التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏10%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135383 / تحميل: 6809
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

٢٤١

مرحلة الاستبصار

المدخل إلى الاستبصار

مرحلة الحيرة والاضطراب‏

٢٤٢

٢٤٣

إنّ الحيرة هي أوّل مرحلة يدخل فيها الباحث بعد الوصول إلى مرحلة اليقين بخطأ معتقداته التي كان متمسّكاً بها طيلة حياته، والتي أمضى فيها عمراً وبذل من أجلها الغالي والنفيس.

فتراوده الشكوك في صحّة المبادئ التي كان منتمياً إليها، وتدور في ذهنه وتتردّد في صدره الكثير من التساؤلات حول صحّة مذهبه، ويدبّ الشك في نفسه حيال معتقداته السابقة، فتهتزّ قناعاته وتتزعزع بُنيته الفكريّة فتزلزل كيانه وتؤرّق ليله وتظلم نهاره.

ومن هنا تعتري نفسيّة الباحث حيرة لا تهدأ حتى تثور ولا تخمد حتى تشتعل، يتلظّى بها صاحبها في داخله دون أن يحسّ به مَن حوله.

وتنشأ هذه الحالة عند الباحث - كما يذكر محمّد علي المتوكّل - جراء ما يحدث في نفس الباحث من تنازع وصراع عنيف بين حقّ تكشفت له جوانبه ولزمته حجّته وقديم لا زال يملك عليه عواطفه ويتغلّب على إرادته مدعوماً بروح التقليد والتوافق الاجتماعي(١) .

ومن أهمّ أسباب الصدمة التي يتلقّاها المستبصر تنشأ ممّا يجده من تناقض بين

____________________

(١) انظر: محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٥٧.

٢٤٤

المعلومات التي نفذت إلى أذهانه من قَبل وبين التي تزوّد بها من خلال بحوثه العقائديّة.

ويصف التيجاني السماوي الحيرة التي اعترته بعد الشك بمعتقدات مذهبه السابق قائلاً:

( بقيت متحيّراً ثلاثة أشهر مضطرباً حتى في نومي تتجاذبني الأفكار وتموج بي الظنون والأوهام)(١) .

وله أيضاً:

( ما كنت لأصدّق الشيعة في كل ما يقولون رغم أني اقتنعت بأمور كثيرة، وبقيت بين الشك والحيرة، الشكّ الذي أدخله علماء الشيعة في عقلي، لأنّ كلامهم معقول ومنطقي...

والمهم هو أنّ هذا الشك وهذه الحيرة هما بداية الوهن وبادية الاعتراف بأنّ هناك أموراً مستورة لابدّ من كشفها للوصول إلى الحقيقة )(٢) .

ويقول التيجاني السماوي حول هذا الأمر الذي يعاني منه الكثير، ولا يستطيعون أن يتّخذون إزاءه موقفاً حازماً:

( وكثيراً ما التقي في المناسبات مع بعض الشباب المثقّف من المسلمين الصادقين الذين يتساءلون ويسألون عن حقيقة الشيعة وباطلهم، وهم حائرون بين ما يشاهدونه ويعيشونه مع أصدقاء لهم من الشيعة وما يسمعونه ويقرؤونه عنهم ولا يعلمون أين يوجد الحق.

وقد تحدّثت مع البعض منهم وأهديت لهم كتابي (ثمّ اهتديت)، والحمد للَّه أنّ الأغلبيّة من هؤلاء وبعد المناقشة والبحث يهتدون لمعرفة الحق فيتبعونه، ولكن هذا

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ١٢٣.

(٢) المصدر السابق: ٦٢.

٢٤٥

يبقى مقصوراً على نخبة من الشباب الذين ألتقي بهم صدفةً، أمّا البقيّة فقد لا يتاح لهم مثل هذا اللقاء فتبقى مشوّشة الفكر بين الآراء المتضاربة )(١) .

ويذكر حسين الرجاء حول الحيرة التي لاقاها والصدمة النفسيّة التي أورثته الانهيار والإرهاق على أعتاب تغييره لانتمائه المذهبي:

( لقد وافاني اليوم الذي أصبحت أقدّم فيه رجلاً وأؤخّر رجلاً حيراناً معذّباً أقدّم الأولى انصياعاً للحقّ والدليل، وأؤخّر الثانية خوفاً من زلّة القدم، فلم يمض زمن مقداره ثلاث سنوات وزيادة أشهر إلّا وقد استولى الحقُّ على قلبي.

وكانت دراستي خلال المقارنة بعيداً عن الهوى والتعصّب والطائفة والعواطف، وكنت حذراً حاضر الذهن ودقيق الملاحظة غير متسرّع في الحكم، فآمنت بأهمّ المسائل العقيديّة والمذهبيّة مسألة مسألة.

وباعتبار أنّ مثل هذا الانتقال صعب وشائك، جَعَلت الرياح تعصفني يميناً وشمالاً، فتعثّر لساني وتردّد قلبي وكأن أمواجاً تتقاذفه، موجةٌ للدين وموجةٌ للدنيا، لأنّي عالم بأنّ تشيّعي سيكون على حساب مصلحتي وسمعتي وكرامتي عند بعض الناس وحجب ثقَتهم عنّي وتفرّقهم من حولي.

فأصبحت أسير الامتحان في سجن الابتلاء في لحظات لا مناص لأجل الخلاص إلّا بالفداء، ولكن ما نوع هذا الفداء فهل أفدي الدنيا بالدين أم الدنيا لأجل الدين، وبعبارة أخرى أيّهما أبيع وأيّهما أشتري، أحلى البيعين مرّ وأدفأهما أحرّ من الجمر، فكتمت أمري ما يقرب من شهرين... ولقد استشرت رجالاً من أبناء قريتي وعمومتي ممن أثق بهم فسكت بعضهم وعارض البعض الآخر وكل ذلك كان سرّاً )(٢) .

ويبيّن حسين الرجاء بعبارة أخرى هذه الحالة التي مرّ بها قبل الاستبصار، قائلاً:

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذكر: ٥-٦.

(٢) حسين الرجاء/ دفاع من وحي الشريعة: ٢٤.

٢٤٦

( فأخذت أقارن بين العقائد والمذاهب لمدّة تقارب الأربع سنوات. في السنة الأولى منها بحثت بشكل مركّز عن العقائد، وفي الثانية قارنت بين المذاهب ومذهب الإمام جعفر الصادق‏عليه‌السلام ، وفي الثالثة حاولت أن أكتشف مظلوميّة أهل البيت عليهم صلوات اللَّه في التواريخ المختلفة، وفي الرابعة كنت حيراناً معذّباً، أقدم رجلاً وأؤخّر أخرى، كنت في حالة شك كبيرة باعتبار انّني شككت في المذهب السنّي ولم أكن أرى من رجوع إليه وكنت أرى أحقّية التشيّع لكنّني كنت أخشى الانضمام إليه لما تجرّعناه طوال سنوات من دعاية مظلّلة، عدا أنّني لم أدرس خفاياه بعد)(١) .

ويصف محمّد علي المتوكّل حالة الإرباك والتزلزل التي عاش في كنفها فترة طويلة قبل الاستبصار:

( مرّت شهور ونحن بين مندفع يريدُ باباً يلجُ منه إلى عالم التشيّع، وآخر يتردّد في حيرته يتمنى أن لو يزول الشك عنه فيعود إلى ما كان عليه من مذهب ومعتقد، إذ ما أقسى أن تتزلزل ثوابت الإنسان، وتنحل سواري يقينه وهو يبحث عن الحقيقة ولا يجد إليها طريقاً.

حاولنا الاتّصال ببعض من يحتمل إطلاعه على مسائل التاريخ والعقائد من رموز الحركة الإسلاميّة وغيرهم، إلّا أن أحداً من الذين لجأنا إليهم لم يكن مستعدّاً للسماع منّا والإجابة على تساؤلاتنا.

وعندما أحسّ إخوتنا في الحركة بما نحن فيه سعوا إلى تنظيم بعض اللقاءات مع شخصيّات علميّة وكان البعض منّا يحضر تلك اللقاءات التي لم تنتظم، لأنّ الذين أتوا لهدايتنا كانوا أحوج منّا لمن يشير لهم إلى الطريق.

من ناحية أخرى فقد كنّا في حاجة إلى السماع من الشيعة والإطلاع على عقائدهم

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد صفر (التجريبي).

٢٤٧

أكثر من حاجاتنا لسماع خصومهم )(١) .

ويقول هشام آل قطيط حول آثار الحيرة التي أصابته والأزمة النفسيّة الشديدة التي اعترته فأفقدته توازنه النفسي:

( أوشكتُ من أن أصاب بأزمة نفسيّة، وسيطر عليّ القلق، بحيث لم أعد أستطيع العمل، أصبتُ برجفة حادّة وقشعريرة فأخذني أخي إلى الدكتور، وقال لي الدكتور: جسميّاً لا يوجد فيك شي‏ء، فأنت مُرهق نفسياً وفكريّاً، يا أخي بماذا تفكّر؟ هذه الدنيا لا تستحق التفكير، خُذ إجازة من العمل وسافر إلى البلد...

فنمت يومين في الفراش، محاولاً التخلّص من التفكير وصرت أجلس مع أصدقائي أشاهد برامج التلفزيون والمسلسلات لأروّح عن نفسي التعب والإرهاق )(٢) .

ويصف إدريس الحسيني الحيرة التي لازمته قبل الاستبصار:

( ففي اللحظات التي ظهرت لي الأحداث على حقيقتها، قامت - فوراً - حرب بين عقلي ونفسي، فالنفس عزّ عليها اقتلاع (ضرس) العقيدة السابقة، والعقل عزّ عليه أن يتغاضى عن الحقائق الواضحة القطعيّة، فإمّا أن أتّبع طريقاً موروثاً بعقليّة الفولكلور أو أن أسلك سبيل القناعة ونور العقل.

