكتّم على خططها ومتبنّياتها؛ لحماية نفْسها مِن الظلم والتعسّف.

فما مِن حركة إسلامية معارضة، على امتداد التاريخ الماضي منه والمعاصر، تريد تغيير الأوضاع وإصلاح السلطة والمجتمع؛ إلاّ وتتبنّى التقية السياسية والتكتّم على أفكارها المعارضة لمتبنّيات السياسة الظالمة والمنحرفة عن منهج القرآن وسيرة النبوّة الخالدة.

____________________

(1) أبو الفرج الأصفهاني / مقاتل الطالبيين: ص 470 - 478.

(2) المصدر السابق: ص 181.

٢٣٠

وذلك منطق العقل المتوافق مع حُكم الشريعة وإقرارها لمبدأ التقية، كما قرأنا في الكتاب والسنّة وآراء الفقهاء.

مِن ذلك كلّه نفهم أنّ التقية وسيلة دفاعية ضدّ الظلم والإرهاب، ومِن أجْل حماية الحقّ والحفاظ على الموقف الشرعي السليـم.

٢٣١

التقية والجهاد، وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قد يتبادر إلى أذهان البعض ممّن لا يستوعب المفاهيم القرآنية، وتنظيم الشريعة للعلاقة بين الأحكام والمواقف:

والأمر الواقع أنّ التقية: فكرة تحوّل المسلم إلى إنسان متعايش مع الأمر الواقع، مع ما فيه مِن ظلم وفساد وانحراف.

وأنّها: تربية تفرز الإزدواجية واصطناع التوافق، فتقود إلى النفاق، والرضا بكلّ ما يحيط بها، فتنصرف عن مواجهة الظلم ومحاربة الفساد والانحراف تحت ستار الخوف على المال والنفس والكرامة.

غير أنّ هدف التقية هو معاكس لهذا الفهْم تماماً، إذ هي شرّعت لتمكّن المسلم الذي يعيش في ظروف القهر والإرهاب الفكري، وأجواء الانحراف المسلّطة عليه بالقوّة؛ شرّعت لتمكّنه مِن المقاومة والعمل على التغيير بشكل بعيد عن أعْيُن القوى المتحكّمة والمتسلّطة، فمفهوم التقية، هو مفهوم التكتّم والسرّية في العمل السياسي والفكري، الذي لا يروق للحكام المنحرفين والقوى المعادية للاتّجاه السليم.

ومفهوم التقية لا يلغي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يتحوّل عمل الفرد والجماعة التي ترى الفساد السياسي والفكري ولا تستطيع الإعلان عن مواجهته، يتحوّل العمل عندها إلى عملٍ سرّي، وإعداد بعيد عن أنظار المتسلّطين، فإذا توفّرت القدرة على التغيير، تمّ الإعلان عن المواجهة المكشوفة والصراع الواضح؛ لتغيير البناء السياسي والفكري والاجتماعي على أساس منهج القرآن ودعوته.

وعندما تكون التضحية بالمال والنفْس مُجدية للدفاع عن الحقّ وإقامة الإسلام، تجب التضحية عندئذٍ، ولا تقية في ذلك، فإنّ مِن أهداف الجهاد بالمال

٢٣٢

والفكر والنفْس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو مواجهة الأوضاع غير الطبيعية في المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان المسلم؛ لذلك حرّم الفقْه الإسلامي التعاون مع الحاكم الظالم الفاسق، إذا كان في هذا التعاون وتولّي الوظائف للسلطة هدْم الإسلام وسفْكٍ للدماء، ولو كلّف الإنسان دمه وماله.

لذلك جاء في قول الإمام الباقر (عليه السلام): (فإذا بلغ الدم فلا تقية)، أي أنّ مِن حقّ المسلم المضطهَد والمكرَه أن يستجيب للأوضاع الاجتماعية، ولإرهاب السلطة، ويتعاون معها في حدود دفع الضرر الأعظم عن نفْسه، بالموازنة بين أهون الضررين، فإذا نتج عن تجاوبه وتعاونه مع السلطة المُكْرِهَةِ له سفْك دماء الآخَرين وهدْم الإسلام، فلا يُجاز له التعاون مع الطغاة والظلمة، ولو أدّى رفْضه إلى قتْله وسفْك دمه، ومصادرة أمواله.

٢٣٣

٢٣٤

الفصل السابع

الإيمان

بعالَم الآخِرة

٢٣٥

٢٣٦

تقديمٌ

إنّ المعضلة الكبرى في التفكير البشري هي معضلة الإيمان بعالَم الآخِرة والحياة فيها، رغم بداهة الإيمان بها بعد الإيمان بوجود الله وقدرته التي أوجد بها الخلائق مِن العدم، وقد ساق الوحي هذا البرهان الحسّي الميسّر، رادّاً على مُنكري عالَم الآخِرة. فقال الله تعالى: ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) .

ولقد كرَّس القرآن جانباً كبيراً مِن آيه وبيانه؛ لإثبات عالَم الآخِرة وما فيها مِن نعيم وعذاب.

وتتركّز القيمة الكبرى لدعوات الأنبياء في التصديق بعالَم الآخرة؛ لأنّه عالَم الجزاء على التكليف والآلام، المعبّر عن عدْل الله سبحانه وصدْقه ووفائه بوعده ووعيده، وبدون وجود عالَم الآخِرة، فلا قيمة للتكليف في عالَم الدنيا، ولا مبرّر للالتزام إلاّ بقدر ما يحقّق للإنسان مِن مصلحة في هذا العالَم.

