التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏0%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علاء الحسون
تصنيف: الصفحات: 374
المشاهدات: 122179
تحميل: 4981

توضيحات:

التحول المذهبي‏
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122179 / تحميل: 4981
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالباطل بحيث لا يتميّز أحدهما عن الآخر.

كما أنّها حاولت أن تُحرّف الكَلِم عن مواضعه وأن تتلاعب بالنصوص عن طريق التحريف في بنية الكلمة أو الزيادة في النصّ أو النقص منه أو بتره أو التلفيق أو التصرّف فيه بالتقديم والتأخير لا على سياق قائِلِه لتصل عبر إخراج النصّ عن معناه الحقيقي إلى المقصود المنسجم مع مآربها الشخصيّة.

وفي هذا الخضم كم من حقائق أخفيت، وكم من سيرٍ نقيّة شوّهت، وكم من سيرٍ مدنسة ألبست لباساً يضفى عليها هالة من العظمة والقداسة.

ولهذا ذهب الكثير ضحيّة الإعلام المغرض الذي حاول أنْ يصوّر الإسلام بالصورة الملائمة مع أغراضه وميوله ومصالحه الشخصيّة.

وهذا ما يبيّن مدى الصعوبة التي واجهها المستبصر في محاولة تصدّيه للبحث عن الحقيقة الموضوعيّة ضمن هذا الكم الهائل من التحريف والتزوير الذي أحدث خلال مسيرة التاريخ الإسلامي.

ويشير ياسين البدراني إلى هذه الحقيقة في كتابه (يا ليت قومي يعلمون)، قائلاً:

( إنّ الكثير من الأحاديث وُضعت لكي ترفع مكانة شخصيّات خسيسة منحطّة، ولكي تطمس معالم شخصيّات أخرى خصّها اللَّه بالفضل والهدى والعلم والحلم والفصاحة والتقى فكانوا للعباد مناراً وهدى.

لكنّ الحكّام المتسلّطين من بني أميّة وبني العبّاس جاؤوا بما لا يرضى اللَّه وافتعلوا الأكاذيب والأباطيل.

ونحن لا نريد من الأخ القارئ إلّا أن لا يُخدع بباطلهم، وأن لا يبقى معصوب العينين ضيّق النظر، منقاداً لمنطق العاطفة، بل نريد له أن يكون حرّ الإرادة في مطالعاته وفهمه وأن يحكم بالانصاف على ما يقرأ )(١) .

____________________

(١) ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: ٦٤.

١٦١

إذن فالمطلوب من الباحث الذي يودّ قراءة كتب السّلف أن يعي ما فعلته هذه السلطات الحاكمة، لئلّا يكون ضحيّة الروايات المحرّفة التي دسّتها هذه الأيدي الأثيمة بغية الوصول إلى مآربها الدنيويّة.

وهذا ما قام به المستبصرون، فإنّهم حين بحثهم عن الحقّ حاولوا أن يزيلوا الغشاوة التي وضعتها يدُ التحريف ورجال الكذب والدجل على بصائرهم، واجتهدوا أن يبدّدوا الضباب أو الغبار الذي أثاره البعض لتشويه صورة الحقيقة، وحاولوا أن يتجنّبوا التأثّر بالخرافات التي تسبح في المتاهات والظنون، والتي تأخذ بيد العقل ليسبح معها في عالم الأوهام.

وكانت النتيجة أن وصل هؤلاء إلى ما يبتغوه، لأنّ المغرضين على رغم محاولاتهم الحثيثة لتزييف الحقائق وتغيير وجه الحقيقة عن طريق شعاراتهم الفارغة والفاظهم المُنمّقة وسلوكهم الطرق الملتوية، فإنّ دين اللَّه تعالى يعلو ولا يُعلى عليه.

فلهذا باءت محاولاتهم بالفشل، ويشهد الجميع في عالمنا المعاصر ازدهار شأن اهل البيت ‏عليهم‌السلام يوماً بعد آخر وانتشاره في جميع ربوع العالم.

التحريف في عالمنا المعاصر:

إنّ التحريف الذي قام به بعض القدماء قد وجد - للأسف - في عالمنا المعاصر بعض الأجواء المناسبة التي تمدّه بما يكفل له البقاء.

ومن أهمّ أسباب بقاء التحريف هو أنّ جملة من أبناء مجتمعاتنا الإسلاميّة المعاصرة ألفوا التزييف الذي سنّته الحكومات الجائرة السابقة عن طريق وعّاظ السلاطين والأقلام المرتزقة، ولم يحاولوا التثبّت من صحّة ما ذهب إليه من قبلهم، بل تلقّوا آراء السابقين كثوابت لا يصح غربلتها أو التشكيك في صحّتها.

ومن هذا المنطلق بقي التحريف مترسّخاً في أوساط المجتمع لايستطيع أحد أن يزيله سوى العلماء، ولكنّ الكثير من العلماء أيضا - للاسف - كما يذكر عنهم ياسين

١٦٢

المعيوف البدراني في كتابه (ياليت قومي يعلمون)، قائلاً:

( تعوّدت بعض الأقلام المأجورة واستمرّت أن تعيش في النفاق وعلى النفاق مقدّمة نتاجها الفكري للمجتمع الذي تعيش فيه مزيفاً ومغلوطاً، وذلك بدافع من مصلحة دنيويّة تافهة )(١) .

