التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏10%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135416 / تحميل: 6810
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

٣٠١

الفصل السادس

الاختلاف المذهبي‏

أسبابه - علاجه‏

٣٠٢

٣٠٣

إنّ اختلاف الناس في القدرات العقليّة واختلافهم في الخلق والممتلكات سنّة من سنن الوجود ومظهر من مظاهر الكون وآية من آيات اللَّه تعالى، وقد قال عزّ وجل:

( وَمِن آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ واختِلافُ ألْسِنَتِكُم وَألوَانِكُم إنّ في‏ ذلك لآيَاتٌ للعَالِمين ) (١) .

ويكون هذا الاختلاف في الأمور التي أجاز الباري فيها الاختلاف عاملاً من عوامل النموّ والتطوّر في حياة الإنسان، لأنّ تعدّد الآراء وتعدّد الاختصاص يذكّي الحركة العلميّة ويدفعها إلى الأمام ويعبّد لها طريق التكامل ويرفع مستوى المعرفة ويؤدّي إلى النضج الفكري وتكوين العقليّة الواعية نتيجة التقاء خيرة العقول وانتفاع كلٌ من أطراف الاختلاف من خبرات الآخر، فيؤدّي ذلك إلى بناء حضارة توفّر للإنسان الأرضية المناسبة لازدهار طاقاته الكامنة وارتقائه في جميع الأصعدة.

وبذلك يندفع أبناء المجتمع إلى الخروج من السبات والخمول والعزلة إلى ميادين التنافس من أجل رفع مستوى تماسك المجتمع وتحصين وجوده.

ولكن يشترط في هذا الاختلاف أن لا يغيب العنصر الأخلاقي عن قاموس العلاقة بين أبناء المجتمع، ليكون هذا الاختلاف إضافة إلى معطياته الإيجابيّة عاملاً من عوامل التوحيد والتقريب بين الناس.

____________________

(١) الروم: ٢٢.

٣٠٤

الاختلاف في الصعيد الديني:

إنّ الاختلاف الديني الذي يكون في الصعيد العقائدي بين أبناء المجتمع اختلاف مبغوض عند اللَّه تعالى، ولم يفسح الباري عزّ وجل لعباده الاختلاف في هذا المجال، لأنّه تعالى بعث النبيّين ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وليرشدهم إلى العقائد الحقّة، وأمر عباده أن يتّبعوا الأنبياء وأن لا يختلفوا في الأمور الدينيّة التي لا يحق لهم إبداء الرأي فيها.

وقد قال تعالى:

( كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبيِّينَ مُبَشّرينَ ومُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُم الكِتَابَ بالحَقّ لِيَحكُمَ بَينَ النّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ وَمَا اختَلَفَ فِيهِ إلّا الّذينَ أوتوهُ مِنْ بَعدِ ما جَاءَتهُم البَيّناتُ بَغياً بَينَهُم فَهَدى‏ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا لِمَا اختَلَفُوا فِيهِ مِن الحِقّ بإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُستَقيم ) (١) .

وقد ذمّ الباري عزّ وجل الاختلاف في الأمور الدينيّة وحذّر من عواقبه قائلاً:

( وَلا تَكُونُوا كالَّذينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعدِ مَا جَاءَهُم البَيِّنَاتُ وَ أُولئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظيمٌ ) (٢) .

وقال جلّ وعلا:

( شَرَعَ لَكُم مِن الّدين مَا وَصّى‏ بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَينَا إلَيكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهيمَ وَمُوسى‏ وعِيسى‏ أنْ أِقِيْمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيه ) (٣) .

وقال سبحانه:

( إنّ الّذينَ فَرّقُوا دينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُم فِي شَي‏ءٍ إنّما أَمرُهُم إلى اللَّهِ ثُمّ

____________________

(١) البقرة: ٢١٣.

(٢) آل عمران: ١٠٥.

(٣) الشورى‏: ١٣.

٣٠٥

يُنَبّئهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (١) .

وقال تعالى:

( واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرّقُوا ) (٢) .

وقال جلّ شأنُه:

( وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشرِكِينَ * مِنَ الّذينَ فَرّقُوا دينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً كلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِم فَرِحُون ) (٣) .

سلبيّات الاختلاف الديني:

إنّ الاختلاف في العقائد يؤدّي إلى سلبيّات عديد منها:

(١) الوقوع في الضلال:

بما أنّ الحقّ واحد لا يتعدّد ولا يختلف وهو هدى اللَّه الذي لا هدى غيره ولا حقّ سواه، فما خالفه لا يكون إلّا باطلاً، وقد قال تعالى:( فَمَاذا بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلاَل ) (٤) .

فعلى هذا تكون نتيجة الفرد الذي لا يتّبع الدين الذي جاء به خاتم الأنبياء رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله الوقوع في أودية الكفر والضلالة.

ويدلّ عليه قوله تعالى:

( وَلكِن اختَلَفُوا فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَنْ كَفَرَ ) (٥) .

( وَلاَ تَتّبِعُوا السُّبُلُ فَتَفَرّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ) (٦) .

____________________

(١) الأنعام: ١٥٩.

(٢) آل عمران: ١٠٣.

(٣) الروم: ٣١-٣٢.

(٤) يونس: ٣٢.

(٥) البقرة: ٢٥٣.

(٦) الأنعام: ١٥٣.

٣٠٦

وقوله عزّ من قائل:

( وِأنّ هذا صِرَاطي‏ مُسْتَقيماً فاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ) (١) .

( فَذلِكُم اللَّهُ رَبّكُم الحَقّ فَمَاذا بَعد الحقّ إلّا الضَّلال فأنّى‏ تصْرفُون ) (٢) .

( وَلَنْ تَرضَى‏ عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى‏ حتّى‏ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إنّ هُدَى‏ اللَّهِ هُوَ الهُدَى‏ وَلَئِن اتّبَعْتَ أَهوَاءَهُم بَعدَ الذي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مِالَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (٣) .

( قُل إنّ الهُدى‏ هُدَى‏ اللَّه ) (٤) .

( إنّ الّدينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام ) (٥)

( وَمَن يَبْتَغِ غَيرَ الإسلام ديناً فَلَنْ يُقْبَل مِنْه وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين ) (٦) .

( اهْدِنَا الصّرَاطَ المُسْتَقيمَ * صِرَاطَ الّذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم غَيرِ المَغْضُوبِ عَلَيهِم وِلا الضّآلّين ) (٧) .

(٢) ضعف شوكة الأمّة:

إنّ الاختلاف الديني يمهّد الأرضيّة الاجتماعية لانتشار الفتن و وقوع المحن وبلورة الشقاق، لأنّه يفتح باب العداوة بين أبناء المجتمع، ويؤدّي إلى تعدّد الجبهات وتنوعها وإثارة الصراعات، ويجعل الأمّة شيعاً يذيق بعضهم بأس بعض، فيؤدّي هذا

____________________

(١) الأنعام: ١٥٣.

(٢) يونس: ٣٢.

(٣) البقرة: ١٢٠.

(٤) آل عمران: ٧٣.

(٥) آل عمران: ١٩.

(٦) آل عمران: ٨٥.

(٧) الفاتحة: ٦-٧.

٣٠٧

الأمر إلى سلب قوّة الأمّة وضعف شوكتها.

ولهذا قال تعالى:

( وَأَطِيعُوا اللَّه وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشلُوا وَتَذْهَب رِيحُكُم وَاصْبِرُوا إنّ اللَّه مَعَ الصّابِرِين ) (١) .

( وَلَقَد صَدَقَكُم اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تْحُسُّونَهُم بإذْنِهِ حتّى‏ إذا فَشِلْتُم وَتَنَازَعْتُم فِي الأمْرِ وَعَصيتُم مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبّونَ مِنْكُم مَنْ يُرِيدُ الدُّنيَا وَمِنْكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُم عَنْهُم لَيَبْتَلِيَكُم وَلَقَد عَفَا عَنْكُم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤمِنِينَ ) (٢) .

أسباب نشوء الاختلاف الديني:

إنّ الاختلاف بين الناس في القضايا الدينيّة له أسباب متعدّدة وبواعث متنوّعة أهمّها:

١- الافتقار إلى العلم.

٢- الرذائل النفسيّة.

(١) الافتقار إلى العلم:

أحد أسباب الاختلاف بين الناس هو عدم وضوح الرؤية للموضوع من كلّ جوانبه، و وقوع نظر كلٌ من طرفي الخلاف على مالا يقع عليه نظر الآخر.

وتوضيح ذلك هو أن ينظر أحدهم إلى الموضوع المختَلف فيه من زاوية معيّنة وينظر الآخر إليه من زاوية أخرى، فيختلفان بعدها في تقييم ذلك الموضوع.

كما أن من جملة أسباب اختلاف الناس هو غلبة الجهل وتفشّيه بينهم، حيث

____________________

(١) الأنفال: ٤٦.

(٢) آل عمران: ١٥٢.

٣٠٨

يؤدّي هذا الأمر إلى استحكام الخرافات في النفوس وقوّة أمر التحزّب للباطل وللفرق المنحرفة.

وقد أشار الباري عزّ وجل في كتابه الكريم عند ذكره قصّة موسى‏عليه‌السلام وقومه، أنّ الجهل من الأسباب الأساسيّة لابتعاد الناس عن دين اللَّه تعالى وتفرّقهم فيه فقال اللَّه تعالى حول ما جرى بين موسى وقومه:

( قَالُوا يَا مُوسَى‏ اجْعَل لَنَا إلهاً كَمَا لَهُم آلِهَةٌ قَالَ إنّكُم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) (١) .

كما أنّ الجهل يدفع صاحبه إلى الوقوع في مصائد أصحاب الأهواء الذين يحاولون استغلال جهل الناس من أجل تحقّق مآربهم الشخصيّة، فيؤدّي به ذلك إلى إيثار الضلالة على الهدى والغي على الرشاد نتيجة تقليده ومحاكاته للغير من دون دليل أو برهان، فيدفعه ذلك إلى سلوك طريق الغواية وتنكّب طريق الهداية.

