التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏15%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135411 / تحميل: 6810
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ثمار يقتطفها المستبصرون من بحوثهم العقائديّة:

يتقبّل الشخص الذي يوفّق للاستبصار كل المصاعب التي يواجهها خلال بحثه برحابة صدر، وتهون عنده كل المشقات التي ينبغي تحملها في هذا السبيل، لأن الثمار التي يقتطفها هكذا الشخص في هذا المجال ثمينة، وتستحق تحمّل جميع أنواع العناء من أجل الحصول عليها.

ومن هذه الثمار يمكننا ذكر الأمور التالية:

١ - العثور على الضالة المنشودة والحقيقة التي طالما كان الباحث يبحث عنها ويسعى لاكتشافها، فانّه لا شكّ سوف يحصد ثمرة جهوده، فيجد آية تهديه وترشده إلى طريق الخلاص من حيرته، ثم تشرق له الحقيقة بكل جلائها، فيستيقظ قلبُه وعقلُه ويشرق وجهه بنور الإيمان.

٢ - نبذ التخبّط في المعرفة، والاستزادة علماً وفهماً والتعرّف على الكثير من الحقائق الساطعة والالتفات إلى الكثير من المعارف التي ترشد الباحث إلى المعرفة اليقينيّة.

٣ - معالجة الإشكالات العالقة بالذهن، ورفع الغيوم المتلبّدة فيه نتيجة تراكم الشبهات والحصول على الإجابات المقنعة والشافية للأسئلة التي كانت تدور في الذهن.

٤ - الإطلال من خلال نوافذ البحث على آفاق جديدة من آفاق المعرفة، والانفتاح على عالم ملؤه المعارف السّامية والرؤى الرفيعة، ومن ثم الحصول على معارف واضحة المعالم، يتمكّن بها الباحث أن يقيّم مفردات أفكاره ومعتقداته، فيفرز الصالح منها عن السقيم، ويميّز الأفكار الصحيحة عن الأفكار الخاطئة، ومن ثم يتأكّد من سلامة الاتّجاه العقائدي الذي هو عليه.

وهذه هي الثمار التي يحصل عليها الباحثون الذين يوفقون للاستبصار ، حيث أنهم بعد استفراغ وسعهم في البحث والتنقيب يصلون إلى قناعة تامّة بأن الكثير من

٤١

المعتقدات التي كانوا ينتمون إليها لا واقع لها، أو أنّها طُرحت أكبر من حجمها ومُنحت مكانة أعظم ممّا تستحق، أو لم تعط الموقع المناسب لها ولم تمنح القدر اللائق بشأنها.

ومن هنا يلمّ هؤلاء بأن الأهواء والنزعات والسلطات الجائرة كانت هي العامل الأقوى وراء شيوع هذه القضايا وجعلها في حقل الثوابت والمسلّمات.

والحقيقة الأخرى التي يجدر الإشارة إليها في هذا المقام هي أن الكثير من الباحثين يصلون من خلال البحث إلى قدرة التميّز بين الحقّ والباطل، ولكن لما يأتي الحق على غير اتجاه هوى الباحث، فإنّ الكثير تضعف نفسه عن إتباع الحق، فيختاروا الإقامة على ما هم عليه.

ولكن الباحث الذي يوفّق للاستبصار هو الذي يتجرّد عن هواه، فيشرح اللَّه سبحانه وتعالي صدره للحق وهو على نور من ربّه.

وتخطّي هذه المرحلة يتطلّب الجرأة والشجاعة والإقدام والتضحية ولا يقدر على ذلك إلّا من شملته العناية الربّانيّة.

فلهذا يقول صائب عبد الحميد حول التصحيح الذي يقوم به المستبصر بعد الاقتناع بخطأ معتقداته:

( إنّ التصحيح ثورة حقيقية، ولا يجرؤ على تقحّم نيران الثورة إلّا الثوريّون.

فالثّوريون هم الذين امتلأوا استعداداً لتقديم الغالي والنفيس على الطريق الثورة، ولا يشغلهم عن أهدافهم ما سيفقدونه من راحة ونعيم وأموال وبنين وأهلين..

وكذلك من أدرك أن التصحيح ثورة، ومضى على طريقه، فسوف لا يوقف مسيرته ما يراه من تساقط الكثير من المعلومات والمفاهيم التي كان قد ورثها وقرأها وترسّخت في ذهنه وأصبحت جزءاً من عواطفه وربّما أصبحت جزءاً من وجوده الاجتماعي أيضاً، لا يهمّه أن يرى ذلك كلّه يتساقط على طريق التحقيق العلمي الدقيق.

٤٢

إنّ التصحيح بهذا المعنى سيمرّ من خلال ثورتين:

- ثورة على التراث، تُثير كوامنه وتكشف حقائقه

- تسبقها ثورة على أواصر عوجاء أو معكوسة شدّتنا إلى هذا التراث شدّاً مغلوطاً حال حتى دون الإذن بمناقشته )(١) .

يقول إدريس الحسيني حول الثمار التي اقتطفها من بحوثه العقائديّة:

( لقد انجلت تلك الصورة التي ورثتها عن (الشيعة) وحل محلها المفهوم الموضوعي الذي يتأسّس على العمق العلمي المتوفر في الكتابات التاريخيّة.

والذين لم يتحرّروا من أصدقائي من هذه النظرة، هم أولئك الذين اكتفوا بالموروث، وسحقاً للموروث!

بل وانهم اليوم لهاربون من السؤال، ويتجاهلون الموضوع حتى لا يتحمّلوا مسؤوليّة البحث ونتائجه. )(٢)

وأيضاً من ثمار البحث العقائدي للمستبصرين أنّهم في الأعم الأغلب كانوا يظنون أن الشيعة فرقة ضالة ولا يوجد داعي لأن يتعب الإنسان نفسه بقراءة كتبهم، لأن ذلك لا جدوى ولا ثمرة فيه سوى تضييع الوقت، ولكنّهم بعد البحث عرفوا أنّ مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام يمتلك من أجل إثبات معتقداته أدلّة قاطعة وبراهين ساطعة وقوّة بيان ومتانة استدلال.

ولهذا يقول محمد مرعي الانطاكي حول ما آل به البحث الذي قام به مع أخيه حين التوجه إلى دراسة مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام :

( كنت أنا وأخي نتذاكر في خصوص المذهب الجعفري، فتارة يجعل نفسه من علماء الشيعة وأنا أكون من علماء السنّة، ونباشر بالمناظرة.

____________________

(١) صائب عبد الحميد/ حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي: ٢١.

(٢) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ٢٦.

٤٣

فألقي عليه مسائل فيجيبني عنها من الكتاب والسنّة، بحيث أرى نفسي مغلوباً معه، وأرى أن الحق مع الشيعة.

وأخرى أجعل نفسي شيعيّاً وهو سنّي، فنتذاكر في مسائل أيضاً، فيضحك فيرى نفسه مغلوباً، ويقول: الحقّ الصحيح مع الشيعة.

وهكذا مراراً تتكرّر المذاكرة بيننا بهذا الترتيب، ونجد أن الحق مع الشيعة لأن الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه.

فهكذا رأينا الحق ثابت بجانب أهل بيت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غير ذلك من الأدلة التي تأخذ بعنق المؤمن فتمنعه عن وجهته.

وقد عرفت... بأن الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة من كلا الطرفين طافحة في كتب الفريقين بأحقّية الأخذ بالمذهب الجعفري، إذ أنّه سلسلة ذهبيّة متراصّة حلقاتها بعضها ببعض لا تنفصم...

فاعتنقناه بكلّ فرح وسرور، إذ لا مناص لنا من الأخذ به طلباً للنجاة، وفوزاً إلى الرشاد )(١) .

والجدير بالذكر أن المستبصرين لم يقصدوا في بداية توجّههم إلى البحث أن يتخلّوا عن مذهبهم الموروث أو يلتجئوا إلى مذهب آخر، بل معظم المستبصرين الذي التقيت بهم أو قرأت كتبهم يصرحون بأنّهم حين التوجّه إلى البحث لم يكن في بالهم أنّهم سوف يعتنقون مذهب التشيّع قط، وإنّما ساقتهم جملة من الدوافع إلى البحث، ثمّ أملى عليهم البحث جملة من الأدلّة التي دفعتهم إلى اعتناق مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام .

وهذا ما يصرّح به العديد من المستبصرين منهم:

يقول محمد علي المتوكّل: في كتابه (ودخلنا التشيّع سجّداً):

____________________

(١) محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: ٥٦-٥٨.

٤٤

( وهنا لابدّ أن أؤكّد أنّي وحتى ذلك الوقت لم أكن أسعى لاعتناق مذهب جديد أو للتخلي عن ثوابت المذاهب السنيّة في العقائد والفقه والتاريخ، وكل الذي أردته هو التخلّص من الشبهات التي طرأت لي بعد أن أثار الإخوة أمر الخلافات التي كانت بين الصحابة بعيد وفاة النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن جهة أخرى الحصول على المزيد من المعلومات والحقائق حول أهل البيتعليهم‌السلام )(١) .

ويقول أسعد وحيد القاسم في هذا المجال:

( إنني حينما بدأت بحثي حول هذه المسألة الحساسة (حقيقة الشيعة)، فإنّ أقصى أهدافي كانت بأن أتحقق من أن الشيعة مسلمون أم لا، ولم يكن عندي أيّ شك بأن الطريقة التي عليها أهل السنّة والجماعة هي الطريقة الصحيحة.

ولكنّه وبعد الاطلاع والتقصي والتفكير مليا في هذا الأمر، فان النتيجة التي توصلت إليها كانت مفارقة مدهشة، ولكنني لم أتردد لحظة واحدة من قبول الحقيقة التي وجدتها، ولماذا لا اقبلها مادام هناك ما يساندها من حجج وبراهين ممّا يعتبر حجة عند أهل السنّة )(٢) .

دراسة المستبصرين لكتب التاريخ:

إنّ تاريخ كل أمّة له أثر حاسم في صياغة شخصيّة تلك الأمة وتشييد كيانها ودعم وجودها، لأنه يحمل لها تراثا ضخما تعيش على معينه، وتستفيد منه كلبنة قوية وصلبة لبناء نفسها والإعداد لمستقبلها.

وهذا ما يحفّز كل الأمم ولا سيّما الأمة الإسلاميّة على دراسة تاريخها والاهتمام به بجميع الأشكال الممكنة.

____________________

(١) محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٤٠.

(٢) أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثني عشر: ١٥.

٤٥

ولهذا يقول معتصم سيّد أحمد حول دور التاريخ في استنهاض الأمم:

( ان الأمم التي تتقدّم هي الأمم التي تستفيد من عبر التاريخ، وتستخلص قمة التجارب في حاضرها، بعد أن تعي سنن التاريخ وقوانينه التي تقود الأمة نحو التحضّر، بالإضافة إلى معرفة أسباب انحلال الأمم وتراجعها، فلم يخصّ اللَّه قوماً بقانون دون قوم، بل هي سنّة واحدة لا تتغيّر.

