التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏0%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علاء الحسون
تصنيف: الصفحات: 374
المشاهدات: 122172
تحميل: 4981

توضيحات:

التحول المذهبي‏
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122172 / تحميل: 4981
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( نفذت هذه الكلمات كالّسهم إلى أعماقي، ثمّ فتحت جرحاً لا أظنّه يندمل بسهولة ويسر، غالبت دموعي وحاولت منعها من الإنحدار ما استطعت!

ولكنّها انهمرت وكأنّها تُصرّ أنْ تغسل عارَ التاريخ في قلبي، فكان التصميم للرحيل عبر محطات التاريخ للتعرّف على مأساة الأمّة وتلك كانت هي البداية لتحديد هويّة السير والانتقال عبر فضاء المعتقدات والتاريخ والميل مع الدليل.

كان ذلك في الدّار التي يقيم فيها ابن عمّي الشيعي! جئت لتحيّته والتحدّث معه عن أمور عامّة.. لحظة ثمّ لفت انتباهي صوتُ خطيب ينبعث من جهاز التسجيل قائلاً: ( وهذه الخطبة وردت في مصادر السنّة والشيعة وقد ألقتها فاطمةُ الزهراءعليها‌السلام لتثبيت حقّها في فدك )، ثم بدأ الخطيب في إلقاء الخطبة)(١) .

ويضيف هذا المستبصر:

( إلى حين استماعي لهذا الشريط لم أكن على استعداد للخوض في قضايا خلافيّة مذهبيّة. قد عرفنا أنّ الأخ - ابن عمّي - شيعي وسألنا اللَّه أنْ يهديه، وكنّا نتحاشى الدخول معه في نقاش بقدر استطاعتنا ولكن أبى اللَّه سبحانه وتعالى إلّا أن يقيم علينا حجّته )(٢) .

ويذكر عبد المنعم حسن حول الآثار التي تركتها هذه الخطبة بعد أن استمع إليها من الشريط:

( تدفّق شعاعُ كلماتها إلى أعماق وجداني، و اتّضح لي أنّ مثل هذه الكلمات لا تخرج من شخص عادي، حتى ولو كان عالماً مفوهاً درس آلاف السنين، بل هي في حدّ ذاتها معجزة، كلمات بليغة عبارات رصينة، حجج دامغة وتعبير قوي...

تركتُ نفسي لها، واستمعت إليها بكلّ كياني، وعندما بلغت خطبتها الكلمات التي

____________________

(١) المصدر السابق: ٦٠.

(٢) المصدر السابق.

٨١

بدأت بها هذا الفصل لم أتمالك نفسي وزاد انهمار دموعي.

وتعجبت من هذه الكلمات القويّة الموجهة إلى خليفة رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ،ومما زاد في حيرتي أنّها من ابنة رسول اللَّه، فماذا حدث؟ ولماذا.. وكيف؟!! ومع من كان الحق، وقبل كل هذا هل هذا الاختلاف حدث حقيقة؟

وفي الواقع لم أكن أعلم صدق هذه الخطبة ولكن اهتزّت مشاعري حينها وقرّرت الخوض في غمار البحث بجدّية مع أول دمعة نزلت من آماقي.. ومن هذا المنحى لا أريد أن أسمع من أحد، فقط أريد خيط البداية أو بداية الخيط لانطلق، ولم تكن الخطبة مقصورة على ما ذكرته من فقرات، بل هي طويلة جدّاً، وفيها الكثير من الأمور التي تشحذ الهمّة لمعرفة تفاصيل ما جرى و ظروفه الموضوعيّة المحيطة به )(١) .

التأثّر بالإمام الحسين‏عليه‌السلام :

من الّذين تأثّروا في استبصارهم بالإمام الحسين‏عليه‌السلام وتشيّعوا عن طريقه، يمكننا ذكر إدريس الحسيني، بحيث أنّه ألّف بعد استبصاره كتاباً سمّاه (لقد شيّعني الحسين)، وقد جاء فيه:

( ما إن خلصت من قراءة (مذبحة) كربلاء، بتفاصيلها المأساويّة، حتى قامت كربلاء في نفسي وفكري، من هنا بدأت نقطة الثورة، الثورة على كل مفاهيمي ومسلّماتي الموروثة، ثورة الحسين داخل روحي وعقلي )(٢) .

وله في مكان آخر حول (فاجعة الطف):

( هذه وحدها الحدث الذي أعاد رسم الخريطة الفكريّة والنقّية في ذهني )(٣) .

ويقول إدريس الحسيني حول الأبعاد التي أخذت مأساة كربلاء في حياته:

____________________

(١) المصدر السابق: ٦١.

(٢) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ٣١٣.

(٣) المصدر السابق: ٦٠.

٨٢

( كنت أطرح دائماً على أصدقائي قضيّة الحسين المظلوم وآل البيت‏عليهم‌السلام ، لم أكن أطرح شيئاً آخر. فأنا ضمآن إلى تفسير شاف لهذه المآسي، لأنّني وبالفطرة التي اكسبنيها كلام اللَّه - جلّ‏ وعلا - لم أكن أتصوّر، وأنا مسلم القرن العشرين، كيف يستطيع هؤلاء السّلف (الصالح) أن يقتلوا آلَ البيت تقتيلاً؟!

