نشأة التشيع والشيعة

نشأة التشيع والشيعة0%

نشأة التشيع والشيعة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 150

نشأة التشيع والشيعة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 150
المشاهدات: 21716
تحميل: 5147

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 150 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21716 / تحميل: 5147
الحجم الحجم الحجم
نشأة التشيع والشيعة

نشأة التشيع والشيعة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١٠١

تمهيد

إنَّ عملية الإعداد الفكري والتربوي (الرسالي) لولاية عليّ بن أبي طالب وخلافته، التي قام بها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تسير في خطين متوازيين ومتكاملين، وهما إعداد عليّعليه‌السلام وإعداد الأُمة في آن واحدٍ. فبينما نجدُ الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله يتعهد علياً برعايةٍ خاصة، تربيةً وتثقيفاً، فكرياً وعقائدياً، وفق برنامج دقيق ويومي متواصل، نجده صلوات الله عليه يتولّى تهيئة ذهنية الأمة المسلمة، وتربيتها فكرياً وعقائدياً أيضاً لترسيخ ولاية عليّ، وتأكيد أهليته لقيادة المسيرة الإسلامية، والتجربة الإسلامية بعده مباشرةً. وقد كان تدخل الوحي المباشر في كثير من الموارد والمناسبات - كما سيأتي - يصبّ هو الآخر في هذا الاتجاه.

لقد كان قرآن ينزلُ دائماً يحمل الإشادة بفضل عليّ تارةً، ويدلُّ على خصائصه تارةً، ويشخّصه دون غيره إلى أن يصل الأمر إلى تعليق إكمال تبليغ الرسالة على الإعلان عن ولايته، والتصريح بها

١٠٢

١٠٣

للأمة - كما سيأتي البيان -.

هذا ما سنحاول استيضاحه وتوثيقه في هذه الدراسة التي نلحقها بهذا البحث العميق والأصيل للشهيد الصدر (رضوان الله تعالى عليه).

وسنوزع هذه الدراسة على ثلاثة مباحث:

نعرض في المبحث الأول؛ عملية الإعداد الفكري والتربوي لعليعليه‌السلام من أجل تولي مهمة القيادة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ونعرض في المبحث الثاني عملية الإعداد الفكري والتربوي للأمة المسلمة من أجل تلك المهمة نفسها.

ونعرض في المبحث الثالث، مدخلية إفراد عليّ بعلم القرآن خاصةً بتلك المهمة نفسها.

وسنحاول في هذه الدراسة الموجزة تسليط الأضواء على تلك الحقائق معتمدين أصل البحث العلمي وقواعده، بعيداً عن المبالغات والتمحلات، مستندين إلى المصادر الحديثية والتفسيرية من مصنفات العلماء والمحدّثين والباحثين الفضلاء وخاصة من أهل السنة.

نستمد العون من الله تعالى وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٠٤

المبحث الأول : الإعداد الفكري والتربوي لعليعليه‌السلام

نستطيع القول بكل تأكيد أنَّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد قامَ بعملية الإعداد الرسالي «التربوي والفكري» لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام منذ صدع بالوحي، وكان صلوات الله عليه يضع الخطوات العملية من أجل بلوغ الغاية المتوخاة من ذلك، وهي تولّي عليّ للمهمة القيادية «الاجتماعية والسياسية» بعده مباشرةً. ويظهر لنا من سير الأحداث، وما تناقلته كتبُ السيرة والتواريخ، وما نقله الرواة الثقات، أنَّ ذلك تمَّ عن طريقين:

الأول : تعهد الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه بكفالة عليّعليه‌السلام منذ صغره، وتولّي تربيته ورعايته، والحرص البالغ على أن لا يفارقه إلاّ لضرورة.

والثاني : إفراد عليّعليه‌السلام من بين سائر الصحابة

١٠٥

بمقامات وعلوم ومواقف ترتبط بوجود الإسلام وبمستقبله.

