التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏15%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135418 / تحميل: 6810
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

خلال حديثه معه بأنّه شيعي فيقول:

( بعد شي‏ء من التردد سألته: هل أنت شيعي؟

وتوقّعت أن يخرجه سؤالي عن هدوئه واتّزانه، وكأنّي عندما سألته كنت أقول له: (هل أنت زنديق)!!

ولكنّه أجاب ودون أن يطرف له جفن: نعم أنا شيعي؟!

قلت في نفسي: سبحان اللَّه، يقولها غير متحرّج ولا متأثّم، أيحسب أنّه بذلك يحسن صنعاً؟

وللحظة، حاولت أن أربط ما بين أفكاره العميقة وحججه المتينة التي أدلى بها أثناء الحوار وبين اعترافه الجري‏ء هذا بالتشيّع...

أخرجني من ذهولي سائلاً: وماذا تعرف أنت عن الشيعة؟

قلت: وما عساني أعرف عنهم غير مفارقتهم للسنّة والجماعة وجرأتهم على الصحابة وغلوّهم في تقديس الإمام علي.

ثمّ أردفت: لقد اطّلعت مؤخّراً على آراء الشيعة ومعتقداتهم ومواقفهم من الصحابة وكنت آمل أن التقي بشيعي حتى أسأله عن صحّة ما ينسب إليهم.

قلت ذلك وأنا أحاول جاهداً أن أخفي عنه خليطاً من الأحاسيس التي اجتاحتني في تلك اللحظة وأنا ألتقي وجها لوجه بشيعي، وأي شيعي! مثقّف، سياسي حركي وقوي الشخصيّة. الآن ربّما أحسم معه الكثير من القضايا العالقة، وربّما ينكشف من الحقائق ما أتمنّى نقيضه.

قد يثبت هذا الشيعي المتمكن - بالدليل - أن الخلافة كانت لعلي، فيثبّت تبعا لذلك أن الخلفاء غصبوه حقّه.

وقد يثبت أنّ عائشة لم تكن محقّة في خروجها على الإمام علي، ومن ثم تتحمّل المسؤوليّة كاملة عن دماء المسلمين التي أهدرت وعن مصالح الأمّة التي تضررت.

وقد يثبت أنّ الصّحابة عرفوا الحقّ لأهل البيت ثمّ أنكَروه، وهكذا تنهار الدعائم

١٢١

التي لم نعرف الدين إلّا قائماً بها.

الآن وقد تحقّق ما كنت أرجوه بلقائي بهذا الشيعي؛ أتمنّى لو أنّه لم يتحقّق ولم ألتق به.

كم هو مرير ذلك الإحساس الذي ينتاب الإنسان وهو يتوقّع أن تتحوّل كل الحقائق التي لديه إلى أباطيل، والمعتقدات إلى أوهام والرموز إلى أصنام.

أنا لا أريد شيئا من ذلك، لا أريد أن أكتشف شائبة في العلاقة بين علي وغيره من الخلفاء، أريد أن تكون واقعة الجمل شيئاً أشبه بالمسرحيّة، حيث يقتتل الممثّلون على المسرح، ثمّ يهنئ بعضهم بعضاً خلف الكواليس على ما حقّقوه من نجاح في أداء الأدوار.

حرصت أن أبدو أمامه متماسكاً ومعتداً بانتمائي المذهبي كاعتدادي بتميّزي الحركي!

فالمرء مهما كان هو ابن مذهبه، وإن جاز له الاعتراف بينه وبين قومه، باهتزاز الثّقة فيه، فليس له أن يكشف ذلك لأهل المذاهب المناوئة!

انطلاقاً من روح العصبيّة هذه، سمحتُ لنفسي أنْ أحادثه بلهجة فيها شي‏ء من النّصح والكثير من الاستهجان، فنحن ننتمي إلى الأصل، إلى (السنّة والجماعة)، وغيرنا مهما كانت مزاعمه، مفارق لهذا الأصل منشق عنه، وربما كان ذلك هو اعتقاد كل من يتبنى ديناً أو مذهباً، فهو الحق وهو الأصل، وإلّا لما تمسّك بشي‏ء من ذلك ودافع عنه، هذا بصفة عامّة وهناك من يحيد عن الحق ويتمسّك بغيره مدركاً للحقيقة، تحدوه مصالح مادّية أو عقد نفسيّة، وقد عبّر القرآن عن هذا الصنف بقوله تعالى:( وَجَحَدوُا بِهَا واسْتَيقَنَتهَا أنفُسُهمْ ظُلْمَاً ) (١) ، ولم نكن - وللَّه الحمد - من هذا الصنف الأخير.

وكأنّه أدرك عمقَ الأزمة التي أعيشها، تجاهل جلّ الكلام الذي قلته و الهجوم الذي واجهته به وأخذ يحدّثني عن العقل ودوره والمنهج السليم في قراءة التاريخ وخطر التعصّب وخطأ التقليد في العقائد، حتى كاد ينسيني الموضوع الأساسي.

____________________

(١) النمل: ١٤.

١٢٢

وللحقيقة فقد كان بارعاً سلس الحديث مرتّب الفكر، استطاع بلباقته وحكمته أن يمتص حماسي وينتزع تعصّبي، فلم أملك إلّا أن أصغي إليه بكل جوارحي.

وبعد أن فرغ من حديثه حول مناهج البحث وأصول الفكر، قمت بإطّلاعه على ما كان من أمري وأمر أصحابي وما نحن فيه من الحيرة وتشتت الفكر.

وعلى الأثر تشعّب الحديث بيننا دون أن ينال أيّاً من القضايا التاريخيّة والمذهبيّة، ولم يبدوا الأخ أيّ حرص على استدراجي أو تغيير قناعتي وكان خلاصة الحديث نُصحُه لي أن أبحث عن الحقيقة بتجرّد، وأن أحرّر عقلي من إسار التقليد والموروث.

وعدته بالعمل بنصحه، ولم أكن أتوقّع أن يكون للقائنا ذاك ما بعده، فهو نزيل بالفندق، يغادره بين يوم وليلة، فلا تبقى منه إلّا ذكرى هذا اللقاء المثير، لذلك سألته أن يعدّ لي قائمة بالكتب الضروريّة للبحث التاريخي والعقائدي.

فقال: هناك كتابان يعّد كل واحد منهما دليلا كاملاً لمراجع البحث، كما يعدّان من أقوى ما كتب حول الإمامة والمذاهب أحدهما (المراجعات) وهو عبارة عن رسائل متبادلة بين عالم شيعي هو سيّد شرف الدين الموسوي من جبل عامل في لبنان والشيخ سليم البشري، عالم مصري وأحد شيوخ الأزهر السابقين.

هذا الكتاب عظيم الفائدة ويخدم بحثكم كثيراً، لأن الجانب الشيعي اعتمد بالكامل في احتجاجه على المصادر المعتمدة عند السنّة، ولم يأت بدليل واحد من غيرها، وقد أقرّ الشيخ البشري، وهو ضليع في علوم الحديث، بصحّة جميع الأدلّة التي أوردها السيّد شرف الدين، وما انتهت المراسلات بينهما إلّا وكان قد أيقن بولاية أهل البيت‏عليهم‌السلام وإمامتهم.

ثمّ قال: هذا الكتاب لا أتوقّع وجوده بالمكتبات السودانيّة، وقد طفت على أكثرها ولم أره.

أمّا الغدير فهو موسوعة في التاريخ والعقائد قوامه أحد عشرة مجلّداً يدور حول محور الحديث النبويّ المشهور بل المتواتر الذي قاله النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان راجعاً من

١٢٣

حجّة الوداع امتثالاً لقوله تعالى:( يا أيّها الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أَنْزَلَ إلَيكَ مِنْ رَبّك وإنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بلّغْتَ رِسَالَتَه واللَّهُ يَعصِمُك مِنَ النَّاسِ ) (١) .

وأهمّ ما في الحديث قوله‏صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام مائة ألف صحابي أو يزيدون: (( ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم))؟ قالوا: بلى. قال:(( من كنتُ مولاه هذا علي مولاه، اللهمَّ وال من والاه و عاد من عاداه، وانصر من نصره وأخذل من خذله )).

ثم قال الشيخ إنّ هذا الكتاب موجود بمكتبة الدار السودانيّة للكتب. وهكذا ودّعته وقد عقدت العزم على شراء كتاب الغدير ).

المفاجأة الكبيرة:

ويضيف محمد علي المتوكّل:

( لم يهنّئني المنام في ليلتي تلك، إذ كان ذهني يسترجع محاور الحوار الذي دار بيننا مرّة بعد مرّة، وقد شغلني أمر الكتاب الذي تذكّرت أنه الكتاب ذاته الذي اطلع صديقنا طاهر على أحد أجزائه فدخل و أدخلنا معه في هذه الطرق الشائكة التي لا تؤمن عقباها.

في صباح اليوم التّالي وبينما كنت أتأهّب للذهاب إلى المكتبة لشراء كتاب الغدير كان ساعي البريد يسلم إلى موظّف الاستقبال مجموعة من الرسائل بينها مظروف مرسل عبري إلى أحد أصدقائي وكان على اتّصال بمؤسّسة البلاغ الإيرانيّة التي ترسل له كتيّبات ثقافيّة صغيرة. غير أنّ الأمر كان مختلفاً هذه المرّة فالمظروف أكبر من المعتاد، وكالعادة فضضت الظروف فوراً لأعرف الكتاب الذي بداخله.

وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما أخرجت كتابَ المراجعات من المظروف، بصراحة انتابني شي‏ء من الخوف في تلك اللحظة، فالحدث لم يكن بكل المقاييس

____________________

(١) المائدة: ٦٧.

١٢٤

عادياً. في الليلة السابقة تجمعني الأقدار بعالم من علماء الشيعة وكنت من قبل أبحث عن أحد عوامهم! ثمّ أسمع بكتاب المراجعات للمرّة الأولى فأجده في طريقي وأنا ذاهب لشراء الغدير!