ويقول التيجاني السماوي أيضاً في هذا المجال: ( واكتشفت أيضاً أن العديد من العلماء، عندما تواجههم الحقيقة المرّة المؤلمة، يبحثون عن بعض التأويلات والمخارج التي هي في الحقيقة، مبكية ومضحكة في الوقت نفسه )(٢) .

ويقول إدريس الحسيني:

( ...أليس هذا هو التجهيل؟ اءنّهم يكتبون للامّيين والمغّفلين! لذلك تراهم لا يتورّعون عن التلفيق! )(٣) .

ويشير صالح الورداني إلى هذه الحقيقة أيضاً قائلاً:

( إنّ منهج التأويل والتبرير هو الأساس الذي بني عليه منهاج القوم وعقائدهم ولم يكن مجرّد طرح عابر في مذهبهم وإنّما كان سلاحهم الذي يشهرونه في وجه خصومهم وفي وجه المسلمين الذين ينتابهم الريب في رواياتهم ومواقفهم وأحداث التاريخ بوجه عام.. وعقيدة تقوم على التبرير والتأويل عقيدة واهية مهزوزة لابدّ للعقل من أن يلفظها يوماً )(٤) .

ومن جهة أخرى أيضاً فإنّ الكثير من الأعلام والمشايخ لم يتحلّوا بالأمانة العلميّة في نقلهم المعارف الدينيّة إلى الآخرين، ولم يلتزموا بالورع خلال نظرهم في الاستدلال والمعاني، لأن أمثال هؤلاء - في الواقع - لم يطلبوا العلم من أجل التحلّي

____________________

(١) المصدر السابق: ٦٩.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ اعرف الحق: ١٤.

(٣) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ٢٦.

(٤) صالح الورداني/ الخدعة: ٦٩.

١٦٣

بالفضيلة، أو من أجل إفادة الناس بما عرفوا من الحكمة، بل طلبوه ليكون لهم جسراً يصلوا من خلاله إلى مطامعهم الدنيويّة.

ولهذا انعدمت الأمانة في نفوس هؤلاء، وغدوا لايتحرّجون من رواية مالم يسمعوا أو ذكر ما لم يعلموا.

وهذا ما دعى العلماء إلى تشييد علم الرجال وإجراء الجرح والتعديل، ليكون الباحث على بصيرة من أمره، ولئلّا تخفى عليه منزلة من يروي له الحقائق.

وأضف إلى مسألة عدم تحلّي بعض العلماء بالأمانة العلميّة، أنّ الكثير من الباحثين يواجهون في زماننا استنكاف بعض العلماء من الاعتراف بعدم العلم إذا سُئِلوا عن شي‏ء لا يعلموه.

وذلك لأنّ هؤلاء يرون أن الإذعان بعدم المعرفة يذهب بشي من احترام المقابل لهم، فيدفعهم هذا الأمر إلى الإجابة وفق ما تملي عليهم أهواؤهم واستنباط الإجابة من عالم الأوهام، ليفهموا السائل بأنّه ممن لا يخفى عليهم شي‏ء!

في حين أنّ الواقع يحتّم على العالم الورع والمتّقي إذا سُئل عما لا يعلم أنْ لايجد في صدره حرجاً أن يقول (لا أعلم)، وعليه أن لا يستنكف ولا يبالي بما يكون لموقفه الصحيح من أثر في نفوس سائليه.

بل لو يتأمّل الإنسان الواعي في هذا الموقف يرى أنّ العالم إذا سُئل عما لا يعلم، فاعترف بعدم علمه، فإنّه وان لم يمنح السائل جواب ما سأل، لكنّه يعطيه درساً أخلاقيّاً مفاده أنّ المرء ينبغي أن لا يتحدّث إلّا عن بصيرة.

من جهة أخرى يشير صباح علي البياتي في هذا المجال إلى إحدى الوسائل التي يجعلها من في قلوبهم مرض وسيلة لتشويه سمعة التشيّع، قائلاً:

( أودّ أنّ أنوّه إلى أمر مهم جدّاً ألا وهو: أن الشيعة لا يعتقدون بوجود كتاب صحيح تماماً غير كتاب اللَّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما عداه من كتب، فإنّها تحوي الصحيح وغيره مهما كانت منزلة هذه الكتب أو مصنّفيها.

١٦٤

وعلى هذا الأساس فإنّ وجود رواية في أيّ من كتبهم لا تعني بالضرورة أنّهم يقولون بصحّتها، وأمثال هذه الروايات موجودة فعلاً في كثير من كتب الشيعة رغم عدم اعتقادهم بصحّتها، وذلك على العكس من الإخوة من أهل السنّة الذين يضفون على بعض كتبهم - وبخاصّة التي يسمونها (الصحاح) وعلى رأسها كتابَي البخاري ومسلم - رداء القدسيّة، حتى قالوا عن صحيحي البخاري ومسلم:... أنّه لو حلف رجل بطلاق امرأته على أن كل ما في الصحيحين هو من أقوال وأفعال وتقرير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحنث، وأن من روى له البخاري فقد جاز القنطرة(١) )(٢) .

السبب الثاني:

التعتيم‏

من الأسباب الأخرى التي توجب حرمان الباحث من معرفته للحقّ هي التعتيم الذي يحاول البعض عن طريقه أنْ يُرخي سحابه من الدخان حول بصيرة الباحثين، ليمنعوهم من الوصول إلى علوم ومعارف أهل البيت ‏عليهم‌السلام .

ويقول محمد الكثيري في هذا المجال:

( إنّ الكتاب الشيعي مُحارَب في كلّ مكان وممنوع دخوله في أغلب الدول، وقد أحاط السلفيّون والغرب الاستعماري دولة التشيّع بأسلاك شائكة من الدعايات المغرضة وتزييف الحقائق الدينيّة والسياسيّة )(٣) .

