التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه0%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18340 / تحميل: 5523
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحُكم وأقسامه

تعريف الحُكم:

عرّف الشهيد الصدر الحُكم الشرعي بأنّه: (التشريع الصادر مِن الله تعالى؛ لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه) (1) .

ونقل العلاّمة السيّد محمّد تقي الحكيم تعريفات للحُكم بقوله: (وقد ذكروا له تعريفات، لعلّ أنسَبُها بمدلوله هو: الاعتبار الشرعي المتعلّق بأفعال العباد، تعلّقاً مباشراً أو غير مباشر.

وإنّما فضّلنا كلمة (اعتبار) على ما جاء في تعريفه مِن أنّه: خطاب الشارع المتعلّق بأفعال المكلّفين، كما نقل ذلك الآمدي عن بعض الأصوليين، أو أنّه: خطابُ الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء، أو التخيير أو الوضْع، وهو الذي حكاه صاحب (سلّم الوصول) عن الأُصوليين؛ لأنّ كلمة خطاب لا تشمل الحُكم في مرحلة الجعْل، إنّما تختصّ بمراحله المتأخّرة مِن التبليغ والوصول والفعلية، لوضوح أنّها هي التي تحتاج إلى الخطاب؛ لأداء جعْل الشارع، واعتباره، فتعميمها إلى جميع مراحله أقرب إلى فنّية التعريف مِن وجْهة منطقية) (2) .

أقسام الحُكم:

وبعد أن قرأنا تعريف الإمامية للحُكم الشرعي ومصادر الحصول عليه، فمِن المفيد أن نعرّف بشكلٍ موجز بأقسام الحُكم الشرعي في المدرسة الإمامية؛ ليتّضح

____________________

(1) الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر / دروس في عِلم أُصول الفقْه (الحلقة الثانية): ص 13.

(2) محمّد تقي الحكيم / الأصول العامّة للفقْه المقارن: ص 55 - 56.

٣٤١

لدينا المنهج الفقهي، في تنظيم السلوك والعلاقات البشرية مع الله والنفْس والمجتمع والطبيعة وغيرها.

فالقاعدة التي ينطلق منها الفكر الإمامي في هذا المجال هي: (ما مِن واقعة إلاّ ولله فيها حُكم).

وقد قُسّم الحُكم عند العلماء المختصّين إلى قسمين:

1 - الحُكم التكليفي: وعُرّف بأنّه: (الاعتبار الصادر مِن المولى، مِن حيث الاقتضاء والتخيير) (1) .

2 - الحُكم الوضعي: وعُرّف بأنّه: (الاعتبار الشرعي الذي لا يتضمّن الاقتضاء والتخيير) (2)، وبذا فإنّ الحُكم الوضعي في الشريعة الإسلامية: هو كلّ حُكمٍ ليس بتكليفي، كالسببيّة، والمانعية، والشرطيّة، والصحّة، والفساد... الخ.

وقُسّم الحُكم التكليفي إلى خمسة أقسام، اثنان منها اقتضائيان - إلزاميان - وهما الوجوب والحُرمة. وثلاثة منها تخييرية، وهي الإباحة والكراهة والنَدْب.

وبذا تكون الأحكام التكليفية التي تنظّم العلاقات والنشاط والسلوك البشَري، في جانبه التكليفي في الفقْه الإمامي هي:

أ - الوجوب: (وهو الإلزام بالفِعل، فيكون معنى الواجب هو: الفِعل الذي ألزم الشارع بالإتيان به) (3) .

كالصلاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... الخ.

ب - الحرمة: (وهي إلزام المكلّف بترْك شيءٍ، فيكون معنى الفِعل المحرّم:

____________________

(1) مصباح الأُصول: ص 87، نقلاً عن السيّد محمّد تقي الحكيم (الأُصول العامّة للفقْه المقارن): 58.

(2) محمّد تقي الحكيم / الأصول العامّة للفقْه المقارن: ص 68.

(3) المصدر السابق: ص 58.