فلم يخامرني شك في تلك اللحظة أنّ امراً ما له علاقة بالغيب يتحكّم في اتّجاه بحثنا فليكن ذلك هو توفيق اللَّه وهدايته التي يمنّ بها على من يسعى إليها( وَالّذينَ جاهَدُوا فِنَا لَنَهديَنَّهم سُبُلَنا ) )(١) .

السير في ظل العناية الربّانيّة:

يقول محمد علي المتوكّل:

( أخذت أتصفّح الكتاب وأتنقّل بين عناوينه، فما من سؤال راود ذهني قبل ذلك إلّا وكان الكتاب قد تناوله بشكل أو بآخر، وكأنّه كتب لأمثالي ممن تبيّنوا، في جانب من الطريق أنّ هناك سبلاً أخرى ربما كانت هي الأقرب؛ بل الأصوب.

عدت بالكتاب إلى غرفتي وقد توقّفتْ تلقائيّاً كل برامجي وأعمالي، وتعطّلت الهموم إلّا هم واحد؛ هو اكتشاف الحقيقة.

شرعت بالقراءة، وكان الشيخ سليم البشري يجادل عنّي، ويطرح أسئلتي، بل يطرح ما هو أشمل وأعمق منها، فيرد عليه السيّد شرف الدين الموسوي بثقة العارف ويقين المؤمن. وأنا بين هذا وذاك تقذفني موجة من شك إلى أخرى من يقين ثم يحدث العكس، ويخامرني الشك حول الشيخ البشري وبساطة تعاطيه مع مناظره إذ يتنازل دون تردد عن موقفه كلّما واجهه الآخر بالحجج والأدلّة.

وكأني وددت لو أنّه يماري قليلاً أو يبدي إصراراً على رأيه!! فأراجع نفسي وأقول ماذا يضير الرجل إن كان موضوعيّاً ومخلصاً للحقيقة؟ فهو بذاك إلى القوّة أقرب منه

____________________

(١) القصص: ٦٩.

١٢٥

إلى الضعف، إذ لا يجد حرجاً في الاعتراف للطرف الآخر بقوّة الحجّة وسلامة الموقف وصحّة المعتقد حتى ولو كان في ذلك اعتراف بالعكس.

كنت أطوي الصّفحات طيّاً في شبه ذهول عن الوقت وما يجري من حولي، وعندما كان وقت صلاة العصر كنت قد بلغت من الكتاب مداه وقلبت آخر صفحاته. ولقد قرأت من قبله الكثير، وتأثّرت ببعض ما قرأت... بيد أنّ (المراجعات) كان شيئاً آخر!

وساعات من نهار قضيتها متنقلا بين صفحاته أجبرتني على العودة من أوّل الطريق، أرغمتني على وضع كل الماضي وكل الموروث على صدر علامة استفهام كبيرة ).

العودة إلى نقطة الصفر:

يستمرّ محمد علي المتوكّل في سرد حكايته قائلاً:

( والآن على أنْ أرى ذلك الذي أوصاني بهذا الكتاب... لأقول له أنّ الذي جمعني بك قد وضع بين يديّ كتاب المراجعات الذي عهدي باسمه البارحة، فمن أنت؟ وماذا تريد؟ وكيف أتيت إلى هنا؟ ومن ذا الذي أرسلك إلينا؟ أتراك تعي أو تقصد ما تحدثه في حياتنا؟...

كل تلك الأسئلة كانت تتشابك في ذهني بينما كنت أطرق باب غرفته بيد مرتجفة، مددت إليه الكتاب، تناوله قائلاً: نعم، إنّه هو، من أين أتيت به، فأخبرته بقصّته. ثمّ سألني عن رأيي فيما قرأت.

فقلت له: أرجعني المراجعات إلى نقطة الصفر، محا من ذهني و روحي كل الماضي، فما أحوجني الآن إلى من يمسك بيدي ويخرجني مما أنا فيه، وما أحسبه إلّا أنت.

فردّ بكل تواضع: أستغفر اللَّه، وهل أنا وأنت إلّا سواسية في طلب الحقّ والبحث عن الهدى، ومع ذلك لا بأس في التحاور والتباحث ف( إنّ أعقل النّاس مَن جمع عقولَ النّاس إلى عقله).

١٢٦

عندئذٍ حدثته عن المجموعة التي أشاركها البحث والتنقيب عن الحقيقة، فبدا متحمّساً لرؤيتهم، وكنت بدوري أتعجل لقياهم حتى أزفّ إليهم الأخبار الجديدة وأطلعهم على (المراجعات).

وهكذا أطلعتهم على المستجدّات التي كانت في نظرهم فتحاً وتوفيقاً إلهيّاً، ودليلاً على سلامة التوجّه واستقامة طريق البحث.

وفي أوّل لقاء للمجموعة مع الشيخ، كان هناك إحساس مشترك يغمر الجميع، الإحساس بآثار رحمة اللَّه ودلائل الاستجابة للدّعاء، وإحساس آخر بالأُلفة تجاه ذاك الرجل الذي كان بمثابة يد امتدّت لغريق ).

البحث بصورة منظّمة:

ويضيف محمد علي المتوكّل:

( انتظمت جلساتنا معه صباحاً ومساء، طيلة شهر كامل، فتحنا خلاله كل الملفّات المغلقة، تنقّلنا بين أطلال الماضي وبحثنا تحت الأنقاض، أيقظنا الكثير من الحقائق النائمة في طيّ النسيان.

تارة لا نملك إلّا أن نسلّم له ونوافقه الرأي، وتارة نعارضه ونقف وإيّاه على طرفي نقيض، ونُثير الشبهات ونطرح الأسئلة.

كنّا، كمجموعة، نتّفق في بعض الأحيان، وأحياناً أخرى نختلف، عندما ينضم بعضنا إلى جانبه ويعارضه الآخرون، وهكذا كانت الرؤية تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، وقد تصدرت القضايا التاريخيّة قائمة الموضوعات المثارة.

كان يتحاشى التطرّق إلى المسائل التي من شأنها استفزاز مشاعرنا، وبالمقابل يسهب في الحديث عن أهل البيت فلا نملّ ولا نسأم، بل نطالب بالمزيد، إذ كنّا لا نعرف شيئاً عنهم، ومن لم يعرف أهل البيت لم يعرف شيئاً من الإسلام.

أحياناً كثيرة يلتقي الحديث عن أهل البيت بالحديث عن غيرهم من الصّحابة،

١٢٧

فتبدو الصورة على غير ما نحبّ.

فنحن، مثلاً، وقد بدأنا نكتشف بعض جوانب العظمة في شخصيّة الزهراء، ترتسم في مخيّلتنا طبيعة العلاقة التي كانت بينها وبين أصحاب رسول اللَّه المقرّبين، فمن المؤكّد أنّهم أحبّوها كما أحبّوا أباها، وأكرموها إكراماً له وإقراراً بعظمتها وعرفاناً لحقّها، تلك أمانينا، ونتلهّف إلى أن نسمع تصديقها من الشيخ، فيتردّد ويُناور حتى لا يفتح الملف المطلوب، وعندما نلح عليه يبوح بما عنده، فيعتصر الألم قلوبنا، ونكون بين مصدّق ومشكّك، كيف تموت الزّهراء في رفعتها وعظمتها وسموّ مقامها، غاضبة على كبار الصحابة، ومن أين أتوا بالجرأة ليغضبوها؟

وعلي، ذلك الصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، المأمول من كلّ الذين نحبّهم ونقدّسهم من أصحاب رسول اللَّه أن يكونوا على وفاق كامل معه، ولكن الحقيقة تأتي بعكس ما نهوى، فنعاني التنازع والانفصام في عواطفنا، نحن نقّدرهم جميعاً، وهم يحيف بعضهم على بعض، ويبغض بعضهم عليّا، يبغضه وهو يسمع قول النبي عن علي أنه لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق)(١) .

تبدّد الغيوم عن وجه الحقيقة:

يقول محمد علي المتوكّل:

( شيئاً فشيئاً بدأنا ندرك أنّ الكثير من الحقائق المُكتشفة لا يمكن قبولها إلّا بعد التخلّي عن مسلّمات قديمة، وأننا بصدد التوصّل إلى دعائم جديدة يقوم عليها الدّين، وهي أعلى وأسمى من تلك التي توهّمنا أنّ الدّين قائم بها.

بتعبير آخر لقد بتنا على ضوء تلك المستجدّات، مطالبين باتّخاذ موقف فاصل،

____________________

(١) روى‏ مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان: ١/٤٦؛

عن الإمام علي قوله:(( والذي فَلقَ الحبّة وبرأ النّسمة إنّه لعهد النبيّ الأمّي إلى انه لا يحبّني إلّا مؤمنٌ ولا يبغضني إلّا منافق)).

١٢٨

ولا مجال للتمييع. وإلّا كنّا مثل ذلك الانتهازي الذي قال في فترة التمرّد العسكري الذي قاده معاوية ضدّ الإمام علي‏عليه‌السلام : الأكلُ مع معاوية أَدسم، والصّلاة مع على أتمّ، والوقوف على التلّ أسلم.

سارع بعضُنا إلى اجتياز هذه العقبة النفسيّة، واستطاع أن يتخطّى الماضي ومخلّفاته والتقليد وقيوده، فلم يعد يتردّد في القبول بنتائج البحث، مهما كانت قاسية ومريرة.

ولكنّي ومع آخرون، توقفت كثيراً وفكّرت طويلاً لَعَلّي أوفّق بين هذا الولاء الذي أخذ يتجذّر في قلبي لأهل البيت، وبين ولاءات سابقة، انتفت عوامل بقائها، ولم يبق منها سوى بعض الرّواسب النفسيّة. ولكن هيهات،( مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرجُلٍ مِن قَلبَينِ في جَوفِهِ ) (٢) ، ولا مكان للغير في نفس بات يعمرها الحبُّ والولاء لأهل البيت.

لم يتعرّض الشيخ للمسائل الفقهيّة، ولم يبد ملاحظة على ما نحن عليه من فقه، وبدوري كنت أمنّي نفسي وأرجو أنْ لا تكون هناك اختلافات فقهيّة بين مذهب أهل البيت ومذاهب أخرى.