وبالجهل يفقد الإنسان الحصانة في تقبّل الأفكار التي ترد عليه، ولهذا تتغلغل في عقليّة هكذا أشخاص الأفكار الضالّة والمنحرفة، لأنّ هذه الأفكار تجد عقولاً مفلسة وقلوباً غافلة وأرضيّة مناسبة لاستحكامها في نفوس هؤلاء، فتجعل من عقول هؤلاء موطناً لنفسها.

معالجة الاختلاف الديني الناتج من الجهل:

إنّ هذا اللون من الاختلاف يزول ويضمحل بعد تعرّف أطراف الاختلاف على الحقيقة بصورة كاملة وبعد معرفتهم الشموليّة بالموضوع المختلف فيه.

فلهذا ينبغي لكلّ واحد من أطراف الاختلاف في هذه الحالة أن يكلّف نفسه مشقّة البحث، وأن يبادر إلى طلب العلم من مصادره النقيّة وأن يبذل جهده التام - بعد التحلّي بالموضوعيّة والتجرّد عن القناعات السابقة - لاكتشاف الطريق الصحيح بعقليّة

____________________

(١) الأعراف: ١٣٨.

٣٠٩

منفتحة ترشده إلى سواء السبيل، ليتمكّن بعد إزالة قصوره في الإدراك وإعادة نظره في مرتكزاته الفكريّة ومعلوماته التاريخيّة والدينيّة أن يحلّ الاختلاف القائم بينه وبين الآخرين بالعلم والوعي ودقّة النظر و وضع الأمور في مواضعها.

ويكون الحوار في هذه الحالة أفضل وسيلة لحلّ الاختلاف واكتساب الشموليّة في الرؤية، وبه يتمكّن كلٌ من طرفي الحوار أن يصلح عقليّة الطرف المقابل وأن يرفع مستواه الفكري والثقافي، وسيأتي في البحوث القادمة ذكر أهميّة الحوار العلمي والمناقشة البنّاءة في حلّ الاختلاف.

(٢) الرذائل النفسيّة:

ذكرنا فيما سبق أن الاختلاف إمّا أن يكون نتيجة الافتقار إلى العلم وقد مرّ ذكره، وإما أن يكون نتيجة بعض الرذائل النفسيّة التي تدفع صاحبها إلى مخالفة الحقّ والالتزام ببعض آراء المخالفة للواقع.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا القسم الثاني، وذكر بأنّ معظم الناس ليس خلافهم مع الحقّ نتيجة عدم معرفتهم به، وإنّما سببه مجموعة رذائل نفسيّة تمنعهم من الإيمان بالحقّ، ولهذا قال تعالى:

( الّذينَ آتَيْنَاهُم الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُم وإنّ فَريقاً مِنْهُم لَيَكْتمُونَ الحَقَّ وَهُم يَعلَمُون ) (١) .

وقد ذكر القرآن أيضاً بأنّ الكثير من الأمم كانت تعرف صدق أقوال الرسل فيما يبلّغونهم عن اللَّه عزّ وجل، إلّا أن الرذائل النفسيّة من قبيل العصبيّة والأحقاد والغرور والعناد صدّهم وحال بينهم وبين اتّباعهم للرسل، بل حملهم ذلك على مخالفتهم بغياً وظلماً.

____________________

(١) البقرة: ١٤٦.

٣١٠

ومن الآيات الكريمة التي تبيّن هذه الحقيقة قوله تعالى:

( كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبيِّينَ مُبَشّرينَ ومُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُم الكِتَابَ بالحَقّ لِيَحكُمَ بَينَ النّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ وَمَا اختَلَفَ فِيهِ إلّا الّذينَ أوتوهُ مِنْ بَعدِ ما جَاءَتهُم البَيّناتُ بَغياً بَينَهُم.. ) (١) .

وقوله سبحانه حول بني إسرائيل:

( وَآتَيْنَاهُم بَيّنَات مِنَ الأَمْرِ فَمَا اختَلَفُوا إلّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُم العِلمُ بَغياً بَيْنَهُم.. ) (٢) .

وقوله عزّمن قال:

( إنّ الّدينَ عِندَ اللَّهَ الإسلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلّا مِنْ بَعدِ مَا جِاءهُم العِلمُ بَغياً بَيْنِهُمْ.. ) (٣) .

فهذه الآيات الكريمة تصرّح بأنّ اختلاف معظم الأمم مع أهل الحقّ لم يكن سببه الجهل أو عدم معرفة الحق، وإنّما سببه البغي والظلم والعدوان، لأنّ العلم بالحقّ لا يكفي في الإيمان به والدفاع عنه، وسبب ذلك هو أنّ العلم نور، ولا يستفيد من هذا النور إلّا من يزيل عن بصيرته الحجب التي تمنعه من الرؤية، ولا يقدر على ذلك إلّا أصحاب النفوس الطيّبة والقلوب الطاهرة.

ولهذا حذّر الباري عزّ وجل أبناء الأمّة من التفرقة مع وجود العلم والبينات. فقال تعالى:

( وَلا تَكُونُوا كالّذينَ تَفَرّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعدِ مَا جَاءَهُم البَيّنَات وَأُولئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظيم ) (٤) .

____________________

(١) البقرة: ٢١٣.

(٢) الجاثية: ١٧.

(٣) آل عمران: ١٩.

(٤) آل عمران: ١٠٥.

٣١١

وقال تعالى:

( وَمَا تَفَرّقَ الّذينَ أُوتوا الكِتَابَ إلّا مِن بَعدِ مَا جَائَتْهُمُ البَيّنَة ) (١) .

أهمّ الرذائل المؤدّية إلى الاختلاف:

من أهم الرذائل التي تودي إلى وقوع الاختلاف بين الناس هو الهوى، لأنّ الهوى بعد الهيمنة على النفس الإنسانيّة يستولي على مقياس الحُسن والقُبح ويصوّر للإنسان الأشياء الحسنة قبيحة والأشياء القبيحة حسنة على ضوء ما يرتئيه.

وقد أخبر الباري عزّ وجل بأنّ الانقياد للهوى هو الذي حال بين الأمم والأنبياء، وأملى على الناس الاستكبار لئلّا يؤمنوا برسالة الأنبياء فقال تعالى:

( أَفَكُلّما جَاءَكُم رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى‏ أَنْفُسُكُم اسْتَكبَرتُم ) (٢) .

كما أخبر اللَّه تعالى بأنّ الهوى له من القوّة بأن يحل في النفوس محل الإله، فقال تعالى:

( أفَرَأيتَ مَن اتَّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وأُضَلّهُ اللَّهُ على عِلم ) (٣) .

ومن هذا المنطلق يؤدّي هذا الداء العضال في النفوس المريضة والقلوب الغافلة إلى النفور التام والاستكبار الممقوت عن قبول الحقّ وبغي بعض أبناء الأمّة على بعض وظهور العداوة والبغضاء وغير ذلك من المفاسد التي تؤّدي إلى تفرقة الكلمة.

ويتفرّع عن الهوى رذائل نفسيّة أخرى تؤدي إلى الاختلاف والتفرقة منها الحسد للغير على ما آتاه اللَّه من فضله، حبّ الشهرة، والتفاخر، الأنانيّة والحرص على نيل المنافع الخاصّة والاستجابة لتطلّعات النفس الأمّارة بالسوء.

____________________

(١) البيّنة: ٤.

(٢) البقرة: ٨٧.

(٣) الجاثية: ٢٣.

٣١٢

دور السّلطات الظالمة في تأجيج الاختلاف:

إنّ السلطات الجائرة تغرس بذرة الاختلافات المذهبيّة واختلاق الفساد في قواعد الدين الأساسيّة، ثمّ تكلّف وعّاظ السلاطين ليتعاهدوا هذه البذور المغروسة بالسقي من مياه الشبهة والتزوير والافتراء والغلو لتثمر الأحزاب المذهبيّة التي تكفّر بعضها البعض، والتي توفّر لهذه السلطات أرضيّة تحكّمها بسهولة على رقاب الناس.

وتحاول هذه السلطات بكل ما أوتيت من قوّة وما تملك من وسائل عن طريق تكريس التفرقة بين صفوف الأمّة والعمل على تمزيق المجتمع وتفتيت أوصاله وتخريب تماسكه ودعم الحركات الهدّامة المهتمّة بتمزيق الكلمة وتمزيق الوحدة وإضعاف دعائم الأمّة أن تصل إلى مآربها الشخصيّة.

ولا تأبى هذه السلطات أن تستخدم من أجل الوصول إلى غاياتها الدنيئة أيَّ وسيلة منافية للقيم الأخلاقيّة، لأنّها ترى أنّ مصالحها لا تتحقّق مع وحدة الأمّة وتكاتفها، فتعمد عن طريق استئجار النفوس الضعيفة وشراء ذوي القلوب المريضة وإغرائهم بزخارف الدنيا أن توظّفهم لغرس الحقد والكراهيّة والعداوة والبغضاء في النفوس وخلق مستنقع خصب لانتشار ما يؤدّي إلى تفرقة كلمة أبناء المجتمع.

وقد نجحت هذه السلطات بمكرها وخبثها أن تزرع في نفوس الأمّة ما يدفعها إلى التفرقة، وقد أفلحت في مسعاها ونجحت في مبتغاها ولعبت دورها في شدّ أزر الفتن والشقاق.

ومن هذا المنطلق تلاعبت هذه السلطات بالعقائد والمفاهيم لتعطّل الملكات الإراديّة في نفوس أبناء الأمّة، ولتمهّد بذلك لنفسها سبيل الهيمنة عليهم نتيجة ضعف إرادتهم الشخصيّة، وهذا ما فعله فرعون مع قومه حيث قال تعالى عنه:

( فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأطَاعُوهُ إنّهُم كَانُوا قَوْمَاً فَاسِقِينَ ) (١) .

____________________

(١) الزخرف: ٥٤.

٣١٣

معالجة الاختلاف الديني الناتج من الرذائل:

إنّ البحث وطلب العلم والحوار وغير ذلك من الأمور التي ذكرناها في معالجة الاختلافات الدينيّة الناتجة من الجهل لا تجدي ولا تنفع لمعالجة الاختلاف الديني الناتج من الرذائل النفسيّة.