٣٤٢

هو ما ألزم الشارع بترْكه، ولمْ يرخّص فيه) (1) ، كشرب الخمر، وقتْل النفْس المحترمة، والزنا، والغيبة... الخ.

جـ - المندوب: (ويراد به ما دعا الشارع إلى فِعل متعلّقه، ولمْ يُلزِمْ به) (2) ، كصلاة النافلة، وقراءة القرآن، وغُسل الجمعة، وإقراض المحتاج، وقضاء حاجته... الخ.

د - الكراهة: (هي ردْع الشارع للمكلّف عن الإتيان بشيءٍ مع ترخيصه بفِعله) (3) ، كالتبوّل في الماء الراكد، وشمّ الصائم للرياحين، والضحك في المقابر... الخ.

هـ - الإباحة: (ويراد بها تخيير الشارع المكلّفين بين إتيان فِعلٍ وترْكه، دون ترجيح مِن قِبَله لأحدهما على الآخَر) (4) ، كركوب الإنسان السيّارة أو الطائرة، أو اختيار نوع العمل... الخ.

وإذن فما مِن فعلٍ مِن أفعال الإنسان، إلاّ ويدخل في دائرة هذا التنظيم القانوني والالتزام التشريعي.

وهناك دراسات تفصيليّة معمّقة للحُكم وتقسيماته. ولعلّ أكثر الأحكام تفريعاً وتقسيماً هو (الوجوب)، الذي قُسّم على عدّة أقسام مثل: العيني والكفائي، والتعييني والتخييري، والمؤقّت وغير المؤقّت، والمطلق والمقيّد، والتعبّدي والتوصّلي، والنفْسي والغيري، والمحدّد وغير المحدّد.

____________________

(1) المصدر السابق: ص 64.

(2) المصدر السابق: ص 62.

(3) المصدر السابق: ص 65.

(4) المصدر السابق.

٣٤٣

حالات وجود الحُكم:

وبعد أن عرّفت المدرسة الإمامية الحُكم بأنّه التشريع الصادر مِن الله سبحانه، اقتباساً مِن قوله تعالى: ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) (1) .

وأسّست على هذا الفهْم والتعريف، أنّ التشريع والقانون لا يكون تشريعاً إسلامياً إلاّ إذا صدر عن الله سبحانه، فهو تعبير عن إرادة الله ولُطفه بالعباد، اللذَين تحقّقا فيما صدر عنه سبحانه مِن وحيٍ لنبيّه الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وما صدر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِن سنّةٍ وبيان.

وبذا التزمت المدرسة الإمامية وآمنت بأنّ مصدر الأحكام والتشريع هو الكتاب والسنّة. وبما أنّ الكتاب والسنّة قد حمَلا التشريع إلى البشَرية بصيَغٍ تعبيرية متعدّدة؛ لذلك أصبحنا بحاجة إلى جُهدٍ عِلميٍّ لاستنباط الأحكام التي تحتاج إلى ذلك، ولعلّ أبرز حالات وجود الحُكم في مصادره هي:

1 - الحُكم الواضح الصريح (النصّ)، الذي لا إجمال فيه ولا معارض له، كحرمة الخمر، ووجوب الصلاة والصوم.

2 - الحُكم المجمَل الذي يحتاج إلى بيان.

3 - الحُكم الذي يحمل حالة التنازع والتعارض مع غيره، كورود النهي والإباحة في موردٍ واحد، وكالأمر بالشيء والنهي عنه.

4 - العمومات والإطلاقات التي تسلك كقواعد تشريعية عامّة تنطبق على

____________________

(1) سورة الشورى: آية 13.

٣٤٤

مساحات غير محدودة ممّا يدخل تحت هذا العموم أو الإطلاق، وورود المخصّصات والمقيّدات للعموم أو الإطلاق.

5 - التشريع المعلّل، ووحدة المِلاك في بعض الأحكام والتشريعات، ممّا يسري حُكمها إلى مساوياتها مِن شؤون الحياة البشرية، كتعليل حرمة الخمر بالإسكار، وسريان الحُرمة إلى كُلِّ مُسكر... الخ.