إذ كَم هو قاس أن تكتشف أنّ الفقه الذي عملت به طيلة سنوات مضت يعاني من خَلَل في بعض جوانبه.

وكم هو عسير أن تتواءم نفسيّاً وعمليّاً مع أحكام جديدة غير التي اعتدت عليها!

لذلك استنكرت نفسي ما شاهدته من تفاوت، لكنّي فوجئت عندما بدأت ألاحظ بعض الأشياء الغريبة في وضوء الشيخ وصلاته، استفسرنا منه عنها فكان عنده على كل حكم دليل، مع ذلك أبت نفسي أن تسلّم.

وكنت أقول للآخرين أنّني لن أتبع الشيعة في كلّ شي‏ء، وكوني أوافقهم الآن فيما يتعلّق بولاية أهل البيت لا يعني أن أقلّدهم في كلّ شي‏ء، لاسيّما هذه المسائل الفقهيّة التي لا يؤيّدها العقل، وأيّهما أفضل، غسل الرجل وإزالة ما يعلق بها من غبار وغيره، أم

____________________

(١) الأحزاب: ٤.

١٢٩

تمرير اليد المبتلّة عليها فلا تزداد إلّا اتّساخاً؟!

ولكن الأخوة كان بعضهم قد وطّن نفسه على قبول كل ما يقول به الشيعة، بعد أن أسقط الاعتبار عن السبل الموازية لأهل البيت. وهكذا كنّا في جدل دائم حول القضايا الفرعيّة مع اتفاقنا الكامل على الأصول.

وعندما طرحنا الأمر على الشيخ تجنّب الخوض في التفاصيل الفقهيّة، ولكنّه أرسى قاعدة وأوصى باتّباعها، وهي عدم مناقشة الأحكام الفقهيّة من حيث حِكَمها وعِلَلها إلّا بعد التّحقق من مصادرها، وما يثبت وروده عن النبيّ وأهل بيته صحيح، حتى ولو خالف المألوف ولم تَستوعبه العقول، إذ ليس للرأي مكان في الفقه ).

مرحلة اقتطاف ثمار البحث:

يقول محمد علي المتوكّل:

( في نهاية المطاف، وبعد شهر من الحوار الدائم، والتحقق من صحّة الأدلّة التي أوردها الشيخ في المصادر السنّيّة، كانت الرؤية قد اتّضحت تماماً، وزالت الشبهات، وتخطّينا الحواجز النفسيّة والعاطفيّة، ولم يبق إلّا أن نتعرّف إلى الدّين من جديد بعد أن اكتشفنا الطرّيق الموصل له، وحدّدنا الجهة التي منها نأخذ ديننا.

عندئذٍ قرّر الشيخ الرحيل، تاركاً خلفه خمسة مستبصرين وآخرين على طريق الاستبصار، يكونون فيما بعد نواة للتشيع في السودان، وبداية لحركة استبصار واسعة النطاق تشمل في غضون عشرة أعوام، كافة أنحاء السودان، وتؤسّس العديد من المؤسّسات الثقافيّة التي تضطلع حتى الآن بدور مشهود في تصحيح المسار الفكري والعقائدي الذي تعرّض عبر القرون لمؤامرات الطمس والتحريف )(١) .

____________________

(١) محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٤٢-٥٠.

١٣٠

الدافع الرابع:

قوّة أدلّة الشيعة

إنّ من أهمّ العوامل التي تدفع الباحث السنّي حين التقائه بأحد أتباع مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام إلى تقبّل كلامه هي الأدلّة التي يستقيها الشيعي من الكتاب والسنّة في بيان معتقدات مذهبه، بحيث تأخذ هذه الأدلّة نتيجة قوّتها بيده حتى تبلغه مرتبة القناعة الكاملة بأحقيّة مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام .

ويقول محمد مرعي الانطاكي في هذا المجال:

( من جملة الأسباب التي دعتنا إلى التشيّع، هي وقوع كثير من المناظرات التي جرت بيني وبين بعض علماء الشيعة.

وفي حال المناظرة كنت أجد نفسي محجوجاً معهم، غير أنّني أتجلّد وأدافع دفاع المغلوب، مع ما أنا عليه بحمد اللَّه تعالى من الاطّلاع الواسع والعلم الغزير في المذهب السنّي الشافعي وغيره، إذ أنّني تلمّذت حوالي ربع قرن على فطاحل العلماء والجهابذة على مشيخة الأزهر حتى حصلت لي شهادات راقية )(١) .

ويصف التيجاني السماوي حجج الشيعة الرصينة والواضحة قائلاً:

( وليس دليل الشيعة دليلاً واهياً أو ضعيفاً حتى يمكن التغاضي عنه وتناسيه بسهولة، وإنّما الأمر يتعلّق بآيات من الذّكر الحكيم أنزلت في هذا الشأن وأولاها رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله من العناية والأهميّة ما سارت به الركبان وتناقله الخاص والعام حتى ملأت كتبَ التّاريخ والأحاديث وسجّله الرواةُ جيلاً بعد جيل )(٢) .

ولهذا يقول التيجاني السماوي في هذا المجال:

( ممّا زاد قناعتي بأنّ الشيعة الإماميّة هي الفرقة الناجية هو أنّ عقائدهم سمحة

____________________

(١) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٥١.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ لأكون مع الصّادقين: ٤٤.

١٣١

وسهلة القبول لكلّ ذي عقل حكيم وذوق سليم، ونجد عندهم لكلّ مسألة من المسائل ولكلّ عقيدة من العقائد تفسيراً شافيا كافياً لأحد أئمة أهل البيت‏عليهم‌السلام ، قد لا نجد لها حلّاً عند أهل السنّة وعند الفرق الأخرى )(١) .

ويذكر التيجاني السماوي أيضاً في كتابه ( كل الحلول عند آل الرسول ):

( ونحن إذ قدّمنا في كتبنا السابقة ومن خلال الأبحاث العلميّة والتاريخيّة بأنّ الشيعة الإمامية الإثني عشرية هي الفرقة الناجية التي تمثّل الخطَّ الإسلامي الصّحيح، فليس ذلك الحكم هو وليد الظروف والملابسات التي عشتها وتفاعلتُ معها فحسب، وإنّما هي حقيقة أثبتها النّقلُ من خلال القرآن والسنّة كما أثبتها التاريخ الذي سَلِم من التزييف والتحريف، واهتدى إليها العقل بما وهبه اللَّه سبحانه من قدرة التميّز وإثبات الدّليل.

فقال عزّ من قائل:( فبَشِّر عِبَادِ * الّذينَ يَستَمعوُنَ القولَ فيَتَّبعوُنَ أحسَنَه أولئِكَ الّذينَ هَداهُم اللَّهُ وأولئك هم أولُوا الأَلبابِ ) (٢) .

وقال في حقّ الّذين عطّلوا عقولَهم فاستحقّوا العذاب:( وقالوا لو كنّا نسمَعُ أو نعقِلُ ما كنّا في أصحابِ السّعير.. ) (٣) )(٤) .

ويقول محمد الكثيري حول مدى قوّة عقائد الشيعة وأدلّتهم الوضاءة والمشرقة حين مقارنتها مع أدلّة غيرهم:

( إنّ هذه الكتب السلفيّة التي تنشرها المملكة السلفيّة للطعن في عقائد الشيعة، تُساهم من جانب آخر في نشر التشيّع، لأنّه يكفي أن يطّلع أبناء الصَحوة على عقائد الشيعة في كتبهم ومجلّاتهم وعند المقارنة تنهدم صروح الكذب السلفيّ بسرعة،

____________________

(١) المصدر السابق: ٢٤.

(٢) الزمر: ١٨.

(٣) الملك: ١٠.

(٤) محمد التيجاني السماوي/ كل الحلول عند آل الرسول: ١٧.

١٣٢

ويتحوّل أبناءُ الصّحوة بعد اكتشاف الحقيقة إلى أعداء للدعوة السلفيّة ومبادئها، ويعتنقون التشيّع زرافات، وهذا ما يقع حاليّاً )(١) .

ويُعلّل محمد الكثيري هذا الأمر قائلاً:

( وبالجملة فليس هناك عقيدة أو فكرة يدعو لها الشيعة الإمامية إلّا ولها مستند قويّ، ليس في القرآن وما صحّ من السنّة لديهم، بل ما صحّ من السنّة لدى‏ خصومهم.

لذلك ترى المتشيّعين من أبناء السلفيّة أو أهل السنّة اليوم لا يرجعون في الاستدلال على عقائد الشيعة التي اعتنقوها إلى مصادر الشيعة التاريخيّة والحديثيّة، بل يجدون مُبتغاهم في تراث أهل السنّة والسلفيّة، وهذا ممّا يزيدهم اطمئناناً وإيماناً بصحّة عقائد الشّيعة وما يَدعون إليه )(٢) .

ويشير محمد مرعي الانطاكي إلى قوّة أدلّة الشيعة خلال ذكره الأسباب التي دعته إلى الالتحاق بمذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام قائلاً:

( هي أمور كثيرة، نذكر منها:

أوّلاً: رأيت أنّ العمل بمذهب الشيعة مجزٍ، وتبرأ به الذمّة بلا ريب، وقد أفتى به كثيرٌ من علماء السنّة من السّابقين واللاحقين، وأخيراً منهم الشيخ الأكبر زميلنا الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر بفتواه الشهيرة المنتشرة في العالم الإسلامي(٣) .

____________________

(١) محمد الكثيري/ السلفيّة: ٦٦٨.

(٢) المصدر السابق: ٦١٥-٦١٦.

(٣) محمد مرعي الانطاكي: وإليك أخي القارئ‏ نص فتواه - كما ذكرها الشيخ المظفّر في عقائد الإماميّة - في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة:

أوّلاً: - إنّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معيّن، بل نقول: انّ لكلّ مسلم الحقّ في أن يقلّد بادئ‏ ذي بدء أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصّة.

ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أيّ مذهب كان - ولا حرج عليه في شي‏ء من ذلك.

ثانياً: - إنّ مذهب الجعفريّة المعروف بمذهب الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة، مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وان يتخلّصوا من العصبيّة بغير الحقّ لمذاهب معيّنة، فما كان دين اللَّه وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أم مقصورة على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند اللَّه تعالى، يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرون في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.

شيخ الجامع الأزهر

محمود شلتوت‏

١٣٣

ثانياً: ثبت عندي بالأدلّة القويّة والبراهين القاطعة والحُجج الدامغة الرّصينة الواضحة التي هي كالشمس الساطعة في ضاحية النهار، ليست دونها سحاب، أحقّية مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام وأنّه هو المذهب الحقّ الذي أخذه الشيعة عن أئمة أهل البيت عن جدّهم رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن جبرائيل، عن الربّ الجليل، وليس فيه دخيل، ولن يرضوا عنه بديلاً حتى يلقوا الربّ الجليل.

وأخذه الثقاة عن الثقاة من يوم البِعثَة إلى يوم البَعث لا يختلف آخرهم عن أوّلهم.

ثالثاً: إنّ الوحي نزل في بيتهم، وأهل البيت أدرى وأعرف بما في البيت من غيرهم.

فجدير بالعقل المتدبّر أن لا يترك ما صحّ لديه من الأدلّة منهم ويأخذ من الأجانب الدخلاء.

رابعاً: - كثير من الآيات الواردة في الذكر الحكيم والقرآن المجيد، دالّة على مدّعانا...

خامساً: كثير من الأحاديث المأثورة، والأخبار الواردة عن لنبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله دالّة على ذلك، وقد ذكرها الفريقان - السنّة والشيعة - في كتبهم )(١) .وقد أنشد محمد مرعي الانطاكي حول سبب استبصاره قائلاً:

____________________

(١) محمد مرعي الإنطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٤٩-٥١.

١٣٤

لماذا اخترتُ مذهبَ آل طه

وحاربت الأقاربَ في وِلاها

وعفتُ ديارَ آبائي وأهلي

وعيشاً كان ممتلأً رفاها

لأنّي قد رأيتُ الحقَّ نصّاً

وربّ البيت لم يألف سواها

بالاستمساك بالثقلين حازت

بأولاها وأُخراها نجاها

وصارت أعظم المخلوق قدراً

واورثها الولا عزّاً وجاها

ولا أصغي لعذل بعد علمي

بأنّ اللَّه للحقّ اصطفاها

ولا أهتمّ في الدّنيا لأمر

إذا ما النّفس وافاها هُداها

فمذهبي التشيّع وهو فَخْر ٌ

لمن رام الحقيقةَ وامتطاها

وفرعي من عليّ وهو درّ

صفا والدّهرُ فيه قد تباها

وهل ينجو بيوم الحشر فردٌ

مشى في غير مذهبِ آل طه؟!(١)

الدافع الخامس:

قراءة الكتب الشيعيّة أو كتب المستبصرين:

كانت المطالعة والانفتاح على التراث الشيعي أحد أسباب استبصار بعض المستبصرين واعتناقهم لمذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام ، منهم إدريس الحسيني حيث أنّه يقول:

( لا أحد أخذ بيدي - بصورة مباشرة - إلى هذه المدرسة. لقد اندفعتُ إلى ذلك بنفسي معتمداً على امكاناتي، ربّما كانت هناك ظروف وملابسات لها مدخليّة كبيرة في هذا الاختيار، كنت يومئذٍ شابّاً غضّاً طري العود، لكن أسئلتي كانت كبرى.

لقد تعرّفت على هذا المذهب عن طريق البحث والدراسة والإصرار على المعرفة. والحمد للَّه أصبحت شيعيّاً مواليّاً )(٢) .

____________________

(١) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٤٩٣.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ٣.

١٣٥

أهمّ الكتب التي تأثّر بها المستبصرون:

كتاب المراجعات‏

يُعتبر كتاب (المراجعات) للسيّد عبد الحسين شرف الدّين رحمه اللَّه من أبرز الكتب التي تركت تأثيراً واضحاً على المستبصرين، ولهذا الكتاب الفضل في تكوين قناعة الكثير بأحقّية مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام .

وقد جاء في كلام المستبصرين حول هذا الكتاب القيّم والأثر الخالد ما فيه الكفاية لتبيين مدى تأثّرهم بهذا السفر العظيم.

يقول التيجاني السماوي في كتابه (ثمّ اهتديت) حول كتاب (المراجعات):

( قرأتُ كتابَ المراجعات للسيّد شرف الدّين الموسوي، وما أنْ قرأت منه بضع صفحات حتى استهواني الكتابُ وشدّني إليه شدّاً، فكنت لا أتركه إلّا غصباً وكنت أحمله في بعض الأحيان إلى المعهد.

وأدهشني الكتاب بما حواه من صراحة العالم الشيعي وحلّه لما أشكل على العالم السنّي شيخ الأزهر.

وجدت في الكتاب بغيتي لأنه ليس كالكتب التي يكتب فيها المؤلّف ما يشاء بدون معارض ولا مناقش، فالمراجعات هو حوار بين عالمين من مذهبين مختلفين يحاسب كلٍّ منهما صاحبه على كل شاردة و واردة، على كل صغيرة وكبيرة متوخّين في ذلك المرجعين الأساسيين لكافّة المسلمين وهما القرآن الكريم والسنّة الصحيحة المتّفق عليها في صحاح السنّة.

فكان الكتاب بحقّ يمثّل دوري كباحث يفتّش عن الحقيقة ويقبلها أينما وجدت، وعلى هذا كان الكتاب مفيداً جدّاً وله فضلٌ عليّ عميم )(١) .

ويصرّح التيجاني السماوي أيضاً في مكان آخر من كتابه (ثمّ اهتديت) بالدور

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ٧٥.

١٣٦

الأساسي الذي كان لكتاب (المراجعات) في اعتناقه لمذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام ، فيقول:

( قرأت كتاب المراجعات للإمام شرف الدين وراجعته عدّة مرّات وقد فتح أمامي آفاقاً سبّبت هدايتي وشرحت صدري لحبّ أهل البيت ‏عليهم‌السلام ومودّتهم )(١) .

ويقول محمد مرعي الانطاكي معبّراً عن مشاعره النابعة من أعماق قلبه حول كتاب (المراجعات):

( إنّي لأقدّم نصيحة خالصة لوجه اللَّه لا يشوبها رياء، لكلّ واحد من إخواننا السنّة، أن يرجع إلى كتاب (المراجعات) وغيره من كتب الشيعة الإمامية، وأن يطالعها بدقّة وإمعان، ونظر وإنصاف، من أوّلها إلى آخرها، فإنّه سيجد ما فيه المقنع إن شاء اللَّه، ولا يبقى له أيّ عذر أو مجال ليتّهم شيعة العترة الطّاهرة بما هم بريئون منه، براءة ذئب يوسف من يوسف، إن كان حرّاً من الأقاويل المفتعلة التي لم ترض اللَّه ورسوله )(٢) .

ويذكر محمد مرعي الانطاكي حول كيفيّة تعرّفه على كتاب (المراجعات) والأثر الذي تركه هذا الكتاب على بنيته الفكريّة، أنّه حاور شيعيّاً يدعى السيّد عبد القادر الحاج موسى، فأتاه هذا الشيعي بكتاب (المراجعات) وقال له: خذ هذا الكتاب.

يقول محمد مرعي الانطاكي:

( قلت: وما هذا الكتاب؟

قال: كتاب من مؤلّفات الشيعة.

قلت: لا حاجة لي به.

فأعاد على القول.

فقلت له: إنّ الكتاب لا يقرأ في مجلس واحد!

فقال: خذه معك عارية.

____________________

(١) المصدر السابق: ١٣٠.

(٢) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٥٣.

١٣٧

وكان الوقت بعد العصر، فحملته وذهبت إلى منزلي، وبعد أن نام الأولاد وأمّهم، خلوت بنفسي، وبدأت بالمطالعة، وهذا أوّل كتاب وصل إلى من كتب الشيعة، وما أنْ بدأتُ بقراءة المقدّمة حتى أخذتني دهشة لما فيها من البلاغة، وتركيب الألفاظ، وسبك جملها(١) وعذوبة ألفاظه، وحسن معانيه التي قلّ أن يأتي كاتب بمثلها، فقمت أفكّر في هذا الأثر القيّم والسفر العظيم، وما فيه من الحكميات والمحاكمات بين مؤلّفه المفدّى، وبين الشيخ الأكبر الشيخ (سليم البشري) شيخ الجامع الأزهر، وذلك بأدلّته القاطعة، وحججه البالغة، ممّا يفحم الخصم، ويقطع عليه حجّته.

وقد رأيت مؤلّفه العظيم لم يعتمد في احتجاجه على الخصم من كتب الشيعة، بل يكون اعتماده على كتب السنّة والجماعة، ليكون أبلغ في الردّ على الخصم، فبذلك زدت إعجاباً على إعجاب مما جرى به قلمه الشريف )(٢) .

ويضيف محمد مرعي الانطاكي:

( وزادت دهشتي عند وصولي إلى (المراجعة الرّابعة) إذ فيها القول الفصل لمن كان له عقل أو ألقى السّمع وهو شهيد.

ولم أقتصر عليها، بل أخذت كلّما انتهيت من واحدة بدأت في الأخرى، وهكذا إلى أن مضى عليّ أكثر من ثلثي الليل، وأنا لا أشعر بملل ولا كلل، لما وجدت فيه من حلاوة ألفاظه وطلاوة عباراته، وحينئذٍ تفتّحت امامي أبواب الصدق والصواب الصائب الذي لا مرية فيه، ولست بمغال إن قلت: كأنّي صهرت في بودقة، وفقدت شعوري لأنه قد استدرجني الكتاب، وقادني إليه، فسرت معه مختاراً أو غير مختار(٣) .