كان هذا أخطر قرار اتّخذته في حياتي، لكي انتقل بعدها إلى رحاب التحدّيات الفكريّة والاجتماعيّة )(٣) .

ويذكر إدريس الحسيني حول علامات الاستفهام التي ظلّت تراوده بين الحين، الآخر:

( وفجأة رأيت نفسي، أتمثل... منهجاً شكّياً، ابتغاء الحق فكانت الأزمة يومها، أزمة يقين، وما أثقلها من أزمة على طلّاب الحقيقة، ولكن كيف يتسنّى لي الخروج من هذا

____________________

(١) محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٣٩.

(٢) هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: ٣٥.

(٣) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ١٦.

٢٤٨

المأزق الاعتقادي؟ )(١) .

ويبيّن إدريس الحسيني شتات الأفكار التي اجتاحت خاطره خلال الفترة التي كان يعيش في الحيرة:

( لقد كنت دوماً أتساءل حول ما إذا خرجت بنتيجة من هذه الرحلة المعتقديّة!

وخشيت أن أكون مفلساً في ذلك، راجعاً بخفي حنين.

كانت هذه الأسئلة، جزءاً من منهجي في تركيز المعتقدات وتمحيصها، وفي الأخير أثلّج صدري أن أكون قد خرجت بقيَم النجاة وسبل الرشاد. لقد ألفيت نفسي في موكب البيت النبوي، أسير وفق هداه وأسلك وفق خطاه، ورأيت نفسي منفّذاً حقيقةً لمطالب الإسلام، ووجدت نفسي ممارساً لحديث الثقلين، إذ ما أن أذكر القرآن إلّا وأذكرهم، وما أذكرهم إلّا وأذكر القرآن.

أصبح حبلهم بيدي، متصلاً بحبل القرآن، ترى أيّ زاد كنت سأخسر وأيّ المعاني كنت سأفقد!

وهكذا دارت عليّ دائرة الشكوك، ورأيتني منسجماً مع عقيدة منسجمة من أوّلها إلى آخرها. وما أكثر تلك الأسئلة التي غاب عنّي حلّها، فألفيتها قارّاً في مدرسة أهل البيت‏عليهم‌السلام .

لقد خرجت من الضيق وشدّته إلى سعة الحقّ ورحابته، ومن غبش المعاني إلى الوضوح والجلاء)(٢) .

الخروج من مأزق الحيرة:

إنّ الباحث لا يجد أمامه بعد الحيرة إلّا أنّ يحاول البحث عن الطريق الصحيح لإخماد نيران الشكوك التي ثارت في أعماق نفسه.

____________________

(١) المصدر السابق: ٥٣.

(٢) المصدر السابق: ٤٠٦.

٢٤٩

ويذكر بعض المستبصرين أنّهم في البداية يجدون أنفسهم لا تمتلك القدرة على مصارحة أحد بما يعتمل في صدورهم من اضطراب ولا يمتلكون الشجاعة الكافية للجهر بما في قرارة أنفسهم، خيفة أن ينالهم الأذى ممن حولهم.

فلهذا لا يجدون أمامهم في حيرتهم هذه إلّا أن يتوجّهوا بصدق نحو البحث من أجل تحديد موقفهم النهائي إزاء انتمائهم المذهبي.

ويذكر كافّة المستبصرين أن مواصلتهم للبحث لم تزدهم إلّا شكّاً في معتقداتهم السابقة، وأن علماء أهل السنّة لم يمنحوهم فصل الخطاب لأسئلتهم الحائرة التي تحتاج إلى جواب مقنع.

ويقول مروان خليفات في هذا المجال:

( وحاولت إيقاف حيرتي بقراءة ردود علمائنا على هذه الحقائق، لكنّها لم تنفعني بل زادتني بصيرة بأحقّية مذهب أهل البيت، وقرأت كتباً كثيرة، لا يسعني ذكرها، فكانت ترسم لي صورة الحقيقة بألوان من الحجج الدامغة، التي كان عقلي يقف مبهوراً محتاراً أمامها، فضلاً عن حيرة علمائنا في التعامل معها )(١) .

وفي ظل أجواء الحيرة المزعجة يفضّل البعض أن لا تكدّر الشبهات أنفسهم، فيغضّوا أبصارهم عن الشبهات العالقة بأذهانهم، ويحاولون أن يبعدوا الشكوك التي تحوم حولهم، ليحتفظوا بالسلام الداخلي الذي يحلمون به.

ولكن الباحث الواعي الذي لا يهمّه سوى معرفة الحقّ لا يسمح لنفسه بذلك، ولا يحاول تسكين الألم الذي يعاني منه نتيجة الحيرة، لأنّه يعي بأنّ هذا الألم هو المحفّز الذي يُزيد ظمأه للحقيقة ويدفعه لمعرفة الحق، فيحاول بشتى السبل أن يجد مخرجاً مناسباً لحلّ المشكلة التي يعاني منها.

ويبقى الحل النهائي بعد أن يعجز الباحث أن ينقذ نفسه من أغلال الحيرة عن

____________________

(١) مروان خليفات/ وركبت السفينة: ١٨.

٢٥٠

طريق البحث هو الالتجاء إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

ويذكر بعض المستبصرين أنّهم بعد أن بقوا فترة طويلة في هذه الحالة حيارى ينشدون الاستقرار الروحي الذي يوصلهم إلى السعادة الحقيقيّة فلا يجدوه، توجّهوا بكل وجودهم إلى اللَّه تعالى ورفعوا أيديهم بكلّ إخلاص ونيّة صادقة ليخرجهم الباري عزّ وجل من الأزمة التي هم فيها، وتضرّعوا إليه بكل جوارحهم وخلجات نفوسهم لينوّر عقولهم ويهديهم سواء السبيل ويرشدهم إلى دين الحق فيخرجهم بذلك من الحيرة التي يعانون منها وينتشلهم من حومة القلق القاتل الذي ألمّ بحياتهم.

وكان من جملة هؤلاء محمّد علي المتوكّل وباقي الإخوة الذين كانوا معه في رحلة البحث عن الحقيقة.

ويشير محمّد علي المتوكّل في كتابه (ودخلنا التشيّع سجّداً) إلى التجائه نحو الباري عزّ وجل في زمن الحيرة، قائلاً:

( كان لابدّ لنا أن نمضي قدماً لاستكشاف المجهول وإزالة الحجب التي أسدلها المضلّون على وجه الحقيقة، هنا كانت الحاجة ملحّة إلى من يمسك بأيدينا ويكون دليلاً لنا في متاهات التاريخ ومنعطفاته، فتوجّهنا إلى المولى (جلّ وعلا) بالدعاء ضارعين، وفي مثل وضعنا ذاك يكون الدعاء هو السبيل الأوحد للخروج من دوامة الشك والحيرة، وأيّ نور يكون لنا في تلك الظلمات إن لم يجعل اللَّه لنا نوراً( وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ لَه نُوراً فَمَا لَه مِنْ نُورٍ ) ، وكان دعاؤنا المستمر: ( اللهمّ أَرنا الحقَّ حقّاً وارزقنا اتّباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ).

ولم يمض إلّا القليل حتى استجاب اللَّه لدعائنا، فإنّه بالأوّابين رؤوف رحيم، وجاء الفرج من حيث لم نحتسب )(١) .

ويشير إدريس الحسيني إلى توسّله بالخالق الجليل قائلا:

____________________

(١) محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٤٠.

٢٥١

( في يوم من الأيّام لم يبق لي سوى أن أخلع جبّة أهل السنّة والجماعة، فلم يبق أمامي دليل واحد يسند مصداقيّة مذهبهم غير أنّ العادة - قبّحها اللَّه - حالت دوني وبين التغيّر، وما أصعب المرء وهو يتحوّل من مذهب لآخر، وما أشدّ برزخ الانتقال الاعتقادي، لابدّ لي إذن من محفّز روحي يشجّعني على هذا الانتقال، لابدّ من شمّة رحمانيّة تكشف لي الغطاء عن الاختيار الرشيد.

كانت ليلة غنيّة بطلب الرّحمان والإلحاح عليه، لكشف هذه الغمّة عنّي، فلقد أوصلني عقلي إلى هذه النقطة، ولم يبق لي إلّا التوسّل بالخالق الجليل )(١) .

ويذكر التيجاني السماوي أيضاً أنّه بعد زيارته للعراق وتعرّفه على التشيّع توجّه إلى الحج وهو حيران في أمر دينه، فلم يجد بدّاً سوى الدعاء من الباري عزّ وجل ليفتح بصيرته ويلهمه السداد ويهديه سواء السبيل، فيقول:

( وكنت كلّما طفت بالبيت العتيق خلال العمرة وفي كلّ زيارة لمكّة المكرّمة - ولم يكن يطوف بها إلّا نفر قليل من المعتمرين - صلّيت وسألت اللَّه سبحانه من كل جوارحي أن يفتح بصيرتي ويهديني أيّ الحقيقة.

وقفت على مقام إبراهيم ‏عليه‌السلام واستعرضت الآية الكريمة:( وجَاهِدُوا في اللَّه حقَّ جِهَادِهِ هو اجتَباكُم ومَا جَعَل عَليكُم في الدِّينِ من حَرَجٍ مِلّة أبيكُم إبرَاهيم هو سَمّاكُم المُسلِمينَ من قَبلُ وَفي هذا لَيَكُونُ الرَّسولُ شهيداً عَلَيكُم وتَكُونُوا شُهَداءَ على النّاسِ فَأقيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ واعتَصِمُوا باللَّه هو مَولاكُم فَنِعمَ المَولى‏ ونِعمَ النَّصيرُ ) (٢) ؛ صدق اللَّه العظيم.