ويعتبر التصديق بعالَم الآخرة الركن الأساس مِن أركان العقيدة الإسلامية

____________________

(1) سورة يس: آية 78 - 79.

٢٣٧

التي بُني عليها الإسلام.

( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُـمُ الْمُتَّقُـونَ ) (1) .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (2).

إنَّ دراسة الأبحاث المتعلّقة بعالَم الآخرة تتركّز بشكلٍ أساس في المحاور الآتية:

1 - وجود عالَم الروح وعلاقته بالبدن.

2 - عالَم البرزخ.

3 - القيامة والمعاد.

4 - الحساب والجزاء والشفاعة والعوض والآلام، وما يرتبط بها مِن مسائل.

ولقد كانت هذه الموضوعات مجالاً للبحث والحوار والخلاف، في الرأي بين الفلاسفة والمتكلّمين والمعنيّين بشؤون الفكر العقيدي مِن علماء الإسلام.

فكان لأئمّة أهل البيت وللفلاسفة والمتكلّمين المنتمين إلى مدرستهم، قصب السبْق في الدفاع عن هذا المعتقد الإسلامي، الذي يعطي الحياة الإسلامية

____________________

(1) سورة البقرة: آية 177.

(2) سورة النساء: آية 136.

٢٣٨

والتفكير الإسلامي طابعهما الخاصّ، فإنّ الإيمان بهذه المسألة له الأثر البالغ في السلوك الفردي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي، وفي تنظيم المجتمع وتوجيه حركته.

وإنّه لَمِن أخطر مصادر الوَيلات على البشرية، نكران عالَم الآخرة.

ولنتناول بشيءٍ مِن الإيضاح تعريف مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بهذه المسائل العقيدية على التوالي:

1 - وجود عالَم الروح وعلاقته بالبدَن:

إنّه لمِن الحقائق الواضحة لدى الفكر الإسلامي: أنّ معرفة حقيقة الروح وكُنهها قضية مجهولة لدى الإنسان، وليس بوِسع العقل البشري أن يشخّص ماهيّتها. وقد أجاب القرآن على السؤال الذي طُرح على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بقوله: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (1) .

ولقد بحث الفلاسفة والمفكّرون الإسلاميون كيفية نشأة الروح وعلاقتها بالبدَن، فكانت آراء ونظريات عديدة.

ولنستمع إلى الشهيد الصدر وهو يحدّثنا عن نظرية الفيلسوف الإمامي صدر المتألّهين، في نشأة الروح، وتأييده لهذه النظرية، قال: (وأخيراً وجَد تفسير الإنسان على أساس العنصرين الروحي والمادّي، تصميمه الأفضل على يد الفيلسوف الإسلامي صدر المتألّهين الشيرازي، فقد استكشف هذا الفيلسوف الكبير حركة جوهرية في صميم الطبيعة، هي الرصيد الأعمق لكلّ الحركات الطارئة المحسوسة التي تزخر بها الطبيعة.

وهذه الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين

____________________

(1) سورة الإسراء: آية 85.

٢٣٩

المادّة والروح، فإنّ المادّة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها، وتستمرّ في تكاملها حتّى تتجرّد عن مادّيتها ضمن شروط معيّنة، وتصبح كائناً غير مادّي أي كائناً روحياً، فليس بين المادّي والروحيّ حدود فاصلة، بل هما درجتان مِن درجات الوجود، والروح بالرغم مِن أنّها ليست مادّية، ذات نسب مادّي؛ لأنّها المرحلة العُليا لتكامل المادّة في حركتها الجوهرية.

وفي هذا الضوء نستطيع أن نفْهم العلاقة بين الروح والجسم، ويبدو مِن المألوف أن يتبادل العقل والجسم - الروح والمادّة - تأثيراتهما؛ لأنّ العقل ليس شيئاً مفصولاً عن المادّة بهوّةٍ سحيقة، كما كان يُخيّل لديكارت، حين اضطرّ إلى إنكار التأثير المتبادل، والقول بمجرّد الموازنة.

بل إنّ العقل نفْسه ليس إلاّ صورة مادّية عند تصعيدها إلى أعلى مِن خلال الحركة الجوهرية، والفَرْق بين المادّية والروحية فرْق درجة فقط، كالفَرْق بين الحرارة الشديدة والحرارة الأقل منها درجة.

ولكن هذا لا يعني أنّ الروح نتاج للمادّة وأثَر مِن آثارها، بل هي نتاج للحركة الجوهرية، والحركة الجوهرية لا تنبع مِن نفْس المادّة؛ لأنّ الحركة، كلّ حركة، خروج للشيء مِن القوّة إلى الفِعل تدريجياً - كما عرفنا في مناقشتنا للتطوّر عند الديالكتيك - والقوّة لا تصنع الفِعل، والإمكان لا يصنع الوجود، فللحركة الجوهرية سببها خارج نطاق المادّة المتحرّكة، والروح التي هي الجانب غير المادّي مِن الإنسان؛ نتيجة لهذه الحركة، والحركة نفْسها هي الجسـر بين المادّيـة والروحيّـة) (1) .

وإذا كان هذا تفسير نشأة الروح عند صدر المتألّهين، فلنتابع معه توضيح رأيه في انفصال الروح عن البدَن، وقدرتها على الاستقلال عنه. قال: (وبالجملة، النفْس والبدَن يتحرّكان معاً في التحوّلات الطبيعية، ويستكملان معاً في الكمالات التي

____________________

(1) الشهيد الصدر (قدّس سرّه) / فلسفتنا: ص 335 - 336.

٢٤٠