هذا ولم يمض عليَّ الليل إلّا وأنا مقتنع تماماً، بأنّ الحقّ والصواب مع الشيعة، وأنّهم على المذهب الحقّ الثابت عن رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أهل بيته الطاهرين ‏عليهم‌السلام ، ولم

____________________

(١) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٤٣٩.

(٢) المصدر السابق: ٥٢-٥٤.

(٣) المصدر السابق: ٤٣٩.

١٣٨

يبق لي أدنى شبهة البتّة، واعتقدت بأنّهم على خلاف ما يقال فيهم من المطاعن والأقاويل المفتعلة الباطلة.

ثمّ في صبيحة تلك الليلة، عرضت الكتاب الشريف على أخي وشقيقي، فضيلة العلّامة الفذّ الحافظ الشيخ (أحمد أمين الانطاكي) حفظه اللَّه، فقال لي:

ما هذا؟

فقلت: كتاب شيعي، لمؤلّف شيعي.

فقال: أبعده عنّي، أبعده عنّي، أبعده عنّي - ثلاثاً - فإنّه من كتب الضلال، وليس لي به حاجة، وإنّي أكره الشيعة وما هم عليه!!

فقلت: خذه واقرأه، ولا تعمل به، وماذا يضرّك إن قرأته؟

فأخذ الكتاب ودرسه وطالعه بدقّة وإمعان؛ وحصل له ما حصل لي من الاعتراف بأحقّية المذهب الشيعي، وقال:

إنّ الشيعة على الحقّ والصواب، وغيرهم خاطئون، ثمّ تركت أنا وأخي المذهب الشافعي، واعتنقنا المذهب الشيعي الجعفري الإمامي وذلك لقيام الأدلّة الكثيرة الواضحة، والبراهين الرّصينة الناصعة )(١) .

ويصف هشام آل قطيط رحلته مع كتاب (المراجعات) بعد استعارته من أحد أصدقائه قائلاً:

( بدأت في القراءة في هذا الكتاب، وكنت واثقاً من نفسي بأنّه كتاب ضلال سوف أرد عليه وأفهم الشيعي من هو السنّي؟!

فقرأت ترجمة الكتاب. واستمريت بالقراءة وقطعت منه تقريباً أكثر من مائتين صفحة، ففوجئت وتشنّجت من هذا الكتاب المدسوس، واستغربت من هذه المعلومات الغريبة التي لأول مرّة تطرقُ ذهني، وخاصّة علمائنا دائماً يحذّرونا من

____________________

(١) المصدر السابق: ٥٣-٥٤.

١٣٩

قراءة كتب الضلال، فقلت إن استمريت في القراءة في هذا الكتاب سوف يحرفني لاشكّ في ذلك إطلاقاً، وإذا أردت أنْ اتتبّع الأدلّة ليس لديّ المصادر وليس لديّ الفراغ الكافي للبحث في هذه القضيّة الشائكة، فأغلقت الكتاب لأنّه شوّش تفكيري )(١) .

ويقول هشام آل قطيط في المرّة الأخرى التي وقع هذا الكتاب بيده:

( راجعت المصادر ووقفت عليها و وجدت صدق ما يأتي به العالم الشيعي، فاستغربت من قوّة استدلال هذا العالم وإحاطته الدّقيقة بالتاريخ والسيرة والصّحاح واستهواني الكتاب بأسلوبه الجذّاب وثوبه الناعم المُزركش وصرت أفكّر: يا إلهي أين كنت أنا؟

أين علماؤنا من هذه الكتب؟ فهل يعرف علماؤنا ما في هذه الكتب من أدلّة ويتعمدون طمس هذه الحقائق عنّا؟ لأنّه ليس من اختصاصنا البحث في الدين، وإنّما هو حكر على الشيوخ والعلماء فقط، أم انّهم لا يعلمون حقيقة هذه الكتب؟! )(٢) .

ويقول عبد المنعم حسن حول إعجابه بهذا الكتاب وما لاقاه من ردود أفعال ممن حوله بعد تأثّره بهذا الكتاب:

( ولا أظنّني سأجد كتاباً على أديم الأرض أكثر قوّة وحجّة ومنطقاً من كتاب المراجعات الذي أماط اللثام وأبطل كل حُجَج الشيخ البشري بأدب و وقار.

وأذكر ذات يوم أن أحد الأشخاص استعار كتاب المراجعات من أحد الأصدقاء وبعد فترة وجيزة جاء بالكتاب وهو يقول - محاولاً الاستهزاء به كردّة فعل طبيعيّة - إنّه مختلق، انّ هذه المناظرة أساساً لم تقم.

فأجابه الأخ: يا شيخنا فلنفرض جدلاً أنّ هذه المناظرة لم تكن، وأنّ هذه

____________________

(١) هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: ٢٣.

(٢) المصدر السابق: ٣٩.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

السقيفة، فعارضها أهل البيت وجماعة من الأنصار والمهاجرين، واعتصموا في بيت فاطمة الزهراءعليها‌السلام فكان الهجوم على بيت فاطمة بالحطب والنار!

ولم يهدأ الهجوم علينا بالحطب والنار إلى يومنا هذا!

نحن لا ننتظر من تاريخنا الإسلامي الذي لم يتحمل كلمة معارضة من بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فهاجم بيتها وبدأ بإحراقه بمن فيه، أن يتحمل معارضتنا في بحوث وكتب!

ولا ننتظر من دول اضطهدتنا وطاردتنا وشردتنا وقتلتنا، أن تمدحنا وتمدح عقائدنا، أو تترك تهمة أو سبة تخطر بالبال أو لا تخطر، دون أن ترمينا بها!

لكن يحق لنا أن ننتظر من علماء إخواننا المنصفين بعد قرون وقرون، أن لا يرثوا بغض أهل بيت نبيهم وشيعتهم، وأن يقرؤوا عقائدهم وفقههم من مصادر مذهبهم لا من مصادر الذين اضطهدوهم وأبغضوهم.

- قال السيد شرف الدين في الفصول المهمة ص ١٨٠

فهنا مقصدان: المقصد الأول، في الأمور التي ينفر منها الشيعي ولا يكاد يمتزج بسببها مع السني، وأهمها شيئان: الأول، ما سمعته في الفصول السابقة من التكفير والتحقير والشتم والتزوير.

الثاني، إعراض إخواننا أهل السنة عن مذهب الأئمة من أهل البيت، وعدم الإعتناء بأقوالهم في أصول الدين وفروعه بالمرة، وعدم الرجوع إليهم في تفسير القرآن العزيز (وهو شقيقهم) إلا دون ما يرجعون فيه إلى مقاتل بن سليمان المجسم المرجيء الدجال، وعدم الإحتجاج بحديثهم إلا دون ما يحتجون بدعاة الخوارج والمشبهة والمرجئة والقدرية! ولو أحصيت جميع ما في كتبهم من حديث ذرية المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان إلا دون ما أخرجه البخاري وحده عن عكرمة البربري الخارجي المكذب. انتهى.

وإنى لأعجب من علماء إخواننا السنة القدماء والجدد، الذين بحثوا في توحيد الله تعالى وصفاته، ورووا حتى عن أقل الصحابة والتابعين، برهم وفاجرهم، وعن

٢٨١

اليهود والنصارى، معتدلهم ومتطرفهم.. كيف لم يطلعوا على الخطب الغنية لعلي أمير المؤمنينعليه‌السلام وكلمات أهل البيت البليغة في حقائق التوحيد، التي تشهد بأنهم باب مدينة علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كانت هذه الخطب والأحاديث وما تزال في متناولهم، مودعة في المصادر المختلفة، ومجموعة في نهج البلاغة وأمثاله..! فلو أنهم اطلعوا عليها لفتحت لهم أبواباً جديدة، وحلت لهم مشكلات مستعصية ولظهر شيء من آثارها وأنوارها في مؤلفاتهم!

إن مقتضى قاعدة (إحمل أخاك المسلم على الأحسن) أن نقول إنهم لم يقرؤوا شيئاً من أحاديث الشيعة ومؤلفاتهم وبحوثهم في التوحيد والصفات، لأنا إذا اتهمناهم بأنهم قرؤوها وتجاهلوها، فذلك يعني وجود كارثة في بحوث العقائد عندهم.

وتعجبي الأكبر من جرأة بعض إخواننا على تبرئة مصادرهم من التشبيه والتجسيم، واتهام الشيعة ومذهبهم بذلك!

وتواصلت علينا الإفتراءات عبر العصور

- قال السمعاني المتوفى ٥٦٢ في كتابه الأنساب ج ٥ ص ٦٤٣

والهشامية جماعة من غلاة الشيعة، وهم الهشامية الأولى والأخرى. أما الأولى فهم أصحاب هشام بن الحكم الرافضي المفرط في التشبيه والتجسيم، وكان يقول إن معبوده جسم ذو حد ونهاية وإنه طويل عريض عميق وطوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه، وله مقالات في هذا الفن حكيت عنه.

وأما الهشامية الأخرى فهم أصحاب هشام بن سالم الجواليقي، وكان يزعم أن معبوده جسم، وأنه على صورة الإنسان ولكنه ليس بلحم ولا دم، بل هو نور ساطع يتلألأ بياضاً، وله حواس خمس كحواس الإنسان ويد ورجل وسائر الأعضاء، وأن نصفه الأعلى مجوف، إلا الفرج واللحية. وزعم هشام بن الحكم أنه كسبيكة

٢٨٢

الفضة، وأنه بشبر نفسه سبعة أشبار. وكل واحد منهما يكفر صاحبه، ويكفرهما غيرهما. انتهى.