فأما أولاً : فإنَّ كتب السيرة والرواية قد تكفلت ببيان تفصيلات وافية في هذا الصدد، حتى أن أمر تعهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي بكفالته منذ صغره، وتربيته في بيته من أوضح ما تزخر به سيرته الشريفة(١) ، ويكفي أن نوردَ ما بيّنه الإمام عليّعليه‌السلام نفسه في خطبته الشهيرة بالقاصعة إذ يقول: «وقد علمتم موضعي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حِجره وأنا وَلدٌ، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويُمسُّني جسده، ويُشِمني عَرْفَه. وكان يمضغ الشيء ثمّ يُلقمنيه، وما وجَدَ لي كذبةً في قولٍ، ولا خطلةً في فعلٍ... ولقد كنتُ أتّبعهُ اتّباعَ الفصيل اثرَ اُمِه، يرفع لي في كل يومٍ من أخلاقه عَلَماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاورُ في كل سنةٍ بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غيرَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجةَ وأنا، أرى نور الوحي والرسالة وأشمُّ ريح النبوة...»(٢) .

إنَّ هذه الصورة التي ينقلها لنا الإمام عليّعليه‌السلام نفسه عن كيفية وطريقة التعامل التي كان يتبعها النبي معه، تكشف لنا عن حقيقة وأبعاد الهدف الأعظم من ذلك.

____________________

(١) السيرة النبوية / ابن هشام / ج ١ / ص ٢٤٦، تحقيق مصطفى السقا وآخرون.

(٢) نهج البلاغة / ضبط الدكتور صبحي الصالح / خطبة ١٩٢ / ص ٣٠٠ /٣٠١.

١٠٦

إنَّ هذه التربية المخصوصة لعليّعليه‌السلام ، والرعاية الفائقة، والحرص على أن يكون عليٌّ قريباً جداً من أنوار الوحي، وأن يكون متعرضاً لنفحات النبوة، وأن يكون ثالث ثلاثة في بيت الرسول القائد حيث مهبط الوحي، فيتلقى في هذا المكان المشرف الدروس الأولى، والتوجيهات النبوية المباشرة، فينعكس ذلك على تكوينه الفكري والعقيدي «فلا يسجد لصنم قط»(٣) ولا يخالط عقله لحظة شرك، وينعكس على سلوكه «فلا كذبة في قول، ولا خطلة في فعل...» إنَّ هذا ليكشف عن إعدادٍ تربوي خاص بلا أدنى شك. ومما يلاحظ في هذا الصدد أن تعهد الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليٍّ بالرعاية والعناية الخاصتين لم يقتصر على فترة الطفولة والصبا، ولم يتوقف عند مرحلةٍ معينة لأننا نجدُ أن الرسول القائد كان حريصاً على أن يكون عليٌّ إلى جانبه دائماً لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، كما ورد عن عليّعليه‌السلام قال: «كان لي مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مدخلان، مدخل بالليل، ومدخل بالنهار...»(٤) بل نجد الرسول القائد لا يفارق عليّاً ولا يتركه إلاّ لضرورةٍ تتصل بحفظ حياة الرسول نفسه أو بحفظ الدعوة الإسلامية وحمايتها من أخطار محتملة.

____________________

(٣) مناقب أمير المؤمنين / ج ٢ / ص ٥٤٠ / حديث رقم ١٠٤٥ عن ابي سعيد الخدري، وراجع الروض الآنف / السهيلي / ج ٣ / ص ١٦ أول من صلى عليّ / الهامش (١) قال: وإليه ذهب سلمان وخباب وجابر وأبو سعيد كذا في الطبراني.

(٤) السنن الكبرى / الخصائص / النسائي / ج ٥ / ص ١٤١ ح ٨٥٠٢.

١٠٧

ونذكر على كلِّ حالةٍ مثالاً واحداً، لتأكيد المطلب.

أ - المورد الأول الذي يتصل بحفظ حياة الرسول القائد نفسه، وهو عندما تركَ رسولُ الله عليّاً ليبيت في فراشه ليلة هجرته(٥) المباركة إلى المدينة، إيهاماً لقريش المترصدين، وإنجاءً لنفسه صلوات الله عليه وآله وسلم من مؤامرتهم لقتله(٦) . وقد نزل في ذلك قوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ... ) (٧) كما ذكره الفخر الرازي(٨) .