ويقول هذا المستبصر في مكان آخر من كتابه (السلفية):

( إنّ السلفيّة يحاربون الكتاب الشيعي في كل مكان، ويمنعون دخوله إلى بلدهم ويُحرّمون قراءته.

____________________

(١) مقدّمة فتح الباري: ٣٨١.

(٢) صباح علي البياتي/ لا تخونوا اللَّه والرسول: ٦٩.

(٣) محمّد الكثيري/ السلفيّة: ٧١٢.

١٦٥

وفي الجزائر يتعرّض أيّ شاب ملتزم للإهانة بل ربّما للضرب والمحاكمة إذا ما وُجد بحوزته كتاباً أو مجلّة شيعيّة؟

لماذا هذا الخوف من الكتاب الشيعي يا دعاة السلفيّة؟! )(١) .

ويضيف هذا المستبصر:

( ونحن نقول لدعاة السلفيّة: إذا كان ما تكتبونه عن الشيعة صحيح ويمثّل الحقيقة، فلماذا لاتفسحون المجال للكتاب الشيعي أن ينتشر؟! لأنّ ذلك سيؤكّد ما تدّعون عليهم من آراء ومعتقدات، وسيجعل أبناء الصحوة الإسلاميّة يتّخذون الموقف السليم من التشيّع...

لكنّني على يقين من أنّهم لن يفعلوا، لأنّهم يخافون من التشيّع، ومن حقائق التشيّع، لأنّ الشمس عندما تطلع وتحتل مكانها في كبد السماء، تنطفئ كل الشموع، وينعدم ضوؤها، وهذا هو حال التشيّع مع العقيدة السلفيّة.

إنّهم يتستّرون ويختفون وراء جدران صنعوها من الكذب والتلفيق، لذلك ما إن يعرف أحد أبناء الصحوة الإسلاميّة بعض الحقائق حتى ينقلب عدوّاً لدوداً للسلفيّة ولدعاة مذهب السلف، لأنّه سيكتشف إنّ غذاءه السلفي كان محشواً بالكذب وتحريف الحقائق )(٢) .

وقال التيجاني السماوي مشيراً إلى معاناته في البحث:

( ولماذا يحاول بعض العلماء حتى اليوم في عصر العلم والنور جهده تغطية الحقائق بما يختلقونه من تأويلات متكلّفة لا تسمن ولا تغني من جوع؟ )(٣) .

وأشار التيجاني السماوي أيضاً إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( إذا استثنينا بعض العلماء المعاصرين الذين أنصفوا في كتاباتهم عن الشيعة بما تفرضه عليهم الأخلاق الإسلاميّة ، فإنّ الأغلبيّة الساحقة منهم قديماً وحديثاً لازالوا

____________________

(١) المصدر السابق: ٦٧٩.

(٢) المصدر السابق: ٦٨١.

(٣) محمد التيجاني السماوي/ فسألوا أهل الذكر: ٣١٧

١٦٦

يكتبون عن الشيعة بعقليّة الأمويين الحاقدين، فتراهم في كل وادٍ يهيمون ويقولون ما لا يفقهون، ويسبّون ويشتمون ويتقوّلون افتراء وبهتاناً على شيعة آل البيت ما هم منه براء، ويكفّرونهم وينبذونهم بالألقاب اقتداءً بسلفهم الصالح معاوية وأضرابه، الذين استولوا على الخلافة الإسلاميّة بالقوّة والقهر والمكر والدهاء والخيانة والنفاق.

فمرّة يكتبون بأنّ الشيعة هي فرقة من تأسيس عبد اللَّه بن سبأ اليهودي، ومرّة يكتبون بأنّهم من أصل المجوس، وانّهم روافض قبّحهم اللَّه، وأنّهم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى.

ومرة يكتبون بأنّهم منافقون لأنّهم يعملون بالتّقيّة، وأنّهم إباحيّون يبيحون نكاح المحارم ويحلّلون المتعة وهي زنا، والبعض يكتب بأنّ لهم قرآناً غير قرآننا، وأنّهم يعبدون عليّاً والأئمّة من بنيه ويبغضون محمّداً وجبريل وأنّهم وأنّهم...

ولا يمرّ عاماً إلّا ويطلع علينا كتاب أو مجموعة كتب من أولئك العلماء الّذين يتزعّمون (أهل السنة والجماعة) بزعمهم وكلّه تكفير واستهانة بالشيعة.

وليس لهم في ذلك مبرّر ولا دافع إلّا ارضاء أسيادهم الّذين لهم مصلحة في تمزيق الأمّة وتفريقها والعمل على ابادتنا.

كما ليس لهم فيما يكتبون من حجّة ولا دليل سوى التعصّب الأعمى والحقد الدفين والجهل المقيت، وتقليد السلف بدون تمحيص ولا بحث ولابيّنة، فهم كالببّغاء يعيدون ما يسمعون ويستنسخون ما كتبه النواصب من أذناب الأمويين، والذين لايزالون يعيشون على مدح وتمجيد يزيد بن معاوية.

وبما أنّهم أتباع السنّة الأمويّة والقريشيّة فهم يتكلّمون ويكتبون بالعقليّة الجاهليّة والأفكار القبليّة والنعرات العنصريّة، فالشي‏ء من مأتاه لا يستغرب، وكلّ إناء بالذي فيه ينضحُ )(١) .