لكن أصحابي، ضاقوا منّي وعزّ عليهم أن يروا فكري يسير حيث لا تشتهي سفينة الجماعة، وعزّ عليهم أن يتّهموني في نواياي، وهم قد أدركوني منذ سنين البراءة وفي تدرّجي في سبيل الدعوة إلى اللَّه.

قالوا بعد ذلك كلاماً جاهليّاً، لشدّ ما هي قاسية قلوبهم تجاه آل البيت‏عليهم‌السلام .

ومن هنا بدأت القصّة!

وجدتُ نفسي أمام موجة عارمة من التساؤلات التي جعلتني حتماً أقف على قاعدة اعتقاديّة صلبة.

إنّني لستُ من أولئك الّذين يحبّون أن يخدعوا أو ينومّوا، لا، أبداً، لا أرتاح حتى أُجدّد منطلقاتي، وأعالج مسلّماتي! فلتقف حركتي في المواقف، مادامت حركتي في الفكر صائبة. هنا لا أتكلّم عن الأوضاع الأخرى التي ضيقت علّي السبيل.

وإعلان البعض - غفر اللَّه لهم - عن مواقفهم الشاذة تجاه قضيّة كهذه لا تحتاج إلى أكثر من الحوار!

إنّ هذه الفكرة التي انقدحت في ذهني باللطف الإلهي جعلتني أدفع أكبر ثمن في حياتي، وكلّفتني الفقر والهجرة والأذى... وما زادني في ذلك إلّا إيماناً وإصرارا...

إنّ هذا الطريق، طريقٌ وعِر، فيه تتجلّى أقوى معاني التضحية، وفيه يكون الاستقرار والهناء بدعاً. فأئمّة هذا الطريق ما ارتاح لهم بالٌ ولا قرّ لهم جنان، لقد يُتِّموا وذُبّحوا، وحوربوا عبر الأجيال! )(١) .

____________________

(١) المصدر السابق: ٦٢.

٨٣

ويقول إدريس الحسيني حول ما لاقاه من معاناة في مجال بحثه حول واقعة الطف:

( كنت أظنّ أنّ الإسلام قد أعطانا روحاً قويّة لطلب العدالة، ولم أكن أظن أنّ بعضنا سوف لا تدفعه مذبحة كربلاء، إلى معرفة القضية من أساسها، ومحاكمة أشخاصها على مستوى الفكر الذي لا يزال يؤسّس وعيَنا بالماضي والحاضر.

غير إنّني رأيتهم مكّبلين بألف قيد، مثلما كنت مقيّداً، وإن كنت قد استطعت كسرَ الأغلال عنّي، فإنّ غيري ضعف عن ذلك وبقي أسير الظلام.

ثمّ أدركت أنّ الإسلام أعظم من أن يكبّل أُناساً لطلب العدالة في التاريخ وفي كلّ المستويات. أدركت أنّ شيئاً جديداً على روح الإسلام لوّث صفاءه الروحي.

أدركت أنّه (المذهّب).

وفي ذلك الوقت عرفت أنّني لا يمكنني أن أتعامل بتحرر و موضوعيّة مباشرة مع القرآن والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان ضروريّاً أن أرفع القيود عنّي وأبدأ مسيرة جديدة في البحث عن الحقيقة. جئت مرّات ومرّات عند أهل الخبرة من أهل السنّة والجماعة، وكلّما حدّثتهم عن ذلك، امتعضوا وارتَسم في وجوههم غضب: يسمّونه الغضب للَّه! )(١) .

ويقول هذا المستبصر حول ما توصّل إليه من الحقائق بعد أنْ كسر الأغلال من نفسه:

( ما إن أقرأ عن تفاصيل كربلاء حتى تأخذني الجذبة بعيداً، ثم تعود أنفاسي إلى أنفاسي، والحسين ألفاه لديها، قد تربع بدمائه الطاهرة.

فياليتني كنت معه، فأفوز فوزاً عظيماً، وفي تلك الجذبة هناك من يفهمني، وقد لا يفهمني من لا يرى للجريمة التأريخيّة وقعاً في نفسه وفي مجريات الأحداث التي تلحقها.

فكربلاء مدخلي إلى التاريخ، إلى الحقيقة، إلى الإسلام، فكيف لا أجذب إليها،

____________________

(١) المصدر السابق: ٣١٩ - ٣٢٠.

٨٤

جذبة صوفي رقيقُ القلب، أو جذبة أديب مُرهف الشعور، وتلك هي المحطّة التي أردتُ أن أنهي بها كلامي عن مجمل معاناة آل البيت‏عليهم‌السلام وظروف الجريمة التأريخيّة ضدّ نسل النبي‏صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو من قَتَل الحسين؟ أو بتعبير أدقّ، من قتل من؟

نحن لا نشكّ في أنّ مَقتل الحسينعليه‌السلام هو نتيجة وضع يمتدّ بجذوره إلى السقيفة، إلى أخطر قرار صَدر بعد وفاة الرّسول‏صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ضحيّته الأولى آل البيت‏عليهم‌السلام .