6 - مجيء بعض النصوص الناهية عمّا هو أقل فُحشاً وقُبحاً وضرراً، ممّا يدرج تحتها ما يفوقها بالفُحش والقُبـح والضـرر، كقوله تعالى: ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ) (1) ، الذي يحمل النهي عمّا هو أعظم منه بالقُبح والمنكر، أو الإلزام بيسير مِن المعروف والمصلحة، ممّا يوحي باحتمال عدم الترخيص بترْك ما يفوق في الأهمّية.

7 - وجود نصوص تُثبت البراءة مِن التكليف في كلّ مجال نشكّ بوجود تكليفٍ فيه، والذي أُصطلح عليه في لُغة علماء أُصول الفقْه بـ (أصل البراءة). وإذا قرأنا مجموع حالات وجود الحُكم أو احتمالها في ثنايا الكتاب والسنّة، تأكّد لنا أنّا لا نستطيع الحصول على الحُكم الشرعي بشكلٍ ميسّر إلاّ في الحالة الأُولى، أمّا في بقيّة الحالات، فعملية استفادة الحُكم مِن مصدره لا تحصل إلاّ عن طريق الاجتهاد وبذْل الجُهد العِلمي.

مراحل إثبات القطع بالحُكم الشرعي:

لقد صوّر علماء أصول الفقْه وجود الدليل القطعي على الحُكم الشرعي بمرحلتين، هما:

1 - مرحلة الاستدلال المباشر: وهي مرحلة وجود دليل مباشر على الحُرمة

____________________

(1) سورة الإسراء: آية 23.

٣٤٥

أو الوجوب، كدليل وجوب الصلوات الخمس، وكوجوب الصوم والحجّ، وكحرمة الخمر والزنا.

2 - مرحلة الاستدلال غير المباشر: ويقصد بها أن يرِد دليل قطعي على الإلزام بالعمل، بالأدلّة التي يستفاد منها أحكام ظنّيـة، كخبر الثقة وخبر العدْل الواحد.

فيمنح القطع الأوّل ذلك الدليل الظنّي درجة الاعتبار والإلزام، فيكون الظنّ بالحُكم الناتج عن هذا الدليل، ظنّاً شرعياً معتبـراً، يخرج مِن دائرة الظنّ الذي نُهي الإنسان عن العمل به، مثل قوله تعالى: ( وَمَا يَتَّبعُ أَكْثَرُهُمْ إلاَّ ظَنّاً إنَّ الظَّنَّ لا يُغني مِنَ الحقِّ شيئاً إنَّ اللهَ عليمٌ بما يَفْعَلُون َ ) (1)، وعندئذٍ يجب الالتزام والعمل بمؤدّى الدليل الظنّي، بعد أن اكتسب حجّيته مِن الدليل القطعي الدالّ على وجوب العمل به.

وهكذا اكتسبت أخبار الآحاد، والاستفادة مِن الظواهر اللفظية، وأمثالها مِن الأحكام الظنّية، اعتبارها الإلزامي.

مراحل البحث عن الحُكم:

إنّ رحلة البحث عن الحُكم الشرعي، كما صوّرها العلماء في فقْه الشيعة الإمامية - الفقْه الجعفري - تسير كالآتي:

1 - يبدأ العمل بالبحث عن الدليل القطعي الموصِل إلى الحُكم الشرعي، فإن وجَد الباحث هذا الدليل، كالخبر المتواتر مثـلاً، وجب العمل به، وسُمّي مَن توفّر له هذا الدليل بالعالِم أو القاطع.

2 - أمّا إذا لمْ يتوفّر له دليل قطعيّ، ولكنّه حصل على طريقٍ معتبَر إلى الحُكم، كخبر الثقة، أو العدْل، فإنّه ملزَم بهذا الحُكم أيضاً، وسُمّي هذا الباحث بمَن

____________________

(1) سورة يونس: آية 36.

٣٤٦

قام عنده الطريق.