ب - المورد الآخر الذي يتصل بحفظ الرسالة وحمايتها؛ وهو عندما أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخرج إلى بعض مغازيه - قيل تبوك - ترك علياً في المدينة خليفةً(٩) عنه، لأنَّ ابن أُبيّ بن سلول رأس المنافقين كان قد تخلف في المدينة، فاقتضى الموقف أن يُترك عليٌّ لمواجهة أي تطور غير محسوب قد يهدد دولة الرسول القائد في المدينة، ذكر الطبري: «أنه لما سارَ رسول الله - إلى - تبوك - تخلّف عنه عبد الله بن أُبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب - وكان عبد الله بن أُبيّ أخا بني عوف بن الخزرج - وعبد الله بن نَبْتَل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع،

____________________

(٥) سيرة ابن هشام / ج ٢ / ص ٩٥. مطبعة الحجازي / القاهرة / ١٩٣٧.

(٦) المصدر السابق.

(٧) البقره / ٢٠٧.

(٨) التفسير الكبير / ج ٥ / ص ٢٠٤ - نشر دار الكتب العلمية - طهران - ط ٣.

(٩) صحيح الترمذي / ج ٥ / ص ٥٩٦ - مطبعة دار الفكر - تحقيق كمال الحوت.

١٠٨

وكانوا - أي المذكورون - من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد الإسلامَ وأهله.

قال الطبري: وفيهم - فيما حَدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن اسحاق، عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري - أنزل الله تعالى:( لَقَدِ ابتَغَوُاْ الفِتْنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ... ) (١٠) ... وهنا أدرك المنافقون أنَّ بقاء عليٍّ في المدينة سيفوّت الفرصة عليهم، قال الطبري في تتمة الخبر: «فأرحف المنافقون بعلي بن أبي طالب، وقالوا: ما خلّفه إلاّ استثقالاً له وتخففاً منه. فلما قال ذلك المنافقون، أخذ عليٌّ سلاحه ثمّ خرج حتى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بالجُرف - موضع على مسافة من المدينة - فقال: يا نبي الله؛ زعم المنافقون أنّك إنما خلفتني؛ أنّك استثقلتني وتخففت مني! فقال: كذبوا، ولكني إنما خلفتك لما ورائي... أفلا ترضى أن تكون مني - يا عليّ - بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي!، فرجع عليٌّ إلى المدينة ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على سفره»(١١) .

وقد نقل البخاري(١٢) ومسلم(١٣) حديث المنزلة هذا، وفي الرواية عن سعد بن أبي وقاص: قال: خلّف رسولُ الله عليّاً - في بعض

____________________

(١٠) التوبة / ٤٨.

(١١) تاريخ الطبري / ج ٢ / ص ١٨٢ / ١٨٣؛ البداية والنهاية / ابن كثير / ج ٧ / ص ٣٤٠ وما بعدها.

(١٢) راجع التاج الجامع للأصول / الشيخ ناصف / ج ٣ / ص ٣٣٢ قال: رواه الشيخان والترمذي.

(١٣) صحيح مسلم / ج ٤ / ص ١٨٧٣.

١٠٩

مغازيه - في المدينة، فقال عليٌّ: يا رسول الله قد خلفتني مع النساء والصبيان؛ فسمعت رسول الله يقول: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبوةَ بعدي...»(١٤) ومن الأمور الملفتة للنظر أن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعبّرُ عن تلهفه وهواجسه عندما يغيب عنه عليٌّعليه‌السلام ، ويتطلع الى رؤيته والاطمئنان عليه، فعن أمّ عطية على ما أخرجه ابن كثير(١٥) وحسّنه، قالت: بعثَ النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله جيشاً، وفيهم عليٌّ. قالت: فسمعتُ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «اللهمَّ لا تمتني حتى تريني عليّاً»(١٦) .