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهلُ السنّة: ٦٣-٦٤.

١٦٧

وقال حسين على آل رجاء:

( إنّ الشعب العامي المسلم مظلوم حيث يحال بينه وبين العلوم الحقيقيّة المتمثّلة بعلوم آل البيت عليهم الصّلاة والسلام )(١) .

وأشار الهاشمي بن علي إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( طبعاً مازلت أقول أنّ هناك الملايين من المسلمين وغيرهم ممّن لهم طينة صالحة ولكن لم يصل إليهم هذا المذهب. ( فإنّ النّاس لو عرفوا محاسِن كلامنا لاتّبعونا )) كما ورد عن الإمام المعصومعليه‌السلام )(٢) .

وقال أسعد وحيد القاسم حول معاناته في هذا المجال:

( وكلّما كنت أقرأ كتباً إضافيّة حول هذا الموضوع، فإنّ الحقيقة كانت تبدو لي أكثر وضوحاً حتى ظهرت لي في النهاية بأجلى صورها وبما لا يقبل أيّ شك.

إلّا ان السؤال الذي أخذ يراودني دائماً يدور حول سبب إخفاء كثير من الحوادث التّاريخيّة وأحاديث الرسول‏صلى‌الله‌عليه‌وآله عنّا بالرغم من توثيقها في المصادر المعتبرة عند أهل السنّة، والتي من شأنها توضيح الكثير من الغموض الذي رافق مسألة الخلاف بين السنّة والشيعة على مرّ القرون الماضية.

فهل إخفاء الحقائق أو التعتيم والتشويش عليها يُقبل مبرّراً لمنع الفتنة كما يزعمون؟

أليست الفتنة كلّها بإخفاء الحقائق وتزييفها؟ )(٣) .

وذكر محمد كوزل الحسن الآمدي في هذا المجال:

( وقفت على نصوص كثيرة واردة في الكتاب والسنّة معلنة بخلافة أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من ذريّته ‏عليهم‌السلام آمرة بالاقتداء بهم والسير على نهجهم، وناهية عن مخالفتهم ومعاداتهم، وتواترت بذلك الأخبار من كتب السنّة والشيعة. وإنْ كانت

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: صفر (التجريبي)

(٢) جريدة المبلّغ الرسالي: ٢٧ صفر ١٤١٩ه.

(٣) أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثنى‏ عشريّة: ١٥.

١٦٨

سلطات الجور سعت وصرفت قصارى جهدها لاخفاء تلك النصوص وكتمانها، وعذّبت وسجنت مَن أفشاها ونشرها، وبذلت أموالاً كثيرة وجوائز نفيسة لمن وضع مخالفها ومناقضها على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ورغم كلّ ذلك فقد أنعم اللَّه على هذه الأمّة أن حفظ لهم مقداراً كثيراً من تلك النصوص كي يكون كافياً( لِمَن كانَ لَهُ قَلبٌ أو أَلقى‏ السَّمعَ وهوَ شهيدٌ ) ، ويكون حجّة على من ألقى العذر وهو عنيد )(١) .

السبب الثالث:

الشبهات‏

الشكوك البنّاءة:

يشعر الإنسان بعد بلوغه مرحلة النضج أنّه بحاجة إلى البحث والتحقيق من أجل الحصول على المعرفة النقيّة التي يمكن أن يطمئنّ بها.

ومن هنا تتبلور في ذهن الإنسان شكوك وشبهات حول صحّة المعتقدات التي ينتمي إليها.

وهذه الشكوك والشبهات والتساؤلات العقائديّة التي تمور في دواخل الفرد تعتبر شكوكاً بنّاءة، وهي أمر طبيعي، لأنّها تنتج من عدم المعرفة، وتثير في نفس الإنسان جملة من المشاعر التي تبعث فيه النشاط والحيويّة من أجل طلب العلم والتثبّت في أموره العقائديّة.

وعلى الباحث في هذه الحالة أن يتريّث عن لا يسارع إلى تكذيب القضايا التي تثار حولها الشكوك في ذهنه، وعليه أن يقوم بالبحث والتحقيق بكامل الحيطة والحذر لينتهي إلى النتيجة اليقينيّة.

____________________

(١) محمد كوزل الحسن الآمدي/ الهجرة إلى الثقلين: ٢٠٤.

١٦٩

الشكوك الهدّامة:

الشكوك والشبهات الهدّامة والمخرّبة تختلف عن الشبهات التي تثار في ذهن الباحث بشكل طبيعي، بل هي أفكار يتعمّد المغرضون انشاءها وإثارتها عن طريق تزيين الباطل وتزييف الحق أو خلط الحق بالباطل أو غير ذلك من الأساليب الملتوية من أجل حرمان الآخرين من معرفة الحق.

وأكثر من يثير هذه الشبهات هم الّذين يضرّهم اتّجاه الآخرين نحو الحق، فيتوسّلون بكلّ ما في أيديهم من تمويه وخداع ليبقوا الناس في الدوائر التي تخدم مصالحهم ومطامعهم الشخصيّة.

ويحاول هؤلاء أن تعيش الأمّة في تيه وحيرة وظَلام وعدم يقين واضح في أمر العقيدة، لتتاح لهم في وسط هذا العماء الطاغي وهذا التيه المضل فرصة الاستغلال والوصول إلى مآربهم الشخصيّة والاصطياد بالماء العكر.

ويشير سعيد أيّوب إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( وعلى امتداد المسيرة البشريّة لم تكف أجهزة الصدّ عن سبيل اللَّه عن وضع العوائق أمام طائفة الحقّ )(٢٢٣) .