لأنّ المتلبّس بالرذائل لا يؤمن بالحقّ ولو تجلّى له ذلك كالشمس في رابعة النهار، لأنّه مبتلٍ بحجب وأمراض نفسيّة تمنعه من الخضوع إلى الحقّ والانقياد إلى الصراط المستقيم.

ولا يوجد علاج لحل هذا الاختلاف إلّا المبادرة إلى التربية الأخلاقيّة ودعوة الآخرين إلى التحلّي بالتقوى وتطهير القلب من الشوائب وتنقية النفس من الأوساخ المتلوثة بها.

ولهذا تكون الخطوة الأولى والأساسيّة التي ينبغي أن يقوم بها الإنسان الواعي والسائر على درب الحقّ عندما يواجه من يختلف معه في الرأي والعقائد، أن يبحث قبل كلّ شي‏ء عن الأسباب التي دعت الطرف المقابل لمخالفة الحقّ، ليتمكّن بعد ذلك من دراسة هذه الأسباب والعثور على العلاج المناسب لحلّ الاختلاف القائم بينه وبين الآخر.

لأنّ الحوار العلمي وتقديم الأدلّة والبراهين لا ينفع مع الشخصيّات المتلبّسة بالرذائل النفسيّة، و وظيفة الفرد إزاء هذا النمط من الأشخاص الذي يخالفونه في الرأي والمعتقد أن يقوم بتطهير قلوبهم من الشوائب العالقة بها، ليمهّد بذلك الطريق لغرس المبادئ‏ الحقّة في قلوبهم.

فتنة علماء السوء:

يبيّن الاستقراء أنّ معظم اختلاف رؤساء أهل الباطل وعلماء الفرق الضالّة مع أصحاب الدعوة الحقّة هو نتيجة تلبّس هؤلاء بالرذائل النفسيّة، لأنّهم لم يضلّوا

٣١٤

لجهلهم بالحقّ، وإنّما ضلّوا لهروبهم من وجه الحقّ إرضاءاً لأهوائهم ورذائلهم النفسيّة واتّباعهم السلطات الحاكمة لنيل مطامعهم الشخصيّة.

في حين أنّ معظم الذين يتّبعون أرباب الفرق هم ممن قادهم الجهل والتقليد الأعمى إلى الوقوع ضحايا في لعبة أرباب المذاهب.

ولهذا تكون فتنة هؤلاء العلماء من أعظم الفتن، لأنّهم أضلّوا الناس وحرموهم من اتّباع الهدى، وقد ظنّ أتباع هذه الفرق أنّ علماءهم يقودونهم إلى الحقّ، فسلّموا لهم زمام الأمور، فانتهز هؤلاء العلماء الفرصة فحرّموا ما شاؤوا وحلّلوا ما شاؤوا وأفتوا بما تهوى أنفسهم، وأظهروا من الدين ما ينسجم مع مصالحهم وأخفوا منه ما لا يتّفق مع أهوائهم، ثمّ حاولوا أن يجعلوا أتباعهم وراء ستار كثيف من الجهل لئلّا ينكشف غيّهم.

ويشير التيجاني السماوي إلى هؤلاء العلماء قائلاً:

( ودأب أغلب العلماء على الجري وراء الحكّام واستمالتهم بالفتاوى والتملّق طمعاً في ما عندهم من مال وجاه، وعمل هؤلاء دائماً على سياسة (فَرّق تَسُد)، فلم يسمحوا لأحد بالاجتهاد وفتح ذلك الباب الذي أغلقه الحكّام في بداية القرن الثاني، معتمدين على ما يثار هنا وهناك من فتن وحروب بين السنّة وهي الأغلبيّة الساحقة والتي تمثّل الأنظمة الحاكمة. والشيعة وهي الأقليّة والتي تمثّل في نظرهم المعارضة الخطيرة التي يجب القضاء عليها، وبقي علماء السنّة مشغولون بتلك اللّعبة السياسيّة الماكرة في نقد وتكفير الشيعة والردّ على أدلّتهم بكلّ فنون النقاش والمجادلة حتى كُتبت في ذلك آلاف الكتب وقُتلت آلاف النفوس البريئة وليس لها ذنبٌ غير ولائها لعترة النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفضها للحكّام الذين ركبوا أعناق الأمّة بالقوّة والقهر)(١) .

ومن طرق علماء السوء من أجل الوصول إلى مآربهم تلبيسهم الحقّ بالباطل من أجل حرمان أبناء الأمّة من معرفة الحقّ بسهولة، لأنّهم في ظلّ هكذا أجواء يستطيعون

____________________

(١) محمّد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذكر: ٣٤٠.

٣١٥

أن يخرجوا ضلالهم إلى الناس في قوالب الحقّ، ليغترّ بهم العامّة فيتبعوهم معتقدين أنّهم على الحقّ.

ويشير معتصم سيّد أحمد إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( عندما ينظر الإنسان لواقع الأمّة الإسلاميّة تأخذه الحيرة من جراء الاختلافات والتمذهب الذي أصبح الطابع المميّز في الوسط المسلم، ترى ماذا يصنع الإنسان؟ وأيّ الطرق يسلك؟ في حين تدّعي كل الطرق أنّها الحق المطلق، مع أنّ الثابت بالضرورة أن الحقَّ لا يمكن أن يتعدّد، بخلاف الباطل الذي يمكن أن يتشكّل في وجوه مختلفة )(١) .

اختلاف المسلمين بعد رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد بيّن النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله الطريق الصحيح الذي فيه الخير والصلاح، وقد جعل لأمّته الثقلين كتاب اللَّه وعترته أهل بيته الملجأ للاعتصام من الضلال من بعده، وأمر الناس أن يلتجئوا إلى سفينة أهل البيت‏عليهم‌السلام ليحموا أنفسهم من الغرق في بحار الفتن والضلال.

كما أن النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أشار إلى افتراق الأمّة من بعده، لتتنبّه الأذهان ولتعتصم الأمّة بالحقّ وتتجنّب الشطط والفتن في الأمور التي تقع من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولكن الأمّة لم تلتفت إلى ذلك، فكان أوّل اختلاف أدّى إلى تفرقة المسلمين بعد أن رُزئت الأمّة بفقد الرسول‏صلى‌الله‌عليه‌وآله هو مبادرة بعض الصحابة إلى الهيمنة على زمام الحُكم من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد حاول هؤلاء الصحابة بشتى السبل عن طريق تحريك مشاعر الجاهليّة وإبراز كوامن النفوس وخفايا بعض القلوب ضدّ الإمام علي‏عليه‌السلام أن يغضّوا الطرف عن

____________________

(١) معتصم سيّد أحمد/ حوارات: ١١.

٣١٦

النصوص الواردة من النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله على ولاية أهل البيت‏عليهم‌السلام وخلافتهم من بعده، وأن يغيّروا المنهج المرسوم من قِبل اللَّه ورسوله للخلافة وأن يستولوا على زمام الحكم من بعد رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن هذا المنطلق نشأت الفرق في أوساط المسلمين، ولهذا يقول التيجاني السماوي:

( الخلافة، وما أدراك ما الخلافة! فهي التي جعلها اللَّه فتنة الأمّة، وهي التي قسمتها وأطمعت فيها الطّامعين، وهي التي أهرقت في سبيلها الدماء البريئة، وهي التي كفر من أجلها مسلمون فأغرتهم وأبعدتهم عن الصراط المستقيم وأدخلتهم نار الجحيم )(١) .

ويقول التيجاني السماوي أيضاً:

( كلّ خلاف وقع بين المسلمين سواء في الفقه أو في التفسير للقرآن أو في فهم السنّة النبويّة الشريفة منشوءة وسببه الخلافة )(٢) .

ويقول إدريس الحسيني:

( إنّ الإمامة وما يتّصل بها من موضوعات هي مفتاح كل الصراعات التي شهدها التاريخ الإسلامي )(٣) .

ويشير أحمد حسين يعقوب أيضاً إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( يكمن سبب المصائب التي حلّت بهذه الأمّة ومزّقت وحدتها، وبعثرت صفوفها، وجعلتها شيعاً وأحزاباً وطرائق قدداً، يكمن في الفصل بين المنظومة الإلهيّة وبين المرجعيّة والقيادة السياسيّة التي عيّنها اللَّه تبارك وتعالى، والتمسّك بالمرجعيّة والقيادة السياسيّة التي فرضتها القوّة والغلبة واستكان لها الناس بحكم طاعة الغالب، ثمّ بحكم التكرار والتقليد الأعمى.

____________________

(١) محمّد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذكر: ٢٣٩.

(٢) محمّد التيجاني السماوي/ لأكون مع الصادقين: ٤٠-٤١.

(٣) إدريس الحسيني/ الخلافة المغتصبة: ١٣.

٣١٧

فما سالت الدماء إلّا من أجل رئاسة الدولة، وما اختلف المسلمون إلّا بسبب هذه الرئاسة، وما حدثت الحروب بينهم إلّا طمعاً بها، فهل يُعقل أن يُبيّن الشرع الحنيف للناس كيف يتبوّلون ويغفل ويترك بيان مَن يتولّى رئاسة الدولة بعد النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيفيّة التنصيب، وكيفيّة انتقال الرئاسة؟)(١) .

وبمرور الزمان ازدادت الفرق والمذاهب، وأصبحت كلُّ فرقة تدّعي أنّها هي الفرقة الناجية التي أشار اليها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويقول هشام آل قطيط في هذا المجال:

( فجميع الطوائف الإسلاميّة بعد وفاة النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله تفرّقت إلى ملل ونحل ومذاهب وصارت كل فرقة تدّعي أنّها هي الفرقة الناجية، وأن أتباعها هم الناجون، بحيث كل فرقة لديها الفن في صنعة الحديث.. فصارت تقول أحاديث تنتصر بها على الفرقة الأخرى، فعظمت المحنةُ وانتشر الباطل)(٢) .

ويقول أسعد وحيد القاسم حول جذور الاختلاف بين المسلمين والمسألة التي منها انطلق الخلاف بين المسلمين:

( ولا أجد مسألة اختلف عليها بين أهل السنّة والشيعة من الممكن أن تنطبق عليها مثل هذه المواصفات كمسألة خلافة النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إمامة المسلمين بعده، ويقول الشهرستاني صاحب موسوعة الملل والنحل في هذا الصدد: (وأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينيّة مثل ما سُلّ‏على الإمامة في كلّ مكان ).