وبدأت أناجي سيّدنا إبراهيم أو أبانا إبراهيم كما سمّاه القرآن:

- يا أبتاه، يا من سمّيتنا بالمسلمين، ها قد اختلف أبناؤك من بعدك فأصبحوا يهوداً

____________________

(١) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ٦٣.

(٢) الحج: ٧٨.

٢٥٢

ونصارى ومسلمين، واختلف اليهود فيما بينهم إلى إحدى وسبعين فرقة واختلف النصارى إلى اثنين وسبعين فرقة، واختلف المسلمون إلى ثلاثة وسبعين فرقة وكلّهم في الضّلالة حسبما أخبر بذلك إبنك محمّد وفرقة واحدة بقيت على عهدك يا أبتاه!

أهي سنّة اللَّه في خلقه كما يقول القدريّة، فاللَّه سبحانه هو الذي كتب على كل نفس أن تكون يهوديّة أو نصرانيّة أو مسلمة أو ملحدة أو مشركة، أم أنّه حب الدنيا والابتعاد عن تعاليمه سبحانه، ذلك بأنّهم نسوا اللَّه فأنساهم أنفسهم.

إنّ عقلي لا يطاوعني بتصديق القضاء والقدر، بأنّه هو الذي حتّم مصير الإنسان، بل أميلُ وأكاد أجزم بأنّ اللَّه سبحانه خلقنا وهدانا وألهمنا الفجور والتقوى، وأرسل إلينا رُسُلَه ليوضّحوا لنا ما أشكل علينا ويعرّفوننا الحقّ من الباطل، ولكنّ الإنسان غرّته الحياة الدنيا وزينتها، الإنسان بأنانيّته وكبريائه، بجهله وفضوله، وبعناده ولجلجته، بظلمه وطغيانه مال عن الحقّ واتّبع الشيطان وابتعد عن الرحمن فورد غير مورده، وأكل غير مأكله، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك أحسن تعبير وأوجزه بقوله تعالى:( إنّ اللَّه لا يظلمُ النّاسَ شَيئاً ولكنّ النّاس أنفُسَهم يظلمون ) (١) .

يا أبانا إبراهيم، لا لوم على اليهود والنصارى الذين عاندوا الحقّ بغياً بينهم لمّا جاءتهم البيّنة، فها هي الأمة التي أنقذها اللَّه بولدك محمّد وأخرجها من الظلمات إلى النور وجعلها خير أمّة أخرجت للناس، فهي الأخرى اختلفت وتفرّقت وكفّر بعضها بعضاً، وقد حذّرهم رسول اللَّه ونبّههم إلى ذلك وضيّق عليهم حتى قال:(( لا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث )) فما بال هذه الأمّة قد انقسمت وافترقت وأصبحت دويلات يعادي بعضها البعض ويحارب بعضها البعض ويكفّر بعضها البعض وحتى لا يعرف بعضها البعض الآخر،فيهجره طيلة حياته)(٢) .

____________________

(١) يونس: ٤٤.

(٢) محمّد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ٦٨-٦٩.

٢٥٣

تهيئة النّفس لتغيير الانتماء المذهبي:

إنّ التحوّل المذهبي واجتياز مرحلة الاستبصار تتطلّب علو الهمّة والشجاعة في اتّخاذ القرار، والمستبصر هو الذي ينذر نفسه وأمواله وأهله في سبيل العقيدة الحقّة.

وفي الواقع أنّ المستبصر هو صاحب عزيمة لايصدّه شي‏ء عن مواصلة رحلته إلى النور ولا يثنيه عنها المكائد المتلاحقة بعد ما يتّضح له الحقّ بوضوح، بل إنّ كافّة الموانع التي تحاول أن تصدّه عن تغيير انتمائه المذهبي لا تزيده إلّا إصراراً على الحقّ وعناداً للباطل ومجابهة للرأي العام الحاكم في بيئته، لأنّه ممّن لا تأخذه في اللَّه لومةُ لائم ولا يعبأ بما سينال من أذى من قبل الآخرين، فيوطّن نفسه لتحمّل الأذى صابراً محتسباً أجره عند اللَّه تعالى.

وعندما ينبلج نور الحق في قلب المستبصر، وعندما يتغذّى عقله بنفحات الهداية، يجد في قرارة نفسه قوّة هائلة وهمّة رفيعة وعزيمة راسخة تمنحه الصمود إزاء كافّة التيّارات والعقبات التي يعي أنّها ستصدّه عن التوجّه نحو التكامل والتسامي والارتقاء ونيل أهدافه المنشودة.

ويستمد المستبصر كل هذه القوّة من الأدلّة والبراهين التي رفعت مستوى وعيه وفتحت آفاق ذهنه، فيغدو قادراً على اقتحام التيّار الاجتماعي السائد وقادراً على الصمود والتحدّي دفاعاً عن القناعات التي استمدّها من الأدلّة والحجج والبراهين.

وبعبارة أخرى يوطّن المستبصر نفسه للصمود إزاء جميع الهجمات التي ستنهال عليه، ويستمد قوّة هذا الصمود إزاء هذه التيّارات المضادّة من القوة الإيمانيّة التي اكتسبها نتيجة تمسّكه بمعارف أهل البيت ‏عليهم‌السلام .

ويعدّ الباحث نفسه بعد الوصول إلى بوّابة الاستبصار لتحمّل جميع العناء الذي سيحيطه نتيجة القرار المذهبي الجديد الذي سيتّخذه عن قريب.

وتكون القِيم التي يحملها في جنبه هي الدعامة التي تمنحه الصمود والوقوف بوجه كافّة الجهات التي ستحاول أن تزل قدمه عن الصراط المستقيم.

٢٥٤

ويعلم المستبصر أنّه سيفقد جميع الامتيازات التي كان يمتلكها، ويعلم أنّ الإعلان عن استبصاره سيؤدّي به إلى صراع مرير مع علماء مذهبه، ولكنّه لا يبال بكل هذه العقبات بعد أن أشرقت روحه بنور الحق، فيتوكّل على اللَّه ويطرح كل العواطف التي تشدّه إلى الوراء جانباً، ثمّ يتقدّم لاعتناق مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام بثبات وعزم راسخ وإرادة لا تصمد أمامها الجبال.

وفيما يلي سنبحث كيفيّة تخطّي المستبصرين لهذه المرحلة والمنعطف الحسّاس الذي يحدث في حياة المستبصر.

مرحلة اتّخاذ القرار:

عندما يتّخذ الباحث القرار بترك مذهب أهل السنة واعتناق مذهب أهل البيت: يكسر بذلك حاجز التردّد في نفسه وينهي الصراع القائم في داخله بين نداء الحقّ وبين وساوس الباطل، وينهي بذلك الأزمة التي كان يعاني منها فيستقرّ رأيه على اعتناق مذهب التشيّع.

فيشعر المستبصر بعدها بهدوء وسكينة واستقرار نفسي في وجوده، ثمّ يعزم أن يمضي حياته ثابت الجنان، مطمئن القلب، مستنير العقل لا تحرّكه العواطف ولا تتلاعب بمشاعره كافّة المضايقات التي سيواجهها فيما بعد.

وأبرز ما يحتاج إليه الباحث في هذه المرحلة هو التحلّي بروح الشجاعة، ولهذا يقول إدريس الحسيني:

( يجب أن نتحلّى بروح شجاعة، جريئة أيّ بنفسيّة مهذّبة سليمة غير متشنّجة، تقتضي التضحية ببعض التقديسات التي هي في الأصل عين الأزمة )(١) .

ويقول هذا المستبصر في مكان آخر من كتابه (لقد شيّعني الحسين)عليه‌السلام حول العامل الذي منحه القوّة في اتّخاذ القرار بعد أن تبيّن له الحقّ:

____________________

(١) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ٣٥٧.

٢٥٥

( لقد بقيت زماناً طويلاً أربّي نفسي على شي‏ء واحد، أن أكون شجاعاً، أن أكسبَ نفسيّة قويّة لا تتأثّر بمسبقاتها. وإنّها - لعمري - أخطر ممارسة واجهتها، لأنّ مجتمعاً بكامله وبكلّ ثقله العرفي والثقافي والبشري كان ضدّ اتّجاهي هذا، غير أن الدعاء والتصميم والتفاني جعلني أتجاوز هذه المعوقات )(١) .

ويشير إدريس الحسيني أيضاً في هذا المجال إلى ملاحظة مهمّة في مسألة الانتقال المذهبي فيقول:

( أنا أتحدّث عن انتقال صعب من الناحية النفسيّة والاجتماعيّة و...، أمّا من الناحية العقليّة، أستطيع أن أتحدّث عن انتقال سهل )(٢) .

ويقول حسين الرجاء حول تجربته في اتّخاذ القرار:

( بعدما تيقّنت بأحقّية مذهب الأطهار من آل محمّد عليهم الصلاة والسلام، اتّخذت قراراً لا رجعة فيه مع علمي بأنّ ذلك سيكون على حساب سمعتي وكرامتي ومصلحتي والتفاف الناس من حولي باعتباري شيخاً صوفيّاً، فخيّرت نفسي بين الدين والدنيا، فرأيت أنّ أحلاهما مرّ وأحرّ من الجمر، لكنّني آليت على نفسي وأعلنت تشيّعي بكلّ ثقة )(٣) .

وفي المقابل قد يعيش بعض الباحثين في أجواء وظروف خاصّة تجعلهم أن لا يواجهوا أيّة صعوبة في اتّخاذ قرار التحوّل المذهبي، ومن هؤلاء أسعد وحيد القاسم حيث يقول:

( في الحقيقة لم يكن هذا القرار عندي صعباً أبداً، فأنا وبسبب خلفيّتي الثقافيّة لم يكن قد سبق لي وان نظرت نظرة متطرّفة للشيعة، فقد ربّيت نفسي من صغري في حلقات دروس (أجواء منفتحة وموضوعيّة) حيث كان لهذا دور في عدم تردّدي ولو للحظة واحدة اثناء بحثي في قبول ما أراه حقّاً، ولم أفكّر لحظة كيف سيكون ردُّ فعل

____________________

(١) المصدر السابق: ٤٠٦.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ٣.