قال تعالى:( فَلَن تجِدَ لسُنّة اللَّهِ تَبديلاً ولَن تجِدَ لسُنّة اللَّه تَحويلاً ) (١) .

فالحياة قائمة على حقيقة واحدة وهي الصراع الدؤوب بين الحق والباطل وكل الأحداث التي تجري في تاريخ الإنسانية لا تخرج عن كونها واجهة من واجهات الصراع بين الحقّ والباطل.

فيمكننا بهذه البصيرة أن نغوص في التاريخ ونجعله حيويّاً يتفاعل وحياتنا اليوميّة.

ويمكننا إدراك أعمق ما يمكن إدراكه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا الإسلاميّة التي تعيش أعنف التقسيمات المذهبيّة.

ومن أجل ذلك لابد أن نتجاوز انفعالاتنا النفسيّة وانشداداتنا العاطفيّة ونحكّم قواعدنا وبصائرنا القرآنيّة، حتى نتمكّن من القدرة الموضوعيّة على التحليل والنظر من سطح الأحداث إلى جوهرها، فنصل إلى رؤية واضحة و واقعيّة بدلاً عن الرؤية الخاطئة والمشوّهة )(٢) .

ويقول إدريس الحسيني في هذا المجال حول أهميّة دراسة تاريخنا الإسلامي:

( ليس ثمة شي‏ء في ديننا، إلّا وله علاقة بالتاريخ، وما نملكه اليوم من عقائد وأحكام وثقافات إسلامية، كلها جاءتنا عن طريق الرواية، فحري بنا، أن يكون التاريخ عندنا، هو أحد المصادر العلمية المهمة )(٣) .

____________________

(١) فاطر: ٤٣.

(٢) معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: ١٧١.

(٣) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ١٩.

٤٦

ويقول ياسين المعيوف البدراني في هذا المجال:

( نحن جميعا وكل مسلم بحاجة إلى دراسة التاريخ دراسة علمية وإلى دراسة المذاهب الفقهية السياسية دراسة عميقة لكي نستطيع أن نتبيّن مواطن الخطأ ونقول يا فلان أنت مخطئ ولكي نتبيّن أيضاً مواطن الحق ونقول يا فلان أنت محق وذلك بعد البحث العلمي والتمحيص )(١) .

ويوضح عبد المنعم حسن هذه الأهميّة بصورة مفصّلة، شارحاً أبعادها المختلفة بقوله:

( تفصل بيننا وبين النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله حقبة زمنيّة طويلة نحتاج فيها للتاريخ شئنا أم أبينا، فهو ضروري لفهم شريعة السماء، وكل ما نتعبّد به وصل إلينا عبر التاريخ، القرآن والسنّة والحديث والسيرة والفقه وغيرها.

فكيف يتسنى لنا طي هذه المسافة الزمنيّة التي تجاوزت الأربعة عشر قرناً إذا لم نبحث التاريخ...

بلا شكّ أنّ العقلاء لا يُقرّون إهمال التاريخ وطيّه وإغفال العبر والدروس التي يمكن استخلاصها منه.

ونحن أمة تهيئ‏ نفسها للانطلاق فلا بد لنا من النظر إلى التاريخ بعقل مستبصر ببصائر الوحي.. لا نقبله بعلاته على أساس أنه مقدس فنقدّسه بأجمعه تقديسا أعمى ولا نرفضه كلّياً، لأن تقديس التاريخ يقودنا إلى تكريس سلبيات السابقين، لأننا نقدّسهم فنتأسّى بهم كما فعلت السلفيّة، وهي نظرية، لكنها في الواقع تصبح منهجا للعمل ينعكس على سلوكنا )(٢) .

ويضيف عبد المنعم حسن:

( إنّ التقديس الأعمى للتاريخ يجعلنا لا نُفرّق بين الظّالم والمظلوم، بين القاتل

____________________

(١) ياسين المعيوف البدراني/ يا ليت قومي يعلمون: ١٦٧.

(٢) عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: ٢٨-٢٩.

٤٧

والمقتول، ولا بين الطاغية والمجاهد، وبما أننا عرضة للخطأ ونحن نسعى لحمل أمانة السماء يجب علينا أن نتلافى المزالق التي وقع فيها السالفون، ولا يمكن لنا أن نتلافاها إلّا بتشخيصها وهذا يتطلّب وضعها تحت مجهر البحث والتنقيب.

كما لا يمكننا إلغاء كل التاريخ أو الانتقاء منه بأهوائنا وشهواتنا ورغباتنا، لأنّنا بإلغائه نُلغي سنن القرآن والسنّة بل كلّ الإسلام.

إذن عزيزي القارئ‏ يجب علينا أن نتبصّر أحداث التاريخ ونقف على المنعطفات التي مرت عليها الأمّة وأن نحدّد من يصلح لنا قدوة من غيره حتى نستفيد لحاضرنا فنتقدّم لمستقبل مُشرق... فلهذا لا استغناء عن التاريخ الذي له المدخليّة الأولى في فهم الانحراف الذي حدث في الأمّة فتنكبت الطريق وبعدت عن الصّواب )(٣) .

ويقول سعيد أيوب حول ضرورة التنقيب في أوراق الماضي من أجل معرفة الحاضر:

( إنّ للتاريخ حركة، ولمعرفة الحاضر معرفة حقيقة يجب التنقيب في أوراق الماضي، ثم ترتب المعلومات على امتداد الرحلة لاستنتاج المجهولات.

والذي فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة، فالحاضر لا يمكنه الوقوف على حقيقة إلّا بالرجوع القهقري، وبتحليل الحوادث التاريخيّة للحصول على أصول القضايا وأعراقها.

فعند الأصول، تُرى النتيجة على مرآة المقدّمة، ولأن حركة التاريخ على صفحتها الصالح والطالح ويصنع أحداثها المحسن والمسيء، فلابد من تحديد الدوائر والخطوط بدقّة ليظهر أصحاب كل طريق، وظهور هؤلاء على صفحة الحاضر لا يتحقق إلّا بعرض حركتهم في أحداث الماضي على قاعدة العلم )(٦٤) .

____________________

(١) المصدر السابق: ٢٩.

(٢) سعيد أيوب/ ابتلاءات الأمم: ٧.

٤٨

عقبات في طريق دراسة التاريخ:

من المؤسف أن أكثر ما كُتب حول التاريخ الإسلامي نالته يد التحريف وتحكمت فيه النظرة الضيّقة ، وهيمن عليه التعصّب والهوى المذهبي، وهبّت عليه رياحُ الأهواء والعصبيّات، وعبثت به أيدي الانتهازيين نتيجة سيرهم في اتّجاه التزلّف للحكام.

وإنّ الكثير من تاريخنا لعبت به أيدي السلطات الحاكمة والنزوات العِرقيّة والمذهبية والقوميّة، فابتزّت منه رواءه وصفاءه وألبسته ثوبا من التحريف والتزييف والخلط والتشويه.

وبعبارة أخرى إنّ أكثر ما عندنا هو تاريخ لا يمنحنا صورة كاملة وشاملة عن كل ما سلف من أحداث، ولا يعكس الواقع بأمانة، لأننا نجد الكثير من المؤرّخين طمسوا الحقائق من أجل أن يكون التاريخ موافقاً مع هوى الحكّام والسلاطين ومنسجماً مع ميولهم وخادما لمصالحهم، أو متماشيا مع ما يعتقده المؤرّخ نفسه، ويميل إليه، وإن كان ذلك مخالفاً للواقع.

ويشير سعيد أيّوب إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( ولما كانت الإنسانية على امتداد المسيرة البشريّة لم تقف عند حال واحد، واختلفت وتفرّقت بعد أن جاءهم العلم بغيا بينهم، فان علوماً كثيرة قد ضاعت أو أهملت على امتداد طريق الاختلاف والافتراق، ومن ذلك علم التاريخ، فهو على شرافته وكثرة منافعه، عمل فيه عاملان للفساد يوجبان انحرافه عن صحة الطبع وصدق البيان، إلى الباطل والكذب.

أحدهما أن كل عصر به حكومة تحكمه، بيدها القوة والقدرة، تميل إلى إظهار ما ينفعها، وتغمض عما يضرها ويفسد الأمر عليها.

وهذا الأمر لم يزل ولا يزال يعمل داخل المسيرة البشريّة، فكل عصر كانت الحكومات تهتمّ بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق، وستر ما تستضر به، أو تلبسها بلباس تنتفع به، أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحقّ والصدق.

٤٩

وثانيهما أن ما تراه الحكومة حقّا، يسلّم به المتحمّلين للأخبار والناقلين لها والمؤلّفين فيها إلّا من رحم اللَّه.

وعلى ضوء الرؤية الحكوميّة وعلى ضوء نحلتها وإحساسها المذهبي، يتحرك أهل الأخبار فلا يأخذون شيئاً يخالف ما ضبطه لهم القائمين عليهم )(١) .

ويشير إدريس الحسيني أيضاً إلى هذه الحقيقة، قائلاً:

( إنّ تراثنا تشكّل من خلال لعبة تاريخيّة وقفت من ورائها سلطة الخلفاء التي كانت تنهج نهجاً تحريفيّا في كل المؤسّسات الاجتماعية والثقافيّة من أجل خلق واقع منسجم تتطابق فيه البنى السياسيّة بالاجتماعيّة والثقافيّة.

ولأن القطاع الثقافي والتعليمي يشكل ركيزة المجتمع الحضاري وأساسا للدولة العقائديّة، فإنّ المؤسّسة السلطانيّة لعبت دوراً كبيراً في إعادة ترتيب محتوياتها الداخليّة من أجل سلب العناصر النقيضة لتلك المؤسّسة.

وتفريغ كل ذلك المحتوى من شأنه أن يكون قنبلة موقوتة تهدد بقاء تلك المؤسّسة.

وليس عجيبا أن يذكر التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك، تعكس حرص المؤسسة السلطانيّة على التصرف في الجهاز المعرفي والثقافي للأمة، ونزوع حالة من الشموليّة تجعل الفكر محكوما برقابة شديدة وتحت رحمة الرغبة الخلفائيّة )(٢) .

ويقول صائب عبد الحميد حول هذه الحقيقة مع تبيينها بصورة مفصّلة:

( لقد ابتدأ النزاع في هذه الأمة سياسيّا، ومضى إلى وقت ليس بالقصير نزاعا سياسيّا، ثم كان من شأن السياسة أن تقود هذا النزاع إلى ميادين الفكر والاجتماع الأخرى.

____________________

(١) سعيد أيّوب/ الرساليّون: ٨-٩.

(٢) إدريس الحسيني/ الخلافة المغتصبة: ١١٣.

٥٠

حتى تَوالت على الأمّة عهود تتابع فيها حاكمون يتبنّون اتّجاهاً واحداً يتعصّبون له ويوفّرون له الحماية وأسباب الانتشار ويواجهون بالعنف كلّ اتّجاه آخر.