وأما الفروع، فهي الآثار التي ترتّبت على حصول أزمة الخلافة والإمامة أو مخلّفاتها ذات الخطورة على الإسلام والمسلمين. وتشعبات هذه الفروع هي ذلك الكم الهائل

____________________

(١) أحمد حسين يعقوب/ الخطط السياسيّة لتوحيد الأمّة الإسلاميّة: ٣٥-٣٦.

(٢) هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: ٣٢٢.

٣١٨

من المفاهيم والأحكام الفقهيّة المختلف عليها بين الفريقين من جهة، وبين كل فريق من جهة أخرى )(١) .

ويقول معتصم سيّد أحمد حول هذا الأمر:

( وقد نقل التاريخ تعصّب كل جماعة لمدرستهم الفقهيّة وما حصل بينهم من مشادات ونزاعات إلى درجة أن يكفّر بعضهم البعض، وما كشف لنا أيضاً دور السلطات الحاكمة وكيف كانت تتلاعب بدين المسلمين، فالعالم الذي يوافق هواها يكون إماماً للمسلمين وتلزم الناس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتقليده والاقتداء به )(٢) .

ومن جراء الاختلاف حول الإمامة والخلافة بين أهل السنّة والشيعة، ذهب أهل السنّة إلى أن الخلافة زعامة مدنيّة يرجع فيها الاختيار والتعيين إلى الناس أنفسهم، وذهب أتباع مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام إلى أن الخلافة أو بالأحرى الإمامة ليست مجرّد زعامة مدنيّة وحكم إداري، بل هي امتداد للنبوّة بجميع معطياتها إلّا ما يخصّ مقام النبوّة، وذهبوا إلى أن خلافة الرسول منصب إلهي يعيّنه النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق الوحي ولا مجال فيه لاختيار الأمّة.

ومن هذا المنطلق قال الشيعة استناداً إلى النصوص القرآنيّة والروايات الصريحة أن الإمام علي‏عليه‌السلام هو خليفة رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ، وأنّ الباري عزّ وجل قد اصطفى آل محمّدعليهم‌السلام كما اصطفى آل إبراهيم، ذريّة بعضُها من بعض لمنصب الإمامة والخلافة من بعد الرسول‏صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد احتجّ الشيعةُ على مخالفيهم بأدلّة كثيرة وأقاموا براهينهم.

ولكن أتباع المذهب السنّي أنكروا النصّ على الإمامة، وشكّكوا في الأدلّة التي احتجّ بها الشيعة، وحاولوا صياغة فكرة الخلافة بصورة تضفي المشروعيّة على خلافة

____________________

(١) أسعد وحيد القاسم/ أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة: ٢٥.

(٢) معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: ٢٣٩.

٣١٩

كلّ من استلم دفّة الحكم بعد التحاق الرسول‏صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى.

ومن المؤسف أن تحوّل هذا الاختلاف في بعض الأزمنة نتيجة ضعف الإيمان وغياب العنصر الأخلاقي إلى صراعات حادّة يتخفّى وراءها مظهر بشع من الكراهيّة والحقد المكشوف، وأصبحت كل فرقة ترصد نقاط ضعف الفرقة الأخرى لتدينها بها.

ومن هنا اتّسعت دائرة الجدل والنقاش بين الأطراف المتنازعة، ثمّ تحوّل إلى التراشق بالاتّهامات واستخدام الكلمات البذيئة، فأدّى ذلك إلى ضياع جهود كثيرة و فوت خيراً واسعاً ضاع في المهاترات والشقاق.

ثمّ استغلّ المغرضون والانتهازيّون هذه الفرصة فأجّجوا نيران الاختلاف ومزّقوا أوصال الأمّة وفتّتوا وحدتها من أجل توسيع الهوة بين أبناء المجتمع والاصطياد بعدها بالماء العكر.

وقد بلغ الاختلاف بين المسلمين حدّاً بحيث سمح بعض المسلمين لأنفسهم أن يمدّوا جسور العلاقة الودّيّة مع الأطراف المضادّة للإسلام، وفي الوقت نفسه أبَوا أن يمدّوا جسور العلاقة مع إخوانهم المسلمين الذين اختلفوا معهم في بعض الأمور العقائديّة والفكريّة، بل بلغ حقد وكراهيّة بعضهم ضدّ الآخر، الحدّ الذي دفعهم إلى تشويه أحدهم صورة الآخر بأساليب بعيدة كل البُعد عن القيم الأخلاقيّة.

وفي ظلّ هكذا أجواء اندفع كل طرف من الأطراف الإسلاميّة إلى الحذر والتوجّس من الطرف الإسلامي الآخر، وأصبح أمرُ الأمّة أن لا تمضي عليها فترة قصيرة إلّا وتثار فيها مسألة خلافيّة تفرّق قواها وتقوّي بأسَ بعضها على بعض.

الوحدة الإسلاميّة:

تعني الوحدة الإسلاميّة أن يكن كل مسلم المحبّة في قلبه لباقي إخوانه من المسلمين وإن كانوا على ضلال، لأنّ كل إنسان بذاته طاهر وهو مخلوقٌ اصطفاه اللَّه سبحانه وتعالى على سائر المخلوقات وكرّمه على العالمين.

٣٢٠

والكفر والضلال رجس، ولكنّها أمور عارضيّة على وجود الإنسان، وينبغي لكلّ فرد أن ينطلق من محبّته للإنسان الضال لينقذه من الأفكار المنحرفة التي تلبّس بها، وعليه أن ينطلق من منطلق محبّته للإنسان الضائع ليمدّ له يد العون من أجل انتشاله من حالة الضياع التي يتخبّط فيها.

وهذه المحبّة في الواقع هي التي تحفّز الإنسان إلى هداية الآخرين، ومن دون هذه المحبّة لا يستطيع الإنسان أن يقوم بهداية من يخالفه في الرأي، ولا يتمكّن من إرشاده إلى سواء السبيل، لأنّ الإنسان الذي يكره الآخر ويشمئزّ منه لا يستطيع أن يقدّم له الخير، ولكنّ الذي يحبّ الآخرين وإن كانوا على ضلال، فإنّه ينطلق من منطلق محبّته لهم لينقذهم من الضلال الذي هم فيه ويحفّزه حبّه لهم على تطهير عقولهم من الأفكار المنحرفة وتنقية قلوبهم من الرجس والشوائب العالقة بها.

ومعنى الوحدة هو تعميق هذا المعنى في نفوس الناس، لينظر كلّ الناس بعين الحبّ والمودّة والرأفة إلى الآخرين، وأن يفرّق بين الضلال والضال وبين الانحراف والمنحرف، فإنّ الضلال والانحراف أرجاس ولابدّ من القضاء عليها وتطهير الأمّة من وجودها.

ولكن الإنسان الضال والمنحرف هو إنسان طاهر في ذاته، مكرّم عند اللَّه لكونه مخلوق اصطفاه اللَّه على بقيّة المخلوقات، وهو الذي أرسل اللَّه تعالى أنبياءه ورسله من أجل إنقاذه من الضلال والانحراف.

ولولا محبّة الأنبياء للكفّار لم يبذل هؤلاء الأنبياء هذا الجهد المكثّف لإنقاذهم من الضلال، ولم يتحمّلوا هذا الجهد في دعوتهم إلى الحقّ.

فلهذا ينبغي لنا اقتداءاً بمنهج الأنبياء أن لا نبغض الإنسان الضال لذاته، بل علينا أن نبغض الضلال المتعشعش في وجود الضال، وعلينا أن نحاول من منطلق محبّتنا للضال كمخلوق اصطفاه الباري عزّ وجل عى‏ سائر المخلوقات أن نبعده عن هذه

٣٢١

الأرجاس والنجاسات(١) .

ومن هذا المنطلق تذوب وتضمحل جميع أساليب العدوان والقمع والتسقيط والتشويه والاستفزاز والاستخفاف والاستهتار بين أتباع المذاهب الإسلاميّة.

ومن هذا المنطلق يسعى كل صاحب انتماء مذهبي إلى تفهّم صاحب الانتماء الآخر، فيطّلع على رؤاه ومواقفه المذهبيّة المتّصلة بمختلف المسائل الدينيّة ولاسيّما العقائديّة، ويكون شأنه حين تعامله مع الضالين والمنحرفين شأن تعامل الطبيب مع المريض.

فالمريض كما يقول عصام العماد يحتاج من الطبيب إلى المعالجة والمعاينة لا المجادلة والمخاصمة، وعلى الطبيب أن ينظر إليه بمحبّة ومودّة، وأن يبذل كل ما لديه من جهد من أجل أن يجلب له الدواء، ويزيل عنه الداء، ولا شكّ أن الطبيب الذي يسي‏ء الظنّ بمريضه لا يستطيع معاينة مريضه ومعالجته(٢) .

ومن هنا يتمكّن أتباع كل مذهب أن يوضّحوا هويّتهم المذهبيّة الحقيقيّة ليزيلوا أسباب وقوع الآخرين في الالتباس واشتباههم في فهمهم لهم، وبذلك تزول الحواجز النفسيّة التي كوّنتها ظروف القطيعة بين أتباع المذاهب الإسلاميّة.

ويساهم هذا الأمر في إزالة الكثير من عوامل سوء الفهم والتصوّرات الخاطئة التي يحملها كل فريق عن الآخر، ويؤدّي هذا الأمر في نهاية المطاف إلى تضييق شقّة الخلاف بين أتباع المذاهب الإسلاميّة وفسح المجال واسعاً للوصول إلى التعاون الحقيقي فيما بينهما للوصول إلى الحقيقة.

ولهذا يقول صالح الورداني:

( وحالة سوء الفهم القائمة بين السنّة والشيعة إنّما يعود سببها إلى العزلة الفكريّة

____________________

(١) إلّا اللهمّ الذي استحال وجوده إلى الضلال وختم اللَّه على قلبه وأصبح ضلالاً مجسّداً لا رجاء في هدايته ولا أمل في رجوعه إلى الحقّ.

(٢) انظر: عصام العماد/ المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهّابيين: ٩٥-٩٦.

٣٢٢

الواقعة بين الطرفين، تلك العزلة التي أسهمت فيها السياسة بدور كبير.