وقد وصل الأمر بالسمعاني وأمثاله أن ادعوا أن تجسيم الكرامية جاءهم من تأثرهم بالشيعة وغيرهم، وإلا فشيخهم الكرام عالم متقشف زاهد وإن كان في مذهبه شيء من التشبيه والتجسيم! قال السمعاني في الأنساب ج ٥ ص ٤٣: الكرامي: بفتح الكاف وتشديد الراء المهملة. هذه النسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرام النيسابوري.... من أهل نيسابور، ثم أزعج عنها وانتقل إلى بيت المقدس وسكنها ومات بها. يروي عن مالك بن سليمان الهروي. روى عنه محمد بن إسماعيل بن إسحاق وحكى عنه من الزهد والتقشف أشياء، وفي المذهب أشياء من التشبيه والتجسيم، وذكر في كتاب له سماه (عذاب القبر) في وصف الرب عز وجل، أنه أحدي الذات أحدي الجوهر، فشارك النصارى في وصفه إياه بالجوهر، وشارك اليهود والهشامية والجوالقية من مشبهة الروافض في وصفه إياه بأنه جسم. وناقض أصحابه في امتناعهم عن وصفهم إياه أنه جوهر، مع إطلاقهم وصفه بأنه جسم، إطلاق الجسم أفحش من إطلاق الجوهر. وذكر في هذا الكتاب أنه معبود في مكان مخصوص، وأنه مماس لعرشه من فوقه، وهكذا حكي عنه. انتهى. ولكن من حكي عنه، ومن أين أخذ ما نقله عنه.. هذا ليس مهماً عند من يريد الاتهام.

- وقال المسعودي في مروج الذهب ج ٤ ص ١٠٣، ١٠٤

وكان أبو الهذيل محمد بن الهذيل اجتمع مع هشام بن الحكم الكوفي، وكان هشام شيخ المجسمه والرافضة في وقته ممن وافقه على مذهبه، وكان أبو الهذيل يذهب إلى نفي التجسيم ورفض التشبيه.

- وقال الأميني في الغدير ج ٣ ص ١٤٢

الملل والنحل، هذا الكتاب وإن لم يكن يضاهي (الفصل) في بذاءة المنطق غير أن في غضونه نسباً مفتعلة وآراء مختلقة وأكاذيب جمة، لا يجد القارئ ملتحداً عن

٢٨٣

تفنيدها، فإليك نماذج منها:

١ - قال: قال هشام بن الحكم متكلم الشيعة: إن الله جسم ذو أبعاض في سبعة أشبار بشبر نفسه، في مكان مخصوص وجهة مخصوصة.

٢ - قال في حق علي: إنه إله واجب الطاعة..

٣ - وقال هشام بن سالم: إن الله على صورة إنسان أعلاه مجوف وأسفله مصمت، وهو نور ساطع يتلألأ، وله حواس خمس ويد ورجل وأنف وأذن وعين وفم، وله وفرة سوداء، وهو نور أسود لكنه ليس بلحم ولا دم، وإن هشام هذا أجاز المعصية على الأنبياء مع قوله بعصمة الأئمة.

٤ - وقال زرارة بن أعين: لم يكن الله قبل خلق الصفات عالماً ولا قادراً ولا حياً ولا بصيراً ولا مريداً ولا متكلماً.

٥ - قال أبوجعفر محمد بن النعمان: إن الله نور على صورة إنسان، ويأبى أن يكون جسماً.

٦ - وزعم يونس بن عبد الرحمن القمي أن الملائكة تحمل العرش والعرش تحمل الرب، وهو من مشبهة الشيعة، وصنف لهم في ذلك كتباً.

- وقال الأميني في الغدير ج ٣ ص ٨٩

وذكر ابن تيمية في منهاج السنة هذه النسب والإضافات المفتعلة، وراقه أن يري المجتمع أنه أقدر في تنسيق الأكاذيب من سلفه، وأنه أبعد منه عن أدب الصدق والأمانة فزاد عليها:

اليهود لا يخلصون السلام على المؤمنين إنما يقولون السام عليكم (السام: الموت) وكذلك الرافضة.

اليهود لا يرون المسح على الخفين، وكذلك الرافضة.

اليهود يستحلون أموال الناس كلهم، وكذلك الرافضة.

اليهود تسجد على قرونها في الصلاة، وكذلك الرافضة.

٢٨٤

اليهود لا تسجد حتى تخفق برؤسها مراراً تشبيهاً بالركوع، وكذلك الرافضة.

اليهود يرون غش الناس، وكذلك الرافضة.

وأمثال هذه من الخرافات والسفاسف، وحسبك في تكذيب هذه التقولات المعزوة إلى الشيعة شعورك الحر، وحيطتك بفقههم وكتبهم وعقائدهم وأعمالهم، وما عرف منهم قديماً وحديثاً. فإلى الله المشتكى.

- وقال الأميني في الغدير ج ٣ هامش ص ٩٠ واصفاً كتاب الإنتصار لعبد الرحيم الخياط:

إنك غير مائن لو سميته بمصدر الأكاذيب، ولو عزى إليه على عدد صفحاته ١٧٣ الصفحة لما كذب القائل، ولو جست خلال صحايفه لأوقفك الفحص على العجب العجاب، من كذب شائن وتحكم بارد وتهكم ممض ونسب مفتعلة، وإنا نرجىَ إيقافك عليها إلى ظفرك بالكتاب نفسه، فإنه مطبوع بمصر منشور، ولا نسود جبهات صحائف كتابنا بنقل هاتيلك الأساطير كلها، وإنما نذكر لك نماذج منها لتعرف مقدار توغله في القذائف وتهالكه دون الطامات، وتغلغل الحقد في ضميره الدافع له إلى تشويه سمعة أمة كبيرة كريمة نزيهة عن كل ما تقوله عليها قال:

١ - الرافضة تعتقد أن ربها ذو هيئة وصورة يتحرك ويسكن ويزول وينتقل، وأنه كان غير عالم فعلم.... إلى أن قال: هذا توحيد الرافضة بأسرها إلا نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة واعتقدوا التوحيد، فنفتهم الرافضة عنهم وتبرأت منهم، فأما جملتهم ومشا يخهم مثل هشام بن سالم، وشيطان الطاق، وعلي بن ميثم، وهشام بن الحكم بن منور، والسكاك، فقولهم ما حكيت عنهم.

٢ - الرافضة تقول وهي معتقدة: إن ربها جسم ذو هيئة وصورة يتحرك ويسكن ويزول وينتقل وأنه كان غير عالم ثم علم.

٣ - فهل على وجه الأرض رافضي إلا وهو يقول: إن الله صورة ويروي في ذلك الروايات، ويحتج فيه بالأحاديث عن أئمتهم! إلا من صحب المعتزلة منهم قديماً فقال بالتوحيد فنفته الرافضة عنها ولم تقر به!!

٢٨٥

وتضاعفت التهم في عصرنا عصر العلم وحرّية الفكر

- قال الدكتور حسن إبراهيم في تاريخ الإسلام ج ١ ص ٤٢٤

- الرافضة قالوا: إن الله له قد وصورة وإنه جسم ذو أعضاء. هشام بن الحكم وهشام بن سالم وشيطان الطاق من معتقدي الرافضة.

- وقال في تاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٥٨

الشيعة انقسمت حسب اعتقادها إلى ثلاثة أقسام: غالية ورافضة وزيدية، والشيعة الغالية هم الذين غلوا في علي وقالوا فيه قولاً عظيماً.. والشيعة الرافضة هم الذين قالوا إن الله قد وصورة وإنه جسم ذو أعضاء!

- فتاوى الألباني ص ٤٤١

إن الإسلام كفكر لا يمكن أن يصور أنه مصفى.. كيف وهناك فرق كثيرة جداً كالمعتزلة... والشيعة والرافضة، كل هؤلاء يدعون الإسلام فلا بد أن يقوم العلماء بواجب تصفية هذا الإسلام وتقديمه للناس.

- وقال الدكتور القفاري في كتابه أصول مذهب الشيعة ، الذي منحته السعودية درجة دكتوراه برتبة الشرف الأولى، وأوصت بجعله مصدراً (أكاديمياً) في جامعات المملكة، علماً أن نسبة كبيرة من سكان المملكة من الشيعة!

قال القفاري في ج١ ص ٨٧:

المذهب الشيعي مباءة للعقائد الآسيوية القديمة. ويضيف البعض أن مذهب الشيعة كان مباءة ومستقراً للعقائد الآسيوية القديمة كالبوذية وغيرها. يقول الأستاذ أحمد أمين: وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح وتجسيم الله والحلول، ونحو ذلك من الأقوال التي كانت معروفة عند البراهمة والفلاسفة والمجوس قبل الإسلام. ويشير بعض المستشرقين إلى تسرب الكثير من العقائد غير الإسلامية إلى الشيعة ويقول: إن تلك العقائد انتقلت إليها من المجوسية والمانوية والبوذية، وغيرها من الديانات التي كانت سائدة في آسيا قبل ظهور الإسلام. انتهى.

٢٨٦

وكأن هذا (الباحث) لا يعرف أن الفرس المجوس صاروا سنيين أولاً، وألفوا أهم مصادر إخواننا السنة وصحاحهم، ونظّروا لعقائدهم ومذاهبهم بل أسسوا مذاهبهم، وبعد قرون طويلة صار أبناؤهم شيعة! فإن كانوا متأثرين بعقائدهم المجوسية والآسيوية فقد نقلوها معهم إلى التسنن الذي صاروا أئمة مذاهبه ثم أئمة مصادره قروناً طويلة، وما زالوا، فالعلامة المجلسي الشيعي مثلاً صاحب موسوعة (بحار الأنوار) المتوفى سنة ١١١١ هجرية هو من أولاد الحافظ أبي نعيم الإصفهاني السني المتوفى سنة ٤٣٥ هجرية! وهكذا العشرات بل المئات غيره من الفرس الذين صاروا أئمة المذاهب السنية أولاً، ثم صار أبناؤهم شيعة بعد قرون قد تطول أو تقصر، حتى أنك تجد الكثير من أبنائهم اليوم ما زالوا يحملون أسماء أجدادهم من أئمة السنة!

فمن أولى بتهتة التأثر بالعقائد المجوسية والآسيوية، الأجداد السنيون أم الأبناء الشيعيون!

على أن الباحث علمياً لا يمكنه أن يرسل أحكامه هكذا جزافاً، ولابد له أن يفحص الأفكار والعقائد واحدة واحدة، ويرى من أين جاءت ومن تبناها، ومن وقف ضدها.. الخ.