3 - أمّا أذا لمْ يقُم عنده دليل قطعيّ، ولمْ يحصل له طريق إلى الحُكم المبحوث عنه، فعندئذٍِ يسمّى الباحث بالشاكّ أو الجاهل، وعندئذٍ أرجَعتْه الشريعة الإسلامية إلى ما يسمّى بالأصول العملية، فهي التي تحدّد وظيفته الشرعية، وعليه أن يعمل بها وفْق معايير وأُسس محدّدة.

٣٤٧

الأُصول العملية

وجدير ذِكره أنّ في كلّ مسألة مِن مسائل الحياة يوجد فيها أصل إلى جانب الحُكم الشرعي، فإن وُجد الدليل عليها عُمِل به، وإلاّ رجع المكلّف إلى العمل بذلك الأصل. وهذه الأصول العملية هي:

1 - الاستصحاب: ويعني إبقاء الحالة المتيقّنة السابقة، إذا شكّ في زوالها. كما لو كان على يقينٍ مِن أنّ هذه الأرض مغصوبة، ثمّ شكّ في زوال الغصب، فإنّه يبني على بقائه، فلا يتصرّف فيها.

وقد اعتمد فقهاء الإمامية تثبيتَ هذا الأصل، على ما ورَد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) مِن بيانات في هذا الشأن، كقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (مَن كان على يقينٍ ثمّ شكّ، فليمضِ على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين) (1) .

2 - البراءة: وهي أصل ينطبق عندما يشكذ الباحث عن الحُكم في أصل التكليف، فيشكّ في حُرمة شيءٍ أو وجوبه مثلاً؛ أي يشكّ هل هو مكلّف بهذا التكليف أو لا؟ ولمْ يقُم عنده دليل، ولا طريق على ثبوته، فعندئذٍ تكون ذمّته بريئة، ولا شيء عليه، كما أُوضح ذلك آنفاً.

3 - الاحتياط: هو لزوم الإتيان بما احتُمل وجوبه، وترْك ما احتُمل حرمته (2) . فالباحث عندما تحصل له شُبهة تحريمية أو وجوبيه؛ بسبب احتمال النصّ وعدم

____________________

(1) الحرّ العاملي/ وسائل الشيعة 1: 176/ ح 6 (باب 1 مِن أبواب نواقض الوضوء).

(2) عليّ المشكيني/ اصطلاحات الأُصول ومعظم أبحاثها: ص 42.

٣٤٨

وضوحه، أو اشتباه المصاديق عليه، فلا يستطيع تمييزها، أو تعارض النصوص، أو عدم وجود نصّ على المقصود عندما يكون مردّداً بين شيئين أو أكثر، فعَليه أن يعمل بهذا الأصل، وفْق تفصيلات ثبّتها العلماء في مظانّها.

4 - التخيير: هو عبارة عن حُكم العقل بتخيير المكلّف بين فِعل شيءٍ أو تركه، أو تخييره بين فِعلين، مع عدم إمكان الاحتياط.

فالتخيير يأتي عندما يواجه المكلّف أمرين لا رجحان لأحدهما على الآخَر، وليس في الإمكان الاحتياط، فعندئذٍ يكون مخيّراً بين الفِعل والترك.

٣٤٩

تقسيم الأُصول

ولتنظيم عملية الاستنباط ومنهجَة التفكير الأُصولي، درس علماء أُصول الفقْه الأُصول الأصلية دراسةً عِلميةً دقيقة؛ لأنّها مرجعهم عند الشكّ واليأس مِن العثور على دليل يوصلهم إلى الحُكم. فقسّموا الأُصول على قسمين هي:

1 - الأُصول العملية: كالاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، والتخيير، وأصل الطهارة، والصحّة، والفساد... الخ.

وسميّت هذه الأصول بالأُصول العملية؛ لأنّ مجال انطباقها هو عمل المكلّف وتعيين وظيفته. فهي الأصل الذي يرجع إليه المكلّف عند الشكّ في التكليف، واليأس مِن العثور على دليل.