ويقول هشام آل قطيط:

( كثير من الحقائق والمسلّمات تستحيل إلى خرافة و وَهمٍ حين يستفرغ المرء وسعه، ويسلخ بعض الوقت في التنقيب عن جذور تلك الحقائق ومصدرها.

فكثيراً ما تكون العواطف والأهواء والنزعات، هي العامل الأقوى وراء شيوع قضيّة ما واستحكامها وفرض نفسها، لتشغل لها مكاناً بين الثوابت والمسلّمات.

كلّ ذلك بسبب وجود من يحرص على أنْ تأخذ قضيّة معيّنة حجماً أكبر من ذاتها ومكانة أعظم مما تستحق.

____________________

(٢٢٣) سعيد أيّوب/ الرّساليّون: ٤٨.

١٧٠

أضف إلى ذلك فقدان المقياس الحقيقي المستند إلى العقل، وتقييم الواقع في تحديد حجم المسائل وأعطائها الموقع المناسب )(١) .

ويستخدم هؤلاء المغرضون في سبيل بلورة شبهاتهم الكثير من السبل الملتوية، منها: استعمال الألفاظ في غير مواضعها من أجل إضاعة المعنى الحقيقي الذي يعنيه اللفظ، أو الإغارة على النصوص الدينيّة من أجل نحر معانيها الأصليّة وجعل معاني أخرى مكانها و..

ولايكون ضحيّة هذه الشكوك والشبهات إلّا أصحاب العقول التي لم يقم أصحابها بتنويرها وارتقاء مستوياتها.

ويشير التيجاني السماوي إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( فقد يَلبس الباطلُ لباسَ الحقّ للتمويه والتضليل، وقد ينجح في أغلب الأحيان لبساطة عقول الناس أو لحسن ظنّهم به، وقد ينتصر الباطلُ أحياناً لوجود أنصار مؤيّدين له، فما على الحقّ إلّا الصبر وانتظار وعد اللَّه بأنّ يزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقاً )(٢) .

ويشير ياسين المعيوف البدراني إلى هذا الأمر قائلاً:

( سيقع في الكثير من الشبهات - التي تغيّر المفاهيم الحقيقيّة لتحل محلّها مفاهيم مغلوطة تنمو في عقول البسطاء - الذين ينعقون عن جهل خلفَ كلّ ناعق ويميلون مع كلّ ريح )(٣) .

ولهذا ينبغي لكلّ انسان يودّ صيانة نفسه من التأثّر بالشكوك الهدّامة أن يوسّع دائرة معارفه بالأمور العقائديّة، ليتمكّن من الدفاع عن معتقداته، وليسعه التحصّن إزاء الوسائل التي يستخدمها المغرضون في زرع الشبهات في نفوس الآخرين، وليتمكّن

____________________

(١) هشام آل قطيط/ وقفة مع الدكتور البوطي في مسائلة: ٢٨.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: ١٢.

(٣) ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: ٤٢.

١٧١

من إزالة الالتباس الذي قد يقع فيه على حين غفلة.

كما على الباحث فيما لو أراد ان يرتقي في مجال درء الشبهات وبيان بطلانها أن يقف على المصادر التي يستقي منها أصحاب الشبهات باطلهم وصناعتهم الجدليّة، ليتمكّن من دحض حجّتها وبيان تهافتها بأفضل صورة ممكنة.

مظلوميّة مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام :

لايخفى على أحد انّ الشيعة شهدت من جميع النواحي التاريخيّة والفكريّة والاعتقاديّة الحملات المسعورة والهجمات القاسية من قبل السلطات الحاكمة ومَن تبعهم من وعّاظ السلاطين ومن لفّ حولهم.

وقد واجه التشيّع منذ نشأته المؤامرات الواسعة من أجل القضاء عليه، وقد سعت بعض السلطات الحاكمة - وعلى رأسها السلطات الأمويّة والعبّاسيّة - بكلّ ما أوتيت من قوّة إلى تحريف وتخريب أهم حصونه المنيعة وبنائه العقائدي.

ويشير التيجاني السماوي إلى هذا الأمر قائلاً:

( ومن العقائد التي يشنّع بها أهل السنّة على الشيعة ما هو من محض التّعب المقيت الذي أولده الأمويّون والعبّاسيّون في صدر الإسلام، بما كانوا يحقدون على الإمام علي ويبغضونه حتى لعنوه على المنابر أربعين عاماً )(١) .

ويشير عبد المنعم حسن أيضاً إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( إنّ الشيعة ومنذ وفاة الرّسول‏صلى‌الله‌عليه‌وآله عاشوا في اضطهاد وتشريد وتقتيل من قبل السلطات الجائرة التي تعاقبت، وبعد واقعة كربلاء أصبح الشيعة وحدهم المناوئين للحكّام والمتصدّين لهموم الأمّة باعتبار أنّ أئمّتهم هم الحافظون للشريعة، لذلك

____________________

(٢) محمد التيجاني السماوي/ لأكون مع الصادقين: ٥٩.

١٧٢

كرّست الحكومات كل جهودها لضربهم )(١) .

ويذكر إدريس الحسيني هذا الأمر أيضاً بقوله:

( لقد نشأ التشيّع وترعرع في بيت النبوّة، وفي أهل بيت هم أهل بيتِ نبيّ الإسلام. وعاشوا معاً - الشيعة وأهل البيت - أعنف حالة، ظلّوا محاصرين ومصادَرين لا لشي‏ء إلّا لتصدّيهم المبكّر لكلّ تحريفيّة تسلّلت إلى الإسلام، وإلى كلّ سلطة حاربت دين اللَّه في الأرض )(٢) .