وهي التي تولّدت في ظلّها الشائعات وتكاثرت من حول الشيعة، ممّا أدّى إلى توسيع رقعة العداء بين الطرفين..

إنّ التعايش القائم على المعرفة والوعي من شأنه أن يؤدّي إلى تقبّل الآخر والتماس الأعذار له في فكره ومعتقده وتحقيق الوحدة الإسلاميّة المنشودة، بل هو الطريق الوحيد للوصول إليها.. )(١) .

ويقول صالح الورداني أيضاً:

( وعندما أتعامل معك على أساس فهم كامل لشخصك وفكرك ومعتقدك، فهذا سيؤدّي لأن تكون الوحدة راسخة لأنّه حينما أعمل معك وأنا أعلم بأنّ لك رؤية في أبي بكر وعمر، فسأتفهم وجهة نظرك، وسيؤدّي هذا إلى استيعابي مسألة التعامل المشترك بيني وبينك.

لكن يختلف الأمر كثيراً عندما أتعامل معك وأنا لا أدري بهذه الحقيقة فيأتي بعض الدسّاسين ويصنعون الفتنة بيننا.

الوحدة يجب أن تقف على وضوح الرؤية كما أنّها عمل جماهيري لا صلة للسياسة بها، لن تفرضها الحكومات ولن تحقّقها المؤتمرات بل ستتحقّق بجهود الدعاة والكتّاب والمفكّرين في تصحيح الأفكار والمفاهيم الإسلاميّة في الساحة الجماهيريّة.

هذا هو دور المؤسّسات بالدعم ليتبدّد الالتباس والشبهات السائدة )(٢) .

وأضف إلى ما تمّ ذكره أنّ هذا النمط من الحبّ يصون الإنسان من الصراع والرغبة في الغلبة حين حواره مع من يخالفه في الرأي، لأنّ الصراع كما يقول صائب عبد الحميد

____________________

(١) صالح الورداني/ المناظرات بين فقهاء السنّة وفقهاء الشيعة: ٨.

(٢) مجلّة المنبر: العدد ٢٢.

٣٢٣

غايته نفي الآخر وإفنائه، ولكن الحوار غايته إبقاء الآخر وجذبه إلى الصواب بعد إزالة الشبهات العالقة بذهنه(١) .

ولا يستطيع الإنسان أن يمنع نفسه من هذا الصراع إلّا بالحبّ الذي يكنّه للآخر، وهذا الحبّ هو الذي يجعل الفرد أن يستخدم أسمى الأساليب الصحيحة في حواره ومقابلته مع من يخالفه في الرأي.

اهتمام المستبصرين بالوحدة الإسلاميّة:

إنّ الأضرار الفادحة الناتجة من عدم مراعاة الوحدة الإسلاميّة وعدم توحيد الصفوف ورصّها للحفاظ على كيان الإسلام والتشاحن بين أبناء المجتمع وإثارة بواعث البغضاء والأحقاد في قلوب بعضهم على الآخر دفعت المستبصرين إلى التأكيد على هذه الوحدة والدعوة إليها بعد تبيين أهمّيّتها ودورها في لمّ شعث المسلمين وجمع شملهم وتقوية بُنيتهم.

ولهذا يقول إدريس الحسيني:

( لقد كانت الوحدة الإسلاميّة ولا تزال همّنا الكبير، الذي مهما اختلفنا لن تكون إلّا هدفنا المقدّس.. وحدة إسلاميّة ناضجة، تقرب الشقة بين الفرقاء، وتجعلهم بحيث يتفهّمون أزمتهم التراثيّة وضرورة الحسم فيها )(٢) .

ويقول معتصم سيّد أحمد حول أهمّية الوحدة وكيفيّة الحصول عليها:

( انّ حالة التمذهب التي يعيشها المسلمون قديماً وحديثاً، لا يمكن اعتبارها حالة صحيحة نابعة من صميم الدين، وإنّما هي حالة سلبيّة لابدّ من مواجهتها وتخطّيها بكل السبل، لأن الرسالة التي جاءت من إله حكيم لا يمكن أن تكون دعوة للتفرق

____________________

(١) انظر: صائب عبد الحميد/ حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي: ١٣.

(٢) إدريس الحسيني/ هكذا عرفتُ الشيعة: ٢٠٤.

٣٢٤

والتمذهب، وهو القائل:( إنّ هذِهِ أُمَّتُكُم أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاعْبُدُونِ ) (١) ، ولا يمكن أن نتصوّر الأمّة الواحدة، إلّا من خلال المنهج الواحد، ومن هنا كانت تعاليم الإسلام تعاليم واحدة، منسجمة مع سنن اللَّه الكونيّة، التي تجعل الوجود في غاية الانسجام والتوازن، كما أنّ رسالات اللَّه التي تعاقبت على البشريّة كانت تحمل شعاراً واحداً وهو توحيد العبادة لعبادة الواحد القهّار)(٢) .

ويقول هشام آل قطيط حول أخطار عدم رصّ الصفوف في المرحلة الراهنة التي يعيشها العالم الإسلامي:

( علينا بالتوحّد وجمع الكلمة ورصّ الصفوف والتقارب إسلاميّاً...، والعارفون بأهداف الاستعمار يعلمون كلّ العلم أنّ تجزئة الأمّة الإسلاميّة أعظم وسيلة تمسّك بها المستعمرون للاحتفاظ بسلطتهم.

فعلينا أن ندرك أبعاد المرحلة التي نعيشها في هذا العصر كإسلاميّين، بغضّ النظر إلى المذهبيّة أو الطائفيّة )(٣) .

ويقول هذا المستبصر أيضاً حول أهمّية لمّ شعث الأمّة وسبل تحقّقه:

( فنحن بأشدّ الحاجة إلى لمّ شعث الأمّة، ونحن بحاجة إلى عقد مؤتمرات إسلاميّة تأخذ على عاتقها العمل من أجل الوحدة الإسلاميّة وتقف وقفة واعية ومسؤولة من قِبل أصحاب العقول المفكّرة العاملة وأصحاب الأقلام الشريفة لتعمل دون كلل من أجل أن نتوحّد ونرفع أصواتنا عالية في وجه كل من يحاول أن يزرع الحقد والمعرفة ويؤجّج النار كلّما حاولنا إطفاءها.

فإنّي أدعو جميع أعلام المسلمين ومفكّريهم في العالم أن يعملوا بجدٍ لعقد مؤتمرات إسلاميّة تكافح الفرقة والبغضاء والشحناء وتعمل على تأليف قلوب

____________________

(١) الأنبياء: ٩٢.

(٢) معتصم سيّد أحمد/ حوارات: ٩.

(٣) هشام آل قطيط/ وقفة مع الدكتور البوطي في مسائلة:

٣٢٥

المسلمين آخذةً على عاتقها ومتمسّكة بقوله تعالى في كتابه الكريم:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) فلماذا كل هذه الحملات المسعورة..؟

لماذا كل هذه الأقاويل.. والنزاعات.. والصراعات.. والعصبيّات..؟ لماذا..؟ أ لئن هناك فرقة إسلاميّة كبيرة اعتنقوا مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام هذا هو الذنب العظيم.. هذا هو الذي أقام الدنيا وأقعدها.. حق معكم.. لأنّها الفرقة المحقّة.. والحق كما يقال مرّ، وكما قال الإمام علي ‏عليه‌السلام : ((إنّ الحقّ لم يترك لي صاحب )) فلذلك نحن هكذا.. ونسأل اللَّه أن يأخذ بيد العلماء العاملين للإسلام من كلّ المذاهب ما يحقّق لنا الأصحاب العاملين من أجل الحقّ والوحدة الإسلاميّة واللَّه من وراء القصد )(١) .

ويقول هشام آل قطيط خلال دعوته من الأمّة الإسلاميّة إلى الاهتمام بالوحدة:

( علينا أن نرصّ الصفوف ونتوحّد فوق الخلافات المذهبيّة، ولا شك أنّنا بكفاحنا الإسلامي نستطيع إحباط خطط الأعداء التي ترمي إلى التفريق بين المسلمين. إنّه لا خير في وجود التنوّع المذهبي، وليس بوسعنا إلغاؤه، والذي يجب أن نعمل على إيقافه ومنعه هو استغلال هذا الوضع لصالح المغرضين )(٢) .

ويقول ياسين المعيوف البدراني حول سبب اهتمام المسلمين بالوحدة الإسلاميّة:

( الوحدة الإسلاميّة أمنيّة كبرى للمسلمين جميعاً يسعون جاهدين لتحقيقها إيماناً منهم أن في التماسك قوّة وعزّة ومنعة، لكن الطريق صعبة وعسيرة وليست بالأمر السهل اليسير مادامت العقول مربوطة إلى بيئة معيّنة وإلى دراسات خاصّة ومطالعات محدودة ضيّقة وبعيدة عن فهم جوهر الإسلام.

وسنبقى كذلك مادام عند الكثير منّا خوفٌ من قول الحقّ، خوفٌ من إظهار ما في

____________________

(١) المصدر السابق: ٢٥٩-٢٦٠.

(٢) هشام آل قطيط/ حوار ومناقشة كتاب عائشة أمّ المؤمنين للدكتور البوطي: ٣٣٩.

٣٢٦

النفوس وتستّر على كلمة الحقّ فلا يطلع واحدٌ منّا على ما عند الآخر ويبقى كلٌّ منّا مجهولاً عند أخيه غامضاً في عقيدته ورأيه وقد يحمله محامل سيّئة لا يكون قاصداً إيّاها، لذلك نحن نريد أن يكون للحقّ حوار وللحقيقة تبيان وإظهار بغير إفراط وتفريط )(١) .

ويقول هذا المستبصر أيضاً حول أهمّية الوحدة بين المسلمين:

( نحن بأمسّ الحاجة إلى الوحدة بين المسلمين، لنستطيع أن نسلك الطريق السويّة وأن نزيل عن طريقنا تلك العقبات المؤلمة )(٢) .