ونلاحظ من خلال حركة التاريخ الإسلامي، أنّ محاولة تهميش آل البيت، وقمع رموزهم بدأ منذ السقيفة.

ورأيي لو جازف الإمام عليعليه‌السلام وفاطمة الزهراءعليها‌السلام لكان فعلاً أحرقوا عليهم الدار ولكان شي‏ء أشبه بعاشوراء وكربلاء الحسين.

وإنّ بداية النشوء - أو بالأحرى إعادة النشوء - لحزب بني أميّة، كان منذ الخلافة الأولى، ذلك أنّ معاوية و... يزيد كانا عاملين على الشام، وتقوّى نفوذُهما منذ ذلك العهد.

وكلّ المسلمين في ذلك العصر كانوا يدركون مدى القوّة التي يمكن أن تمنحها الإمارة لرجال مثل معاوية ويزيد.

المعادلة المقلوبة، وميزانُ القوى اللامتكافئ بين الحزب الأموي وبني هاشم بدأ منذ وفاة رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وما ضُرب ولا قُمع واستُضعف بعد رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رجلٌ أو عشيرة مثلَ ما ظُلم آلُ البيت ‏عليهم‌السلام .

لقد دخل بنو أميّة الإسلام، وهم صاغرون، وكان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أراد قتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، غير أنّه عفا عنهم، وقال: ((إذهبوا فأنتم الطلقاء)) وطلقاء لا تعني الإسلام، ثمّ ما برحصلى‌الله‌عليه‌وآله يحذّر من خطرهم الذي كان يدركه من خلال طبيعة الصّراع

٨٥

الذي دار بين الإسلام وبني أميّة )(١) .

ويُعاتب إدريس الحسيني علماء أهل السنّة في هذا الخصوص قائلاً:

( لماذا هؤلاء لا يكشفون الحقائق للناس، كما هي في الواقع؟

لماذا يتعمدون إبقاءنا على وعينا السخيف، تجاه أكبر وأخطر مسألة وجدت في تاريخ المسلمين؟

ثمّ لماذا لا يتأثّرون بفاجعة الطف العظمى؟ تلك التي ماجت في دمي الحار بالإنصاف والتوق إلى العدالة، فتدفقت بالحسرة والرفض والمُطالبة بالحقّ الضائع في منعطفات التاريخ الإسلامي.

وطبعي الذي لا أنكره، ولن أنكره، إنّني لا أحبّ الخادعين والجاهلين، ثمّ وإنّي لناقم على هؤلاء وأرافعهم إلى اللَّه والتاريخ!

كنت في تلك الفترة صاحب بساطة عقائديّة كباقي الناس، وببساطتي هذه كنت أبدوا أوعاهم عقيدة، وكنت ذا ثقافة أحاديّة، هي ثقافة أهل السنّة والجماعة.

فالجوّ الذي أحاط بي، هو جو الصحوة البتراء النائمة، التي انحرفت بوعيي إلى مواقع تافهة)(٢) .

ومن جملة الّذين كانت بداية استبصارهم أيضاً نتيجة التأثّر بالإمام الحسين‏عليه‌السلام ، هو صائب عبد الحميد، حيث أنّه يقول في كتابه (منهج في الانتماء المذهبي) تحت عنوان (هكذا كانت البداية):

( مع الحسين - مصباح الهدى - كانت البداية.

ومع الحسين - سفينة النجاة - كان الشروع.

بداية لم أقصدها أنا، وإنّما هي التي قصدتني، فوفّقني اللَّه لحسن استقبالها، وأخذ

____________________

(١) المصدر السابق: ٣١٥ - ٣١٦.

(٢) المصدر الساق: ٥٩.

٨٦

بيدي إلى عتباتها...

ذلك كان يوم مَلكَ على مسامعي صوت شجيّ، ربّما قد طرقها من قبل كثيرا فأغضت عنه، ومالت بطرفها، وأسدلت دونه ستائرها، وأعصت عليه.

حتى دعاني هذه المرّة، وأنا في خلوة، أو شبهها، فاهتزّت له مشاعري ومنحته كلّ إحساسي وعواطفي، من حيث أدري ولا أدري..

فجذبني إليه.. تتبادلني أمواجه الهادرة وألسنة لهيبه المتطايرة..

حتى ذابت كبريائي بين يديه، وانصاع له عتوّي عليه..

فرُحتُ معه، أعيش الأحداث، وأذوب فيها أسير مع الراحلين، وأحطّ إذا حطّوا، وأتابع الخطى حتى النهاية..

تلك كانت قصّة مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، بصوت الشيخ عبد الزهراء الكعبي يرحمه اللَّه، في العاشر من محرّم الحرام من سنة ١٤٠٢ للهجرة، فأصغيت عنده أيّما إصغاء لنداءات الإمام لحسينعليه‌السلام ..