و يضيف هذا المستبصر:

( الشيعة قوم عاشوا المظلوميّة في مختلف أطوار التاريخ. لم يفرض عليهم العنف إلّا العنف الذي مارسه في حقّهم أعداء الأديان وأعداء الإنسانيّة )(٣) .

ويشير صباح علي البياتي إلى مظلوميّة أهل البيت ‏عليهم‌السلام وشيعتهم قائلاً:

( قال الإمام الباقرعليه‌السلام لبعض أصحابه: ( يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا، ومالقي شيعتُنا ومحبّونا من النّاس!

إنّ رسول الله عليه وآله قبض وقد أخبر انّا أولى الناس بالناس؛ فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثمّ تداولتها قريش، واحداً بعد واحد، حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتَنا ونصبت الحربَ لنا

ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى‏ قُتل، فبويع الحسنُ ابنه وعوهد ثمّ غُدر به وأسلم وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ونهبت عسكره,وعولجت خلاخيل أمّهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حقّ قليل

ثمّ بايع الحسين ‏عليه‌السلام من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به وخرجوا عليه

____________________

(١) عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: ٢١٦.

(٢) إدريس الحسيني/ هكذا عرفت الشيعة: ١٣.

(٣) المصدر السابق.

١٧٣

وبيعته في أعناقهم وقتلوه، ثم لم نزل - أهل البيت - نُستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ونُخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا

ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، و رَوَوا عنّا ما لم نَقله وما لم نَفعَله ليبغّضونا إلى النّاس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن‏عليه‌السلام ، فقُتِلَت شيعتُنا بكلّ بلدة وقُطِعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب مالُه أو هُدمت دارُه

ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد اللَّه بن زياد قاتل الحسين ‏عليه‌السلام ، ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحَبُّ إليه من أن يُقال شيعة عليّ، وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير - ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً - يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق اللَّه تعالى شيئاً منها ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع ))(١) .

هكذا كان حال الشيعة في زمن بني أميّة - كما وصفه الإمام الباقرعليه‌السلام - ثمّ جاء دور العبّاسيين الّذين كانوا أشدّ وطأة على أهل البيت وشيعتهم من أسلافهم الأمويّين، وكتب التاريخ ممتلئة بتلك الحوادث المفجعة، ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني.

ثمّ جاء العثمانيّون ليكمّلوا المسيرة الظالمة، إذ كان السلطان سليم - كما يحدّثنا السيّد أسد حيدر - شديد التعصّب على أهل الشيعة، ولا سيّما أنّه كان في تلك الأيّام قد انتشرت بين رعاياه تعاليم شيعيّة تنافي مذهب أهل السنّة، وكان قد تمسّك بها

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١١/ ٤٣-٤٤.

١٧٤

جماعة من الأهالي، فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة، فقتلوا نحو أربعينَ ألف رجل، وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنّه يؤجَر على قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدّهم(١) .

كما ذكر الشيخ المظفّر رحمه اللَّه بعض فضائع العثمانيّين تجاه الشيعة، ومنها ما حدث في مدينة حلب، حيث أفتى الشيخ نوح الحنفي في كفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم، تابوا أو لم يتوبوا !! فزحفوا على شيعة حلب وأبادو منهم أربعين ألفاً أو يزيدون، وانتهبت أموالُهم وأخرج الباقون منهم من ديارهم...(٢) .

أمّا المذابح التي ارتكبت بحقّ الشيعة، وما أريق من دمائهم وما انتهب من أموالهم، وما تعرّض له مشاهدهم المقدّسة من تخريب على أيدي الوهّابيّين بفتوى شيخهم محمّد بن عبد الوهّاب، فحدّث ولا حرج، استكمالاً للمخطّط الذي بدأه معاوية في تصفية آثار النبوّة والقضاء على سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال تصفية أتباعه المتمسّكين بسنّته )(١) .

ويضيف هذا المستبصر:

( الشيعة قوم عاشوا المظلوميّة في مختلف أطوار التاريخ، لم يفرض عليهم العنف إلّا العنف الذي مارسه في حقّهم وأعداء الأديان وأعداء الإنسانيّة )(٢) .

وهذه السلطات رغم استخدامها كافّة وسائل إعلامها وممارستها الإرهاب ومبادرتها إلى قتل وتشريد أتباع مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام ، ورغم ما بذلته من ثروة لشراء بعض الضمائر واستئجار الأقلام من أجل إخفاء معالم هذا المذهب، وإن استطاعت أن تبعد الكثير من أبناء الأمّة عن قادتهم الحقيقيّين من أهل البيت ‏عليهم‌السلام بحيث ذهب الكثير ضحيّة الأقلام التي حاولت أن توسّع الفجوة بين أبناء الأمّة وبين معرفة أئمّتهم

____________________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: ١/٢٤٤، عن مصباح الساري ونزهة القاري: ١٢٣-١٢٤.

(٢) تاريخ الشيعة: ١٤٧، التقيّة في فقه أهل البيت: ١/٥١.

(٣) صباح علي البياتي / لاتخونو اللَّه والرسول: ١٥٤

(٤) المصدر السابق.