ويصلُ الأمر أحياناً إلى أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما يُخصُّ بأكلةٍ لا يطيق أن يأكلها لوحده، ثمّ هو لا يكتفي بان يدعو الله إلى أن يشاركه عليٌّ بتلك الأكلة، بل يجعلها مناسبةً لبيان مقام عليعليه‌السلام ومنزلته، فعن أنس بن مالك قال: «كان عند النبي طيرٌ - وفي بعض الروايات طائر مشوي -(١٧) فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء عليٌّ فأكل معه...»(١٨) . ومن الملفت للنظر أن بعض الروايات تنقل أن

____________________

(١٤) صحيح الترمذي / ٥ / ص ٥٩٦.

(١٥) البداية والنهاية / ابن كثير / ج ٧ / ص ٣٥٧.

(١٦) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول / الشيخ منصور عليّ ناصف / ج ٣ / ص ٣٣٤ دار احياء الكتب العربية - طبعة باموق استانبول ط ٣ / ١٩٦١.

(١٧) البداية والنهاية / ج ٧ / ص ٣٥١.

(١٨) التاج الجامع للأصول / السابق / ج ٣ / ص ٣٣٦.

١١٠

محاولة جرت لصرف عليّ عند مجيئه الى بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد دعوته تلك، ولكنها فشلت بتدخل الرسول نفسه على ما نقله ابن كثير(١٩) .

ويستفاد من هذه الرواية - كما هو ظاهر - أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يُرسّخ ويؤكد أنَّ علياً هو أحب الخلق إلى الله تعالى أيضاً(٢٠) .

كل ذلك يدلُّ بما لا يدعُ مجالاً للشك على أنَّ التربية التي خصَّ بها نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله علياً، كانت تهدف الى إعداده وتهيئته لمسؤولية قيادة الدعوة، وليس لمجرد أن يكون أحد أركانها وكوادرها الأساسية. إذ وجدنا الرسول القائد يتعهد جمعاً من صحابته بالتربية والتثقيف والرعاية، ولكن ليس بمثل المستوى والطريقة والأسلوب والعناية التي اتبعت مع عليٍّ، مما يكشف أن المسؤولية المنوطة بعليّ هي أكبر بكثير من مسؤولية الآخرين.

أما الأسلوب الثاني : وهو افرادُ عليٍّ، واختصاصه بالعلوم، وخاصةً القرآنية، وبالمواقف الحاسمة في تاريخ الرسول والرسالة، وتثقيفه تثقيفاً مركّزاً بأحكام الشريعة؛ فإنّ هناك شواهد كثيرة، وادلةٌ وفيرةٌ عليه، ومن يراجع كتب الحديث والسيرة والتواريخ(٢١) يظفر بالكثير جداً.

____________________

(١٩) البداية والنهاية / ص ٣٥١ / ٣٥٢.

(٢٠) غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣٦، الهامش (٦). قال عن الحديث «وفيه أنَّ علياً رضي الله عنه أحب الخلق إلى الله تعالى».

(٢١) راجع مختصر تاريخ ابن عساكر / لابن منظور / ج ١٧ / ص ٣٥٦ وما بعدها، ج ١٨ إلى ص ٥١.

١١١

ونذكر أمثلةً وشواهد عليه تنثبيتاً للمطلب:

لقد تولّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، وبأمرٍ إلهي مهمة الإعداد الفكري والعلمي لعليٍّ، وتزويده دون سواه بالمعرفة القرآنية الشاملة، وباُصول العلوم وينابيعها، وبالحكمة وآدابها، وبتفهيم أحكام الشريعة حلالها وحرامها.

جاء عن عليٍّعليه‌السلام قوله: «علمني رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب ...»(٢٢) . وكان عليٌّعليه‌السلام تارةً يبادر هو بالحصول على المعارف والعلوم والأحكام من الرسول الأعظم، وتارةً يبادر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه بذلك؛ قال عليٌّعليه‌السلام : «كنت إذا سألتُ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطاني، وإذا سكتُّ ابتدأني..»(٢٣) . ثمّ قال مرةً: «إنَّ الله وهبَ لي لساناً سؤولاً، وقلباً عقولاً...»(٢٤) وفي حديث طويل تحدث الإمام عليّعليه‌السلام في هذا الصدد قائلاً: «ما نَزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آيةٌ إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله لي أن يعطيني فهمها وحفظها فما نسيتُ آية من كتاب الله تعالى، وعلماً أملاه عليَّ وكتبته

____________________

(٢٢) الارشاد / الشيخ المفيد / رواية عن عبد الله بن مسعود / ص ٢٢.