ويدعو هذا المستبصر أيضاً أن تغتنم الأمّة الأجواء الموفّرة لها حاليّاً لجمع الكلمة ونيل ثمارها ومعطياتها الغنيّة، فيقول:

( نحن اليوم في زمن تقشعت عن أبصار أهله غياهب القسوة وأشرقت شموس الفضل من وجوه أهل الفضل لإزالة الجفوة والفجوة، ولم يبق إلّا أن نشرع أقلامنا لنزيل الفرقة ولنجمع الكلمة ولنوالف ما بين الأفئدة ولنرفع منارة الوحدة ولنبيّن الخطر القاتل الذي يزرعه في ما بيننا أهل التنابذ والتخاصم والتعصّب والفرقة، يجب أن ننفض غبار التخلّف المتراكم وغبار الانحطاط، لأنّ ديننا الكريم لا يقوم إلّا على دعامتين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة )(٣) .

ويقول مصطفى خميس حول حاجة المسلمين إلى التوحّد:

( إنّ المسلمين اليوم بأشدّ الحاجة إلى التوحّد، ونبذ الفرقة والانقسام، وأيّة دعوة هدّامة... لا تزيدنا إلّا تباعداً وتباغضاً وانقساماً، وهذا ما يبغيه أعداء الإسلام )(٤) .

ويقول أحمد حسين يعقوب في هذا المجال:

____________________

(١) ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: ٦٥.

(٢) المصدر السابق: ١٠١.

(٣) المصدر السابق: ٥٥.

(٤) مصطفى خميس/ شبهات وحقائق: ١٦.

٣٢٧

( فإن وحدّة الأمّة الإسلاميّة، أمنية غالية على قلب كل مسلم صادق، وهدف عام مشترك يسعى لتحقيقه الذين آمنوا في مشارق الأرض ومغاربها، وفضلاً عن هذه الوحدة فريضة ربّانيّة أوجب اللَّه تعالى على المؤمنين إقامتها، فقد أجمعت وحدة الأمّة الإسلاميّة ضرورة تقتضيها مصلحة المسلمين، وتفرضها ضرورات وجودهم للوقوف أمام زحف الطامعين بأرضهم، وخيراتهم، وبعدّتهم عن دينهم، ثمّ إنّ وحدة الأمّة الإسلاميّة هي الإطار الأمثل لإحساس الأفراد المسلمين بكرامتهم وتمييزهم وبرسالتهم العالميّة )(١) .

ويقول هذا المستبصر حول المفاسد العظمى التي تنتج من تفريق الأمّة وتشتيت وحدتها:

( إذا كانت وحدة الأمّة الإسلاميّة فرضاً، فإنّ تفريق وفرقة الأمّة الإسلاميّة جريمة كبرى ومفسدة عظمى تترتّب عليها مئات المفاسد، فهي تعطّل الأمّة كشخص اعتباري عن القيام بكل أدوارها و واجباتها، وتؤدّي إلى التنازع والفشل وذهاب الريح والهيبة وتعميق كل ذلك وترسيخه، فيتفرّق المسلمون بعد وحدة، ويختلفوا بعد انسجام ويتحولون إلى شيع متباعدة متباغضة ومتناحرة وأحزاب متنافرة، يلتهي كلّ حزبٍ بما لديه، وتزعم كلّ فئة أنّها على الحقّ المبين، وغيرها على الباطل، مع أنّه لا يوجد إلّا حقٌّ واحد، وباطل واحد، ولو كانوا جميعاً على الحقّ لاتّحدوا تحت راية الحقّ الواحدة، ولكنّهم لأنّهم على الباطل، كرهوا ما أنزل اللَّه، فاتّبعوا أهوائهم واختلفوا، وكانوا مثل المشركين، فالأهواء متعدّدة الأبواب، فدخلت كلّ فئة مشركة في باب والذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً وأحزاباً نسجوا على منوال المشركين، ودخلوا أبواب الهوى كما دخل المشركون من قبلهم.

____________________

(١) أحمد حسين يعقوب/ الخطط السياسيّة لتوحيد الأمّة الإسلاميّة: ٩-١٠.

٣٢٨

قال تعالى:( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشِلُوا وَتَذْهَب رِيحُكُم ) (١) ، وقال جلّ جلاله:( وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشرِكِينَ * مِنَ الّذينَ فَرّقُوا دينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً كلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِم فَرِحُون ) (٢) )(٣) .

ويقول أحمد حسين يعقوب حول السبيل لنيل الوحدة الإسلاميّة:

( الأمّة الإسلاميّة تقف على مفترق الطرق، فإما أن تعود إلى الشرعيّة الإلهيّة فتتّحد كثمرة لهذه العودة، أو تبقى فريسة للأهواء والمطامع، وكثمرة لذلك تبقى مختلفة متفرقة منقسمة إلى شيع وأحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون، تتسلّق على حبل الدين للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها أو الحصول على بعض مغانمها ترقص فوق الجماجم والأشلاء، وتدّعي العافية، بالوقت الذي تحيا فيه هذه الأمّة تحت وطأة ظلمات متراكم بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يدك لم تكد تراها.

فالأمّة الواحدة أصبحت عشرات الأمم، ودولة الإيمان تحوّلت إلى عشرات الدول، وأرض الإسلام استبيحت تماماً وتحوّلت إلى مائدة تتداعى عليها الأمم الكافرة، وتعطّلت هذه الأمّة تماماً عن القيام بدورها الرئيسي المتمثّل بإنقاذ الجنس البشري، فكيف تدعو بدعوة الإسلام بالوقت الذي تنبذ فيه الإسلام من وراء ظهرها؟

وكيف تنقذ العالم وهي عاجزة عن إنقاذ نفسها؟ لقد رضيت هذه الأمّة أو تراضت بالسير متسكعة ومتلكعة في ذيل القافلة الدوليّة، لا يحسب لها حساب ولا يقام لها وزن، بل تحوّلت إلى ألعوبة بيد دول الكفر )(٤) .

ويقول عاطف سلام حول خطورة عدم اهتمام المسلمين بالوحدة فيما بينهم:

إنّ على الإسلاميّين الواعين - وبخاصّة أهل العلم والأكابر - أن يبذلوا كافّة الجهود،

____________________

(١) الروم: ٣١-٣٢.

(٢) أحمد حسين يعقوب/ الخطط السياسيّة لتوحيد الأمّة الإسلاميّة: ٢٢٧.

(٣) المصدر السابق: ٢٢٩.

٣٢٩

بما تصل إليه إمكاناتهم، في العمل على تهيئة المناخ المناسب من أجل قيام وحدة إسلاميّة شاملة ينضوي تحت لوائها جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها حتى تحقّق الأمّة أهدافها المصيريّة وتستعيد أمجادها التليدة التي تحطّمت على صخور الفرقة والتبعثر.

إنّ أعداء الإسلام حريصون - قدر طاقاتهم - على بثّ بذور التفرّق والتناقض في صفوف المسلمين، وإقامة الحواجز النفسيّة وإشاعة سوء الظنّ بينهم حتى يظلّوا على حالهم التي وصلوا إليها نتيجة انقسامهم وتفرّقهم.

يجب ألاّ نترك لهم الفرصة لتحقيق أغراضهم أو نفسح لهم المجال لتنفيذ مكائدهم ومخطّطاتهم، بل ينبغي أن نظلّ ماثلين في الساحة، نوضّح المفاهيم الصحيحة، ونزيل اللبس والغموض، ونزيد من درجة الوعي والثقافة عند جماهير الأمّة )(١) .

التيّارات المعادية للوحدة الإسلاميّة:

تشهد ساحتنا الإسلاميّة على الرغم من الأهميّة التي تمتلكها الوحدة الإسلاميّة تيّارات مضادّة شنّت حملات دعائيّة وتضليليّة هدّامة من أجل العبث بالوحدة الإسلامية وتعويق حركتها وهدم بنائها في أوساط الأمّة.

ويشير صالح الورداني إلى هذا الأمر قائلاً:

( إنّ تتبّع تاريخ دعوة الوحدة الإسلاميّة يكشف لنا أنّ السياسة تسبّب في تعويق هذه الدعوة بل وفي قتلها، كما يكشف لنا أنّ ظهور المد الوهّابي ورسوخه بين التيّارات الإسلاميّة المعاصرة قد أسهم إلى حدّ كبير في ضرب هذه الدعوة وإجهاضها )(٢) .

____________________

(١) عاطف سلام/ فقهيّات بين السنّة والشيعة: ٩٧-٩٨.

(٢) صالح الورداني/ عقائد السنّة وعقائد الشيعة التقارب والتباعد: ٢١٧.

٣٣٠

ويقول إدريس الحسيني حول العقبات التي لاقاها مشروع الوحدة الإسلاميّة:

( ففي الوقت الذي بدأت أصوات الوحدة ترتفع في دنيا المسلمين.. و وصل العقل المسلم إلى رشده في نبذ كل شقاق وشتات وفتن.. ليتوحّد على كلمة الإسلام في مشتركاته التي تعتبر أصولاً في الدين الإسلامي برزت أصوات صنعتها البداوة وصقلتها بمدى التوهّب لتقف - بصلافة - ضدّ المشروع الذي لم تستوعبه بذهنها المتعصّب، وطال بوقها في التشكيك بنوايا القيمين عليه)(١) .

ويقول هذا المستبصر أيضاً:

( لقد سعى زعماء الوهّابيّة إلى محاربة فكرة التقريب، والتحريض على كل مشروع يسعى إلى لمّ شعث المسلمين، وجمع فرقهم.. واستخدموا أحطّ أنواع الكلام وأخسّ العبارات في التشكيك بنوايا أهل التقريب، وأصدروا فتاوى تحرّم الدنوّ من الشيعة حتى في قضايا الإسلام المصيريّة )(٢) .

ويقول هشام آل قطيط حول الذين يجعلون دوماً بعض الحواجز أمام الوحدة الإسلاميّة:

( إنّ نفس المواضيع والشبهات تتكرّر وتعاد منذ العصور المنسحقة وحتى عصرنا الحاضر، كلّما حاولنا إخمادها التهبت لتحرق ما حولها، وكلّما حاولنا التقارب والتوحّد في الصفّ الإسلامي تثار شبهات ومواضيع متكرّرة أكل الزمان عليها وشرب، يجعلون منها البعض حواجز مصطنعة للتباعد والتفرقة ولقد عمد الكثير منهم لتكرار هذه الشبه والتركيز عليها بشكل مقصود ومتعمّد ليثيروا النزاعات والصراعات بين أبناء الأمّة الإسلاميّة.