وترتعد جوارحي، مع الدمعة والعبرة، وشي‏ء في دمي كأنه الثّورة.. وهتاف في جوارحي لبّيك، يا سيّدي يا بن رسول اللَّه..

وتنطلق في ذهني أسئلة لا تكاد تنتهي، وكأنّه نور كان محجوباً، فانبعث يشقّ الفضاء الرحيب دفعةً واحدة..

انطلاقة يؤمّها الحسين، بقيّة المصطفى، ورأس الأمّة، وعَلمُ الدين انطلاقة الإسلام كلّه تنبعث من جديد، ورسول اللَّه يقودها من جديد، بشخص ريحانته، وسبطه الحسين ‏عليه‌السلام .

وهذه نداءات الإسلام يبثها أينما حلّ، والجميع يعرفها! ولا يعرف للإسلام معنى في سواها.

ومصارع أبناء الرسول!!

وتيّار الانحراف يجرف الحدود، ويقتحم السدود!

٨٧

وأشياء أخرى لا تنتهي...

وتعود بي الأفكار إلى سنين خلت، وأنا أدرج على سلّم الدرس، لم أشذّ فيها عن معلّمي، فقلت: ليتني سمعت إذ ذاك ما يروي ضمئي...

ولكن ما هو ذنب معلّمي! إنّه مثلي، كان يسمع ما كنت أسمعه، وليس إلّا بل لَيتها مَناهجنا قد نالت شرف الوفاء لهذا العطاء الفريد..

ليتها مرّت على فصول تلك الملاحم، ولو مرور العابرين! من غير تعظيم أو تمجيد، أو ثناء...

فليس ثمّة حاجة إلى شي‏ء من هذا القبيل، فقد تألّق أولئك الأبطال فوق ذروة المديح والثناء، فكأنني أنظر إلى منابر التبجيل والاطراء مهطعة تحدّق نحوهم، وهم يحلّقون في قبّة السماء!!

ثمّ أنت يا حَلَق الوعظ، ويا خُطب الجُمع ويا بيوتات الدّين، أين أنت من هذا البحر اللامتناهي؟!

لقد صحبتُك طويلاً، فليتني وجدتك اتّخذت من أولئك الأبطال، وتلك المشاهد أمثلة تُحتذى في معاني اليقين والجهاد، أو الإقدام والثبات، أو التضحية والفداء، أو النصر والإباء، أو الحبّ والعطاء، أو غيرها مما يفيض به ميدان العطاء غير المتناهي ذاك، كما عهدتك مع نظائرها، وما هو أدنى منها بكثير!

وأين أنت أيّتها الدنيا؟!

وعلى أيّ فلك تجري أيّها التاريخ؟!

ألا تخشى أن يحاكمك الأحرار يوماً؟

عتاب لاذع، وأسئلة لا تنتهي، والناس منها على طرق شتى..

فهي تمرّ على أقوام فلا يكاد يوقظهم صداها، ولا يفزعهم صَخَبها!!

ورأيتها تمرّ على آخرين فتكاد تنتزع أفئدتهم، من شدّة ما لهم معها من هياج ونحيب، وأدمع تجري فلا تريد أن تكفّ..

٨٨

ويلتهبون على الجناة غيظاً ونقمة وحنقاً..

فتمتلئ‏ صدروهم من هذا وذاك بكلّ معاني الموالاة والبراءة.. موالاة للَّه وأوليائه، وبراءة من أعدائه..

ولِمَ لا تنفطر الأكباد لفاجعة كهذه!

وبدلاً من أن تهربي من ذكراها - أيّتها الدنيا - في العام مرّة، أولى بك أن تقفي عندها كلّ يوم ألف مرّة، ولا تستكثري.

أكثير أن يحيا الحسين السّبط بيننا على الدّوام، وليس كثيراً أن يُقتل بين يديك كلّ يوم ألف مرّة؟!

وعندما رحتُ أتعجب من هذا الانقسام، عدت مع هذه الواقعة إلى الوراء، فإذا النّاس من حينها كحالهم الآن، فهم بين من حمل الحسين‏عليه‌السلام مبدأً، وتمسّك به إماماً وأسوةً ودليلاً إلى طريق الفلاح، فوضع نفسه وبنيه دون أن يُمَسّ الحسين، وبين من حمل رأس الحسين هديّة إلى يزيد!!

وبين هذا وذاك منازلٌ شتى في القُرب والبُعد من معالم الحسين‏عليه‌السلام ..

وأشياء أخرى تطول، فقد استضاءت الدنيا كلّها من حولي، وبدت لي شاخصة معالم الطريق.. فرأيت الحكمة في أن أسلك الطريق من أوّله، وأبتدئ المسيرة بالخطوة الأولى لتتلوها خطى ثابتة على يقين وبصيرة..

وابتدأت، وإن كانت الأيّام تشغلني بين الحين والحين بما يصدّ المرء عن نفسه وبنيه، إلّا أنّي أعود إذا تنفّست ،فأُتابع الخطى )(١) .