وقد رأيت أن أفكار الرؤية والتشبيه والتجسيم وأحاديثها ولدت في بيوت الدولة، ودرجت في قصورها ومساجدها، وتربت على يد كبار شخصياتها، وأن أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم وقفوا ضدها، وأفتوا بأنها دخيلة، وأن آباءها يهوداً!!

* *

٢٨٧

الفصل الثامن

تفسير مقارن للآيات المتعلّقة بالموضوع

الآيات المحكمة النافية لإمكان الرؤية

ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . الأنعام ١٠٢ - ١٠٣

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ . الشورى - ١١

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا . طه - ١١٠

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . البقرة - ٢٢

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ . الأعراف - ١٤٣

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .. البقرة - ٥٥

٢٨٨

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا . النساء - ١٥٣

وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا . الفرقان ٢١ - ٢٢

قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . الإخلاص ١ - ٤

الآيات المتشابهة التي استدلّوا بها على الرؤية

كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ . القيامة ٢٠ - ٢٥

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى . النجم ١ - ١٨

أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُون * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ . القلم ٣٩ - ٤٣

آيات: استوى على العرش

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

٢٨٩

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ . الأعراف - ٥٤

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ . يونس - ٣

اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ . الرعد - ٢

طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى . طه ١ - ٦

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا . الفرقان - ٥٩

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ . السجدة - ٤

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ . الحديد - ٤ - ٥

وقد أوردنا عدداً من الأحاديث الشريفة ومن كلمات العلماء في تفسير هذه الآيات، ونورد هنا ما بقي من تفسيرها، وفيها أحاديث وآراء مشتركة بين أكثر من آية، لأنها وردت في موضوع الرؤية ككل.

* *

٢٩٠

تفسير آية: لا تدركه الأبصار

ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ .الأنعام. ١٠٢ - ١٠٣

النبي وآله يقولون: لا تدركه الأبصار ولا.. الأوهام

- روى الصدوق في التوحيد ص ٣٩٨

حدثنا محمد بن موسى بن المتوكلرضي‌الله‌عنه قال حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال حدثني محمد بن أبي بشير، قال حدثني الحسين بن أبي الهيثم، قال حدثنا سليمان بن داود، عن حفص بن غياث، قال حدثني خير الجعافر جعفر بن محمد، قال حدثني باقر علوم الأولين والآخرين محمد بن علي، قال حدثني سيد العابدين علي بن الحسين، قال حدثني سيد الشهداء الحسين بن علي، قال حدثني سيد الأوصياء علي بن أبي طالبعليهم‌السلام قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم جالساً في مسجده إذ دخل عليه رجل من اليهود فقال: يا محمد إلى ما تدعو؟

قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله.

قال: يا محمد أخبرني عن هذا الرب الذي تدعو إلى وحدانيته وتزعم أنك رسوله، كيف هو؟

قال: يا يهودي إن ربي لا يوصف بالكيف، لأن الكيف مخلوق وهو مكيفه.

قال: فأين هو؟

قال: إن ربي لا يوصف بالأين، لأن الأين مخلوق وهو أينه.

قال: فهل رأيته يا محمد؟

قال: إنه لا يرى بالأبصار ولا يدرك بالأوهام.

قال: فبأي شيء نعلم أنه موجود؟

قال: بآياته وأعلامه.

٢٩١

قال: فهل يحمل العرش أم العرش يحمله؟

فقال: يا يهودي إن ربي ليس بحال ولا محل.

قال: فكيف خروج الأمر منه؟

قال: بإحداث الخطاب في المحال.

قال: يا محمد أليس الخلق كله له؟

قال: بلى.

قال: فبأي شيء اصطفى منهم قوماً لرسالته؟

قال: بسبقهم إلى الإقرار بربوبيته.

قال: فلم زعمت أنك أفضلهم

قال: لأني أسبقهم إلى الإقرار بربي عز وجل؟

قال: فأخبرني عن ربك هل يفعل الظلم؟

قال: لا.

قال: ولم؟

قال: لعلمه بقبحه واستغنائه عنه.

قال: فهل أنزل عليك في ذلك قرآناً يتلى؟

قال: نعم إنه يقول عز وجل: وما ربك بظلام للعبيد، ويقول:إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ، ويقول:وما الله يريد ظلماً للعالمين ، ويقول:وما الله يريد ظلماً للعباد .

قال اليهودي: يا محمد فإن زعمت أن ربك لا يظلم فكيف أغرق قوم نوحعليه‌السلام وفيهم الأطفال؟

فقال: يا يهودي إن الله عز وجل أعقم أرحام نساء قوم نوح أربعين عاماً فأغرقهم حين أغرقهم ولا طفل فيهم، وما كان الله ليهلك الذرية بذنوب آبائهم، تعالى عن الظلم والجور علواً كبيراً.

٢٩٢

قال اليهودي: فإن كان ربك لا يظلم فكيف يخلد في النار أبد الآبدين من لم يعصه إلا أياماً معدودة؟

قال: يخلده على نيته، فمن علم الله نيته أنه لو بقي في الدنيا إلى انقضائها كان يعصي الله عز وجل خلده في ناره على نيته، ونيته في ذلك شر من عمله، وكذلك يخلد من يخلد في الجنة بأنه ينوي أنه لو بقي في الدنيا أيامها لأطاع الله أبداً، ونيته خير من عمله، فبالنيات يخلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، والله عز وجل يقول: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً .

قال اليهودي: يا محمد إني أجد في التوراة أنه لم يكن لله عز وجل نبي إلا كان له وصي من أمته فمن وصيك؟

قال: يا يهودي وصيي علي بن أبي طالب، واسمه في التوراة إليا وفي الإنجيل حيدار، وهو أفضل أمتي وأعلمهم بربي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وإنه لسيد الأوصياء كما أني سيد الأنبياء.

فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وأن علي بن أبي طالب وصيك حقاً، والله إني لأجد في التوراة كل ما ذكرت في جواب مسائلي، وإني لأجد فيها صفتك وصفة وصيك، وإنه المظلوم ومحتوم له بالشهادة، وإنه أبو سبطيك وولديك شبراً وشبيراً سيدي شباب أهل الجنة.

- وروى الكليني في الكافي ج ١ ص ٩٨

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله:لا تدركه الأبصار ، قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله:قد جاءكم بصائر من ربكم ، ليس يعني بصر العيون. فمن أبصر فلنفسه، ليس يعني من البصر بعينه. ومن عمي فعليها، ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم، كما يقال فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب. الله أعظم من أن يرى بالعين....

٢٩٣

محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن محمد بن عيسى، عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون!

يد: ابن الوليد، عن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: سألته عن الله عز وجل هل يوصف؟ فقال: أما تقرأ القرآن قلت بلى، قال أما تقرأ قوله عز وجل:لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قلت بلى، قال: فتعرفون الأبصار قلت: بلى، قال: وما هي قلت: أبصار العيون فقال: إن أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون فهو لا تدركه الأوهام، وهو يدرك الأوهام.

- وروى النيسابوري في روضة الواعظين ص ٣٣

عن الإمام الرضاعليه‌السلام في قول الله عز وجل:لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، قال: لا تدركه أوهام القلوب، فكيف تدركه أبصار العيون.

وسئل الصادقعليه‌السلام هل يرى الله في المعاد؟ فقال: سبحان الله تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيرا، إن الأبصار لا تدرك إلا ماله لون وكيفية، والله خالق الألوان والكيفية.

وقال محمد بن أبي عمير: دخلت على سيدي موسى بن جعفرعليهما‌السلام فقلت له: يابن رسول الله علمني التوحيد فقال: يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه فتهلك، واعلم أن الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً، وأنه الحي الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والحليم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغني الذي لا يفتقر، والعزيز الذي لا يذل، والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي

٢٩٤

لا يبخل. وأنه لا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأقطار، ولا يحويه مكان،و لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ، وهو الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه محدث، تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيرا.

وسئل الصادقعليه‌السلام هل لله تعالى رضى وسخط؟ فقال: نعم، وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، ولكن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه.

وقال أيضاًعليه‌السلام : إن الله تعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان، والحركة والسكون والإنتقال، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا.

- وروى المجلسي في بحار الأنوار ج ٤ ص ٤٦

نص: الحسين بن علي، عن هارون بن موسى، عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب و عبدالملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب: يابن رسول الله ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رأى ربه، على أي صورة رآه، وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، على أي صورة يرونه؟ فتبسمعليه‌السلام ثم قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه، ثم لا يعرف الله حق معرفته.

ثم قالعليه‌السلام : يا معاوية إن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ير الرب تبارك وتعالى بمشاهدة العيان، وإن الرؤية على وجهين: رؤية القلب، ورؤية البصر، فمن عني برؤية القلب فهو

٢٩٥

مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته، لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من شبه الله بخلقه فقد كفر. ولقد حدثني أبي، عن أبيه، عن الحسين بن علي قال: سئل أمير المؤمنينعليه‌السلام فقيل: يا أخا رسول الله هل رأيت ربك فقال: وكيف أعبد من لم أره لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. فإذا كان المؤمن يرى ربه بمشاهدة البصر فإن كل من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق، ولابد للمخلوق من الخالق، فقد جعلته إذا محدثاً مخلوقاً، ومن شبهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكاً، ويلهم أولم يسمعوا يقول الله تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. وقوله: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً، وإنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سم الخياط فدكدكت الأرض وصعقت الجبال فخر موسى صعقاً، أي ميتاً، فلما أفاق ورد عليه روحه، قال سبحانك تبت إليك من قول من زعم أنك ترى، ورجعت إلى معرفتي بك أن الأبصار لا تدركك، وأنا أول المؤمنين، وأول المقرين بأنك ترى ولا ترى، وأنت بالمنظر الأعلى.