وسوف يبقى هذا الصراع متأجّجاً ومحتدماً في أمّتنا الإسلاميّة مادامت هناك أقلام

____________________

(١) إدريس الحسيني/ هكذا عرفت الشيعة: ٧.

(٢) المصدر السابق: ١٣٩.

٣٣١

مأجورة وعقول غير مسؤولة و واعية لما يحيط بنا في هذه المرحلة الصعبة والحرجة، والمستفيد الأوّل منها هو الاستعمار الذي يصرف بلايين الدولارات لخلق هكذا أجواء مشحونة بالنزاعات والصراعات والعصبيّات )(١) .

ويعاتب التيجاني السماوي أصحاب التيّار المخالف للوحدة الإسلاميّة من أهل السنّة: قائلا:

( ألم يقل رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله كما جاء في الذكر الحكيم:( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنا وَبَينِكُم ) (٢) .

فإن كانوا من أهل السنّة حقّاً، فلينادوا إخوانهم من الشيعة إلى كلمة سواء بينهم.

وإذا كان الإسلام ينادي أعداءه من اليهود والنصارى إلى كلمة سواء للتفاهم والتآخي، فكيف بمن يعبدون إلهاً واحداً ونبيّهم واحد وكتابهم واحد وقبلتهم واحدة ومصيرهم واحد!

فلماذا لا ينادي علماء أهل السنّة إخوانهم من علماء أهل الشيعة ويجلسون معهم حول طاولة البحث، ويجادلونهم بالتي هي أحسن ويصلحون عقائدهم إن كانت فاسدة كما يزعمون؟

لماذا لا يعقدون مؤتمراً إسلاميّاً يجمع علماء الفريقين وتطرح فيه كل المسائل الخلافيّة على مسمع ومرأى من كل المسلمين حتى يعرفوا وجه الصواب من الكذب والبهتان؟

وخصوصاً وأنّ (أهل السنّة والجماعة) يمثّلون ثلاث أرباع المسلمين في العالم، ولهم من الإمكانات المادّية والنفوذ لدى الحكومات ما يجعل ذلك عندهم سهلاً ميسوراً إذ يملكون الأقمار الصناعيّة.

____________________

(١) هشام آل قطيط/ وقفة مع الدكتور البوطي في مسائلة: ٢٥٩.

(٢) آل عمران: ٦٤.

٣٣٢

ولأنّ (أهل السنّة والجماعة) لا يعملون لمثل هذا أبداً، ولا يريدون المواجهة العلميّة التي ينادي بها كتاب اللَّه المجيد بقوله:( قُلْ هاتُوا بُرهَانَكُم إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ ) (١) .

( قُلْ هَلْ عِنْدَكُم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا الظَنَّ وإنْ أَنْتُم إلّا تَخرُصُونَ ) (٢) .

ولذلك تراهم دائماً يلجأون إلى السبّ والشتم والتكفير والبهت والافتراء وهم يعرفون بأنّ الحجّة والدليل مع خصومهم الشيعة.

وأعتقد بأنّهم يخافون أن يتشيّع أكثر المسلمون إذا ما كُشفت الحقائق، كما وقع بالفعل لبعض العلماء الأزهريّين في مصر الذين سمحوا لأنفسهم بالبحث عن الحقّ فأدركوه واستبصروا ونبذوا ما كانوا عليه من عقيدة (السلف الصالح).

فالعلماء من (أهل السّنة والجماعة) يدركون هذا الخطر الذي يهدّد كيانهم بالذّوبان، فإذا أعيتهم الحيلة وصل الأمر بالبعض منهم أن حرّم على أتباعه ومقلّديه أن يجلسوا مع الشيعة أو يجادلونهم أو يتزوّجوا منهم أو يزوّجوهم أو يأكلون من ذبائحهم.

ويُفهم من موقفهم هذا بأنّهم أبعد ما يكونون عن السنّة النبويّة، وهم أقرب ما يكونون من سنّة بني أميّة الذين عملوا بكلّ جهودهم على إضلال الأمّة المحمّديّة بأيّ ثمن، لأنّ قلوبهم لم تخشع لذكر اللَّه وما نزل من الحقّ ودخلوا في الإسلام وهم كارهون.

وهذا ما عبّر عنه إمامهم معاوية بن أبي سفيان الذي قتل خيار الصحابة من أجل الوصول إلى الحكم فقط، فقد قال في أوّل خطبة له:

____________________

(١) البقرة: ١١١.

(٢) الأنعام: ١٤٨.

٣٣٣

(إنّي لم أقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللَّه ذلك وأنتم كارهون).

وصدق اللَّه إذ يقول:( إنّ المُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) (١) (٢) .

ويقول ياسين المعيوف البدراني حول وجوب توفير الأجواء والأرضيّة الروحيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة المناسبة لنموّ الوحدة الإسلاميّة:

( إنّنا نأمل ونطلب من كلّ مسلم يحب الوصول إلى الحقيقة ونصرتها، ويحب أن يعرف دينه المعرفة الحقّة، أن يوقف نفسه على خدمة الإسلام والمسلمين، وأن يعمل جاهداً ليساهم في سدّ الثغرات بين الطوائف الإسلاميّة ولنزع ونبذ التعصّب الذي ساعد على تسلل أصابع المتشرّقين القذرة المغرضة التي ليس لها من هدف إلّا توسيع الخلاف بين المسلمين )(٣) .

ويقول محمّد أحمد خير خلال دعوته كلّ المخلصين لتحقّق هذا الأمل الكبير الذي يعيش في نفسه:

( إنّني أدعوا كلَّ المخلصين... إلى إعلان كلمة الوحدة والتفاهم بين المسلمين عن طريق التركيز على الأسس التي يشترك فيها كلُّ المسلمين والوقوف بوجه كل دعوة ضآلّة تريد أن تفرّق الصفوف)(٤) .

ويقول حسين الرجاء حول هذا الهدف الحيوي والهام:

( أيّها الإخوة المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.

كبرت كلمة لا مسؤولة تخرج سوداء يجب أن تموت غير مرغوب فيها ولا

____________________

(١) النمل: ٣٤.

(٢) محمّد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: ٦٥-٦٦.

(٣) ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: ٩٨.

(٤) محمّد أحمد خير/ براءة الشيعة: ٨٠.

٣٣٤

مأسوف عليها أورقت خلط الأوراق وأثمرت عقاب الأبرياء وكفّرت المؤمنين، فتولد عنها نصب الحواجز بين المسلمين، فهي تحمل في طيّاتها بذور التشتّت والتمزّق!!

وها هي سنن التاريخ البشري تشهد، فكم من أمم بادت وعقائد اندثرت وحضارات ذابت ومواريث خطيرة وصالحة للاستمرار أهملت فتلاشت، وكم من خلاف واختلاف حلّ و رحل ودساتير وقوانين غيّرت وبدّلت، وها هنا نحن المسلمين لم نحافظ على ميراث أو ثروة أو تراث أكثر ممّا حافظنا على الخلاف والاختلاف وبالتالي التشتّت والتمزّق في الوقت الذي أصبحت وحدة المسلمين ضرورة ملحّة أكثر من أيّ وقت مضى، وها هي الأمم تتداعى علينا كعرب ومسلمين كما تتداعى الآكلة إلى قصعتها كما أخبرنا وحذّرنا رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستمعوا إلى نداء اللَّه، فاللَّه ينادينا:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (١) وفي نداء آخر يبيّن الآثار السلبيّة للتفرّق والنزاع( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشلُوا وَتَذْهَب رِيحُكُم ) (٢) (٣) .

وعموماً فإنّ الكثير من المستبصرين يطلبون من أبناء الأمّة الإسلاميّة أن يتحلوا بالنوايا الصادقة والعزائم الأكيدة، ليتمكّنوا من بلوغ هذا الهدف المبارك، لأنّ الإنسان لا يبلغ هذا الهدف إلّا من خلال عدم الخضوع للأهواء والعصبيّات والتحلّي بالنوايا المبرأة من الهوى والنقيّة من شوائب الجاهليّة.

آراء المستبصرين حول الوحدة الإسلاميّة الصحيحة:

إنّ المستبصر المتحوّل من المذهب السنّي إلى مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام يعي أكثر من غيره المعنى الصحيح للوحدة الإسلاميّة بين السنّة الشيعة، لأنّه عاش في أوساط المجتمع السنّي، وتعرّف بعد ذلك على الشيعة، فلهذا يكون أقدر من غيره على تبيين

____________________

(١) آل عمران: ١٠٣.

(٢) الأنفال: ٤٦.

(٣) حسين الرجاء/ دفاع من وحي الشريعة: ٤٧.

٣٣٥

الطرق المؤدّية إلى الوحدة الإسلاميّة بين السنّة والشيعة.

وإليك فيما يلي نصوص أقوال جملة من المستبصرين حول التعريف الصحيح للوحدة الإسلاميّة.

يقول إدريس الحسيني:

( إنّ الوحدة الإسلاميّة، ليس معناها تجميد الخلاف بإضماره وتأجيله، ليكون كنزاً محفوظاً تتوارثه الأجيال اللاحقة مثلما ورثناه عن أسلافنا.. إنّ نضجاً كهذا لابدّ أن نسعى إليه حتى يتولى العلماء مسؤوليّة البحث في الخلافات التي لن يزيدنا السكوت عنها سوى تأجيجاً لها.

فالوحدة الإسلاميّة ليست هي موقف الاحتواء المذهبي، ولا تأجيل النظر في أزمتنا التراثيّة، إنّما هي وحدة تهدف تبديد ما صنعه السابقون وأورثونا إيّاه. وأعتقد أنّ ذلك له صلة بنضج المجتمعات المسلمة، ونضج علمائنا ودعاتها الذين لا يزالون إلى اليوم عاجزين من استيعاب الاختلاف وسلوك سبيل الحوار )(١) .

ويضيف هذا المستبصر:

( الخطابات والمطارحات التي قدّمت في إطار جمعيّة التقريب، أبانت عن تطلّع حقيقي من أبناء المذهبين إلى التوحّد في إطار ما بينهم من مشتركات، ونبذ ما من شأنه إثارة الفرقة والخلاف.