(٣) المصدر السابق: العدد الصفر (التجريبي).

٢٥٦

أسرتي ومجتمعي، لأنّ المسألة هنا شخصيّة جدّاً، ولا اعتبار فيها سوى ما يراه العقل والمنطق، وعلى ذلك يحاسبنا اللَّه سبحانه وتعالى، فلا الأسرة ولا القبيلة تشفع لأحد يوم الحساب )(١) .

مشاعر لحظة التحوّل:

تنتاب نفسيّة الباحث حين التحوّل ولحظة تغيير الانتماء من المذهب السنّي الى مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام مشاعر خاصّة، قد لا يستطيع من لم يمرّ بهذه الحالة إدارك كنهها أو معرفة أثرها على النفس.

وكما يذكر أغلب المستبصرين أنّ المستبصر يمتلكه لحظة التحوّل شعورٌ مزيج بالراحة والرّضا والاستقرار والأمن، ويشعر في لحظة اعتناق مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام أنّه قد ألقى عن كاهله عبئاً ثقيلاً من الهموم والقلق والشكوك، وأنّ السعادة باتت ترفرف على جميع جوانب حياته.

فيكون المستبصر عندها مطمئن البال مستقر النفس، مرتاح الضمير، ويشعر براحة نفسيّة لا مثيل لها، لأنّه يدرك حينها أن اللَّه سبحانه وتعالى قد أزال عن بصيرته الغشاوة ومنّ عليه بالهداية و وفّقه للاهتداء إلى سبيل الرشاد.

كما أنّ المستبصر يشعر بعد الاستبصار أنّه ليس كما كان فيما سبق همج رعاع يتبع كل ناعق ويميل مع كل ريح ويستجيب كل دعوة بلا دليل، بل يشعر أنّ دليله اليوم عقله الذي امتلأ نوراً من مصابيح الهدى واستضاء بنور علوم ومعارف أهل البيت ‏عليهم‌السلام .

ويقول عبد المنعم حسن حول الأفكار التي خطرت على باله والمشاعر التي انتابته ساعة التحوّل:

( فجأة أحسست ببرودة تلفح وجهي وبرعدة تنتاب أوصالي في يوم حارّ من أيّام

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: ٨.

٢٥٧

فصل الصيف الذي يتميّز به السودان، ورغم درجة الحرارة العالية في ذلك اليوم إلّا أنّني شعرت بأنّها تدنّت إلى مادون الصفر!

برهة مرّت ثمّ شعرت بدف‏ء الحقيقة.. وبنور ينكشف أمامي وبهالة قدسيّة تلفّني، وإذا بالحجب التي أثقلت كاهلي قد انزاحت، ولمع برقُ الحقيقة أمام ناظري، وإذا بي أبدأ أوّل خطواتي في الاتّجاه الصحيح.

كانت أصعب لحظات العمر هي وقت اكتشاف عمق المأساة التي كنّا نعيشها، والتي كانت نتاجاً طبيعيّاً للجهل المركّب الذي كان يغشى عقولنا.. خصوصاً وأنّ هذه المأساة كانت متمركزة في اعتقادنا وديننا.

أن يجد الإنسان نفسه مخطئاً في تقدير أمور حياته اليوميّة مثل لون الدراسة التي يجب أن يدرسها أو الوسيلة التي يجب أن ينتقل بها.. فليس في ذلك كثير أسىً وتندّم.. لكن يخطئ الطريق إلى اللَّه سبحانه وتعالى.. أن يسلك طريقاً غير الذي وصفه اللَّه تعالى إلى الجنّة، فهذا خطيرٌ بل جنون وتهوّر.

ذلك ما وجدت عليه - و للأسف - السواد الأعظم من المسلمين أثناء تجربتي هذه، والتي لا أدّعي أنّها الأولى أو الأخيرة ولا حتى المتميّزة.. وهذا ما توصّلت إليه بعد بحثي وتنقّيي بين ثنايا تراثنا الدّيني وتاريخنا الإسلامي )(١) .

ويصف محمّد مرعي الانطاكي مشاعره حين التحوّل:( فاستراح ضميري بهذا التمسّك بالمذهب الجعفريّ، وهو مذهب آل بيت النبوّة عليهم صلوات اللَّه وسلامُه أبداً مادام الليل والنهار، لعلمي أنّي قد حصلت على أقصى غاية ما أريد بأخذ مذهب العترة الطاهرة، وبذلك أعتقد يقيناً لا يشوبه شكٌّ أنّي قد نجوت من عذاب اللَّه تعالى )(٢) .

____________________

(١) عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: ٧.

(٢) محمّد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٥٤.

٢٥٨

هل يعني ترك المذهب السنّي ترك السنّة النبويّة؟

إنّ التحوّل وتغيير الانتماء من المذهب السنّي إلى مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام لا يعني ترك سنّة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل معنى ذلك أنّ الباحث يصل إلى هذه النتيجة بأنّ أهل البيت ‏عليهم‌السلام هم الطريق الصحيح والموثوق لمعرفة سّنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولهذا يقول إدريس الحسيني حول تركه للمذهب السنّي واعتناقه لمذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام :

( طبعاً، لا أقول أنّني تركتُ المذهب السنّي.. إن كنتَ تعني بالمذهب السنّي، ذلك المذهب التاريخي، فأنا بكلّ تأكيد لستُ سنّياً بهذا المعنى. ولكنّني سنّي بالمعنى الشرعي الأصيل، وإلّا ما معنى أن أكون شيعيّاً؟! أنا كنت أبحث عن (السنّة)، وتبيّن لي بالأدلّة القاطعة، الآخذة بالأعناق أنّ لسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله طريقاً واحداً لا غير، هو طريق أئمّة أهل البيت ‏عليهم‌السلام وأنّني مُلزمٌ بها تكليفاً عن هذا الطريق فقط، اخترت ذلك.. فأنا سنّي بامتياز! )(١) .

ويشير أسعد وحيد القاسم إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( لم أشعر منذ البداية أنّه كان عليّ أن أترك مذهبي السنّي، ولا اعتقد أنّي تركته، وما أقصد أنّ إيماني في بداية الأمر بأحقّية أهل البيت ‏عليهم‌السلام بخلافة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعن تركي لمذهبي السنّي، وإنّما اعتبرته تعديلاً لمعلوماتي التاريخيّة، وتصحيحاً لمساري الإسلامي.

فإذا كان المذهب السنّي يعني هو الأخذ بالسنّة النبويّة، فإنّ تمسّكي بها قد ازداد بتعرّفي على طريق أهل البيت ‏عليهم‌السلام ، لأنّهم أقرب الناس إلى هذه السنّة النبويّة، وعلى رغم أنّ من حولي أخذوا ينادوني بالشيعي، فلم اكترث لذلك، بل لم أجد بأساً فيه، لأنّه لم يكن عندي عقدة مسبقة من هذه التسمية )(٢) .

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: ٣.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ٨.

٢٥٩

الاعتراف بالخطأ بكلّ جرأة وشجاعة:

لا يستنكف المستبصر أن يعترف بأنّه كان على الباطل ثمّ عرف الحقّ فتحوّل إليه، ولماذا يخشى المستبصر ذلك وهو الذي يمتلك الشجاعة والجرأة والإرادة التي دفعته إلى الاستبصار على الرغم من كلّ التحدّيات والعقبات التي وقفت أمامه لتصدّه عن تغيير انتمائه المذهبي.

ولهذا نجد هشام آل قطيط يصرّح قائلاً:

( وربّما ناقدٌ ينتقد أو سائل يسأل: هل أنا كنت على ضلال واهتديت..؟ نعم. كنت على ضلال عن معرفة الحققة، لأنّي كنت أجهل هذه الحقائق )(١) .

ويعترف التيجاني السماوي في هذا المجال قائلاً لأهل السنّة:

( وقد كنت في ما مضى مثلكم محجوباً عن الحقيقة وعن أهل البيت ‏عليهم‌السلام وشيعتهم، فهداني اللَّه سبحانه إلى الحقّ الذي ليس بعده إلّا الضلال، وتحرّرت من قيود التعصّب والتقليد الأعمى، وعرفت بأنّ أغلب المسلمين لازالت تحجُبُهم الإشاعات والأباطيل وتصدّهم الدعايات عن الوصول إلى الحقيقة ليركبوا جميعاً في سفينة النجاة ويعتصموا بحبل اللَّه المتين )(٢) .

ويقول التيجاني السماوي أيضاً حول دلالة كتابه (ثمّ اهتديت) على أنّه كان ضالاً ثم اهتدى:

( وعلى فرض أنّ العنوان يتضمّن معنى الضلالة التي تقابل الهداية فيما نقصده على المستوى الفكري من إصابة المنهج الإسلامي الصحيح الذي يضعنا على الصراط المستقيم، كما عقّب بعض القرّاء بذلك؛ فليكن كذلك، وهو الواقع الذي يتهيّب مواجهته البعض بروح رياضيّة بنّاءة، ونفس موضوعي خلّاق.. ينجسم في

____________________

(١) هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: ٩.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذكر: ١٩.

٢٦٠

الفهم مع قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(( تركت فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً)).

فالحديث واضح وصريح في الإشارة إلى ضلال مَن لم يتمسّك بهما معاً (الكتاب والعترة).

وعلى كلّ حال فأنا مقتنع بأنّي اهتديت بفضل اللَّه سبحانه وتعالى إلى التمسّك بكتاب اللَّه وعترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فالحمد للَّه الذي هدانا لهذا وما كنّا نهتدي لولا أن هدانا اللَّه، لقد جاءت رسلُ ربّنا بالحقّ )(١) .