(٢٣) التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣٥، تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص ١٧٠، الصواعق المحرقة / ابن حجر / ص ١٢٦ / ١٢٧.

(٢٤) الاتقان / السيوطي / ج ٤ / ص ٢٣٤.

١١٢

منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك رسول الله علماً علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمرٍ ولا نهي كان أو يكون.. إلاّ علمنيه وحفظته، ولم أنسَ حرفاً واحداً منه...»(٢٥) .

وقد أورد السيوطي أن مُعَمر روى عن وهب عن أبي الطفيل قال: شهدتُ عليّاً يخطب وهو يقول: «سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلاّ أحدثكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلمُ أبليلٍ نزلت أم في نهار أم في سهل أم في جبلٍ...»(٢٦) .

قال السيوطي: «إنَّ أحداً من الصحابة لم يجرؤ على أن يقول سلوني غير عليّ...»(٢٧) .

وكل ما تحدث به عليٌّ، ونقله لنا التاريخ نقلاً أميناً، شهد به أجلاء الصحابة وأقرَّ به علماؤهم وكبارهم؛ فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود أنه قال: «إنَّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرفٌ إلاّ وله ظهرٌ وبطن، وإنَّ عليّ بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن...»(٢٨) . وجاء عن ابن عباس أنه قال: «والله لقد

____________________

(٢٥) نهج البلاغة / خطبة ٢١٠ ص ٣٢٥. ضبط الدكتور صبحي الصالح ١١٠، راجع أيضاً بحار الأنوار / المجلسي/ ج ٩٢ / ص ٩٩ طبعة طهران.

(٢٦) الاتقان / ج ٤ / ص ٢٣٣ وراجع طبقات ابن سعد / ج ٢ / ص ٣٣٨، الصواعق المحرقة ابن حجر / ص ١٢٧.

(٢٧) تاريخ الخلفاء / ص ١٦٦.

(٢٨) نقله في الاتقان / السيوطي / ج ٤ / ص ٢٣٣.

١١٣

أُعطي عليُّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم»(٢٩) ، وورد عنه أيضاً قوله: «كنا نتحدث أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إلى عليٍّ سبعين عهداً، لم يعهد إلى غيره»(٣٠) . وعملياً كان عليٌّ مرجع الصحابة في كل ما يعترضهم من المسائل العلمية والمشاكل الإدارية، والمعضلات القضائية. فلقد ثبتَ عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنه قال: «لولا عليٌّ لهلك عمر»(٣١) ، وأنه كان يقول: «أعوذ بالله من معضلةٍ، ولا أبو حسن لها...»(٣٢) ، وثبتَ عنه أنه قال: «أقضانا عليّ...»(٣٣) . والقضاء يعني العِلم بكل أحكام الشرع.

____________________

(٢٩) ينابيع المودة / القندوزي / ج ١ / ص ٦٨ / ٦٩.

(٣٠) حلية الأولياء / ج ١ / ص ٦٨ - دار الكتب العربية / بيروت / ط ٥.

(٣١) البداية والنهاية / ابن كثير / ج ٧ / ص ٣٥٩، وراجع تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص ١٧١.

(٣٢) المصدر السابق / ج ٧ / ص ٣٧٣، الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص ١٢٧.

(٣٣) الطبقات الكبرى / ابن سعد / ج ٣ / ص ٣٣٩ / ط ٢ دار الكتب العلمية / بيروت / ١٤٠٨ هجري.

١١٤

المبحث الثاني : إعداء الأُمة وتهيئتها لتولّي عليّعليه‌السلام الخلافة

لقد بدأت عملية إعداد الأُمة وتربيتها لقبول واستقبال خلافة عليّعليه‌السلام ، وقيادته للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، منذ وقتٍ مبكر، فعندما أُمر النبي الأكرم بالإنذار والتبليغ كما في قوله تعالى:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) (٣٤) قال الطبري: وكان قبل ذلك في السنين الثلاث من مبعثه إلى أن أمر بإظهار الدعاء إلى الله، مستسراً مخفياً أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنزل عليه:( وَأَنِذرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٣٥) ثمّ أخرج الطبري روايةً عن عبد الله بن عباس عن عليّ بن أبي طالب، قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) دعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لي يا عليّ إنَّ الله أمرني

____________________

(٣٤) الحجر / ٩٤.