ويقول عبد المنعم حسن حول تأثّره بالإمام الحسين‏عليه‌السلام :

( قضيّة الحسين ‏عليه‌السلام من أولي القضايا التي أخذت مساحة من دواخلي وعمّقت جرحاً أحسستُ به منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الحقائق تتكشف مزيحة جهلاً

____________________

(١) صائب عبد الحميد/ منهج في الانتماء المذهبي: ٣١ - ٣٤.

٨٩

ووَهماً كنّا نعيشه بإيعاز وتخطيط ذكي من أولئك اّلذين حرّفوا الحقائق وفقاً لأهوائهم ورغباتهم.

وبتنا نحن نعيش في قصور من زجاج نحلم بأن يعيد التأريخ نفسه لنعيش تلك الحياة المعصومة التي كان يعيشها الصحابة والرعيل الأول من التابعين الذين عاشوا في صدر الإسلام.

ولا ننسى دور علمائنا الذين ظلّوا يردّدون ما وجدوه في التاريخ دون نظر وتحليل لما جرى فيه.

وقضيّة الحسين‏عليه‌السلام من القضايا التي أراد أعداء الإسلام أن لا تبرز للناس لأنّها تمثّل حلقة من حلقات الصراع بين الحقّ والباطل وتعتبر من أنصع صفحات التاريخ في قضية الجهاد والتضحية في سبيل رسالة السماء.

استوقفتني قضيّة الحسين ‏عليه‌السلام كثيراً كما استوقفتني قضيّة أمّه الزهراءعليها‌السلام وأنا أبحث عن جهة الحقّ، قرأت وسمعت عن قصّة الحسين‏عليه‌السلام وعشت معه، تارة أبكي وأخرى ألعن فيها مَن ظلمه، وتارة أتأمّل في واقع أمّة كهذه، لم أسمع بمثل هذه البشاعة من قبل، أو سمعت ولكن كالعادة مخدراً بمقولة أنّ ما جرى في صدر الإسلام مروراً بالأمويين والعبّاسيين لا يجب علينا أن نبحث فيه، ولا أن نتساءل ما هو جذر المشكلة، لأنّ ذلك سيقودنا إلى نتائج ربّما تخدش في أولئك المقدّسين مما يجعل غضب الرّحمن يصب علينا صبّاً.

وقضية الحسين‏عليه‌السلام ستضعنا أمام أسئلة كثيرة وعلامات استفهام، الإجابة عليها ستفضي بنا إلى أن الحسين‏عليه‌السلام كقضيّة لم يُقتل في كربلاء، بل أنّ أصل القضيّة يرجع إلى ما بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله )(١) .

ويقول محمد علي المتوكل حول تأثره بالإمام الحسين‏عليه‌السلام : ( وقد تأثّرت وأنا أقرأ

____________________

(١)عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: ١٩٢ - ١٩٣.

٩٠

كتيّباً عن الإمام الحسين )، ثمّ توصل هذا المستبصر إلى هذه النتيجة قائلاً:

( عليَّ أن أدافع عن قضيّة الحسين في مقابل الذين قتلوه والذين لازالوا يتحاملون عليه إلى اليوم، وهكذا لم يعد بمقدوري أن أتراجع عن مشوار البحث، وبات لزاماً على أن أميط اللثام عمّا خفي علّي من حقائق، فكانت بداية المشوار مع فتية امتلكوا الشجاعة الكافية لخوض غمار البحث والتسليم لنتائجه مهما كانت قاسية ومهما اصطدمت بالموروث وتعارضت معه )(١) .

ويقول أحمد حسين يعقوب حول الدور الكبير الذي كان للإمام الحسين‏عليه‌السلام في استبصاره:

( وأثناء وجودي في بيروت قرأت بالصدفة كتاب (أبناء الرسول في كربلاء) لخالد محمد خالد، ومع أنّ المؤلّف يتعاطف مع القتلة ويلتمس لهم الأعذار، إلّا أنّني فجعت إلى أقصى الحدود بما أصاب الإمام الحسين‏عليه‌السلام وأهل بيت النبوّة وأصحابهم، وكان جرحي النازف بمقتل الحسين هو نقطة التحوّل في حياتي كلّها )(٢) .

ويقول التيجاني السماوي حول تأثّره بالإمام الحسين‏عليه‌السلام :

( جاء صديقي منعم وسافرنا إلى كربلاء، وهناك عشنا محنة سيّدنا الحسين كما يعيشها شيعتُه، وعلمت وقتئذٍ بأنّ سيّدنا الحسين لم يمت، فالنّاس يتزاحمون ويتراصّون حول ضريحه كالفراشات ويبكون بحرقة ولهفة لم أشهد مثيلاً، فكأنّ الحسين استشهد الآن.

وسمعت الخطباء هناك يثيرون شعورَ النّاس بسردهم لحادثة كربلاء في نواح ونحيب، ولا يكاد السّامعُ لهم أن يمسك نفسه ويتماسك حتى ينهار.

فقد بكيت وبكيت وأطلقت لنفسي عنانها، وكأنّها كانت مكبوتة، وأحسست براحة

____________________

(١) محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: ٣٤.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ١٠.