١٧٥

من أهل البيت ‏عليهم‌السلام ، ولكنّها لم تستطع أن تغيّر مسار كلّ الأمّة عن دربها الأصيل الذي ابتدأه رسول البيت ‏عليهم الله عليه وآله وأكمله الأئمّة من اهل البيت ‏عليهم‌السلام .

ولهذا يقول التيجاني السماوي:

( وبالرغم من كلّ ذلك سيبقى صوت الحقّ مدوياً وسط الضوضاء المزعجة، ويبقى بصيص النور مضيئاً وسط الظلام الدّامس، لأن وعد اللَّه حق ولابد لوعده من نفاذ، قال تعالى:( يُريدُونَ ليُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بأفواهِهِم واللَّهُ مُتِمُّ نورِهِ ولَو كَرهَ الكَافِرونَ ) (١) )(٢) .

ويشير محمد علي المتوكّل إلى صمود التشيّع بوجه الحملات التي شُنّت عليه:

( إنّ التشيّع - بما هو جوهر الدّين - قد صمد عبر التاريخ في وجه أعنف حملات الطمس والتشويه، واستعصى على كل المؤامرات التي استهدفته منذ وفاة النبي وإلى الآن.

وهو المذهب الوحيد الذي ظلّ أمره في ازدياد، لما يستبطن من حق، ولتمسّك أهله، ولقدرته على مواكبة العصر والوفاء بمتطلّبات الزمن، بينما اندثر غيره من المذاهب أو كاد، حتى المذاهب الأربعة لم يعد التمسّك بها إلّا تقليديّاً وشكليّاً ولم تعد قادرة على الوقوف أمام دعاوي التجديد الفقهي وفتح أبواب الاجتهاد التي تنطلق من هنا وهناك )(٣) .

ويذكر ياسين المعيوف البدراني:

( إنّنا ننظر إلى حالة الشيعة فنعجب ونذهل لما لاقوه من الاضطهاد في العهدين الأسودين ولقرون عدّة.

وتصيبنا الحيرة في أنّهم - أيّ الشيعة - كيف تمكّنوا برغم كل ذلك الاضطهاد أن يحافظوا على علمهم ومناهجهم وسيرتهم ورسالتهم واستمروا يحملون لواء الجهاد

____________________

(١) الصفّ: ٨.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذّكر: ٦.

(٣) محمّد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٦٠.

١٧٦

ضدّ كل الحكّام المنحرفين والظالمين لشعوبهم متبعين العقيدة الصحيحة التي استقوها من منهلها الأول منهل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيت ‏عليهم‌السلام متمسّكين بها بكلّ القوّة والإيمان والثبات.

ذلك لأنّها امتزجت عندهم مع الدم واللحم امتزاج الإيمان مع النفس المؤمنة.

كما وأنّهم (أهل البيت) لم يقفوا عند حدود التقليد والقول باللسان على عواهنه، بل كان دأبهم في الليل والنهار أن ينشروا علومهم وأن يبثوا الروح الثوريّة روح رسالة الإسلام في نفوس المستضعفين، وما تزال آثار هذه الدعوة تستعر بلهيب الحق حتى يومنا هذا )(١) .

إثارة الشبهات ضدّ مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام :

في ظلّ هكذا أجواء إرهابيّة ضد مذهب التشيّع من قبل السلطات الحاكمة، نشأت فئات متلبسة بالعلم لا تريد للتشيّع إلّا الوقيعة والشرّ، ولا تريد للشيعة إلّا الوهن والضعف، فغمست أقلامها في دواة الأوهام والآثام، ثمّ بادرت في كتاباتها إلى حملة تشويهيّة ضد مذهب التشيّع من أجل النيل من عقائده والتشكيك بصحّته وعرضه بصورة مزيّفة والصاق التهم والافتراءات به وطمس محاسنه والتشهير به وتصويره كأنّه المعول الهادم لكيان الإسلام!

ولم يستحي هؤلاء من باطلهم، فكذّبوا باسم البحث المحايد، واختلقوا ولفّقوا من أجل أغراضهم الدنيئة، وحاولوا عبر تخطيطهم المدروس والمُبَرمج أن يخرجوا التشيّع من حظيرة الإسلام وأن يعطوه صفة لا تلتقي مع الإسلام.

ويقول مروان خليفات حول إحدى الطرق التي استخدمها هؤلاء للإطاحة بالكيان الشيعي:

____________________

(١) ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: ١٦٨.

١٧٧

( من العوامل التي ساعدت على تكوين هذه الصورة المشوّهة عن الشيعة، هو خلط كثير من المؤرّخين والكتّاب بين الجعفريّة وغيرها من الفرق...

[و] يقول علي عبد الواحد وافي - من علماء أهل السنّة - [في كتابه بين الشيعة وأهل السنّة:١١]: ( انّ كثيراً من مؤلّفينا، بل من كبارهم، أنفسهم قد خلط بين الشيعة الجعفريّة وغيرها من فِرق الشيعة، فنسب إلى الجعفريّة عقائد وآراء ليست من عقائدهم ولا من آرائهم في شي‏ء، وإنّما ذهبت اليها فرق أخرى من فرق الشيعة ) )(١) .

ويقول أسعد وحيد القاسم في هذا الخصوص:

( ما اندرج تحت اسم الشيعة من طوائف تقول بألوهيّة عليّ أو نبوّته أو غير ذلك من الطوائف. فإنّ الشيعة منها براء.

فلماذا يصرّ البعض على اعتبار هذه الطوائف من الشيعة؟

ولماذا يقومون بإشاعة هذه الترهات وغيرها مضلّلين بها عوام المسلمين وجهّالهم؟

ولماذا هذا التزوير الشائن في تاريخ المسلمين ودينهم الحنيف؟ )(٢) .