(٣٥) الشعراء / ٢١٤.

١١٥

أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفتُ أني متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليه حتى جاءني جبريل، فقال يا محمد إلاّ تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربُّك؛ فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجلَ شاة، واملأ لنا عسّاً من لبنٍ ثمّ اجمع لي بني عبد المطلب حتى اُكلّمهم وأُبلغهم ما اُمرتُ به، ففعلتُ ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب والحمزة والعباس وأبو لهب...» وتكررت المحاولة فلما أكلوا وشربوا قال الطبري: «فتكلم رسول الله فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلمُ شاباً في العرب جاء قومَه بأفضل ما جئتكم به؛ إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن ادعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم. قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلتُ وأني لأحدثهم سنّاً، وأرمصهم عيناً... أنا يا نبي الله اكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثمّ قال: إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، قال - أي عليّعليه‌السلام - فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمعَ لابنك وتطيع...»(٣٦) .

ومن هذه الرواية يتضح لنا أن أول عملية لإعداد الذهنية من

____________________

(٣٦) تاريخ الطبري / ج ٣ / ص ٢١٨ / ٢١٩ / المطبعة الحسينية بمصر / الطبعة الأولى، راجع تفصيل الرواية وأسانيدها في ما نزل من القرآن في عليّ / لأبي نعميم/ جمع الشيخ المحمودي / ص ١٥٥. وراجع تفسير الخازن / ج ٣ / ص ٣٧١ طبعة دار المعرفة / بيروت.

١١٦

أجل قبول عليّ، وصيّاً وخليفةً، قد تمت في الوسط الخاص، (عشيرة النبي المقربين) وكان ذلك جنباً إلى جنب مع التبشير برسالته والإعلان عن نبوته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه.

ثمّ اتخذت عملية إعداد الأُمة منحىً آخر:

فقد بدأ القرآن يتنزل تباعاً، وبدأ عليٌّ يقاتل دونه مع رسول الله وبدأت الآيات القرآنية تنزل أيضاً في الإشادة بفضل عليّعليه‌السلام وبفضائله، لأجل نفس الهدف. وقد أخرج ابن عساكر على ما نقله السيوطي: «أنه ما نزل في أحدٍ من كتاب الله كما نزل في عليّ...»(٣٧) ، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس أيضاً «أنه نزلت في عليّ ثلاثمائة آية»(٣٨) .

ونورد هنا بعض الآيات التي ذكر غيرُ واحدٍ أنها نزلت في عليٍّ، وتدخل في هذا الإطار، أي تؤشر حقيقة إعداد الأُمة وتربيتها في هذا الاتجاه:

أ - جاء قوله تعالى:( إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحمَنُ وُدّ ) (٣٩) أخرج غير واحد من الحفاظ بأسانيد مختلفة أنها نزلت في عليّ، لأنَّ ما من مسلم إلاّ ولعلي في

____________________

(٣٧) تاريخ الخلفاء / ص ١٧١، الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص ١٢٧.

(٣٨) المصدران السابقان.

(٣٩) مريم / ٩٦.

١١٧

قلبه محبة...»(٤٠) .

فعن البراء بن عازب قال:«قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي بن أبي طالب يا عليّ: قل اللهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة.

فأنزل الله:( إنَّ الَّذِينَ آمَنُو ) قال: نزلت في علي»(٤١) .

ب - قوله تعالى:( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ... ) (٤٢) عن عليّعليه‌السلام قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبَّهَمْ... ) قال: «هم الذين بارزوا يوم بدر عليّ وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة...»(٤٣) .