ولا أحد ينكر جهود العاملين من كلتا المدرستين، من أجل تحرير هذا النزاع التاريخي، وإيجاد أرضيّة حواريّة، تمكّن من التقريب بين الإخوة الأعداء، والدفع بهم إلى حيث الواجب والمسؤوليّة في تحقيق هذه الوحدة التي ظلّت حلم الإسلام والمسلمين منذ دبّ فيهم الخلاف وتملّكتهم الفتن.

وقد ظهر في خضم هذا النقاش، ثلاثة اتّجاهات في مفهوم الوحدة المتوخّاة في

____________________

(١) إدريس الحسيني/ هكذا عرفت الشيعة: ٢٠٤-٢٠٥.

٣٣٦

حياة المسلمين المعاصرة:

١ - اتّجاه احتوائي يرى أنّ الوحدة تتمّ بتذويب المذاهب الأخرى في مذهب واحد.

٢ - اتّجاه نبذ الخلافات والتوحّد على المصلحة العليا للمسلمين والأصول المشتركة وتجميد الخلاف التاريخي.

٣ - اتّجاه ما يمكن أن ننعته بالتكفير، وهو الذي لا يرى أنّ هناك أيّ مجال للقاء والحوار أو الالتقاء.. فهو اتّجاه يرى أنّ الوحدة موجودة وهي التي تتمثّل في مذهبه ويعمل على إقصاء الأطراف الأخرى.

وقد تبيّن، أنّ كل هذه الإتّجاهات مع تفاوت في الرؤية ومستوى النضج، لم تكن تعبّر عن مفهوم الوحدة الإسلاميّة.

فما يؤخذ على الاتّجاه الأوّل الاحتوائي الذي يرغب في تذويب المذاهب في مذهبه الخاص، هو أنّه اتّجاه متفائل ومثالي، فهو يطمح إلى ما فشل فيه المسلمون عبرة قرون من الزمان. وهو يمثّل موقفاً غير موضوعي، ينطلق بخلفيّة حواريّة لا تترك للآخر إمكانيّة الإقناع الإيجابي.

أما الاتّجاه الثاني، فهو اتّجاه متفائل أيضاً، ويملك شيئاً من النضج بحيث يدرك مدى فشل المواقف الاحتوائيّة، فهو يحاول استثمار الواقع الإسلامي على تعدّديّته في سبيل تحمّل المصير المشترك للمسلمين، إلّا أنّه لا يقدّم مشروعاً واضحاً فيما يتعلّق بالمعرفة الإسلاميّة، من حيث هي مجال لتحدّيات أخرى، تتطلّب حسماً معرفيّاً.

ولسنا بعد ذلك في حاجة إلى الحديث عن الاتجاه الثالث وهو الاتّجاه الإقصائي، لأنّه لا يحمل أيّ مبرّر معقول في موقفه الهجومي، فهو أحد مظاهر أزمة الأديان والإيديولوجيّات جميعاً.

إنّ الوحدة الإسلاميّة هي بالدرجة الأساس مطلب معرفي قبل أن يكون سياسيّاً، لأنّ الأمّة التي تتجلّى فيها وحدة الحقيقة، حتماً ستكون أمّة موحّدة! فإذا ما استطعنا تجميد الخلاف وتأجيل الأزمة، لأهداف نعتبرها عُليا، فان ذلك لم يقدم الأمة خطوة واحدة على طريق الوحدة الحقيقيّة، مادام أنّ المعرفة تعاني أزمة مُزمنة، ومادام أنّ تأجيل الأزمة لا يعني نسيانها أو إنهاءها، بل إنّه يعني توريثها للأجيال المقبلة، إلى جانب ما سنورّثها إيّاه من مشاكل وأزمات بمزيد من التراكم والتحريف.

٣٣٧

ومع أنّ الوحدة المعرفيّة لا طريق إليها إلّا بالبحث والدراسة والحوار والإقناع، فإنّ هذا الأمر من وظيفة النخبة العالمة، بإمكانها أن تواجه هذه المشكلات بكثير من النضج والاستيعاب والتفهّم، وذلك عبر مؤسّسات للحوار وبحث قضايا الخلاف.

ولا شك أن قضيّة كهذه لها علاقة بنضج المجتمعات، وليس بشي‏ء آخر على الإطلاق.. لأنّ المجتمع الناضج يسمح بالتعدّديّة والتعايش مع الفكر المخالف مهما كان نوع وحجم هذا الاختلاف. وكما أن القرن الواحد والعشرين يتّجه صوب التعدّديّة والتعايش وفكر الخلاف، فأيضاً يتّجه نحو نقد الحقيقة وتمحيص المعرفة بقوّة وإصرار.

إذا أمكننا أن نتوحّد، ونجعل التقارب إطاراً لبحث الخلاف بين الفرقاء، نستطيع أن نتوصّل إلى نتيجة إيجابيّة في إطار وحدة المسلمين.. ومن هنا فإن مشروع التقريب ينبغي أن يكون إطاراً لمعالجة قضايا مثل هذا النوع وليس مشروعاً بديلاً عن وحدة المسلمين التي يبدو أنّها أعمق بكثير مما يراه البعض بما أنّها تعبّر عن ضرورة معرفيّة )(١) .

ويقول إدريس الحسيني أيضاً حول الذين اعتبروا كتابه (لقد شيّعني الحسين‏عليه‌السلام ) ضدّ الوحدة الإسلاميّة:

( أمّا الذين اعتبروا كتابي [لقد شيّعني الحسين‏] واقعاً ضدّ الوحدة، وباعثاً على الفتنة التاريخيّة. فماذا أقول لهم؟

____________________

(١) المصدر السابق: ٢٠٦-٢٠٧.

٣٣٨

إنّ عقلي لم يعد يفهم هذه الفلسفة الوحدويّة المجحفة، ولا ذائقتي بالتي تستسيغ هذه النعمة السياسيّة. أيّ وحدة هذه التي تقوم على مذبحة الحقّ؟! وأيّ فتنة بدأت وانتهت؟ كيف أسكت وأنا أرى مجاميعهم تعقد الجلسات وتؤلّف البحوث الطوال في تكفير أهل الولاية ومحاصرة المدّ العلوي.

لنعد فيما نعود إليه إلى طاولة المفاوضات التاريخيّة وبعقليّة نيّرة ومنهجيّة موضوعيّة.

وعلى كل حال فأنا لا أروم الفتنة ولا إعاقة الوحدة، وإذا كانت الفتنة هي أن أكشف عن وجه الحقيقة والوحدة هي أن أساهم في تعزيز الباطل، فنِعم الفتنة هي ونِعم الفرقة كانت! )(١) .

ويقول صائب عبد الحميد حول دواعي التقريب بين المذاهب الإسلاميّة:

( إنّ التقريب ثمرة طبيعيّة للتصحيح، فكما لا يمكننا أن ننتظر ثمرة تنتج بلا شجرة، لا يمكننا كذلك أن ننتظر للتقريب وجوداً ومعنى دون أن نقطع أشواطاً هامّة على طريق التصحيح.

وكما أنّ جودة الثمرة و رونقها يتوقّف على مقدار العناية بالشجرة وتوفير أسباب نموّها وحفظها من الآفات، فكذلك هو المستوى المرجو من التقريب، فإنّه يتوقّف على المقدار المنجز من التصحيح ودرجة نقائه )(٢) .

ويقول عاطف سلام حول المعنى الصحيح للوحدة الإسلاميّة:

( ولا نعني بالوحدة الإسلاميّة أن يتخلّى كلّ ذي مذهب عن فكره واجتهاده الذي يطمئنّ إليه، بل نقصد من وراء ذلك إلى الوحدة في الموقف والتلاحم بين الصفوف والتنسيق في العمل وبذل الجهود في مواجهة التحدّيات التاريخيّة والحضاريّة التي

____________________

(١) إدريس الحسيني/ الخلافة المغتصبة: ١٠-١١.

(٢) صائب عبد الحميد/ حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي: ٢٠-٢١.

٣٣٩

تواجه الأمّة وتكتنف مسيرتها وتحيط بها من كلّ جانب )(١) .

ويقول سعيد السامرّائي حول نشاط السيد شرف الدين ومنهجه الصحيح في مجال التقريب بين المذاهب الإسلاميّة:

( وقد عرف عن السيد شرف الدين جهاده المتواصل من أجل التقريب بين أتباع الدين الواحد والمذاهب المتعدّدة، وكان منهجه في ذلك إثارة المشكلة وطرحها للبحث العلمي للوصول إلى الجواب الذي لا مفرّ منه ولا إشكال فيه، مما يزيل الأدران من القلوب ويحطّم ما يشاع هنا وهناك من مفتريات، الغاية منها توسيع الفجوة بين المسلمين.

وهذا المنهج - برأيي - خير ألف مرّة من ذاك المنهج الذي يدعو إلى تناسي المشكلة وكأنّها غير موجودة، ثمّ تعود الحال كما كانت عليه مع أوّل إشاعة يطلقها أحد المغرضين، والسبب في ذلك هو أن الأمور المُختلف عليها لم تدرس لحلّها والحقائق لم تتوضّح، في حين أنّه لو كان زيدٌ من الناس قد فهم وجهة نظر عمرو، أو قل عرفها على حقيقتها، فإنّه لا يمكن أن يكون صيداً سهلاً للإشاعات، لأنّه سيعرف ما إذا كانت صحيحة أو باطلة مقصودة لغرض خبيث )(٢) .

ويقول صائب عبد الحميد في معرض جوابه عن السؤال الذي مفاده:

(إن مجرّد البحث أو التفكير في مثل هذا الموضوع، هو بمثابة نواة للفرقة والتمزّق وإثارة الخلافات المذهبيّة من جديد):

( إنّ قضيّة الوحدة بين المسلمين هي مسؤوليّة شرعيّة لا يمكن التعامي عنها وإغفالها، فقد أمر القرآن الكريم بحفظها أمراً صريحاً، فقال:( واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرّقُوا ) (٣) .

____________________

(١) عاطف سلام/ فقهيّات بين السنّة والشيعة: ٨.

(٢) سعيد السامرّائي/ حجج النهج: ٥.

(٣) آل عمران: ١٠٣.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374