ثم قالعليه‌السلام : إن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الرب والإقرار له بالعبودية، وحد المعرفة أن يعرف أنه لا إله غيره، ولا شبيه له ولا نظير، وأن يعرف أنه قديم مثبت موجود غير فقيد، موصوف من غير شبيه ولا مبطل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وبعده معرفة الرسول والشهادة بالنبوة.

وأدنى معرفة الرسول الإقرار بنبوته، وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك من الله عز وجل، وبعده معرفة الإمام الذي به تأتم بنعته وصفته واسمه في حال العسر واليسر....

ثم قال: يا معاوية جعلت لك أصلاً في هذا فاعمل عليه، فلو كنت تموت على ما كنت عليه لكان حالك أسوأ الأحوال، فلا يغرنك قول من زعم أن الله تعالى يرى بالبصر.

٢٩٦

قال: وقد قالوا أعجب من هذا، أولم ينسبوا آدمعليه‌السلام إلى المكروه!

أو لم ينسبوا إبراهيمعليه‌السلام إلى ما نسبوه!

أو لم ينسبوا داودعليه‌السلام إلى ما نسبوه من حديث الطير!

أو لم ينسبوا يوسف الصديق إلى ما نسبوه من حديث زليخا!

أو لم ينسبوا موسىعليه‌السلام إلى ما نسبوه من القتل!

أو لم ينسبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما نسبوه من حديث زيد!

أولم ينسبوا علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى ما نسبوه من حديث القطيفة!

إنهم أرادوا بذلك توبيخ الإسلام ليرجعوا على أعقابهم، أعمى الله أبصارهم كما أعمى قلوبهم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

- وروى نحوه في بحار الأنوار ج ٤ ص ٣٣ وص ٣٩ وفيه (إن أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون فهي لا تدركه، وهو يدرك الأوهام).

- وروى نحوه في بحار الأنوار ج ٤ ص ٢٩ وفيه (لا تدركه أوهام القلوب فكيف تدركه أبصار العيون! وقال المجلسيرحمه‌الله :

بيان: هذه الآية إحدى الدلالات التي استدل بها النافون للرؤية وقرروها بوجهين:

أحدهما: أن إدراك البصر عبارة شائعة في الإدراك بالبصر إسناداً للفعل إلى الآلة، والإدراك بالبصر هو الرؤية بمعنى اتحاد المفهومين أو تلازمهما، والجمع المعرف باللام عند عدم قرينة العهدية والبعضية للعموم والإستغراق بإجماع أهل العربية والأصول وأئمة التفسير، وبشهادة استعمال الفصحاء، وصحة الإستثناء، فالله سبحانه قد أخبر بأنه لا يراه أحد في المستقبل، فلو رآه المؤمنون في الجنة لزم كذبه تعالى وهو محال.

واعترض عليه: بأن اللام في الجمع لو كان للعموم والإستغراق كما ذكرتم كان قوله تدركه الأبصار موجبة كلية، وقد دخل عليها النفي، فرفعها وهو رفع الإيجاب الكلي، ورفع الإيجاب الكلي سلب جزئي. ولو لم يكن للعموم كان قوله لا تدركه الأبصار

٢٩٧

سالبة مهملة في قوة الجزئية، فكان المعنى لا تدركه بعض الأبصار، ونحن نقول بموجبه حيث لا يراه الكافرون، ولو سلم فلا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات فيحمل على نفي الرؤية في الدنيا جمعاً بين الأدلة.

والجواب: أنه قد تقرر في موضعه أن الجمع المحلى باللام عام نفياً وإثباتاً في المنفي والمثبت كقوله تعالى: وما الله يريد ظلماً للعباد، وما على المحسنين من سبيل، حتى أنه لم يرد في سياق النفي في شيء من الكتاب الكريم إلا بمعنى عموم النفي، ولم يرد لنفي العموم أصلاً، نعم قد اختلف في النفي الداخل على لفظة كل لكنه في القرآن المجيد أيضاً بالمعنى الذي ذكرنا كقوله تعالى: والله لا يحب كل مختال فخور، إلى غير ذلك، وقد اعترف بما ذكرنا في شرح المقاصد وبالغ فيه.

وأما منع عموم الأحوال والأوقات فلا يخفى فساده، فإن النفي المطلق الغير المقيد لا وجه لتخصيصه ببعض الأوقات إذ لا ترجيح لبعضها على بعض، وهو أحد الأدلة على العموم عند علماء الأصول.

وأيضاً صحة الإستثناء دليل عليه، وهل يمنع أحد صحة قولنا: ما كلمت زيداً إلا يوم الجمعة، ولا أكلمه إلا يوم العيد، وقال تعالى: ولا تعضلوهن، إلى قوله: إلا أن يأتين. وقال: ولا تخرجوهن، إلى قوله إلا أن يأتين.

وأيضاً كل نفي ورد في القرآن بالنسبة إلى ذاته تعالى فهو للتأبيد وعموم الأوقات لا سيما فيما قبل هذه الآية.

وأيضاً عدم إدراك الأبصار جميعاً لشيء لا يختص بشيء من الموجودات، خصوصاً مع اعتبار شمول الأحوال والأوقات، فلا يختص به تعالى، فتعين أن يكون التمدح بعدم إدراك شيء من الأبصار له في شيء من الأوقات.

وثانيهما: أنه تعالى تمدح بكونه لا يرى فإنه ذكره في أثناء المدائح، وما كان من الصفات عدمه مدحاً كان وجوده نقصاً يجب تنزيه الله تعالى عنه، وإنما قلنا من الصفات احترازاً عن الأفعال كالعفو والإنتقام فإن الأول تفضل، والثاني عدل، وكلاهما كمال.

٢٩٨

- الإقتصاد للشيخ الطوسي ص ٣٩

ولا يجوز عليه تعالى الرؤية بالبصر، لأن من شرط صحة الرؤية أن يكون المرئي نفسه أو محله مقابلاً للرائي بحاسة، أو في حكم المقابل، والمقابلة يستحيل عليه لأنه ليس بجسم، ومقابلة محله أيضاً يستحيل عليه لأنه ليس بعرض على ما بيناه.

ولأنه لو كان مرئياً لرأيناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة ووجوده، لأن المرئي إذا وجد وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن نراه، وإنما لا نراه إما لبعد مفرط أو قرب مفرط أو لحائل بيننا وبينه أو للطافة أو صغر، وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى لأنه من صفات الأجسام والجواهر.

وبمثل ذلك بعينه يعلم أنه لا يدرك بشيء من الحواس الباقية، فلا وجه للتطويل بذكره، والحاسة السادسة غير معقولة، ولو كانت معقولة لكان حكمها حكم هذه الحواس مع اختلافها واتفاقها في هذا الحكم.

وأيضاً قوله تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، دليل على استحالة رؤيته، لأنه تمدح بنفي الإدراك عن نفسه، وكل تمدح تعلق بنفي فإثباته لا يكون إلا نقصاً، كقوله: لا تأخذه سنة ولا نوم، وقوله تعالى: ما اتخذ الله من ولد، وقوله تعالى: ولم تكن له صاحبة ولا ولداً، وقوله تعالى: لا يظلم الناس شيئاً، وغير ذلك مما تعلق المدح بالنفي، فكان إثباته نقصاً. والآية فيها مدح بلا خلاف وإن اختلفوا في جهة المدح، والإدراك في الآية بمعنى الرؤية، لأنه نفى عن نفسه ما أثبته لنفسه بقوله: وهو يدرك الأبصار.

وقوله: وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، لا يعارض هذه الآية، لأن النظر المذكور في الآية معناه الإنتظار، فكأنه قال: لثواب ربها منتظرة.

ومثله قوله: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة، أي منتظرة. وليس النظر بمعنى الرؤية في شيء من كلام العرب، ألا ترى أنهم يقولون: نظرت إلى الهلال فلم أره،

٢٩٩

فيثبتون النظر وينفون الرؤية، ولو كان معناه الرؤية لكان ذلك مناقضة، ويقولون: ما زلت أنظر إليه حتى رأيته، ولا يقولون: ما زلت أراه حتى رأيته. ولو سلم أن النظر بمعنى الرؤية لجاز أن يكون معناه: إلى ثواب ربها رائية، وثواب الله يصح رؤيته.

ويحتمل أن تكون إلى في الآية واحد الآلاء، لأنه يقال إلى وإلي وألي، وإنما لم تنون لمكان الإضافة، فتكون إلى في الآية إسماً لا حرفاً، فتسقط بذلك شبهة المخالف.

وقول موسىعليه‌السلام : رب أرني أنظر اليك، يحتمل أن يكون سأل الرؤية لقومه على ما حكاه الله عز وجل في قوله: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة، فسأل الله تعالى ذلك ليرد الجواب من جهته فيكون أبلغ.

ويحتمل أن يكون سأل العلم الضروري الذي تزول معه الخواطر والشبهات، أو إظهار آية من آيات الساعة التي يحصل عندها العلم الذي لا شك فيه، وللأنبياء أن يسألوا تخفيف البلوى في التكليف، كما سأل ابراهيمعليه‌السلام فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أو لم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، وكل ذلك لا ينافي الآية التي ذكرناها. انتهى. ويؤيد الوجه الأخير الذى ذكره الشيخ الطوسيرحمه‌الله تركيب الآية: أرني أنظر اليك، ولم يقل أنظرك، فهو يريد أن يريه شيئاً يجعله كأنه يشاهد اللّه تعالى.

- تفسير التبيان ج ٤ ص ٢٢٣

قوله تعالى:لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير . الأنعام ١٠٣

في هذه الآية دلالة واضحة على أنه تعالى لا يرى بالأبصار، لأنه تمدح بنفي الإدراك عن نفسه، وكلما كان نفيه مدحاً غير متفضل به فإثباته لا يكون إلا نقصاً، والنقص لا يليق به تعالى. فإذا ثبت أنه لا يجوز إدراكه ولا رؤيته.

وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء: أحدها، أنه تعالى تمدح بالآية. والثاني أن الإدراك هو الرؤية. والثالث أن كلما كان نفيه مدحاً لا يكون إثباته إلا نقصاً.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374