2 - الأُصول اللفظية: وسميّت أصولاً لفظية؛ لأنّ مجال انطباق هذه الأُصول أو القواعد الأساسية هو الألفاظ اللغَوية.

وتسمّى أيضاً بالأُصول اللفظية العقلائية؛ لأنّ مجال انطباق تلك الأُصول هو الألفاظ اللغَوية وفْق طريقة العقلاء، عندما يتعاملون مع كلام المتكلّم.

وقد جرى المشرّع على طريقتهم، فأقرّ بذلك هذه الطريقة، فاكتسبت الحجّية الشرعية.

ومِن الأُصول اللفظية: أصالة عدم الوضْع، وأصالة عدم الاشتراك، وأصالة عدم النقل، وأصالة عدم الإضمار، وأصالة الظهور، وأصالة الحقيقة، وأصالة العموم وأصالة الإطلاق... الخ.

٣٥٠

فعندما نواجه نصّاً كلامياً، ونشكّ في ما أراده المتكلّم مِن كلامه:

هل أراد الحقيقة أو المجاز، فعندئذٍ يُبنى على أنّ مراد المتكلّم هو الحقيقة؛ لأنّ الأصل في الكلام هو الحقيقة، ما لمْ يثبت لدينا أنّه أراد المجاز. وإذا شككنا في ألفاظ العموم، هل أُريد منها عند استعمالها في هذا، الأعمّ أو الأخصّ، بُنيَ على أنّ المراد في هذا الكلام هو العموم؛ لأنّ الأصل في وضْعها هو إرادة العموم.

وإذا شككنا أنّ هذا اللفظ هو مشترك بين معنيَين مثلاً، أو هو خاصّ بهذا المعنى دون غيره، بُنيَ على أنّ اللفظ خاصّ بهذا المعنى وغير مشترك؛ لأنّ الأصل في وضع الألفاظ هو عدم الاشتراك، فيرجع إلى الأصل عند الشكّ. وهكذا يكون التعامل مع الأصول اللفظية جميعها.

وبتلك الدراسة نظّم عِلم أصول الفقْه عملية الرجوع إلى الأُصول الأصلية عند الشكّ، وانعدام الدليل المبيِّن للحُكم.

إنّ هذا الإتقان المنهجي في عملية الاستنباط، يكشف لنا عُمق ودقّة التفكير الفقهي في مدرسة الشيعة الإمامية، والحرص الشديد على فَهْم كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم، والأخْذ منهما لتنظيم الحياة البشَرية بشتّى مشاكلها وحوادثها واحتياج الإنسان إليها، ممّا يكشف عن الخصوبة التشريعية، والفهْم الأصيل، والوعي المتكامل، والارتباط الوثيق بخالق الوجود، والحرص على طاعته، والعمل بأحكامه.

٣٥١

٣٥٢

الفصل التاسع

المنهج السلوكي

في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

٣٥٣

٣٥٤

الرسالة الإلهية رسالة تربوية هدفها تربية الإنسان، وبناء شخصيته، وتنظيم سلوكه واتّجاهه الفكري والعملي في الحياة، وتكوين منهج وطريقة للفَهْم والسلوك.

ولقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله)، هو المربّي والمعلّم للإنسان وفْق منهج القرآن، الذي وعاه واستوعب أبعاده وأهدافه ومقاصده.

وبعد غياب الشخصية النبويّة بفترة زمنية، بدأ الانحلال التربوي، وبدأت عناصر عديدة تؤثّر في الفهْم الإسلامي لتربية الإنسان وسلوكيّته العامّة في الحياة، فكان هناك ثلاثة عناصر أساسية أثّرت تأثيراً بالغاً في الفهْم المنهجي، والنظرية السلوكية في المجتمع الإسلامي، وهي:

1 - السياسة.

2 - ثقافة الشعوب والأُمم التي تفاعلت مع الفكر والمجتمع الإسلاميين.