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ لأكون مع الصادقين: ٧.

٢٦١

الفصل الخامس

ما بعد الاستبصار

٢٦٢

٢٦٣

إنّ المستبصر يفتح صفحة جديدة من حياته بعد الاستبصار، لأنّ التحوّل الذي يمرّ به لا يكون في صعيد الفكر والعقيدة فحسب، بل يترك ذلك أثره على كافّة جوانب حياته، ويحدث تحوّلاً شاملاً في مجرى حياته ويدخله في رحاب مرحلة نورانيّة جديدة من حياته.

ويشير صالح الورداني إلى هذه الحقيقة مع ذكر تجاربه في هذا المجال:

( إنّ التحوّل بشكل عام والاتجاه لأيّ مذهب أو فكر آخر عملٌ يتطلّب مقوّمات مثل الشخصيّة الفكريّة والثقافيّة التي تؤهّل الفرد للانتقال أو التحوّل الصحيح والسليم. التجربة على المستوى المعيشي والثقافي والسياسي ضروريّة وقد حصلت عليها في حياتي العامّة سواء على المستوى العسكري أو الثقافي أو السياسي، والأهمّ عامل الخبرة في دائرة الحركة الإسلاميّة ذات التيّار السنّي تحديداً.

هذه المقوّمات ساعدتني على تحقيق التحوّل الصحيح الفعّال بشكل أرضاني قبل إرضاء الآخرين، لأنّها مسألة ذاتيّة ولأنّي لم أجد الراحة الفكريّة والنفسيّة والعقائديّة في دائرة الفكر السنّي، فانتقلت إلى فكر آل البيت ‏عليهم‌السلام ، كما كانت عندي القدرة على اتّخاذ القرار، وهي مسألة ليست بالسهلة وقد لاتتوافر لكثير من الناس على جميع المستويات، لأنّ القرار سيشمل كل الأمور الحياتيّة للمرء على مستوى الدين والحياة.

فقرّرت بأن لا أسلّم زمام نفسي لأحد، حتى عندما كنت في دائرة الفكر السنّي لم أكن على شاكلتهم، بل تميّزت عنهم بطريقة التفكير والسلوك والتناول الديني وبطريقة الإفتاء، فكنت أحياناً أبيح قضايا معيّنة يعتبرها غيري حراماً، فيُثار الآخرون

٢٦٤

ويدفعهم غضبُهم للحكم عليّ بالزندقة والانحراف! )(١) .

ويقول محمّد عبد العال حول الأثر الذي تركه استبصاره على نظرته إلى الحياة:

( تغيّرت نظرتي في كل شي‏ء، حتى أنّني كنت أعبد اللَّه سبحانه وتعالى بطريقة مليئة بالتساؤلات لم أجد عنها أجوبة، والإنسان حين الإنفراد بنفسه يطرح تساؤلات كثيرة فإن وجد أجوبة عنها يعشق هذا النوع من اللقاء مع الذات وإن لم يجد فإنّه ينفر من هذا الاختناق.

بعد الاستبصار تحوّلت من نافرٍ من اللقاء مع نفسي إلى عاشق لها، لأنّني أجد كلّ الإجابات التي تفوق حجم التساؤلات.

أستطيع أن أقول بشكل عام أنّ تساؤلاتي انتصفت المقام بين ما قبل الولاية وما بعد الولاية، فكانت تساؤلاتي أكثر من الإجابات في حين أمست أقل من الإجابات )(٢) .

ردود أفعال أبناء المجتمع:

يواجه معظم المستبصرين - بعد أن يُذاع خبر استبصارهم - موقفاً شديداً من أبناء المجتمع، وتشنّ عليهم حملة مضادّة وحرب شعواء وإعلام مضاد وتشويهي قبال تغييرهم الانتماء العقائدي. لأنّ أكثر أبناء المجتمع ترتسم الدهشة على وجوههم عندما يصلهم خبر تشيّع أحد أصحابهم، لأنّهم يحسبون أن ما هم عليه هو من المسلّمات التي لا غبار عليها، فعلى هذا يكون الخارج من معتقدهم مرتدّاً وضالاً وخائناً لمبادئه وثقافة أبناء مجتمعه، فلهذا يقفون بوجهه بقوّة ويحاولون أن يسلبوا منه جميع الامتيازات التي

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد ٢٢.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ٢٦.

٢٦٥

كان يمتلكها، ويواجهونه بصدور تضيق بالكراهيّة ونفوس تحمل بين جوانحها حقداً لما قام به.

ومن هنا يحاول البعض ممن حول المستبصر أن يسعروا نار التشهير والتسقيط ضدّه، وأن يطيحوا بمكانته الاجتماعيّة وأن يسلبوا منه اعتباره بين أقرانه وأفراد أسرته عبر الصاق بعض الافتراءات به واختلاق بعض الأكاذيب ضدّه أو حصره في دائرة الانعزال لئلّا يلتقي بالآخرين.

ويتحرّك البعض في هكذا أجواء ليعيدوا المستبصر إلى انتمائه السابق، فيبذلون قصارى جهدهم ليثنوه عن معتقده الجديد، ويحاول هؤلاء بشتى السُبل وبكلّ وسيلة منع صاحبهم من مواصلة انتمائه الجديد، ولكنهم هيهات أن يرجعوا إلى الضّلال من هداه اللَّه، و هيهات لهم أن يُزَلزلوا كياناً صامداً ومستقياً يستمدُّ قوّته من تراث أهل البيت ‏عليهم‌السلام .

وقد يتّهم البعض معتنقي مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام بأنّهم قد غُلبوا على أمرهم وسيطر عليهم الشيعة، إلّا أنّ هذه المَقولة لا حقيقة لها، لأنّ الدافع الحقيقي لاستبصار معتنقي مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام هو الاقتناع بالأدلّة والبراهين التي يحصلون عليها نتيجة بحوثهم المتواصلة في رحاب العقائد الإسلاميّة.

فلهذا ينبغي أن يعي الّذين يحاولون بشتى السبُل محاربة المستبصر وصرفه عمّا ذهب إليه أن صاحبهم لم يتخلّ عن معتقداته السابقة إلّا اتّباعاً للادلّة المُقنعة التي دفعته إلى ذلك، وأنّ الذي ليس له شجاعة لتقبّل الحقائق والأدلّة، لا يحقّ له أن يضايق من رضي بالحقّ وقبِلَ الدّليل.

ويقول محمّد التيجاني السماوي حول الأسباب التي تدفع الإنسان إلى مضايقة المستبصر:

( إنّ أهل السنّة والجماعة وكما قدّمنا لا يسمحون بنقد وتجريح أيّ صحابي من صحابتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويعتقدون بعدالتهم جميعاً، وإذا كتب أيّ مفكّر حرّ وتناول بالنقد أفعال

٢٦٦

بعض الصحابة، فهم يُشنّعون عليه، بل ويُكفّرونه ولو كان من علمائهم، وذلك ما حصل لبعض العلماء المتحرّرين المصريين وغير المصريين أمثال الشيخ محمود أبو ريّة صاحب (أضواء على السنّة المحمّديّة) وكتاب (شيخ المضيرة)، وكالقاضي الشيخ محمد أمين الانطاكي صاحب كتاب (لماذا اخترت مذهب أهل البيت)، وكالسيّد محمّد بن عقيل الذي ألّف كتاب (النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية)، بل ذهب بعض الكتّاب المصريّين إلى تكفير الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر عندما أفتى بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري.

وإذا كان شيخ الأزهر ومفتي الديار المصريّة يُشنَع عليه لمجرّد اعترافه بالمذهب الشيعي الذي ينتسب لأستاذ الأئمّة ومعلّمهم جعفر الصادق‏عليه‌السلام ، فما بالك بمن اعتنق هذا المذهب بعد بحث وقناعة وتناول بالنقد المذهب الذي كان عليه و ورثه من الآباء والأجداد. فهذا مالا يسمح به أهل السنّة والجماعة ويعتبرونه مروقاً عن الدّين وخروجاً عن الإسلام، وكأنّ الإسلام على زعمهم هو المذاهب الأربعة وغيرها باطل.

أنّها عقول متحجّرة وجامدة تشبه تلك العقول التي يحدّثنا عنها القرآن والتي واجهت دعوة االنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعارضته معارضة شديدة لأنّه دعاهم إلى التوحيد وترك الآلهة المتعدّدة، قال تعالى( وَعَجبُوا أنْ جَاءَهُم مُنْذِرٌ مِنْهُم وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذا سَاحِرٌ كَذّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلهاً وَاحِداً إنَّ هَذا لَشَي‏ءٌ عُجاب ) (١) .

ولكلّ ذلك فأنا واثقٌ من الهجمة الشرسة التي سوف تواجهني من أولئك المتعصّبين الذين جعلوا أنفسهم قوّامين على غيرهم فلا يحقّ لأحد أن يخرج عن المألوف لديهم ولو كان هذا المألوف لا يمتّ للإسلام بشي‏ء، وإلّا كيف يُحكم على من انتقد بعض الصحابة في أعمالهم بالخروج عن الدّين والكفر، والدين بأصوله

____________________

(١) ص: ٤،٥.

٢٦٧

وفروعه ليس فيه شي‏ء من ذلك )(١) .

ويقول التيجاني السماوي حول ما عاناه من محاربة وهجوم من قبل أبناء مجتمعه بعد اعتناقه للتشيّع:

( وقد اشتهر أمري لدى الخاص والعام بأنّي تشيّعت وأنّي أدعو إلى التشيّع لآل البيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبدأت الاتهامات والإشاعات تروج في البلاد، على أنّني جاسوس لإسرائيل أعمل على تشكيك الناس في دينهم وبأنّني أسبّ الصحابة وبأنّني صاحب فتنة إلى غير ذلك )(٢) .