ثمّ وجدوا في كلّ عصر رجالاً ممّن عُرف بالفقه، تقرّبوا إليهم واجتهدوا في توطيد سلطانهم، فتعاظم الشرخُ بين فصائل الأمة، وترسّخت الحواجز التي أصبحت هنا حواجز دينيّة بين فئة تعيش في ظل السلطان ثم تمنحه الشرعيّة في سياساته ومقاصده، وفئات أخرى يطارد رجالها ويؤذى كبراؤها، وربما يقتلون ويحجر على أفكارهم وتعاليمهم وكتبهم )(١) .

ويضيف صائب عبد الحميد:

( تلك الأجواء كانت السبب المباشر في ظهور الأخبار المكذوبة والأحاديث الموضوعة والعقائد الدخيلة، التي تسلّحت كلّ فرقة بطائفة منها، ورمت خصومها بطائفة أخرى، ساعدت على ذلك قمع السلطات للعلماء المخلصين والمجاهدين والمصلحين، وابتعاد بعضهم عن المواجهة.

فهل ذهبت تلك النزاعات ودرست مع الزمن، واختفت آثارها؟!

يغالط نفسه ويخادعها من يزعم ذلك

إنّ الحقيقة التي ينبغي أن لا تغيب عن أحد أنّ تُراثنا الموجود بين أيدينا إنّما جمع وصنّف في تلك الأحقاب، لا غير..

فكل تراثنا الذي نقرأه: في الحديث، في التّفسير، في الفقه، في الأصول، في العقائد، في التّاريخ كلّه تراث تلك العهود؛ عهود النّزاع السياسي والمذهبي.

إذن لاشك أن يأتي تراثنا محمّلا بتلك الآثار الخطيرة، وهذه هي الحقيقة التي طغت على تراثنا الإسلامي.

هذه الحقيقة هي أوّل ما ينبغي أن نقف عنده، لا على طريق التقريب بين المذاهب

____________________

(١) صائب عبد الحميد/ حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي: ١٨.

٥١

فقط، بل على طريق المطالعة الحرّة أيضاً، وعلى طريق الدرس والتلقي، أو التحقيق أو التصحيح)(١) .

ولهذا عانى المستبصرون كثيرا خلال بحوثهم في كتب التاريخ من النسيج الغليظ الذي نسجه التاريخ المحرّف حول الكثير من الحقائق، ومن الهالة المصطنعة والمزيّفة التي أضفاها على الكثير من الرجال والمفاهيم.

ولهذا أشار أغلب المستبصرين إلى هذا الأمر في كتبهم التي‏ألّفوها بعد الاستبصار، منهم:

يقول سعيد أيوب:

( لاشكّ في أنّ ما يختزنه الماضي من أحداث جرت على امتداد المسيرة البشريّة، قد تعرض لأمور وضعت الباحث عن الحقيقة في دائرة مضنية شاقّة.

وفي جميع الأحوال كان الباحث يصل إلى نقاط بحثه بمراكب العسر لا اليسر.

وكانت الحقائق تظهر إمّا مختصرة ويقام بها حجة، وإمّا بها التباس لا ينسجم مع الفطرة ويتطلب بحثها جهداً جديداً، وإمّا مشوّهة يراد بها فتنة.

ويعود ذلك لعدم الأمانة في النقل أو لسوء الحفظ أو لعدم الدقة في النسخ وتخزين المادّة )(٢) .

ويشير محمد علي المتوكّل إلى هذه الحقيقة، فيقول:

( إنّ القرون الأربعة عشر التي تلت رحيل النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت حافلة بالفتن والمؤامرات التي استهدفت الإسلام فكراً ونظاماً، وانّ التفسير والحديث والتاريخ، كل ذلك كان خاضعاً لأهواء السلاطين الذين انتحلوا الإمامة وإمرة المؤمنين تجاوزاً وعدواناً، ووجدوا من العلماء من يعمل لخدمة مصالحهم بالتزييف والتحريف فلم

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) سعيد أيّوب/ زوجات النبي: ٥-٦.

٥٢

يسلم من التراث شي‏ء، وعبر هذه القرون الطويلة، وصل الدين إلينا بالغث والسمين، فاقداً لأصالته ونقائه، يغلب الطابع الأموي فيه على النبويّ، ومع ذلك، تجدنا نُقبل عليه بكلّ اطمئنان، ونتلقاه دون أن نتساءل عن حقيقته أو نتثبّت من سلامته.

للتأكّد ممّا نقول يكفي أن تُراجع بعض الموسوعات الحديثة المعروفة بالصحاح أو مصنفات السلف في التفسير والتاريخ، لتجد نفسك في لجة من التناقضات والأكاذيب والخرافات التي لا تشبه الدين في شي‏ء، على أن لا يكون رجوعك إليها من خلال خلفياتك النفسيّة التي تقدس السلف وتتعبد بتقليده والتسليم لتركته وليَكُن مرجعك القرآن والعقل وأنت تتصفح كتب التراث)(١) .

ويقول ياسين المعيوف البدراني حول ما كان يتمنّاه من التّاريخ وما وجد فيه:

( ما أشبه التاريخ بمرآة صافية تأخذ الصور ثمّ تحفظها للأجيال من كلّ الأمم وهذه الصور هي مسجّلة كما هي عليه في الحقيقة إذا كانت اليد التي قامت بالتصوير نزيهة وشريفة.

ولكن من المؤسف أنّ المصالح السياسيّة والأهواء الشخصيّة تلعب دوراً هامّاً في تشويه تلك الصور وتسلبه حرّيته في أداء الأمانة، محاولة السيطرة على نظام التاريخ ومنعه من أن يوصل الحقيقة للأجيال )(٢) .

مظلوميّة مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام :

إنّ مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام هو المذهب الذي تركزت جهود هائلة من قبل الحكّام والسّلاطين، ولا سيّما بني أميّة وبني العبّاس لظلمه واضطهاده وسنّ الحرب الدعائيّة والدمويّة ضدّه لإخفاء كل ما يبرز أحقّيته ومنهجه في فهم الإسلام و دوره في حفظ

____________________

(١) محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٨-٩.

(٢) ياسين المعيوف البدراني/ يا ليت قومي يعلمون: ١٦٩.

٥٣

الشّريعة والعقيدة.

ويشير صالح الورداني إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( لقد محت السياسة كل شي‏ء يتعلّق بآل البيت من تراثهم ولم تبقي إلّا على القشور وما يخدم مآرب وتوجّهات ومصالح الحكام.

فمنذ أن برز معاوية وساد الخط الأموي وبدأت الأمّة تسير في خط آخر مُعاد لأهل البيت بدأ بسبِّ الإمام علي على المنابر وانتهى بذبح وتصفية أبنائه وأشياعهم ومحو تراثهم وعلومهم )(١) .

ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى تعرّض مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام واتباعه للظلم والاضطهاد من قبل السلطات الحاكمة هي المبادئ التي يحملها هذا المذهب من قبيل عدم الإقرار بولاية الحاكم الذي لا يستمد مشروعيّة حكمه من الباري عزّوجلّ، والاعتقاد بأن الإنسان حرّ مختار وهو المسؤول عن اختياره وإرادته، والتي كانت تحفّز الناس على نبذ الجبريّة وعدم الخنوع للسلطات الجائرة.

ويذكر مصطفى خميس في هذا المجال قائلاً:

( كلّ هذا التشويش والافتراء، وكل هذه الأكاذيب التاريخيّة، أدّى إلى الافتراء على التيّار المناهض للسلطة الجائرة الحاكمة التي كُتب التّاريخُ بأقلامها، وأقلام المتكسّبين، والمتسكعين على موائدها، وأدّى إلى اختراع حكايات وأحداث تاريخيّة وشخصيّات خرافيّة، استطاعت بواسطتها أن تسي‏ء إلى تلك الفئة الثائرة عليها والمناهضة لسلطانها. و خاصة أتباع مدرسة أهل البيت النبوي الشريفة الذين لم يجيزوا لهؤلاء الحاكم الطغاة الظلمة أيّ سلطان على المسلمين، وجرّدوهم من حقّ الولاية العامة، و رفضوا طاعتهم ونصرتهم مكتفين بطاعة و ولاية أئمّة الهدى من أهل البيت‏عليهم‌السلام الذين أمر اللَّه عزّ وجل بطاعتهم

____________________

(١) صالح الورداني/ الخدعة: ٣٣.

٥٤

فأدّى ذلك إلى ابتعادهم عن ولاة السوء وحكّام الضلال ونبذهم، كما قادهم ذلك أيضاً إلى استنكار أعمال الحاكمين والولاة الظّلمة الفاسقين والتمرّد عليهم، فأدّى ذلك كلّه إلى نفور الحكّام والسلاطين منهم عبر العصور، والسعي الدائب إلى البطش بهم وتنفير النّاس منهم، واختراع الأكاذيب التي تساعد على ابتعاد الناس عنهم، فاتهموهم بما ليس فيهم، وسعوا إلى إغراء الناس بهم، وتنفير العامّة منهم )(١) .

ثم يضيف هذا المستبصر قائلا:

( لقد تحمّل شيعة أهل البيت الكثير الكثير من العَنَت والجور، سواءً من الحكام الظالمين، أو من السماسرة المأجورين والدسّاسين المفترين، أعداء الإسلام، الّذين باعوا دينهم بدنياهم لقاء أجر زهيد، شحنوا القلوب وأوغروا الصّدور بما لفقوا وافتروا على الشيعة المسلمين بما لم يسمع به الشيعة أنفسهم ولم يعرفوه، وما أنزل اللَّه به من سلطان، لا غرض لهم في ذلك سوى إرضاء أسيادهم أولياء نعمتهم، ابتغاء الفتنة، وإذكاءً لنار الفساد، بعد ما خمدت وخبا نورُها، فلعنة اللَّه على من يوقظها، واللَّه تعالى سيظهر دينه رغم كيد الحاقدين، ورغم أنف المنافقين والمستكبرين، وإنّ للَّه العزّة ولرسوله وللمؤمنين )(٢) .

ويقول معتصم سيد أحمد حول ما لاقاه أهل البيت‏عليهم‌السلام وأتباعهم من السلطات الجائرة، والأسباب التي دفعت إلى ذلك:

( بما أنّ التاريخ شاهد عيان ينقل كل ما رأى، فلابدّ للمخطّط أن يسكته أو يعمّي عليه حتى لا يفضحه ويكشف حيلته، ومن هنا كان التاريخ تحت قبضة السياسة الحاكمة يدور معها حيث ما دارت، فأصبح المؤرخون تحت تهديد أو إغراء السلاطين ترتعش الريشة في أيديهم لتزييف الحقائق.

____________________

(١) مصطفى خميس/ شبهات وحقائق: ١٥٥.

(٢) المصدر السابق.

٥٥

وانّ السياسة التي اتّبعها التيّار الأموي ومن بعده العبّاسي كانت تستهدف من الأساس تشويه صورة أهل البيت‏عليهم‌السلام ، فكان مجرّد التظاهر بالحب لعلي بن أبي طالب وأهل بيته كفيلٌ بهدم الدار وقطع الرزق - حتى تتبع معاوية شيعة علي قائلاً: اقتلوهم على الشبهة والظنّة - وحتى بات ذكر فضائلهم جريمة لا تغتفر.