٩١

نفسيّة كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم، وكأنّي كنت في صفوف أعداء الحسين، وانقلبت فجأة إلى أصحابه وأتباعه الّذين يفدونه بأرواحهم.

وكان الخطيب يستعرض قصة الحرّ وهو أحد القادة المكلّفين بقتال الحسين، ولكنّه وقف في المعركة يرتعشُ كالسّعفة ولمّا سأله بعض أصحابه:

أخائف أنت من الموت؟

أجابه الحرّ:

لا واللَّه، ولكنّني أخيّر نفسي بين الجنّة والنار.

ثمّ همز جواده وانطلق إلى الحسين قائلاً:

هل من توبة يا بن رسول اللَّه؟

ولم أتمالك عند سماع هذا أن سقطت على الأرض باكياً، وكأنّي أُمثّل دور الحرّ، وأطلب من الحسين: هل من توبة يا بن رسول اللَّه؟ سامحني يا بن رسول اللَّه.

وكان صوت الخطيب مؤثّراً، وارتفعت أصوات النّاس بالبكاء والنّحيب.

عند ذلك سمع صديقي صياحي، وانكبّ علّي معانقاً، باكياً، وضمّني إلى صدره كما تضمّ الأم ولدها وهو يردّد يا حسين يا حسين.

كانت دقائق ولحظات عرفت فيها البكاء الحقيقي، وأحسست وكأنّ دموعي غسلت قلبي وكلّ جسدي من الداخل )(١) .

كلمات بعض المستبصرين حول أهل البيت ‏عليهم‌السلام :

إنّ الروايات التي تأمر الأمة باتّباع أهل البيت ‏عليهم‌السلام وتؤكّد على مودّتهم ومحبّتهم والاقتداء بهم واتّباع آثارهم كثيرة جدّاً، بحيث لا يمكن أن ينكرها إلّا مكابر مجانف للحقّ

ونحن في يومنا هذا نعيش في ظل أجواء تنادي بتحطيم جدران الانغلاق، وتدعو

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ٦٢ - ٦٣.

٩٢

إلى توسيع آفاق الذهنيّة بمعرفة آراء وأفكار الآخرين.

فلهذا آن الأوان ليعرف العالم كلّه مَن هم أهل البيت‏عليهم‌السلام وما هي مدرستهم؟ ليستفيدوا من عطاءاتهم الثريّة، ولينهلوا من معينهم ما يساعدهم على تحقق ما يصبّوا إليه من خير وسعادة.

ونجد في كتب المستبصرين الكثير من التحريض على هذا الأمر، منها:

يقول التيجاني السماوي:

( فإذا أراد المسلم معرفة الحق وضمان العصمة من الضلالة والنجاة يوم القيامة والفوز بالجنّة ورضا اللَّه، فما عليه إلّا بالركوب في سفينة النجاة والرّجوع إلى أهل البيت‏عليهم‌السلام فإنّهم أمان الأمة لا يقبل اللَّه عبداً إلّا من طريقهم ولا يدخل داخل إلّا من بابهم، وهو ما قرّره رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر به الأمّة مُبلّغاً ذلك عن ربّه عزّ وجل )(١) .

ويقول عبد المنعم حسن:

( ونظرة عامّة إلى منهجهم [أهل البيت‏] وكلماتهم وأحوالهم كافية للتدليل على أنّهم هم أمناء اللَّه على وحيه المنزّل على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الأمانة العظمى التي لا يمكن أن يتحمّلها من يعتريه الشيطان بين الفينة والأخرى، ولا يؤدّي حقّها من كان كلّ الناس أفقه منه، ولا يستطيع حفظها من آثر هواه وهوى عشيرته على التمسّك بأبسط مفردات الحقّ )(٢) .

ويضيف هذا المستبصر:

( أهل البيت ‏عليهم‌السلام كلماتُهم نورٌ لم أسمع بها عند الآخرين، منهجهم في تربية الأمّة وتوجيهها يجعلك تحسّ بمعنى خلافة اللَّه في الأرض، لم يشهد التاريخ بأنّهم تعلّموا على أيدي أحد، بل الكلّ يدّعي الرجوع إليهم )(٣) .

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ كل الحلول عند آل الرسول: ١٣٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) عبدالمنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: ٢٠٩.

٩٣

ويقول ياسين المعيوف البدراني حول إحدى السُبل لمعرفة مكانة أهل البيت ‏عليهم‌السلام الرّفيعة:

( إنّنا إذ نحب القرآن ونجلّه الإجلال كلّه، لأنّه منقذ البشريّة ومخرج لها من الظلمات إلى النور، فيجب أن نقرأه لا كالّذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، بل نقرأه بعقول مفتوحة وقلوب مؤمنة حتى نفهم الآيات التي تبيّن المكانة الرّفيعة لأهل البيت‏عليهم‌السلام ..

فعليك يا أخي المؤمن أن تبحث عن كتبهم لتعرفهم ولتعرف ما خصّهم اللَّه من خصوصيّات، ما أعطاها لغيرهم، وليكن مسارُ دربك نجاة لك ولغيرك من الزيف والانحراف )(١) .