وكان أثر هذا التحريف القديم على الأجيال التي جاءت بعدها أنّها ورثت هذه الأفكار الخاطئة والمشوّهة حول عقائد وحقيقة الشيعة والتشيّع من أسلافها مع حسن الظن بهم، وقبلتها من غير تحقيق ولا تمحيص ولاتبصّر.

وساعدت الأجواء السياسيّة والتعصّبات الدينيّة على بقاء هذه المفاهيم، فتغلغلت هذه المفاهيم المغلوطة التي تكوّنت في عصور التخلّف الفكري والصراع الطائفي في نفوس الكثير من أبناء المجتمع.

ولهذا يقول عبد المحسن السراوي:

( إنّ كثيراً من كتّاب عصرنا لا يزالون يعيشون بعقليّة عصور الظلمة، تلك التي

____________________

(١) مروان خليفات/ وركبت السفينّة: ٦١٥.

(٢) أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثني عشريّة: ١٧.

١٧٨

استغلّ ظروفها المُندَسّون في صفوف المسلمين لنشر المفتريات وخلق الأكاذيب )(١) .

ويقول هذا المستبصر حول بعض الكتّاب المعاصرين الذين كتبوا حول الشيعة والتشيّع:

( اولئك الكتّاب قد جمدوا على عبارات سلف عاشوا في عصور الظلمة عصور التطاحن والتشاجر، فقلّدوهم بدون تفكير أو تمييز حتى أصبحت القضيّة خارجة عن نطاق الأبحاث العلميّة، وهي إلى المهاترات أقرب من المناقشات المنطقيّة )(٢) .

ثمّ وقعت هذه الشبهات والافتراءات والهجمات الفكريّة ضدّ مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام بيد فئات تُحرّكهم العواطف الآنيّة وتستفزّهم الانفعالات النفسيّة وتهيّجهم الشعارات المزيّفة وتتحكّم بهم الغوغائيّة، فاعترتهم حالة ردود أفعال عشوائيّة، فنفخوا في هذه الشبهات والافتراءات، و زادوا فيها ما شاء لهم هواهم أن يزيدوا، وحمّلوها أكثر ممّا تحمل، وأضافوا عليها من الأكاذيب ما يندى لها الجبين، بحيث يقول أسعد وحيد القاسم في هذا المجال:

( استنكرتُ هذه الحملة نظراً للطريقة البعيدة عن الأدب والموضوعيّة التي يصفون بها حقيقة الشيعة، والتي كنت ألاحظ أنّها تتّسم بالمبالغة والتهويل في أغلب الأحيان )(٣) .

ويصف عبد المنعم حسن مشاعره وموقفه قبل الاستبصار بعد استماعه إلى مجموعة من هذه الشبهات حول الشيعة من قبل أحد المشايخ الذين التقى بهم:

( أحسستُ بغثيان بسبب كذب هؤلاء القوم.

لقد قرأت بعض كتب الشيعة التي ألّفها كبار علمائهم ورأيت بعض الأخوة الشيعة، لم أقرأ أو أسمع ما قاله هذا الوهابي، ولا أدري كيف يدّعون نصرة الحقّ وهم يكذبون

____________________

(١) عبد المحسن السراوي/ القطوف الدانية في المسائل الثمانية: ١٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثني عشريّة: ٨.

١٧٩

بل يبالغون فيه إلى حدّ يؤسف له.

صرخت في وجهه بلا وعي منّي: ألا يمكنك أن تنصر الحق الذي تدّعيه بدون أن تكذب وتفتري على القوم.

فارتبك متلعثماً: كيف تقول لي مثل هذا الكلام؟!

قلت: أنت الذي أجبرتني على ذلك، أنا قرأت للشيعة وجلست معهم، وأعرف جيّداً ما يقولون وما ذكرته لي بعيد عنهم كلّ البعد )(١) .

ثم قال عبد المنعم حسن له:

( إنّ مثل هذه التهم صارت قديمة لا يصدّقها أحد، والنّاس أكبر وعياً من أن تنطلي عليهم هذه الأكاذيب.

قال: يبدو أنّك منهم!

قلت: لست شيعيّاً ولو كنت فلا شي‏ء يمنعني من التّصريح بذلك، لكنّني الآن فقط عرفتكم، أنتم لا تستطيعون الدفاع عن باطلكم إلّا عن طريق الكذب )(٢) .

ويذكر هشام آل قطيط حول بعض هذه التهم الرخيصة قائلاً:

( إنّ أحد علمائنا في المنطقة كان يقول لي دائماً إيّاك ومجالسة الشيعي، وإيّاك ومحاورة الشيعي ( لا تحاور الشيعي ولو كان الجدال عن حقّ).

هؤلاء الشيعة قتلوا إمامنا الحسين ‏رضى الله عنه، ولحدّ الآن يبكون ويلطمون ويندبون هم ونساؤهم وأطفالهم نَدَماً وخوفاً عسى اللَّه أن يغفر لهم.

هؤلاء الشيعة يعتقدون بأنّ الرّسالة نزلت على علي (كرّم اللَّه وجهه) وتاه الوحي جبرائيل ونزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وغير ذلك.

يسجدون للحجر، ويسبّون الصحابة، ويعملون بالتقيّة بينهم سرّاً لايظهرونها لأحد

____________________

(١) عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: ١٩٠-١٩١.

(٢) المصدر السابق: ١٩١.

١٨٠