ويضيف التيجاني السماوي حول ماتعرّض إليه بعد أن تلقّى أبناء مجتمعه خبر استبصاره:

( وعشنا فترات قاسية غرباء في ديارنا وبين إخواننا وعشيرتنا ولكنّ اللَّه سبحانه أبدلنا خيراً منهم فكان بعض الشباب يأتون من مُدن أخرى يسألون عن الحقيقة فكنت أبذل قصارى ما في وسعي لإقناعهم فاستبصر عددٌ من الشباب )(٣) .

ويقول محمّد مرعي الانطاكي حول المؤامرات التي حيكت ضدّه والحملات الظالمة التي شُنّت عيله والضغوط الشديدة التي تعرّض لها، وما نال من الأذى والاضطهاد من قِبل قومه:

( فلمّا أعلنّا التشيّع وانتشر هناك، وفشا وأخذ النّاس يدخلون فيه جماعات وأفراد، فحينذاك تكتَّلت فئات ممّن يناوئ‏ مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام لجهلهم بمعرفة المذهب، والمرء عدوّ ما جهل.

لذلك أتوا بما أتوا من سوء الأفعال والمعاملة، بحيث نستحي أن نذكره لقبحه وشناعته!

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذّكر: ١٧٣-١٧٤.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ١٧٣.

(٣) المصدر السابق: ١٧٤.

٢٦٨

ولقد حكم الكثيرون منهم علينا بالكفر والارتداد، فرشقونا بسهامهم، وقاموا يحرّضون علينا سفهاءهم، ويغرّرون صبيانهم، فيؤذوننا بالكلام، ويرموننا بالحجارة والحصى قائلين لنا: يا عبدة (القرميدة)!! ويعنون بذلك التربة الحسينيّة.

وأخذوا يحذّرون الناس على المنابر من معاملتنا بدعوى الكفر والارتداد، ويقطعون علينا أسباب المعاش ما أمكنهم، بحيث لو أردنا أن نستأجر داراً للسكنى‏ أتوا إلى أصحابه ويهدّدونه قائلين بأنّ هؤلاء رفضة مشركون يشتمون الصحابة، وإيّاك أن تؤجّرهم فإن فعلت آذيناك!!

فيا للعجب كأنّما خرجنا عن حظيرة الإسلام باعتناقنا مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام ، فلا حول ولا قوّة إلّا باللَّه وإليه المشتكى )(١) .

ويقول حسين الرجاء حول السخريّة والاستهزاء والمضايقات التي واجهها أعقاب رحلة الاستبصار:

( ثمّ اعلنتُ الحقَّ واللَّه لا يقضي إلّا بالحقّ، وعلى أثر ذلك تفرّق الناس من حولي وخلعوا بيعة الطريقة وأساؤا الظنّ وحكموا عليّ بأحكام لم يرض بها اللَّه تبارك وتعالى.

فبعض الناس شمت وشتم، فأصبحت هدفاً للسهام وعبرة لمن يعتبر ولا مشاحة هنا فإنّ الناس أعداء ما يجهلون.

وبعضهم أعذروني ولكن باعتقاد أنّني مجنون.

وبعضهم يقولون أنّه سياسي يستتر بالدين.

وبعضهم يقولون أنّه ترك دينه لأجل الأطماع.

وبعضهم يقول أنّه لا يستطيع أن يرجع الى دينه، فلو رجع فالشيعة يقتلونه، وللأسف الشديد أن مثل هذه الهراءة يطلقها أحد السماحات.

____________________

(١) محمّد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٦٠-٦١.

٢٦٩

وبعضهم ظنّ أنّني أبحرت في العلم فاختلط أمري وذلك انطلاقاً من المقولة الشائعة بين الناس: أنّ العالم عندما يبعد في خوض العلم يدخل على عقله )(١) .

ويضيف حسين الرجاء حول الحملات التي انهالت عليه بعد استبصاره:

( شرع الناس يلتقون بي فيسألونني ويردّون عليَّ كلٌ حسب عقليّته ومستواه، فواحد يقابلني باللوم والعتب وآخر بالشدّة والانتقاض وثالث يذكّرني بثقة الناس والقيمة الاجتماعيّة وأنّها ذهبت منّي ورابع يطعن ويسبّ بكلمات جارحة وأليمة )(٢) .

ويقول هذا المستبصر حول موقفه إزاء ردود فعل الناس:

( كنت أدافع عن نفسي بكتاب اللَّه وسنّة رسوله، فأتلو الآية وأذكر الحديث، فيكون الجواب: ألم يقرأ الآية إلّا أنت؟ ألم يعرف الحديث إلّا أنت؟ ألم يقرأه العلماء؟ ألم يقرأه الناس؟ فلماذا لم يغيّروا دينهم؟ وعندها يتمزّق قلبي أسفاً على جماهير الناس الذي لا يعرفون عن الدّين شيئاً )(٣) .

ويصف حسين الرجاء معاناته بعد الاستبصار بعبارة أخرى:

( على أعقاب أنّ انغرست بذرة التشيّع وتجذّر جذعُها وعلت أغصانها ورفرفت نسائم آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بأوراقها وكشف بدو الصّلاح عن طيب ثمارها تجمّع أوباش الناس حانقين يريدون اجتثاثها من جذورها واخماد جذوتها وإسكات أصحابها وحملهم على أشواك طرق غير مأمونة لكثرة التعرّج وجهالة المسار واحتمالية النتائج، فهم لا يلوون على شي‏ء ولا يألون جهداً، فتارة بالدعاية والإشاعات وأخرى بالتهويل والتخويف )(٤) .

ويقول هذا المستبصر حول إحدى المضايقات التي واجهها بعد اعتناقه لمذهب

____________________

(١) حسين الرجاء/ دفاع من وحي الشريعة: ٢٥.

(٢) المصدر السابق: ٢٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق: ٣٣-٣٤.

٢٧٠

أهل البيت ‏عليهم‌السلام :

( كان لعائلتنا صهر هو زوج لإبنة أخي، وما إن علم هذا بتشيّعنا حتى جنّ جنونه، فطفق يذهب إلى العلماء يستفتيهم عمّا إذا كان يجوز له أن يخالطنا ويواكلنا ويجلس معنا بحكم الأعراف الاجتماعيّة التي لابدّ له من أن يستجيب لها، فأفتوه بأنّه يجوز له أن يأكل من خبزنا ويشرب من مائنا فقط، وحذّروه من أكل اللحم أو الذبائح أو ما أشبه، بدعوى ذبائحنا لا تحلّ لأنّنا على غير دين!! )(١) .

ويقول هذا المستبصر أيضاً حول ما واجهه من مضايقات:

( كان أخي الأكبر يمرّ بي وأنا عاكف على مختلف الكتب التي لم يرها من قبل ولم يسمع بما فيها، فأوعدني بأن سأصبح يوماً مجنوناً، وبالفعل وبعد الاستبصار قال لي: أنت مجنون، وقال: أنت (تصلّخت) أيّ انسلخت من ثيابك، وقال: (لا تتصلّخ) أيّ أنّك مجنون ولكن لا تمزّق ثيابك، فقلت في نفسي: كيف ترجو من المجنون الّا يمزّق ثيابه، وبعد ردحاً من الزمن استبصر أخي، فلم أقل له لا تمزّق ثيابك!! )(٢) .

ويقول محمد عبد العال حول ما لاقاه أعقاب رحلة الاستبصار:

( لقد حصلت محاولات حثيثة وجادّة من قبل أهلنا من أهل التسنّن والمعنيين بهذا الشأن لأن يعيدوني إلى جادّة الصواب رأفة بي!! ولمحبّتهم لي حرصوا على أن أعود عن هذا الانحراف!!

ولكن كنت حريصاً على حوار هادى‏ء ومتأن، وحريصاً على خروج المحاور من إطار الحوار الخاص بيني وبينه إلى حوار بينه وبين نفسه، وقد تأثّر البعض واستبصر، عندها شعر بعض علية القوم بخطر اللقاءات معي والاستماع إليّ، حتى وصل الأمر إلى إطلاق الفتاوى بحرمة الاستماع إليّ، وإن كنت اتحدّث عبر مكبّر للصوت، فقد

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: الصفر (التجريبي).

(٢) حسين الرّجاء/ دفاع من وحي الشريعة: ٢٤.

٢٧١

كان يقال أن صمّوا آذانكم وأنّه عالم سليط اللسان وقوي الحجّة، وعملوا على انفضاض الناس من حولي )(١) .

ويصف أسعد وحيد القاسم الحرب النفسيّة التي شنّها عليه مَن حوله بعد اعتناقه لمذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام :

( وكان نتيجة ذلك، إنهاء علاقاتهم [زملائي‏] بي، وأفتوا بتكفيري، ثمّ أصبحوا... يدعون كلّ الطلبة إلى مقاطعتي ويحذّرونهم من محاوراتي أو مجرّد الاستماع إلي)(٢) .

ويذكر صالح الورداني أنّ بعض المستبصرين لاقوا من بعض أبناء مجتمعهم ردود أفعال قاسية تصل أحياناً إلى ما يشبه الحرمان الكلّي، وأن بعض الذين كانوا من عوائل ثريّة، ولها انشطتها التجاريّة الواسعة، ماإن تشيّعوا، ضُيّق عليهم، وحوصروا اقتصاديّاً، فاضطرّ أمثال هؤلاء المستبصرين إلى مباشرة أعمال مختلفة من أجل الحصول على قوّتهم.

كما أن بعض الذي تشيّعوا حرّم أهل زوجاتهم ابنتهم من الميراث، وحاولوا بشتى الطرق أن يفصلوا ابنتهم عن زوجها(٣) .