وللتعرّف على المأساة التي لاقوها أئمة أهل البيت وشيعتهم في التاريخ راجع كتاب (مقاتل الطالبيّين) لأبي الفَرَج الأصفهاني.

فما بال المؤرخين، هل يتسنّى لهم في تلك الظروف القاسية تدوين مناقب وفضائل أهل البيت وذكر سيرتهم العطرة؟!

وهكذا أصبحت الأمة تتوارث جيلاً بعد جيل حقائق مشوهة، بل تطوّر الأمر إلى أكثر من ذلك عندما أصبح العلماء المتأخّرون يبررون للسابقين وينقلون عنهم من غير تأمل أو تدبّر، فتأصّلت حالة العداء لأهل البيت وشيعتهم وحالة الجهل والغفلة في الآخرين )(١) .

ضرورة الدراسة الواعية للتاريخ:

إنّ التاريخ على الرغم من تدخل الأهواء والمصالح الدنيويّة وقوى السّياسة في كتابته وتحريف حقائقه، فانّ بعض مصادره قد حفظت للحق بعض وثائقه، وهذا ما يمكّن أهل البصائر من ذوي العلم والوعي والفكر والفطرة السليمة من استخلاص واستكشاف الواقع منه بشكل يمكن الاعتماد عليه.

وكل ما في الأمر هو أن يستعمل الباحث خلال دراسته للتاريخ سبلاً تُعينه على اكتشاف الحقيقة عن طريق تجريد الأحداث التاريخية من التأثيرات السياسيّة التي علقت بها، وتنقيتها من أهواء المؤرخين ونزعاتهم.

____________________

(١) معتصم سيد أحمد/ الحقيقة الضائعة: ١٧٢-١٧٣.

٥٦

وينبغي للباحث في هذه الحالة أن يكون من أصحاب العقول الواعية والموضوعيّة اليقظة التي تقرأ بحَذر وبدقّة وتأمّل وإمعان، لئلا تقع في فخ التضليل والتجهيل، وعليه أن يتّخذ في بحثه سبيلاً يحرّره من أوهام كثيرة حوّلها التاريخ إلى حقائق.

ويشير سعيد أيوب إلى إحدى الطرق التي تُساعد الباحث على عدم الوقوع في فخّ التضليل، قائلاً:

( إنّ تصرّف السياسة في الأحداث التاريخيّة بالإفشاء والكتمان والتغيير والتبديل، يصبح هباء ضائعاً في خلاء، إذا علم الباحث الحق أوّلا، لأنّ بميزان الحقّ يُعرف الرّجال وتظهر حركة المسيرة ووسائلها وأهدافها.

فقديماً كانت هناك أسباب انتقاليّة لفساد النبع التاريخي، منها فقدان وسائل الضبط والأخذ والنقل والتأليف والحفظ عن التغيير، فهذه الأسباب والنقائص الفرعيّة ارتفعت اليوم بتراكم وسائل الاتصال وسهولة نقل الأخبار وبإمكانيّة بحث وتحليل الرباط بين الماضي والحاضر.

وبهذا الارتفاع يكون معرفة الحق الذي به نعرف الرجال وبه نزن الأحداث أمراً يسيراً في متناول أولي الألباب والأبصار، واللَّه تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون )(١) .

ومن الأساليب التي يراها إدريس الحسيني لاكتشاف الحقيقة من بطون كتب التاريخ الإسلامي هي ما يذكرها في كتابه (لقد شيّعني الحسين) بقوله:

( أريد هنا، أن أوقف التّاريخ الإسلامي على قَدَميه، بعد أن ظلّ في أذهاننا منقلباً على وجهه، وخطوة واحدة جديرة بإيقافه على رجليه، هي أن نفتح أعيننا مباشرة على كل ما وقع، ونحكّم الوجدان، ليس إلّا! )(٢) .

ثمّ يضيف قائلاً:

____________________

(١) سعيد أيوب/ الرساليّون: ١٠.

(٢) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ١٠١.

٥٧

( سوف نحفز في كل الاتّجاهات، وفي كل الأبعاد من أجل الوقوف على حقيقة الظّاهرة التاريخيّة، مجرّدة عن أوهامها، وبذلك يمكن للتاريخ الإسلامي‏أن يتمثل واقفاً على رجليه )(١) .

ويرى صالح الورداني في كتابه (السّيف والسياسة) انّ من أهم الأمور التي ينبغي أن يتّبعها الباحث في بطون التاريخ هي وضع النصوص فوق الرجال فيقول:

( إنّ هذا التاريخ قد صبغته السياسة وطغى فيه الرجال على النصوص وتغلبّت فيه النّزعات على القيم الإسلاميّة..

ولقد استمرّ المسلمون منذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وحتى اليوم يرصدون حركة التاريخ بعين واحدة، هي عين القداسة دون أن ينظروا إليها بعين النقد..

ومنبع هذه النظرة يمكن في تلك الأغلال السلفية التي طوّق بها المسلمون والتي تحول دون رؤيتهم لحركة التاريخ بصورة متكاملة بمعزل عن القداسة التي أضفيت على رموز وشخصيّات معيّنة لعبت دوراً بارزاً في دائرة هذه الحركة.

ونحن لا نهدف من خلال هذه الدراسة إلى التجريح أو الطعن والتشويه وهدم رموز معيّنة هي محلّ قداسة المسلمين، ولكنّ الهدف هو وضع النّصوص فوق الرجال، ثمّ وزن هؤلاء الرجال على ضوء هذه النصوص..

ما نهدف إليه هو أن نرسي قاعدة تعينُنا على قراءة التاريخ قراءة متبصرة من خلال النصوص لا من خلال الرجال.. )(٢) .

وبهذه الدراسة الواعية يصل الباحث إلى حقائق جديدة، ومن جملة هذه الحقائق ما توصّل إليه صالح الورداني خلال دراسته الواعية للتّاريخ، والتي يذكرها في كتابه (السّيف والسياسة) قائلاً:

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) صالح الورداني/ السيف والسياسة: ٦.

٥٨

( عليهم [المسلمين‏] أن يدركوا حقيقة هامّة، وهي أنّ هذا التّاريخ الذي بين أيدينا هو تاريخ المسلمين وليس تاريخ الإسلام.

والفرق كبير وشاسع بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين.

تاريخ الإسلام هو كتاب اللَّه.

وتاريخ المسلمين مادون ذلك ممّا يخضع للبحث والأخذ والرد وعلى ضوء كتاب اللَّه يجب أن يدرس تاريخ المسلمين )(١) .

كما أنّ الباحث الواعي يحاول أن لا يقتصر في دراسته للتاريخ مراجعة الكتب التي دوّنت في ظلّ السلطان، بل يحاول أن يقرأ أيضاً الكتب التاريخيّة التي دوّنها من اضطهدتهم السلطة، ليحصل عبر ذلك على صورة أكثر شموليّة حول أحداث التاريخ.

ولهذا يقول التيجاني السماوي:

( إنّ العلماء الأوائل غالباً ما كانوا يكتبون ويؤرخون بالنحو الذي يوافق آراء الحكام من الأمويّين والعبّاسيين الذين عرفوا بعدائهم لأهل البيت النّبويّ، بل ولكن من يشايعهم ويتبع نهجهم.

ولهذا فليس من الإنصاف الاعتماد على أقوالهم دون أقوال غيرهم من علماء المسلمين الذين اضطهدتهم تلك الحكومات وشرّدتهم وقَتَلتهم لأنّهم كانوا أتباع أهل البيت‏عليهم‌السلام )(٢) .

وهذا ما قام به أحمد حسين يعقوب، فقرأ كتباً إسلاميّة تنظر إلى التّاريخ من زاوية تختلف عمّا يراه أهل السنّة، فتفتّح بذلك عقلُه وتعرّف على حقائق قلبت عنده الموازين.

ويقول هذا المستبصر حول تجربته في هذا المجال:

____________________

(١) المصدر السابق: ٢٠٣.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ٧٧.

٥٩

( وأثناء وجودي في بيروت قرأت كتاب (الشيعة بين الحقائق والأوهام) لمحسن الأمين، و كتاب (المراجعات) للإمام العاملي، وتابعت بشغف بالغ المطالعة في فكر أهل بيت النبوّة وأوليائهم.

لقد تغيّرت فكرتي عن التاريخ كلّه، وانهارت تباعاً كل القناعات الخاطئة التي كانت مستقرّة في ذهني، وتساءلت: إن كانت هذه أفعال الظالمين بابن النبي وأهل بيته، فكيف تكون أفعالهم من الناس العاديين؟!

لقد أدركت بأنّ الدولة التاريخيّة - وهي دولة عظمى - قد سخّرت جميع مواردها ونفوذها من خلال برامجها التربويّة والتعليميّة لغايات قلب الحقائق الشرعيّة، وتسخير الدين الحنيف لخدمة وقائع التاريخ وإضفاء الشرعيّة على تلك الوقائع، وإظهار الدين والتاريخ كوجهين لعملة واحدة.

وإنّ النّاس قد انطلت عليهم هذه الخطة فأشربوا ثقافة التاريخ متصورين بحكم العادة والتكرار وتبني الدولة لهذه الثقافة، بأن ثقافة التاريخ هي ثقافة الدين.

وبهذا المناخ الثقافي حملت الدولة التاريخ على أهل بيت النبوّة ومَن والاهم، وصوّرتهم بصورة الخارجين على الجماعة الشاقّين لعصا الطاعة، المنحرفين عن إسلام الدولة، وتقوّلت عليهم ما لم يقولوه ونسبت إليهم ما لا يؤمنون به، وصدقت العامة دعايات الدولة ضد أهل بيت النبوّة ومن والاهم، وتبنى الأبناء والأحفاد ما آمنت به العامّة دون تدقيق أو تمحيص، ولا دليل لا من كتاب اللَّه ولا من سنّة رسوله )(١) .

عقبة الإطار الفكري في فهم التاريخ:

من جملة العقبات الأخرى التي يواجهها المستبصر في مراجعته للتاريخ هي الإطار الفكري الذي أملاه عليه المجتمع السنّي حول التاريخ.

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: ١٠.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

( أبو جعفر ـ ـ )

الإمام معصوم منذ الولادة :

س : هل المعصوم يكون معصوماً من أوّل ولادته ، أم يكون معصوماً عندما يستلم إمامة المسلمين؟ وشكراً.

ج : إنّ الأئمّةعليهم‌السلام معصومون منذ الولادة ، ولا يكون إماماً إلاّ إذا كان معصوماً ، فالعصمة إذاً تحقّق موضوع الإمامة.

ثمّ إنّ معنى العصمة هو الانكشاف التامّ واليقين القطعي بملاكات الأحكام ، وبالمصالح والمفاسد وراء الأحكام الشرعية ، فإذا علم الإنسان علماً قطعياً بالضرر الكبير المترتّب على الفعل المعيّن فلا يمكن أن يقدم عليه ، وهذا هو معنى العصمة.

إذاً ، فأهل البيتعليهم‌السلام لمّا كانوا يعلمون حقائق الأُمور ، وملاكات الأحكام من قبل تسلّم الإمامة ومن بعدها ، فهم معصومون منذ الولادة.