ويقول حسن شحاتة حول عظمة أهل البيت‏عليهم‌السلام :

( إنّ موقعيّتهم موقعيّة الإمامة العظمى، فهم أصل الأصول في وجود هذا الكون، وهم نجوم الاهتداء من اتّبعهم اهتدى لصراط اللَّه المستقيم، ومن حاد عن طريقهم كان من المغضوب عليهم الضآلّين

فأهل البيت‏عليهم‌السلام هم مصابيح الهدى وسفن النّجاة، وهم أئمّتنا وأولوا الأمر المفروض طاعتهم بعد طاعة اللَّه كما ورد بنصّ القرآن.

وهم خزّان القرآن، وهم كواكب الصراط، وهم الصالحون، وهم أولياء اللَّه، وهم أهل الذكر المطلوب منّا سؤالهم عن كلّ شي‏ء في الدين، وهم أهل الدّين الصحيح، فوجب على كلّ موحّد عاقل أن يتبعهم في العبادة والمعاملة والعادة، إذ هم أهل القدس والطّهارة وأهل العصمة والنزاهة)(٢) .

وقد أنشد معروف عبد المجيد في مدح أهل البيت‏عليهم‌السلام مجموعة قصائد منها قصيدة (وشايعت عليّاً) والتي جاء فيها:

____________________

(١) ياسين المعيوف البدراني/ يا ليت قومي يعلمون: ٣٤.

(٢) مجلّة المنبر/ العدد: ١١.

٩٤

مهما مدحتُك يا عليّ فألكن

ومقصر في الحقّ، مهما أدّعي

من جاوز الجوزاء، يعجز دونه

مثلي وأهل الشعر لو جُمعوا معي

أنت الذي شرع الإمامة فاتحا

طوبى‏ لكم من خاتم أو شارع

يا والد الحسن الزكي وسيّد الش

هداء أوفى الأوفياء التابع

وعلي السجّاد زين العابدي

ن الزاهد المتهجّد المتورّع

والباقر العِلم الشبيه محمد

الحاضر الراضي الشكور الجامع

والصادق المنْجي المحقق جعفرٍ

كنز الحقائق والفقيه الضالع

والكاظم الغيظ الوفيّ بعهده

موسى الصبور على البلاء الخاشع

وغريب أهل البيت قرّة عيننا

كفؤ الملوك وعزّ كلّ مدفّع

ومحمّد ذي النور يسطع حوله

هذا الملقّب بالجواد، القانع

وعلي الهادي النقي المرتضى

الناصح المفتاح، دونك أو..فعِ..!

والخالص الحسن الكتوم لسرّه

العسكري الشافع المستَودع

والقائم المهديّ كاشف غمّنا

بُقيا النبوّة والدليل القاطع

يا غائباً، طال الغياب، وعيننا

تشتاق طلعتك البهيّة، فاطلع

يا راجعاً بعد الذهاب، قلوبنا

مُدّت إليك، كما الأيادي، فارجع

يا كاشف الغم الجسيم، شفاهنا

نادتك من وسط المظالم، فاسمع

يا صاحب الأمر الحكيم، إلى متى

تبقى الأمورُ بلا لواءٍ جامع؟!

والدار يغزوها الفساد مُدَمدماً

كالسيل يأتي من محيط مترَع

يا صاحب الدّار التي ممّا بها

قد آذنت بتشقّق وتصدّع

عجّل بسيفك، فالدواء بحدّه

للجور والكفر الذئوم الناقع

يا حجّة اللَّه، الذي بظهوره

يتفرّق الطاغوت بعد تجمّع

إظهرْ، فليس الماء في قيعاننا

للظامئين سوى سرابٍ خادع..!

مهما تبعتك يا علي، فعاجزٌ

من للكسيح وراء سهم مسرع..؟!

٩٥

أنت الشهاب، أبو الشهاب، وكلّكم

شهبٌ تحلّق في الفضاء المهيَع

أنت الأمير أبو الأمير، وكلّكم‏

أمراءُ عزّ في زمان خانع

أنت الإمام أبو الأئمّة من لكم

خُلقَ الوجود، وما أنا بالصاقع..!

أنت الشهيد أبو الشهيد، وكلكّم

شهداء حقٍ في العصور مضيّع

بيد الأولى سلبوا الولاية عنوةً

وتوارثوها ذات يوم مُفجع..!

ويد الأولى في مكّة قد أطلقوا

والأدعياء ذوي الدّعي ابن الدّعي

والطامعين الطالبين مناصباً

والساقطين من اللئام الوُضّع

القلب ضاق بقيحه وجراحه

والعين كمهاء بفيض الأدمع

فإذا شكوت، فللذي يُشكى‏ له‏

وإذا فزعت، فحيدرٌ هو مفزعي

وهو الملاذ إذا المقابر بُعثرت

وسُئلتُ: هل من ناصر أو شافع..؟!