3 - الفهْم الذاتي والتكوين النفْسي للشخصيات التي حاولت أن تفْهم الإسلام، وتستنبط منه منهجاً سلوكياً، ونظريةً في الأخلاق والتربية والسلوك. ولتحديد النظرية السلوكية والمنهجية العملية أهمّية بالغة في حياة الأُمّة ووضْعها الحضاري.

فالإسلام، كما مارسه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، دِين عمليّ، ونظام

٣٥٥

اجتماعيّ، ومنهج يربط بين الدنيا والآخِرة، ويرفض الفصل بين المادّة والروح، والعبادة والعمل، والأخلاق والمجتمع، ويدعو إلى تكوين وبناء الإنسان الاجتماعي بأخلاقه وسلوكه وعباداته وقوانينه.

ويستطيع الباحث والمحلّل الحضاري والاجتماعي أن يجد تأثير العوامل الثلاثة الآنفة الذِكر في تكوين المنهج السلوكي، وبُنية الفرد والمجتمع المسلم بشكلٍ واضحٍ وجليّ، فتأثير السياسة في التفكير والوعي والتربية والمنهج السلوكي واضح مِن خلال تأثير جهاز السلطة، الذي آمَن بفهْمٍ معيّن للإسلام، في مجال العقيدة والفقْه والحياة السياسية والأخلاق، وعمل على تعميمه ونشره، فانتهج وضْعاً تربوياً ورؤىً ونظريات لصالح الوضع السياسي القائم في العهدين الأُمَويّ والعبّاسي، كالجبرية والإرجاء وعزْل العلماء عن السياسة، والخضوع للسلطة القائمة بالقهْر والغلَبة، وتكريس نظرية طاعة الحاكم الجائر، وحُرمة الردّ عليه، أو نقض بيعة الظالم والثورة عليه.

كما صنع الوضعُ الإرهابي للسلطات ردَّ فِعلٍ سلبياً لدى البعض مِن الصلحاء والعلماء، فلجأ إلى العزلة والانكفاء على الـذات؛ فنشأت في ظِلّ الإرهاب السلطوي وانغماس الحكام في القتل والصراع الدنيوي، والاشتغال بالملاهي والملذّات والجواري، واكتناز الأموال والمجوهرات والنفائس، نشأت فكرة الفصل بين الدِين والدنيا، وبين التفكير والعمل للحياة، والتفكير والعمل للآخرة، وكان هذا الفهْم مِن أخطر الكوارث التي حلّت بالتفكير والمنهجية الإسلاميين.

كما ساهم تفكير الشعوب اليونانية والبوذية والنصرانية والصينية والهندية؛ فنشأت الاتّجاهات الصوفية الانعزالية والرهبانية التي ترفض الحياة، وتدعو إلى الابتعاد عن الدنيا والانطواء الفردي، فنشأت نظريات أخلاقية تدعو إلى الفردية وتكامل الذات الفردي، في زوايا التكايا والخلَوات وشِعَب الجبال، وتكميل الذات

٣٥٦

بالمجاهدة الفردية والرياضات الروحية البعيدة عن المجتمع والحياة.

وتُعيننا التجربة والدراسات النفْسية، لاسيّما دراسات التحليل النفْسي على فهْم الشخصية واتّجاهها في الحياة، وتؤكّد أنّ النزعات الذاتية والتكوين النفْسي والعصبي، ومستوى قوى العقل مِن الوَهْم والخيال، والواقعية العِلمية تؤثّر في اتّجاه الشخصية في الحياة وقبولها لهذا المذهب السلوكي أو ذاك.

وقد نُظّرت كلّ تلك الاتّجاهات، وتحوّلت إلى فلسفات ونظريات سلوكية وأخلاقية وتربوية، ذات تأثير في الفكر والسياسة والممارسة الاجتماعية.

وكثيراً ما حاول أصحابُها التِماس الدليل الشرعي، بتطويع النصوص وتأويل المفاهيم مِن الكتاب والسنّة لصالح تلك النظريـات، وكانت هذه المحاولة المنهجية مِن أخطر المحاولات على فهْم الجانب العملي مِن الإسلام، بالإضافة إلى تحريف الفَهْم والنظرية.