هذا مضافاً إلى آية التطهير :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) الدالّة على العصمة ، مع عدم اشتراط سنّ معيّن ، أو حالة معيّنة كالإمامة مثلاً ، فهي عامّة شاملة لجميع الأعمار ، وسواء حصلت الإمامة أم لم تحصل ، كما في فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وكما في أمير المؤمنين والحسن والحسينعليهم‌السلام ، حيث كانوا معصومين بنصّ آية التطهير قبل تسلّم الإمامة.

( أبو العياط نور الدين ـ الجزائر ـ )

النبيّ والأئمّة خلّص عباد الله فعصمهم :

س : هل عصمة النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام بأمر من الله؟ أي أنّ الله خلقهم من غير أن يخطأوا ، أم أن تكوينهم الذاتي والنفسي وارتباطهم الدائم بالله جعلهم رساليين ، فعصمتهم من عمق رسالتهم؟ والسلام على محمّد وآل محمّد.

____________

١ ـ الأحزاب : ٣٣.

٣٢١

ج : العصمة تارة تكون من الذنب ، فهي من مجاهدتهمعليهم‌السلام ، إذ بإرادتهم لم يذنبوا مع مقدرتهم على الذنب ، ويكون حال الذنب وابتعادهم عنه ، كحال ابتعاد أحدنا عن أكل العذرة مع قدرته على الأكل.

وتارة تكون العصمة عن السهو والنسيان والخطأ ، فهي عصمة إلهية بأمر من الله تعالى ، أي : أنّ الله خلقهم كذلك ، وذلك لسبق علم الله بأنّ هؤلاء خلّص عباده فعصمهم ، فمقدّمات العصمة في هذا القسم كسبية ، وكانت النتيجة إلهية وهبها لعباده المخلصين.

( كميل ـ عمان ـ ٢٢ سنة ـ طالب جامعة )

تعليق على الجواب السابق وجوابه :

س : معنى كلامكم : أنّ الله تعالى اختارهم أئمّة لعلمه المسبق بأنّهم لا يعصونه بإرادتهم ، وهنا أطرح سؤالين :

الأوّل : كيف نفسّر بأنّ أهل البيتعليهم‌السلام قد وجدوا أنواراً حول العرش قبل خلق آدم؟

الثاني : كيف نفسّر قول الإمام عليعليه‌السلام للمسلمين : « ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد »؟(١) .

هل يمكنكم إعطاء توضيح أكثر في التوفيق بين العصمة وبين الاختيار؟

ج : قلنا أنّ العصمة عن الذنب هي عن مجاهدةٍ منهم ، وأنّهم يستطيعون أن يذنبوا ، ولكن لا يذنبون بإرادة منهم ، وأمّا العصمة عن السهو والنسيان والخطأ ، فإنّ الله خلقهم كذلك ، وذلك لسبق علم الله ، ومقصودنا من سبق علم الله قبل أن يوجدهم أنواراً حول العرش ، إذ لم يقل أحد بقدم هذه الأنوار.

وأمّا عن السؤال الثاني فنقول : ما هو مقصود أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله : « لا تقدرون على ذلك » ؟ فإذا كان قصده لا تقدرون على ما يقدر عليه أهل

____________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٠٥.

٣٢٢

البيتعليهم‌السلام المعصومون بالعصمة الإلهية ، والعصمة التي هي بإرادتهم ، فإنّه لا يرد عليه أيّ إشكال.

( أنيس مهدي ـ الجزائر ـ )

الجبر والاختيار فيها :

س : هل الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام مجبرين في عصمتهم؟ أم وارد احتمال الخطأ منهم ، وهم يمتنعون لسموّ أرواحهم الطاهرة؟

ج : العصمة تارة تكون من الذنب فهي باختيار المعصوم ، يتجنّبها المعصوم بإرادته ، ويكون الذنب أمام المعصوم واجتنابه عنه ، كما ينظر أحدنا للعذرة ويتجنّب عن أكلها ، مع قدرته على أكلها.

وتارة تكون عن السهو والنسيان فإنّها جبرية ، متعلّقة بعلم الله بأنّ هؤلاء سيكونون من أفضل البشر ، فاصطفاهم وطهّرهم تطهيراً.

( ابتسام ـ البحرين ـ )

آية ابتلاء إبراهيم :

س : السادة الأفاضل الرجاء التكرّم بالإجابة على سؤالي : من الأدلّة العقلية الدالّة على عصمة الإمام : آية ابتلاء إبراهيمعليه‌السلام في قوله تعالى :( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) .

١ ـ إنّ الإمامة في الآية غير النبوّة ، لماذا؟

٢ ـ ما المراد من الظالمين؟

٣ ـ هناك شبهة تقول : إنّ الآية تشمل من كان مقيماً على الظلم ، وأمّا التائب فلا يتعلّق به الحكم ، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة وزالت الصفة زال الحكم ، فكيف نردّ على هذه الشبهة؟

____________

١ ـ البقرة : ١٢٤.

٣٢٣

ج : بالنسبة إلى السؤال الأوّل فنقول :

الإمامة أعلى شأناً من النبوّة ، إذ النبوّة هي مقام تلقّي الوحي فقط ، ولكن الإمامة رتبة التصدّي لقيادة الأُمّة على ضوء تعاليم الوحي ، فالإمام هو خليفة الله على الأرض لعظم المسؤولية التي تقع على عاتقه.

ومن هنا نعلم أنّ المناسب للرتبة التي منحت لإبراهيمعليه‌السلام بعد ابتلائه هو الإمامة ، مضافاً إلى أنّ ظهور كلمة :( إِمَامًا ) في الآية تدلّ بالصراحة على منصب الإمامة لا النبوّة ، فصرفها إلى النبوّة تكلّف بلا حجّة ولا دليل.

على أنّ المعنى واضح من خلال الآية ، فإبراهيمعليه‌السلام في أوان نبوّته كان لا يعلم بحصول ذرّية له في المستقبل ، بل وفي قصّة تبشير الملائكة بإسماعيل وإسحاق ما يلوح منه آثار اليأس والقنوط من الحصول على الأولاد ، فكيف والحال هذه يستدعي إبراهيمعليه‌السلام من الله تبارك وتعالى إعطاء رتبة الإمامة لذرّيته؟

فيظهر لنا أنّ هذا الدعاء كان بعد ولادة بعض ذرّيته على الأقل ، أي بعد حصوله على رتبة النبوّة.

ثمّ إنّ هنا أيضاً نقطة هامّة لابأس بالإشارة إليها ، وهي أنّ( جَاعِلُكَ ) اسم فاعل ، ولا يعمل إلاّ في الحال أو الاستقبال ، أي قوله تعالى :( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) يدلّ على إعطاء الإمامة فيما بعد ، مع أنّ هذا القول هو وحي ، فلا يمكن وصوله إلاّ مع نبوّة ، فثبت أنّهعليه‌السلام كان نبيّاً قبل تقلّده الإمامة.

وبالنسبة إلى السؤال الثاني فنقول :

المقصود من الظالمين ، مطلق من صدر منه ظلم ، ولو في مقطع من الزمن ، وحتّى ولو تاب فيما بعد ، والآية بهذه الصراحة تريد أن تركّز على صفة العصمة في الإمام ، فمن لم تكن فيه هذه الميزة ـ ولو في برهة من عمره ـ لا يليق بهذا المقام.

وبالنسبة إلى السؤال الثالث فنقول :

٣٢٤

بداهة العقل تردّ هذه الشبهة ، فهل يعقل أنّ إبراهيمعليه‌السلام الذي عرف منزلة الإمامة وشأنها ـ بعد الابتلاءات العصيبة التي مرّ بها ـ يسأل هذه الرتبة للمقيم على الظلم؟! ألا يعلم هوعليه‌السلام أنّ هذه المكانة السامية لا تجتمع مع الشرك أو المعاصي؟! فمنه يظهر أنّ استدعائهعليه‌السلام الإمامة كان لمن لم يعص أبداً من ذرّيته أو عصى ثمّ تاب ، ونفى الله تعالى إعطائها لغير المعصوم من نسله ، فبقي المعصوم هو الذي يكون مشمولاً للآية.

ثمّ حتّى على فرض الأخذ بظهور الآية ، فإن كلمة :( الظَّالِمِينَ ) مطلقة ، وتشمل جميع من صدر منهم الظلم ـ سواء تابوا بعد أم لا ـ ولا دليل لتخصيصها بقسم دون آخر.

( محمّد أنور اللواتي ـ أمريكا ـ )

التوفيق بين ترك الأُولى لآدم وتوبته :

س : يقول علماؤنا الإجلاّء : إنّ النبيّ آدم عليه‌السلام ترك الأولى ولم يقترف ذنباً ، لعدم إمكانية ذلك في المعصوم ، ولكن القرآن الكريم يبيّن أنّ آدم عليه‌السلام تاب ، والتوبة لا تكون إلاّ من المذنب ، كيف نتمكّن من التوفيق بين الأمرين؟

ج : نلفت انتباهكم إلى الأُمور التالية :

١ ـ إنّ الأدلّة القائمة على العصمة أدلّة عقلية ونقلية قطعية ومسلّمة ، وقد ثبت في محلّه أنّ هذه الأدلّة هي مستقلّة عن الأمثلة ، أي أنّها لا يعتمد في إثباتها على الأمثلة ، وعليه فلا تقاس صحّة هذه الأدلّة بالأمثلة النقضية ، إذ أنّ النقوض تأتي فقط على الأدلّة التي تثبت عن طريق الاستقراء والتمثيل ، وبما أنّ المقام ليس كذلك ، فلا يرد عليه أيّ نقض تمثيلي ، بل يجب أن يفسّر كُلّ مورد ومثال على ضوء تلك القاعدة العامّة.

٢ ـ التوبة في اللغة هي في الأصل الرجوع عن الشيء والإقلاع عنه ، ولم يؤخذ في معنى الكلمة الرجوع عن المعصية بالذات ، ويؤيّد ما قلنا استعمال مادّة التوبة

٣٢٥

لله تعالى في القرآن الكريم ، نعم ، كثرة استعمالها في الرجوع عن المعاصي في العباد صرفت الكلمة إلى هذا المعنى.

ثمّ بناءً على ما ذكرناه آنفاً ، يتحتّم علينا أن نفسّر توبة آدمعليه‌السلام بما لا ينافي قاعدة العصمة ، فإنّ توبته كانت إقلاعاً ورجوعاً عن علمه السابق ، وإظهار الندم عليه ، ولكن لا دليل على أنّ ذلك العمل كان معصيةً ، بل نلتزم بأنّه كان تركاً للأولى ، حفظاً لقاعدة العصمة ، مع عدم منافاته لظهور الكلمة.