ويقول معتصم سيّد أحمد حول الاضطهاد والممارسات العدوانيّة التي لاقاها من قبل التيّارات المضادّة، وما تعرّض وقتها من محنة شديدة واضطهاد:

( ومن ثمّ بدأت مرحلة جديدة من الصراع، فلم يجد الذين عجزوا عن النقاش طريقاً غير السخريّة والسبّ والشتم والتهديد والافتراء... وغير ذلك من أساليب الجهل، فاحتسبت أمري عند اللَّه، وصبرت على ما جرى، رغم أن الضربات قد وجّهت لي من أعزّ أصدقائي الذين حرّموا الأكل والنوم معي تحت سقف واحد.

وضُربت عليَّ عُزلة كاملة، إلّا من بعض الإخوة الذين هم أكثر فهماً وتحرّراً. وبعد

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: ٢٦.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد ٨.

(٣) انظر: مجلّة المنبر/ العدد: ٢٢، لقاء مع صالح الورداني.

٢٧٢

مدّة من الزمن أستطعت أن أعيد علاقاتي بالجميع وبصورة أفضل من الأول، بل ولقد أصبحت بينهم محترماً ومقدّراً، وكان بعضهم يستشيرني في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته، ولكن هذا الحال لم يستمر طويلاً، فقد شبّت نار الفتنة من جديد، بعد ما أعلن ثلاثة من الطلبة [الذين كانوا معي في الجامعة] تشيّعهم، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الطلبة أظهروا تعاطفهم وتأييدهم للشيعة، فدارت سلسلة أخرى من الصدمات والصّراعات التزمنا فيها جميعاً الأخلاق الرساليّة والحكمة، فتمكّنا من امتصاص الغضب بأسرع ما يكون )(١) .

ويضيف معتصم سيّد أحمد حول ما لحقه من أذى واضطهاد في قريته بعد ذيوع خبر استبصاره:

( وبهذا انتشر أمري في القرية، وبدأت أطرح مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام على كثير من أهلها، فشبّت نار الوهّابيّة وتأجّج غضب مروّجيها، فأصبحت كل محاضراتهم في أيّة مناسبة كانت هي عبارة عن سبّ وشتم الشيعة والافتراء عليهم وأحياناً يتعرّضون لشخصيّتي، و واجهت كل ذلك بالصبر والصفح الجميل )(٢) .

ويضيف هذا المستبصر أيضاً حول الاضطهاد الذي واجهه بعد اعتناقه لمذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام :

( كان إمام المسجد في قريتنا يصرّح بكفري وضلالتي، ويمنع الجميع من الجلوس معي أو قراءة كتبي، أيّ منطق هذا يسلب الإنسان حرّية تفكيره ولكنّها سياسة الجهل والتجهيل والحصار الفكري )(٣) .

ويقول محمّد علي المتوكّل حول ما شنّه البعض عليه من حملات مسعورة من أجل صرفه عمّا توجّه إليه:

____________________

(١) معتصم سيّد احمد/ الحقيقة الضائعة: ٢٣-٢٤.

(٢) المصدر السابق: ٢٥.

(٣) المصدر السابق: ٢٠٠.

٢٧٣

( أراد بعضهم الإيقاع بيني وبين أهلي، بينما كان دافع آخرين هو الحرص على ديني والإشفاق عليّ.

أيّاً كانت الدوافع فقد تلقّى والدي النبأ بحكمته التي أعرفها جيّداً، واعتماداً على ثقته بابنه...

وعند أوّل لقاء بيني وبين أبي، لم يحدّثني مباشرة عمّا بلغه عنّي من أنباء، ولكن بدلاً عن ذلك أخذ يسدى إليّ مجموعة من النصائح القيّمة ويدعوني إلى التريُّث والتثبّت قبل أن أخطوا أيّ خطوة مصيريّة في حياتي، فهمت مراده وطمأنته على نفسي وعلى سلامة مسيرتي، وقدّمت له بعض كتب الدعاء المأثور عن أهل البيت ‏عليهم‌السلام منها الصحيفة السجّاديّة للإمام علي بن الحسين‏عليه‌السلام فأقبل على قراءتها بشغف شديد.

أمّا والدتي - ذلك الإنسان البسيط ذو التديّن الفطري والمعرفة المحدودة بالتاريخ وغيره من قضايا الدين - فقد بدت منزعجة جدّاً بعد أن سمعت بعض ما تناقلته النسوة من حديث حول ابنها، وكان أكثرهنّ لا يميّز بين شيعي وشيوعي، لذلك كُنّ يستغربن: كيف تحوّل ذلك الشاب المتديّن من واعظ يدعو الناس إلى الإيمان إلى شيوعي لا دين له؟!

ومع ذلك فإنّ أمي انتظرت ريثما تفهم الحقيقة منّي، ولم ترتّب على كلام الناس شيئاً، وما أن التقينا بعد طول افتراق بادرت باستيضاح الأمر منّي، فحرت في أمري، إذ كيف أبيّن لها حقيقة التشيّع وهي لا تعرف عن (التسنّن) شيئاً، شأنها في ذلك شأن أكثر الناس - رجالاً ونساء - قلت لها:

دعيني أسألك يا أمّي، من تعرفين من الصحابة؟

أجابت: أعرف عليّاً وفاطمة بنت الرسول والحسن والحسين وحمزة والعبّاس.

قلت لها: ذلك يكفي، وكل ما في الأمر أن الناس بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انقسموا إلى قسمين: قسمٌ صار مع على وفاطمة والحسن والحسين وأبنائهم إلى اليوم وهم الشيعة، وقسم خالفهم واتّبع غيرهم وهم الذين عُرفوا بأهل السنّة، ونحن بعد أن عرفنا هذه

٢٧٤

الحقيقة رأينا الحقّ في إتّباع أهل البيت ‏عليهم‌السلام فصرنا شيعةً لهم، فهل في ذلك شي‏ء؟

قالت: لا شي‏ء في ذلك ونحن نحبُّ أهل البيت ونحبّ من يُحبّهم.

وهكذا اطمأنّت الوالدة وحمدت اللَّه أنّ ولدها لا زال متمسّكاً بدينه كأقوى ما يكون )(١) .

ويقول محمّد علي المتوكّل أيضاً حول ردود أفعال طلبة جامعته إزاء استبصاره واستبصار مجموعة من الطلبة الذين استبصروا معه:

( تلك الأسباب مجتمعة دفعت فصيل الحركة بالجامعة إلى المسارعة لاتّخاذ قرارات حاسمة في مواجهة مجموعتنا التي لم تعدّ تخفي تشيّعها.

فكانت الخطوة الأولى هي تكثيف الدعاية المضادّة للشيعة والتشيّع عن طريق الجلسات الثقافيّة والندوات والمعسكرات المغلقة.

وفي خطوة تالية اتّهمت مجموعتنا بالعمالة والتعاون مع جهات سياسيّة معادية من أجل إضعاف الحركة!

كلّ ذلك تمهيداً لإجراءات تكون أكثر حسماً وأشدّ قسوة، ما كان أغناهم وأغنانا عنها لو أنّهم اتّبعوا الحوار معنا بدلاً عن التوجّس والارتياب، إذ أنّ الحركة التي استطاعت أن تتحدّى التراث وتخرج عن الخط التقليدي كان بإمكانها أن تخطوا في طريق (التجديد) خطوة أكثر عمقاً وجدّية، وتجرّب أن تعرض إشكالياتها في التراث على منهج آخر خلاف منهج الرأي الذي لا يزيد عن الطريق إلّا بعداً.

في الخطوة قبل الأخيرة دُعي جميع الكوادر إلى اجتماع حُجبت عنه مجموعتنا التي كان الأمر متعلّقاً بها، وبعد أن تُليت الاتّهامات الموجّهة إلينا، وأعلن للمجتمعين (انحراف) مجموعتنا عقائديّاً وحركيّاً، صدرت اليهم القرارات الحركيّة القاضية بمقاطعتنا وعزلنا اجتماعيّاً و وقف التعامل مع أفراد المجموعة الشيعيّة بأيّ وجه من

____________________

(١) محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٦٦-٦٧.

٢٧٥

الوجوه، وأُخذ على الجميع القسم على ذلك، على الرغم من احتجاج عدد ممّن يعرف إخلاصنا للحركة ولا يجزم بانحراف توجّهنا الفكري )(١) .

دواعي مضايقة أبناء المجتمع السنّي للمستبصرين:

يرى أسعد وحيد القاسم أنّ سبب مواجهة أبناء المجتمعات السنّية لمن يغيّر انتماءه من المذهب السنّي إلى المذهب الشيعي هو سيطرة التفكير القبلي والتعصّب الديني والمذهبي على عقليّة أبناء هذه المجتمعات.

فيقول في هذا لمجال:

( الدّين والمذهب في مجتمعاتنا من الأمور التي تورَّث، والقليل النادر جدّاً من يضعها تحت مجهر الدراسة والتمحيص )(٢) .

ولهذا يقول التيجاني السماوي:

( رغم كلّ الأدلّة الواضحة والحجج القاطعة التي تقدّمت بها في كتبي السابقة، غير أن البعض سامحهم اللَّه لا يقرؤون بعقولهم وقلوبهم، بل يقرؤون بعواطفهم ما يرضي مشاعرهم وأهوائهم، وقد تعلّموا معاداة كلّ ما يخالف معتقداتهم وتوهين كلّ ما يعاكس رغباتهم )(٣) .

ويقول محمّد علي المتوكّل حول ردود أفعال أهل السنّة بعد قراءتهم لكتابه (ودخلنا التشيّع سجّداً):

( بالنسبة للقارئ السنّي [الذي يقرأ كتابي‏] من الطبيعي أن يتساءل؛ بل يستغرب ويستنكر، ويصدر ما يعنّ له من الأحكام على كل من ينتقل إلى التشيّع، وقد يبدو الأمر له ضرباً من ضروب الردّة والانحراف العقائدي، ذلك أنّه يقطع، ظنّاً وتقليداً، بأنّ

____________________

(١) المصدر السابق: ٥٣.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد ٨.