ج - قوله تعالى:( وَرَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهمْ لَمْ يَنَالُواْ خيْراً وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ... ) (١٤٤) . روى غير واحدٍ أن عبد الله ابن مسعود كان يقرأ هذه الآية هكذا:( وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنَينَ القِتَالَ ) بعليّ بن أبي طالب(٤٥) .

____________________

(٤٠) راجع ما نزل من القرآن في علي / لابي نعيم الأصبهاني / جمع الشيخ المحمودي / ص ١٣٠ وما بعدها.

(٤١) شواهد التنزيل / الحسكاني / ج ١ / ص ٣٦٠ / ٣٦١ ط ١.

(٤٢) سورة الحج / آية ١٩.

(٤٣) التاج الجامع للأصول / ج ٤ / ص ١٨١، وقال رواه الشيخان (البخاري ومسلم) كتاب التفسير.

(٤٤) الأحزاب / ٢٥.

(٤٥) «ما نزل من القرآن في علي» / لأبي نعيم / تحقيق المحمودي / ص ١٧٢. وراجع ما نقله عن ميزان الاعتدال / الذهبي / ج ٢ / ص ٣٨٠ ترجمة عياد بن يعقوب تحت الرقم ٤١٤٩.

١١٨

د - قوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٤٦) .

ذكر غير واحدٍ من الحفاظ والمحدثين عن ابن عباس قال: هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام خاصةً(٤٧) .

ه - قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلواْ بُهتَاناً وَإِثْماً مُّبِين ) (٤٨) .

وورد بعدة طرق أنها نزلت في عليّ، وذلك أنَّ نفراً من المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه(٤٩) .

إنّ مما يؤكد أن هذه الآيات قد جاءت ونزلت لبيان منزلة عليعليه‌السلام وعظمة شخصيته، ودوره الكبير في حياة الرسالة والرسول، وأنَّ المؤمنين يلزمهم وعي هذه الحقائق والانقياد اليها، مما يؤكد ذلك هو ما جاء من الأحاديث النبوية في تثبيت هذه المعاني.

فقد روى الصحابي سعد بن أبي وقاص قال: «أمرني معاوية أن

____________________

(٤٦) التوبة / ١١٩.

(٤٧) «ما نزل من القرآن في علي» لأبي نعيم / ص ١٠٤، وراجع الهامش فقد نقل روايات بأسانيد مختلفة، وراجع أيضاً: الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص ١٥٢.

(٤٨) الأحزاب / ٥٨.

(٤٩) راجع تفسير الكشاف / ج ٣ / ص ٥٥٩.

١١٩

أسبَّ أبا التراب، فقلت: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله، فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهن أحبُّ إليَّ من حُمر النّعم، قد خلّفه رسولُ الله في بعض مغازيه، فقال عليٌّ: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان، فسمعتُ رسول الله يقول: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبوةَ بعدي(٥٠) ، وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الرايةَ رجلاً يحبُّ الله ورسولَه، ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، قال: فتطاولنا لها(٥١) ، فقال: ادعوا لي عليّاً، فأُتي به أرمد، فبصق في عينه، ودفع الراية اليه، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدعُ أَبنَاءَنَا وَأَبناءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبينَ ) (٥٢) دعا رسول الله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وقال: اللهم هؤلاء أهلي» رواه مسلم(٥٣) والترمذي(٥٤) .

إنَّ هذه الرواية - على طولها - التي رواها سعد تؤكد أموراً منها:

أ - نزول آية المباهلة - وهي الآية المذكورة في نص الرواية - في

____________________

(٥٠) حديث المنزلة سبق تخريجه، راجع التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣٢ رواه الشيخان والترمذي.

(٥١) راجع: الرواية عن أبي هريرة وفيها قال عمر: «ما أحببتُ الإمارة إلاّ يومئذٍ فتساورت لها...». التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣١ / رواه الشيخان.

(٥٢) آل عمران / ٦١.

(٥٣) صحيح مسلم / ج ٤ / ص ١٨٧٣.

(٥٤) صحيح الترمذي / ج ٥ / ص ٥٩٦، وراجع الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص ١٤٣. وراجع الرواية في التاج الجامع للأصول / ج ٣ / ص ٣٣٣.

١٢٠