( حفيظ بلخيرية ـ تونس ـ )

مسألة خروج آدم من الجنّة :

س : إنّني من المعتقدين بعصمة الأنبياءعليهم‌السلام ، ولكن المرء يجد في القرآن الكريم عدّة آيات لا يجد لها تفسيراً واضحاً للردّ على الشبهات ، ومن بينها مسألة خروج آدمعليه‌السلام من الجنّة ، فإن كان غير مكلّف في الجنّة ـ كما جاء في تفسيركم ـ فالحال يشمل إبليس عليه اللعنة ، إذ أنّه خالف الله في مسألة السجود لآدم فلعنه الله.

أمّا فيما يخصّ اصطفاء آدم ، فما هو تفسير الآية :( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) (١) .

ج : إنّ موضوع عصمة الأنبياءعليهم‌السلام يعتمد على أدلّة عقلية ونقلية ثابتة ومسلّمة ـ كما ذكر في محلّه ـ ومع النظر إلى هذه الأدلّة نعرف أنّها لا تعتمد في إثباتها على أمثلة وشواهد ، أي أنّها مستقلّة عنها ، وبعبارة أُخرى : لا يستفاد في إثبات أدلّة العصمة من القياس التمثيلي.

وعليه ، فلا ترد عليها ـ أي العصمة ـ نقوض من باب الموارد والأمثلة ، بل وبحسب القواعد العلمية يجب تفسير تلك الموارد غير الواضحة على ضوء أدلّة

____________

١ ـ فاطر : ٣٢.

٣٢٦

العصمة ، فإنّه من تفسير وتوضيح المشكوك بالقطعي ، وهذا ممّا يدلّ عليه الوجدان بالضرورة.

وممّا ذكرنا يظهر وجه الدلالة على عصمة آدمعليه‌السلام ، فيجب علينا أن نفسّر الأحداث والقضايا التي مرّت بهعليه‌السلام بعد الفراغ والتسليم لعصمته ، فلا معنى لورود النقض عليها ، هذا أوّلاً.

وثانياً : عدم تكليف آدمعليه‌السلام في الجنّة هو أحد الآراء في المسألة ، وهناك أقوال أُخرى ، وعلى سبيل المثال يرى بعضهم : أنّ النهي المتوجّه لآدمعليه‌السلام من قبل الله تعالى كان نهياً إرشادياً لا مولوياً ، ومعناه عدم صدور معصية منهعليه‌السلام في صورة ارتكابه للمنهي ، بل مجرد تعرّضه لبعض المتاعب والمصاعب تكويناً ، وهذا ما قد حدث ، فإنّهعليه‌السلام قد هبط إلى الأرض ومارس هو وولده الحياة الصعبة على وجهها إلى يوم القيامة ، بعدما كان قد تنعّم في الجنّة بدون تعب ومشقّة.

وأمّا إبليس ، فإنّه كان مكلّفاً بالأوامر والنواهي التكليفية ، كما يظهر من الأمر بالسجود المتوجّه إليه ، ومؤاخذته من قبل الله تعالى على عدم انصياعه لذلك الأمر.

فبالنتيجة : كان إبليس في عالم التكليف ، بخلاف آدمعليه‌السلام الذي لم يتوجّه إليه التكليف ـ عموماً أو في خصوص التناول من الشجرة المعينة ـ أو كان الأمر المتوجّه إليه إرشادياً ، أو أنّهعليه‌السلام كان قد ترك الأولى والأفضل.

وبالجملة : فصدور المعصية من إبليس أمر مسلّم ، لمخالفته الصريحة في مسألة السجود ، لكن الذي صدر من آدمعليه‌السلام لم تكن مخالفة مولوية ، بقرينة عدم مؤاخذته من قبل الله تعالى.

وأمّا بالنسبة لتفسير آية :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) (١) فملخّص القول فيه :

____________

١ ـ فاطر : ٣٢.

٣٢٧

أوّلاً : إنّ الكتاب المذكور هو القرآن ، بدليل أنّ الآية السابقة تصرّح بهذا المطلب :( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) (١) ، فبدلالة السياق نعرف أنّ المقصود هو القرآن ، فاللام في( الْكِتَابِ ) للعهد دون الجنس.

ثانياً : اصطفاء آدمعليه‌السلام ثابت بحسب النصّ القرآني :( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا ) (٢) .

ثالثاً : هذا الاصطفاء كان بعد هبوط آدمعليه‌السلام وتوبته ، وجعله خليفة الله في الأرض ، لا عند إسكانه في تلك الجنّة المعيّنة ، أو عند أكله للشجرة الممنوعة.

رابعاً : الضمير في( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ ) فيه احتمالان :

الأوّل : أن يرجع إلى( عِبَادِنَا ) باعتبار قاعدة رجوع الضمير إلى الأقرب ، وعليه فالمعنى يكون واضحاً بلا شكّ وريب ، إذ لا يكون الظالم ـ حينئذٍ ـ مشمولاً للاصطفاء.

الثاني : أن يرجع إلى( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ) ، ولا مانع منه وتصحّ هذه النسبة ـ نسبة الوراثة ـ إلى الكلّ مع قيام البعض بها حقيقةً ، كما جاء في القرآن( وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) (٣) ، والحال نعلم أنّ المؤدّين لحقّ الكتاب والقائمين بأمره آنذاك بعض بني إسرائيل لا جميعهم.

خامساً : كما ذكرنا في مقدّمة الجواب ، فإنّ ظلم آدمعليه‌السلام لنفسه لم يكن ظلماً تشريعياً ، أي لم يخالف الله تعالى في أمر تكليفي مولوي يستحقّ العقاب والمؤاخذة ، بل ظلم نفسه بإلقائها في المتاعب والمشاكل الدنيوية ، وإن استدركه بالتوبة والاستغفار والإنابة.

سادساً : الظاهر من الآية المذكورة :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) أنّها بصدد تعريف المصطفين بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدلالة سبقها بآية( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ

____________

١ ـ فاطر : ٣١.

٢ ـ آل عمران : ٣٣.

٣ ـ غافر : ٥٣.

٣٢٨

الْكِتَابِ ) ، وبقرينة الروايات الواردة عن المعصومينعليهم‌السلام ، فلا تشمل المصطفين من الأُمم السابقة ، وإن سلّمنا باصطفائهم بأدلّة عقلية ونقلية أُخرى.

( أبو أحمد البحراني ـ البحرين ـ ٣١ سنة ـ طالب علم )

الفرق بين اختيار المعصوم بالإمكان الذاتي وحتمية العصمة بالإمكان الوقوعي :

س : أرجو منكم توضيح الفارق : بين اختيار المعصوم بالإمكان الذاتي ، وحتمية العصمة بالإمكان الوقوعي؟

وببيان آخر : إنّ المعصوم في ذاته يمكن أن يصدر منه الخطأ ، فعدم ارتكابه للمعصية هو عن اختيار ، وذلك يرجع لانكشاف الواقع له كما هو ، أمّا بالإمكان الوقوعي فهو لا يمكن أن يعصي ، وذلك للزوم المحال في صدور المعصية منه خارجاً.

أرجو من سماحتكم بيان وجه المحالية بالشرح والتوضيح مع ضرب الأمثلة ، وهل يلزم من القول بمحالية وقوع المعصية منه خارجاً على نحو الإمكان الوقوعي كون الإمام مجبوراً وغير قادر على فعل المعصية خارجاً؟

هذا هو سؤالي ، أرجو التوضيح التامّ للمسألة يخرج منه اللبس والإيهام ، ودمتم مسدّدين.

ج : العصمة هي مناعة وصيانة عن الوقوع في الخطأ والمعصية ، ولكن ليست هذه الحصانة تنفي قدرة واختيار المعصومعليه‌السلام ، بل صدور الخطأ ممكن منهعليه‌السلام من حيث الفرض ، ولكن لا يقع عملاً ، وهذا ما يسمّى بالإمكان الوقوعي ، أي أنّ الزلل ممكن منهعليه‌السلام وقوعاً ـ وليس ممتنع ذاتاً ـ ولكن لا يرتكب المعصية ، وذلك وفقاً لأدلّة العصمة.

والمقصود من الاستحالة في المقام هي الاستحالة الوقوعية لا الذاتية ، وهذه الاستحالة الوقوعية هي نتيجة الاعتماد على أدلّة العصمة.

٣٢٩

فالترتيب المنطقي للموضوع هكذا : إنّ صدور السلبيات من المعصومعليه‌السلام ممكن نظرياً بالإمكان الوقوعي ، ولكن نظراً إلى أدلّة العصمة نلتزم باستحالة ذلك بالاستحالة الوقوعية.

فترى أنّ هذه الاستحالة لا تفرض حالة جبرية على المعصومعليه‌السلام ، بل هي نتيجة الأخذ بأدلّة العصمة.

وإن شئت عبّرت عن الموضوع : بأنّ المعصومعليه‌السلام لا يصدر منه الخطأ والمعصية في الخارج ، وإن كان صدورها منهعليه‌السلام ممكن الوقوع عقلاً.

( كميل ـ عمان ـ ٢٢ سنة ـ طالب جامعة )

آية التطهير تدلّ على عصمة أهل البيت :

س : يشكّك البعض في آية التطهير ، قائلين بأن لو كان بالفعل تدلّ على العصمة ، فلم حكم شريح القاضي على أمير المؤمنين لصالح ذاك اليهودي؟ ولم يفعل مثل ذو الشهادتين؟ فإن كان الإمام عليه‌السلام معصوماً وجب على شريح تصديقه.

ج : إنّ القواعد العلمية في كُلّ مجال تقتضي أن يفسّر المردّد أو المشكوك على ضوء المقطوع والمتيقّن ؛ وفي المقام : فإنّ دلالة آية التطهير لا يشوبها شكّ ولا ريب في إفادتها العصمة لأهل البيتعليهم‌السلام ، وأمّا ما توهّم كنقض في هذا المجال فجوابه من وجوه :

١ ـ إنّ الأدلّة القائمة على لزوم العصمة في الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ليست منحصرة في آية التطهير فحسب ، بل وإنّ لها دلائل كثيرة عقلية ونقلية من الكتاب والسنّة ـ كما هو مقرّر في علم الكلام ـ.

٢ ـ إنّ في مسألة خزيمة ، كان طرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أعرابياً مسلماً ، وبحسب الظاهر كان يجب على هذا الأعرابي الإيمان بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعصمته وأقواله ، فلا يحقّ له أن يعارض قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أن يحاججه ، وشهادة خزيمة كانت من

٣٣٠

باب حفظ الظواهر والموازين ، وإلاّ لم تكن هناك حاجة إلى شهادة شاهد أساساً.

وأمّا في موضوع حكم شريح ، كانت الدعوى بين أمير المؤمنينعليه‌السلام ويهودي ، فحينئذ لا مجال لفرض قبول عصمة أمير المؤمنينعليه‌السلام في أقواله وأفعاله من جانب ذلك اليهودي ، وعليه فلابدّ وأن تكون الحكومة والقضاء بينهما بالطريقة المألوفة من الأيمان والبيّنات ، فنفذّ شريح الأسلوب القضائي المتعارف بين الناس ، مع غضّ النظر عن مقام الإمامة ، حتّى لا يتوجّه إشكال مبنائي بينهعليه‌السلام وبين اليهودي.