وبما أنّ الوعي والمعرفة يتركان أثَرَهما الفعّال فّي السلوك والمنهج السلوكي، فإنّ الفَهْم والبُنية المَعرِفية التي أنتجَتْها مدرسة أهل البيت بفهْمِها ووعْيِها للرسالة الإسلامية، كانا قد بلوَرا نظريةً للسلوك متميّزة عن اتّجاهات إسلامية كثيرة، لاسيّما اتّجاه التصوّف، والعزلة الاجتماعية والأخلاقية الفردية.

فمثلاً كان الإيمان بوجوب الاستقامة التامّة في سلوكية الحاكم، والاعتقاد بالاختيار الإنساني، واعتماد الكتاب والسنّة مصدراً للفهْم والمعرفة، ونقاء التعامل معهما مِن الرواسب الفكرية الوافدة، واعتماد العقل والمنهج العقلي في بحث القضايا والاستدلال عليها، وقبول مبدأ التأويل الملتزم، ورفْض التفسير التبريري، كان قد أنتج شخصيةً لها اتّجاه سلوكي في الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية، وساهم مساهمةً فعّالة في بناء الحياة الإسلامية وإعطاء القيَم الرسالية، الصفة الاجتماعية والعملية، لاسيّما المشاركة في

٣٥٧

الحياة السياسية، وتبنّي دَور المعارضة للظلم والانحراف؛ فتبلور بذلك منهجٌ سلوكي لدى هذه المدرسة، يبتني على الأُسس الآتية:

1 - الإيمان بأنّ الإنسان كائنٌ مريدٌ مختار.

2 - العقلائية في الفَهْم، والتعامل مع المجتمع والغيب وظواهر الطبيعة والحياة، ممّا أبعد هذا الاتّجاه عن الخرافة والتخلّف والتحجّر الذهني.

3 - الإيمان بحُجّيّة الظهور في الكتاب والسنّة، والعمل بما أفاده ظاهر اللفظ وفْق نظام اللغة وقوانينها؛ ممّا أبعد الفكر والسلوك في هذه المدرسة عن الباطنية والتأويل، والتحريف والانحراف السلوكي.

4 - التربية الإيجابية تجاه مشاكل المجتمع السياسية والاجتماعية، مِن خلال العمل السياسي والمعارضة الفكرية والسياسية لحالات الانحراف.

5 - رفْض الفصل بين الدِين والسياسة، والدنيا والآخرة، مِن خلال الإيمان بمبدأ الإمامة، واتّحاد الخطّ الفكري والسياسي في شخصية الإمام.

6 - الوقوف بوجه السلوكية المنحرفة، التي فصلت بين عالَمَي المادّة والروح، والدنيا والآخرة، بالردّ على التصوّف والرهبانية والدخول في صراع فكري وسلوكي ضدّها.

وبذا بلورت مدرسة أهل البيت الخطّ السلوكي القويم للفرد والمجتمع والدولة، على أساس منهجٍ علميٍّ ورؤيةٍ عملية ومبدئية محدّدة، معبِّرة عن الوعي الإسلامي الأصيل والفهْم الكامل لمحتوى الرسالة الإسلامية وأهدافها؛ فانعكست على تربيتهم لإتباعهـم، وفي وصاياهم وحواراتهم ومناظراتهم لأصحاب المذاهب السلوكية، لاسيّما الجبريّة والمتصوّفة، والداعين إلى الرضوخ والطاعة للسلطان الجائر، والمتأوّلين لكتاب الله بالباطل، والمبتدعين للبِدَع والأضاليل.

٣٥٨

مِن قراءة ما صدر عن أهل البيت (عليهم السلام) مِن روايات ومناظرات وتفسير ومراسلات، والتي بلغت عشرات الآلاف في كتُب الحديث والسِيَر والفقْه والتفسير والأخلاق والعقيدة، نعرف أنّ الإيمان في هذه المدرسة يعني العمل والالتزام بكتاب الله والاستنان بسنّة نبيّه (صلّى الله وعليه وآله).