(٣) محمّد التيجاني السماوي/ كلّ الحلول عند آل الرّسول: ١٧.

٢٧٦

الحقّ كلّ الحقّ هو ما عليه أهل السنّة، وهل بعد الحقّ إلّا الضلال؟

وقبل أن يسترسل في أسئلته وأحكامه الخاصّة، نضيف إلى قائمته سؤالين، لعلّه يطرحهما على نفسه، أو لعلّه يتذكّر قوله تعالى:( قُل مَنْ يَرزُقُكُم مِن السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُل اللَّه وإنّا أو إيّاكُم لَعَلى‏ هُدًى أو في ضَلالٍ مُبين ) (١) .

أوّلاً: هل كونك سنّيّاً كان أمراً باختيارك؟ أو هو ما وجدتَ عليه آباءك والّذين من حولك، فكنت أحدهم في ذلك؟

ثانياً: بعد أن بلغت الرشد وتبيّن لك أنّ هناك أديان أخرى ومذاهب إسلاميّة يقوم بعضها على نفي البعض الآخر والحكم بانحرافه، هل خامرك الشكُّ أو افترضت للحظة أن الحق قد يكون بخلاف ما ألفيت عليه الآباء؟

ومن ثمّ هل سعيت من أجل التحقّق والتثبّت من صحّة معتقداتك وأفكارك الموروثة؟

وإذا أجبت بالنفي فأنت كغيرك من أهل الأديان وأصحاب المذاهب الموروثة، الذين لا يرون الحقّ في شي‏ء بخلاف ما هم عليه، فقط لأنّهم ألفوا آباءهم عليه، فتجد نفسك عند مفترق طرق يزعم كل منها أنّه ينتهي إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث الدين الخالص المبرّأ من الشوائب، ويدّعي أنّه طريق النجاة والفرقة الناجية التي هي واحدة إلى جانبها إثنان وسبعون فرقة ضالّة ومن ثمّ هالكة)(٢) .

ولهذا يرى معظم المستبصرين رغم تحمّلهم الكثير من المآسي والنكبات أنّ الاستياء العام الذي يتعرّضون له لا يستحقّ الاهتمام أو الالتفات إليه.

ومن جملة هؤلاء أحمد حسين يعقوب حيث أنّه يقول:

( لقد اهتديت وأولادي والحمد للَّه، فصارت أفراح أهل البيت أفراحنا وأتراحهم أتراحنا، وأنا على بيّنة من ربّي، ولست معنيّاً بما يقوله المجتمع عنّي.

____________________

(١) سبأ: ٢٤.

(٢) محمّد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٦.

٢٧٧

لقد وصفت الأكثريّة الساحقة من أبناء المجتمعات القديمة كلّها الرسل والأنبياء الكرام بالمجانين، واتّهمتهم بالسحر والكهانة والشعر والكذب.. ولم يسلم خاتم النبيّين من هذه الأوصاف الظالمة!

لقد بلغ العرب المدى عندما قالوا بأنّ (القرآن أساطير الأوّلين)! ولكن بوقت طال أم قصُر، سقطت أكاذيب الأكثريّة من أبناء المجتمعات، وحصحص الحقُّ، وبقيت الحقيقة الخالدة التي نادى بها النبيّون.

المطلوب أن أنجوا بنفسي، ولا يضيرني عند اللَّه إن ضلّ ابني أو تنكّر لي مجتمعي، ليقولوا أنّني كافر... وأنّني رافضي... إلخ، هم يعرفون أنّني أصلّي وأحجّ وأبكي من خشية اللَّه، لقد كنت خطيبهم وإمامهم في الصلاة ورئيس بلديتهم فكيف يمكن التوفيق بين هذه الاتّهامات، وبين حقيقة الواقع!! )(١) .

ويضيف أحمد حسين يعقوب:

( إنّ فرعون كان يعتقد أن حكمه وطريقته وعقيدته الفاسدة هي المثلى وأنّه كان يخشى أن يذهب موسى (بطريقتكم المثلى)، كان يعتقد أن دينه هو الصحيح، وهو يخاف من موسى أن ينجح بتبديل دين المجتمع (أن يبدّل دينكم)، كان يعتقد أنّه مصلح، ويخشى أن يظهر موسى (في الأرض فساداً)!

لكن من يصدّق اليوم أن فرعون مصلح وأن طريقته هي المثلى، وأنّ موسى مُفسد، حاشاه؟!! من يصدّق اليوم أكاذيب العرب بأنّ القرآن أساطير الأوّلين؟!!

بوقت يطول أو يقصر ستسقط كلّ الأكاذيب وتزول كلّ الأصباغ الزائفة وتظهر الحقائق الشرعيّة المجرّدة، والخاسرون هم الذين يكذّبون على أنفسهم ويسجنون أنفسهم وعقولهم في كهوف التاريخ ومغره )(٢) .

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: ١٠.

(٢) المصدر السابق.

٢٧٨

صمود المستبصرين إزاء مضايقات أبناء مجتمعاتهم:

إنّ المستبصر رغم المضايقات التي يواجهها من أبنا مجتمعه يقف بقوّة إزاء كافّة التيّارات التي تحاول إعادته إلى ما كان عليه، ولا يعبأ بكلّ المصاعب التي تنهال عليه نتيجة صموده واستقامته في هذا السبيل، لأنّه يشعر بعد الاستبصار بامتلاك شخصيّة قويّة ومتماسكة يستمدّ منها القدرة على تخطّي كافّة الحواجز والعقبات الصعبة التي ستقف بوجهه لتصرفه عن السير باتّجاه الحقيقة.

وبهذا الشعور الإيماني العظيم الذي يتضاءل بجانبه كل شي‏ء يشعر المستبصر باستقرار نفسي لا يشوبه أيّ خوف أو قلق.

ومن هذا المنطلق يندفع المستبصر بقوّة لمواجهة القوى المعاكسة المغرضة التي تقف بوجهه لتصدّه عن مواصلة الطريق الذي اختاره بنفسه، لأنّ المستبصر يعتقد كما ذكر سعيد أيّوب:

( إنّ على الأرض معسكران لا ثالث لهما: معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، ومعسكر الإيمان ممتدٌّ طال ما ظلّ متمسّكاً بالمنهج الذي يمدّه بكل تصوّرات الحياة، وهذا المنهج تكفّل اللَّه تعالى بحفظه وبنصره حتى يرث اللَّه الأرض ومَن عليها، فقال تعالى:( ...واللَّهُ مُتمُّ نورِهِ ولَو كَرِه الكافِرُونَ ) (١) .

( هو الذي أَرسَلَ رسُولَه بالهُدى‏ ودينِ الحقِّ لِيُظهِرَه على الدّينِ كلّه وَلو كَرِه المُشركونَ ) (٢) .

ووفقاً لهذه النصوص تكون الغاية قد أعلنت، وهي أنّ اللَّه تعالى سوف يتمّ نوره ولو كره معسكر الكفر وسيظهر دينه ولو كره معسكر الشرك. فاذا كان اللَّه تعالى قد تكفّل بهذا فما هو دور الإنسان المؤمن؟

____________________

(١) الصفّ: ٨.

(٢) الصف: ٩.

٢٧٩

بمعنى إذا كان اللَّه تعالى سيتم ويظهر ولن يؤجّل إهمال جميع الخلق هذا الإتمام والظهور كما لن يعجل طاعة جميع الخلق هذا الاهتمام وهذا الظهور، فما هو دور الإنسان المؤمن في هذا النصر الذي سيتحقّق حتماً في نهاية الطريق؟

إنّ دور الإنسان الذي يأخذ موقعه في معسكر الإيمان هو أن يضع نفسه على الطريق الذي حدّده المنهج، ويسير في الحياة وفقاً لهذا التحديد، ولا شأن له متى يأتيه نصر اللَّه، وحركة المؤمن على الطريق نحو الغاية المعلنة يقول فيها تعالى:

( وَلَنَبْلونّكُم حَتّى‏ نَعلَمَ المُجَاهِدينَ مِنْكُم والصَّابِريِنَ ونَبلُوَا أخْبَارَكُم ) (١) .

وهذا الاختبار يجعل الإنسان في شعور دائم بأنّه مراقب في جميع مهامه، لأنّ حركته كعبد ارتبطت بمنهج اللَّه تعالى كمعبود، وهو في الحياة لابدّ إما أن يكون مجاهداً وإمّا أن يكون صابراً. وكما أنّ هذه هي حركته في حياة الإبتلاء فعليها يكون عطاء المعبود في عالم الخلود، يقول تعالى:( أم حَسِبتُم أنْ تدْخلُوا الجَنّةَ ولَمّا يَعلَم اللَّهُ الّذينَ جَاهَدُوا مِنْكُم ويَعلَم الصّابِريِن ) (٢) )(٣) .

ويعي المستبصر - كما ذكر معتصم سيّد أحمد - أنّه قد وضع نفسه في مقام يتطلّب منه التحلّي بالصبر والعزيمة، لأنّ الطريق الذي اختاره هو طريق أنبياء اللَّه الذين لاقوا أشدّ أنواع العذاب من مجتمعاتهم(٤) بحيث قال تعالى:

( ومَا يأتيهِم مِن نَبيٍّ إلّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِؤُون ) (٥) .

وبهذه الرؤية ينطلق المستبصر بعد استبصاره، فيقف بكل صمود وتحدّي إزاء كافّة التيّارات التي تحاول أن تسلب منه القناعات التي توصّل إليها عبر الأدلّة والحجج

____________________

(١) محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله : ٣١.

(٢) آل عمران: ١٤٢.

(٣) سعيد أيوب/ عقيدة المسيح الدجّال: ١٨.

(٤) أنظر: معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: ٣١.

(٥) الزخرف: ٧.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374