٣ ـ ليس لنا علم ويقين بأنّ أشخاصاً ـ كشريح ـ كانت لهم تلك المعرفة الحقيقية بمقام الإمامعليه‌السلام وعصمته ، حتّى تكون تصرّفاتهم على ضوء تلك العقيدة الصحيحة ؛ بل وإنّ البعض منهم كانوا يرون الإمامعليه‌السلام كخليفة ليس إلاّ ، وعليه فيمكن أن يكون أسلوب شريح في هذا الموضوع على ضوء هذا الاحتمال.

بقي أن نعلم بأنّ الإمامعليه‌السلام خوفاً من إثارة الفتن ، وحفظاً لمصالح عليا ، رجّح إبقاء أمثال شريح ـ مع ما كانوا عليه ـ في منصبه القضائي ، ريثما تتهيّأ الأرضية المناسبة لتبديله أو إقصائه.

( عبد الكريم ـ المغرب ـ ٤٥ سنة ـ دكتوراه في الطبّ )

غير واجبة في حقّ العلماء :

س : لدّي إشكال في قضية انتفاء عصمة المرجعية عند الشيعة في عصرنا ؛ إذ أنّ تقليد غير المعصوم يفضي إلى إمكانية الخطأ ؛ والله تعالى يقول : ( وَلاَ

٣٣١

تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (١) ، وقوله : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (٢) .

ج : إنّ عقيدة الإمامية هي عصمة الإمامعليه‌السلام لا غيره ـ كما هو واضح ومبرهن بالأدلّة العقلية والنقلية ـ لأنّ العصمة في كُلّ شخص على خلاف الأصل ، إذ القاعدة الأوّلية في كُلّ إنسان السهو والغفلة والخطأ والنسيان ، إلاّ ما أخرجه دليل العصمة من شمول هذه القاعدة.

ومن جانب آخر نعلم بأنّ دليل العصمة لا يتولّى إثبات عصمة ما عدا المعصومين المعنيينعليهم‌السلام .

بقيت هنا نقطة فيها من الإبهام وهي : أنّه قد يتساءل البعض كيف نفرّق بين مقام الإمامعليه‌السلام والمجتهد؟ ونلتزم بالعصمة في الأوّل دون الثاني ، إذ أنّهما كليهما يتولّيان زعامة الدين والطائفة ، فلماذا هذا التمييز؟

والجواب يكمن في نحوية الزعامة والمسؤولية ، فالإمام المعصومعليه‌السلام يلقى على عاتقه بيان الأحكام الواقعية المتلقّاة من مصادر الوحي والنبوّة ، وعليه فالعصمة شرط لازم في نطاق وظيفته ؛ وإلاّ فلا يمكن الاعتماد على أيّ حكم صادر منهمعليهم‌السلام بأنّه حكم إلهي.

وأمّا المجتهد فحوزة مسؤوليّته تقع في مجال السعي لحصول تلك الأحكام الواقعية ، فربّما يظفر على الحكم الواقعي ، وأحياناً يطبّق الحكم الظاهري ، وعلى أيّ حال فهو معرّض للخطأ في اجتهاده.

ثمّ إنّ الحكمة في هذا الاختلاف هي أنّ طروّ الخطأ والسهو في مجال وظيفة المجتهد ، لا يؤثّر في أركان العقيدة ، والمباني الأساسية للدين والمذهب ، إذ أنّ نطاق الاجتهاد هو بنفسه مضيّق ومحدود ، فمثلاً لا يجتهد المجتهد في أُصول الدين والمذهب ، والضروريات والموضوعات ، فلا تمسّ أخطاؤه المبدأ والعقيدة ،

____________

١ ـ الأنعام : ١٦٤.

٢ ـ البقرة : ١٦٦.

٣٣٢

بخلاف احتمال خطأ الإمامعليه‌السلام ، فإنّه يضعضع أوامر السماء من الأساس ، فيتحتّم على المولى الحكيم أن يعصمه من الخطأ والزلل حذراً من تضييع الدين ؛ وهذا هو الفارق بين المقامين.

وأمّا مسألة اختلاف الأنظار والفتاوى ، فإنّه ممّا لابدّ منه بعد قبول أصل الاجتهاد ، ولكن هذا لا يصطدم مع أصل الدين والمذهب ، فإنّ الدين يبقى في كماله ، ولو أنّ فهم المجتهدين قد يختلف في تلقّيهم داخل ذلك النطاق المعترف به.

( السعودية ـ سنّي ـ ٢٥ سنة ـ طالب )

صلح الحسن وقتال الحسين لا ينفي عصمتهما :

س : يزعم الرافضة أنّ الأئمّة معصومون ، فكيف تنازل الإمام الحسن المعصوم لمعاوية؟ هل يعني هذا أنّ خلافة معاوية شرعية؟ أم أنّ الحسن أخطأ؟ وإذا كان مخطئاً كيف يتوافق هذا مع عقيدة العصمة؟ ثمّ كيف تنازل عن الخلافة وقد نالها بنصّ إلهي كما تزعمون؟

ولماذا خرج الحسين لمقاتلة الأُمويين؟ وهو مخالف لما فعله الحسن من قبل ، فأيّهما كان مصيباً ، وأيّهما كان مخطئاً؟

ج : إنّ الشيعة لا تعتقد شيئاً إلاّ على أساس الأدلّة والبراهين العقلية أو النقلية ، وتلتزم بأيّ مطلب يستدلّ عليه بالأدلّة الواضحة والجلية ، ولا تخشى أيّ مانع في هذا المجال ؛ ولكن في نفس الوقت تتوقّع من الضمائر الحيّة والحرّة أن تنصف فيما تقول ، ثمّ لها الخيار في الحكم في المقام.

وأمّا ما طرحته من مسألة العصمة ، فإنّها مورد اتفاق الشيعة ، بما أنّها مستخرجة من الأدلّة القطعية من الكتاب والسنّة والعقل والإجماع ، وبعبارة أُخرى : إنّ دليل العصمة لم يكن دليلاً استقرائياً أو تمثيلياً ، بل هو دليل منتج من العقل والنقل.

٣٣٣

وعليه فلا يتوهّم ورود النقض عليه ، إذ النقض لا يمكن وروده على الدليل القطعي ، فنستنتج أنّ النقوض المتوهّمة ليست على ما هي ، بل إنّها توهّمات خالية من الدلالة ، ثمّ بعد الفحص عنها نرى ماهية هذه التوهّمات كما يلي :

١ ـ إنّ صلح الإمام الحسنعليه‌السلام لم يكن تنازلاً منه عن الإمامة الإلهية ، بل كان عملاً مرحلياً لكشف زيف معاوية في المجتمع الإسلامي ، فهو شبه مهادنة ، أو مصالحة مؤقّتة ، لأجل مصالح عامّة ـ قد ذكرت في مظانّها ـ ومعاوية لا يستحقّ الإمارة ، فكيف يستحقّ الخلافة؟

ثمّ لا غرابة لهذا الموقف في سيرة المعصومينعليهم‌السلام ، فمثلاً بأيّ تفسير يجب أن نقتنع بصلح الحدبيية؟ أليس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان معصوماً في أفعاله وتصرّفاته؟ وهل أنّ الصلح المذكور يقلّل ـ والعياذ بالله ـ من مرتبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أو أنّه يعتبر تنازلاً؟! فالصحيح أنّ أمثال هذه الموارد بأسرها هي من شؤون الإمام المعصومعليه‌السلام ، وليس فيها أيّ إشعار أو إشارة بتنازل أو عدول عن الخطّ المستقيم.

٢ ـ إنّ موقف الحسينعليه‌السلام يختلف مع موقف أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام في الظروف التي واجهها ، وذلك باختلاف معاوية عن يزيد في تصرّفاته ، فإنّ معاوية كان يتظاهر بالشعائر والالتزمات الدينية بحدّ وسعه ، لتغطية أفعاله الشرّيرة ، وهذا كان يسبّب ـ إلى حدّ كبير ـ التمويه على المسلمين ، فهم كانوا لا يعرفونه حقّ المعرفة ، إلى أن عرّفه الإمام الحسنعليه‌السلام بتخليه الساحة له مؤقّتاً ، حتّى يراه المسلمون كما هو ، ويتّضح لهم ما كان وما يريد.

وعلى العكس فإنّ يزيد لم يكن يرى أيّ إحراج في إعلانه الفسوق والعصيان ، وإظهاره شعائر الكفر والشرك علانية ، فلا يبقى فرض مدّة أو طريقة لتعريفه لدى المسلمين ، بل أنّ الواجب كان يلزم على الإمام الحسينعليه‌السلام أن يقوم في وجهه حفظاً لدين جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله من التلاعب بيد الطغمة الظالمة ، المتمثّلة في كيان الخلافة آنذاك.

٣٣٤

وبعد ذلك ألسنا نرى التمايز في ظروف زمانهما الذي ولّد اختلاف موقف أحدهما عن الآخرعليهما‌السلام .

( علي ـ المغرب ـ سنّي ـ ٢٨ سنة ـ طالب جامعة )

ردّ توهّمات أهل السنّة في عصمة النبيّ :

س : تعتقد الشيعة على خلاف أهل السنّة العصمة التامّة والكاملة للرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى في الشؤون المتعلّقة بالحياة المعيشية ، فما قولكم في المسألة؟

خاصّة وأنّ الكثير من النصوص القرآنية والشواهد التاريخية تثبت ـ بما لا يدع مجالاً للشكّ ـ ما يذهب إليه أهل السنّة ، فما قولكم في واقعة أسرى بدر؟ وترخيصه لبعض من تخلّف من المقاتلين في عدم المشاركة في الجهاد ، أو النزول عند الموقع المحدّد في واقعة بدر الكبرى ، وكذلك تأبير النخل في الحديث المشهور عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنتم أعلم بشؤون دنياكم » حين بدا له عدم صواب رأيه؟

المرجو إيفادنا بالشرح المستفيض والدقيق ، معزّزاً بالأدلّة الشرعية من مصادر أهل السنّة ، وكذلك الشيعة ما أمكن ، لكُلّ حادثة من الحوادث المذكورة أعلاه ، ولكم جزيل الشكر والامتنان.

ج : إنّ الأدلّة القائمة على العصمة التامّة ـ للأنبياءعليهم‌السلام عموماً ، ولنبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله خصوصاً ـ أدلّة عقلية ونقلية لا يعتريها الشكّ والريب ـ كما قرّر في محلّه ـ وعليه فلابدّ من تأويل ما جاء خلافه ـ إن صحّ سنده ـ فإنّ ما يوهم خلاف تلك القاعدة مردود ، إذ أنّ القاعدة المذكورة لم تبتن على الأمثلة حتّى يرد عليها النقض ، بل يجب أن يفسّر كُلّ حادث على ضوء تلك القاعدة.

ثمّ إنّ ما ذكرتموه في المقام ، لا يصلح لأن يكون مورداً للنقض لما يلي :

أوّلاً : إنّ ما ذكر في بعض كتب السير والتاريخ ـ من أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قد نزل أدنى ماء ببدر أوّلاً ، وثمّ بعد ما أشار عليه الحباب بن المنذر بأن ينزل أدنى ماء

٣٣٥

من القوم ، ويصنع أحواضاً ويمنع المشركين من الماء ، صوّب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله رأيه وأمر بتنفيذه ـ لم يصحّ لوجوه :

منها : إنّ المشركين هم الذين سبقوا بالنزول في بدر ، ولا يعقل أن ينزلوا في مكان لا ماء فيه ، ويتركوا الماء لغيرهم من المسلمين.