وأنّ جهادهم الفكري والسياسي كان متّجهاً لتربية الإنسان، ومواصلة عملية التغيير والبناء الفكري والسلوكي، الذي انتهجه الرسول الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ببناء فئةٍ وتيّارٍ مِن الأتباع الذين يحملون العِلم والوعي والعمل، فيكوّنون القوّة المغيّرة والحركة الفاعلة في تاريخ الأُمّة وعلاقتها بالرسالة.

وقد ترجم الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) هذا المفهوم بقوله: (لا يقبل الله عملاً إلاّ بمعرفة، ولا معرفة إلاّ بعمل، فمَن عرف دلّته المعرفة على العمل، ومَن لمْ يعمل فلا معرفة له، ألا إنّ الإيمان بعضه مِن بعض) (1) .

وبقوله: (مَنْ قال: لا إله إلاّ الله مخلصاً دخل الجنّة، وإخلاصه بها أن يحجبه لا إله إلا الله، عمّا حرّم الله) (2) .

وسأله أحد أصحابه، جميل بن درّاج عن الإيمان، فقال: (شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، قال: قلت: أليس هذا (بـ) عمل، قال: بلى، قلت: فالعمل مِن الإيمان؟ قال: لا يثبت لـه الإيمان إلاّ بالعمل، والعمـل منـه) (3) .

وهكذا يرتبط العمل بالإيمان، كما يرتبط بالمعرفة، ويقوم على أساسها، ويتكامل معها، فالمعرفة بالله ووَعْيِ شريعته، والإيمان به، والعمل والالتزام، حقائق ثلاث مترابطة في البناء الفكري والعملي، كما يصوّرها الإمام

____________________

(1) الكليني/ الأُصول مِن الكافي 1: 44 / ح 2 (باب مَن عمل بغير عِلم).

(2) الصدوق/ صفات الشيعة 12.

(3) الكليني/ الأُصول مِن الكافي 2: 38/ ح 6 (باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها).

٣٥٩

الصادق (عليه السلام).

والإنسان مسؤول عن الإيمان والعمل والمعرفة معاً، وعليه أن يتابع مع نفْسه عملية التغيير الذاتي ومحاسبة النفْس، ومواصلة السَير التكاملي في حياته الفردية والاجتماعية.

يوضّح الإمام عليّ الهادي (عليه السلام) هذه الحقيقة، ويؤكّد أنّ مَن لمْ يلتزم بأحكام الإسلام وقِيَمه ويحاسب نفْسه، فليس منهم، ولا يملِك حقّ الانتماء إليهم.

قال (عليه السلام): (ليس منّا مَنْ لمْ يحاسب نفْسه في كلّ يوم، فإنْ عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه، وتاب إليه) (1) .

وتتّجه التربية العملية في مدرسة أهل البيت، إلى تربية الضمير الإيماني والوازع الذاتي بالمحاسبة، وبناء الذات الداخلي والإخلاص البعيد عن الرياء والنفاق.

فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (قال الله (عزّ وجلّ): مَنْ ذكرني سرّاً، ذكرته علانية) (2) .

وروي عنه (عليه السلام): (شيعتنا الذين إذا خلَوا ذكروا الله كثيراً) (3) .

ويؤكّد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ معنى التشيّع لهم هو الالتزام النموذجي بالإسلام، وليس الانتماء الشكلي، كانتماء الفرد إلى عشيرته، بل هو انتماء فكرٍ وسلوكٍ ومنهجٍ لوعْيِ الإسلام وفهْمِه؛ لذا يصف الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ما يجب أن يكون عليه أتباع أهل البيت بقوله: (شيعتنا أهل

____________________

(1) الكليني/ الأُصول مِن الكافي 2: 453/ ح 2 (باب محاسبة العمل).

(2) المصدر السابق: ص 501/ ح 1 (باب ذِكر الله في السِرّ).

(3) المصدر السابق: ص 499/ ح 2 (باب ذِكر الله (عزّ وجلّ) كثيراً).

٣٦٠