ومنها : إنّ العدوة القصوى التي نزلها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضاً لابأس بها ، على العكس ممّا نزلها المسلمون ، وهي العدوة الدنيا ، إذ كانت غبار تسوخ فيها الأرجل ، ولم يوجد فيها الماء(١) .

ومنها : إنّ ابن الأثير ـ من أصحاب السير ـ ينصّ على أنّ المشركين وردوا الحوض ، فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يعترضوهم(٢) .

ومنها : إنّ المنع من الماء لا ينسجم مع أخلاقيات ومبادئ الإسلام ونبيّه الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فإذاً ، الصحيح هو الرواية التي تقول بأنّ المسلمين لم يكونوا على الماء ، فأرسل الله السماء عليهم ليلاً حتّى سال الوادي ، فاتخذوا الحياض كما جاء في الذكر الحكيم :( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) (٣) ، وهذا هو سرّ بناء الأحواض لا ما ذكروه.

ثانياً : إنّ البعض قد ذكروا : أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله رخّص طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد وعثمان في عدم المشاركة في بدر ، ثمّ ضرب لهم سهامهم من الغنائم.

____________

١ ـ فتح القدير ٢ / ٣١١ ، شرح نهج البلاغة ١٤ / ١١٨ ، جامع البيان ١٠ / ١٤ ، زاد المسير ٣ / ٢٤٦ ، الجامع لأحكام القرآن ٨ / ٢١ ، تفسير القرآن العظيم ٢ / ٣٢٦ ، الدرّ المنثور ٣ / ١٦٦ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٢٧.

٢ ـ الكامل في التاريخ ٢ / ١٢٣.

٣ ـ الأنفال : ١١.

٣٣٦

وهذا أيضاً من الموضوعات ، إذ جاء في بعض الكتب : أنّ العلّة للتخلّف في الأوّليين ـ طلحة وسعيد ـ هو التجسّس لخبر العير بأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وجاء في بعضها الآخر : أنّهما كانا في تجارة إلى الشام(٢) ؛ فإذا كانت العلّة هذه ، هل يعقل أن يضرب لهما سهامهما من الغنائم؟! خصوصاً أنّ السيوطي وغيره ينكران هذه الفضيلة لغير عثمان(٣) .

وأمّا في مورد عثمان ، فإنّ الرواية التي تذكر علّة تخلّفه ـ أنّها لتمريض زوجته رقية بأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ متعارضة مع الرواية التي تصرّح بأنّ العلّة هي إصابة عثمان نفسه بالجدري(٤) .

وأيضاً كان بعض المسلمين يعيّرون عثمان بعدم حضوره في بدر ، وهذا لا ينسجم مع رخصته فيه ، إذ كيف خفي هذا العذر على مثل عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود(٥) .

وأخيراً : لقد جاء في حديث مناشدة عليعليه‌السلام لأصحاب الشورى ـ وفيهم طلحة وعثمان ـ قوله : « أفيكم أحد كان له سهم في الحاضر وسهم في الغائب »؟ قالوا : لا(٦) ، وهذا يفنّد كلام القوم من الأساس!!

ثالثاً : إنّ ما يذكر من خطأ اجتهاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والعياذ بالله ـ في موضوع أُسرى بدر لا أساس له من الصحّة ، فالآية التي يشير إليها البعض في المقام( مَا

____________

١ ـ السيرة الحلبية ٢ / ٢٠٣ ، أُسد الغابة ٢ / ٣٠٧ ، تاريخ المدينة ١ / ٢١٩ ، سبل الهدى والرشاد ٤ / ١٩.

٢ ـ التنبيه والإشراف : ٢٠٥ ، المستدرك ٣ / ٣٦٨ ، الاستيعاب لابن عبد البر ٢ / ٧٦٥ ، المعجم الكبير ١ / ١١٠.

٣ ـ السيرة الحلبية ٢ / ٢٥٤.

٤ ـ المصدر السابق ٢ / ٢٥٣.

٥ ـ مسند أحمد ١ / ٦٨ و ٧٥ ، مجمع الزوائد ٧ / ٢٢٦ ، الدرّ المنثور ٢ / ٨٩ ، تفسير القرآن العظيم ١ / ٤٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٣٩ / ٢٥٨ ، البداية والنهاية ٧ / ٢٣١.

٦ ـ كنز العمّال ٥ / ٧٢٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٣٥.

٣٣٧

كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ له أَسْرَى ) (١) في وزان إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، فالمقصود من الآية المسلمون لا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أنّ الالتزام به يكون بمعنى مخالفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأوامر الوحي ، وهذا محالّ.

ولكنّ المعنى أنّ الصحيح في المقام هو الحكم الأوّلي في شأن الأسرى ببدرٍ كان القتل ، وهو حكم خاصّ بهم ، لا أنّ الفداء لا يحلّ أبداً في الأسرى ، إذ قد عمل به ـ الفداء ـ في واقعة عبد الله بن جحش قبل بدر بأزيد من عام ، ولم ينكره الله تعالى(٢) ، وبعدما أصرّ المسلمون على مخالفة ذلك الحكم الأوّلي ، عاتبهم الله تعالى فاستحقّوا العذاب ثمّ عفا عنهم.

ويدلّ عليه أنّه جاء في بعض النصوص : أنّ جبرائيلعليه‌السلام أخبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بكراهة ما صنعه قومه من أخذ الفداء ، وأخبره بأنّ الله أمره أن يخيّرهم بين قتل الأسرى وأخذ الفداء ، على أن يقتل منهم في المستقبل بعددهم ، فرضوا بالفداء والشهادة(٣) ، وعلى الأخصّ فقد نصّ البعض على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مال إلى القتل(٤) .

رابعاً : إنّ حديث تأبير النخل ـ بالشكل الذي نقلوه ـ لا يوافق العقل والنقل ، لوجوه :

منها : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعيش في منطقة تغصّ بالنخل ، فهل يعقل أنّه لم يكن يعرف تأثير تأبير النخل وفائدته؟ وأنّ النخل لا ينتج بدونه؟! والحال نرى أنّ الرواية المزعومة تقول : بأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفى لزوم التأبير فتركوه.

ومنها : كيف نصدّق بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يرضى بإدخال ذلك الضرر الجسيم عليهم ـ عدم نتاج نخلهم ـ بتصرّفه فيما ليس من اختصاصه؟!

____________

١ ـ الأنفال : ٦٧.

٢ ـ السيرة الحلبية ٢ / ٢٦٣.

٣ ـ المصنّف للصنعاني ٥ / ٢٠٩ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٢٢ ، عيون الأثر ١ / ٣٧٣ ، الدرّ المنثور ٣ / ٢٠٢.

٤ ـ الكامل في التاريخ ٢ / ١٣٦.

٣٣٨

ومنها : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كيف يقول لهم ـ حسب الرواية المذكورة ـ أنّ العملية كانت من ظنونه ـ والعياذ بالله ـ وليس لهم أن يؤاخذوه بالظنّ ، في الوقت الذي كان يحثّ الناس على كتابة ورواية ما يصدر عنه(١) .

وصفوة القول : أنّ العصمة لها أدلّتها القيّمة من العقل والنقل ، فلا تنثلم بما نقل بخلافها مع وهن السند والدلالة.

( أحمد الأسدي ـ اندونيسيا ـ ٢٦ سنة ـ خرّيج ثانوية )

النبيّ لم يكن مخاطباً في قوله :( وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ) :

س : قال تعالى :( وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ ) (٢) .

كيف يخاطب القرآن النبيّ هكذا؟ ونحن نعرف عصمة النبيّ عن الخطأ ، هل النبيّ نسي أن يقول أن شاء الله؟ أجيبوا جزاكم الله.

ج : الآية الكريمة لا تنافي العصمة عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ الخطاب موجّه للمكلّفين ، والقرآن نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة ، وليس هو خطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ على قول من قال أنّه خطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليس فيه ما يسيء إلى عصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ ذلك من الله تعالى تذكير لهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأنّ كُلّ أمر موقوف على إرادته واشائته ، فإن شاء كان ، وإن لم يشأ لم يكن ، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله غيرُ غافلٍ عن ذلك ، وقد شهد الله تعالى له بذلك ، فقال :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٣) ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أدّبني ربّي فأحسن تأديبي »(٤) .

____________

١ ـ مجمع الزوائد ١ / ١٣٩ ، ١٥١ ، الجامع الصغير ١ / ٤٠٤ ، كنز العمّال ١٠ / ٢٢٤ و ٢٢٩.

٢ ـ الكهف : ٢٣ ـ ٢٤.

٣ ـ القلم : ٤.

٤ ـ شرح نهج البلاغة ١١ / ٢٣٣ ، الجامع الصغير ١ / ٥١ ، كشف الخفاء ١ / ٧٠.

٣٣٩

وقد كانت سنّة الأنبياء تعليق كُلّ شيء على إرادته تعالى ، فقال تعالى حكاية عن موسى :( قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) (١) ، وقال حكاية عن شعيب :( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) ، وقال حكاية عن إسماعيل :( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (٣) .

وهكذا هي سنّة الأنبياء في مخاطباتهم ، بل تعليق الفعل على إرادته سيرة الصالحين ، فكيف بخيرة الصالحين وخاتم الأنبياء والمرسلين يصدر منه خلاف إرادته تعالى ، ومن ثمّ يعاتب عليه؟ فثبت أنّ ذلك خطاب للمكلّفين دونهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

( حبيب ـ الدانمارك ـ سنّي حنفي ـ ٢٠ سنة )

معالجة الآيات الواردة خلافها :

س : قال العلاّمة الحلّي : « إنّه لو جاز عليه ـ أي الإمام ـ السهو والخطأ ، لجاز ذلك في جميع أفعاله ، ولم يبق وثوق بإخباراته عن الله تعالى ، ولا بالشرائع والأديان ، جواز أن يزيد فيها وينقص سهواً ، فتنتفي فائدة البعثة.

ومن المعلوم بالضرورة : أنّ وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالعصمة ، أكمل وأحسن من وصفه بضدّها ، فيجب المصير إليه ، لما فيه من الاحتراز عن الضرر المظنون ؛ بل المعلوم »(٤) .

كُلّ ما سبق من كلامه يردّه كتاب الله ، الذي أشار إلى وقوع بعض الأنبياء في المعاصي والتوبة ، منها : قوله تعالى عن موسىعليه‌السلام : ( لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) (٥) ، لماذا يعتذر موسى عليه‌السلام كُلّما سأل

____________

١ ـ الكهف : ٦٩.

٢ ـ القصص : ٢٧.

٣ ـ الصافات : ١٠٢.

٤ ـ الرسالة السعدية : ٧٥.

٥ ـ الكهف : ٧٣.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374