شايعتُ من ردّت له الشمسُ التي

ردّت إذا حلّ الغروبُ ليوشع

فإذا مَدَحتُ، فمدحتي مبتورةٌ

إن لم تكن مقرونة بتشيّعي..!!(١)

الدّافعُ الثّاني:

التعرّف على واقع أهل السنّة

إنّ من أهمّ العوامل التي تمهّد للسنّي الطريق للتخلّي عن مذهبه بعد التأثّر بشخصية أهل البيت‏عليهم‌السلام والانبهار بمدرستهم الفكريّة والعقائديّة، هي مسألة التعرّف على واقع مذهب أهل السنّة.

وإليك فيما يلي تصريحات بعض المستبصرين حول مذهب أهل السنّة، والتي جعلتهم بعد الحصول على البديل المناسب أن يتخلّوا عن مذهبهم السابق.

يقول صالح الورداني:

____________________

(١) معروف عبد المجيد/ بلون الغار بلون الغدير: ٢٠-٢٣.

٩٦

( أبسط ما يُقال في عقيدة أهل السنّة أنّها عقيدة حكوميّة. عاشت في أحضان الحكّام منذ نشأتها وحتى اليوم، وأخذت من هؤلاء الحكّام الدعم والشرعيّة التي أتاحت لها الاستمرار والانتشار والبقاء..

وهذا هو العامل الوحيد الذي جعل هذه العقيدة في مركز الصّدارة وجعل منها عقيدة الأغلبيّة، إذ هي في حقيقتها لا تملك أيّة مقوّمات تكفل لها البقاء والانتشار..

إنّ عقيدة أهل السنّة في حقيقتها عقيدة هشّة خلقت لمجاراة الواقع وإضفاء المشروعيّة عليه، وكان يمكن لها أن تنتهي بانتهاء هذا الواقع لولا احتضان الحكام لها..

ولقد قدّر لعقائد كثيرة أن تصبح في ذمّة التاريخ على الرغم من كونها تحمل الكثير من المقوّمات التي تكفل لها الاستمرار والبقاء، وسبب ذلك يعود إلى معاداة الحكام لها وسعيهم الدائم لاستئصالها..

ونتيجة لحالة الأمن والدعم التي واكبت عقيدة أهل السنّة منذ نشأتها في العصر العبّاسي وحتى الآن..

ونتيجة لالتفات الجماهير حولها وتحوّلها إلى عقيدة الأغلبيّة..

ونتيجة للدعاية الواسعة التي واكبتها..

ونتيجة لحالة الكبت والبطش والتنكيل التي لاحقت وطوّقت العقائد والاتّجاهات الأخرى المنافسة لها والتي أدّت في النهاية إلى القضاء عليها وانحسار بعضها في ركن مظلم ومحاصر بشتى الفتاوى الإرهابيّة..

نتيجة لهذا كلّه وضعت عقيدة أهل السنّة في مقام عال بعيد عن الشبهات واعتبرت الامتداد لعقيدة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والسلف الصالح، مما نتج عنه بالتالي اعتقاد كونها عقيدة الفرقة الناجية من النار، من التزم بها وسار على دربها نجا من عذاب النار، ومن تخلّف عنها وخالف نهجها كان من أصحاب دار البوار..

وعاش المسلمون في هذا الوهم الذي باركه الحكام وفقهاء السلاطين تحت حراسة كمّ هائل من الرّوايات المُختلقة والفتاوى.

٩٧

من هنا لم يجرؤ أحد على الخوض في هذه العقيدة أو المساس بها، حيث أنّها اعتبرت كجزء من الدين والمساس بها يعتبر مساساً بالدّين..

وظلت العقائد والاتّجاهات الأخرى محل نقد وطعن وتشويه على مرّ الزمان،بينما بقيت عقيدة أهل السنّة في برج عال تحيط بها هالة من القداسة والعصمة لا تتيح لأحد أن يقترب منها(١) .

ويشير صالح الورداني إلى هذه الحقيقة أيضاً في كتاب آخر له، قائلاً:

( إنّ أهل السنّة بفقهائهم ومؤسّساتهم يواجهون الآخرين في كلّ عصر بآراء واجتهادات تمّ دعمها من قبل الحكّام وأوهموا العامّة أنّها نصوصاً..

ولقد منحت الحكومات المتعاقبة أهل السنّة فرصة التمكّن والسيادة على الآخرين، مما يسّر لهم التغلغل والانتشار بين الجماهير على حساب التيّارات الأخرى من معتزلة وشيعة وغيرهم، وقد أدّى هذا الوضع إلى حصول أهل السنّة على صلاحيّة محاكمة الآخرين والبطش بهم..

إنّ أحداث التاريخ تؤكّد أنّ أهل السنّة عاشوا واستمرّوا بفضل دعم الحكّام، ولو كان الحكّام قد تخلّوا عنهم لكانوا اندثروا بأفكارهم وآرائهم كما اندثرت فرق أخرى كثيرة لم تجد عوناً ولا دعماً من القوى الحاكمة..

وهذا الدعم لأهل السنّة من قبل الحكّام إنّما هو مستمر حتى اليوم ليس لشي‏ء إلّا لكون نهج أهل السنّة يمثّل أكبر دعامة يمكن أن ترتكز عليها الحكومات في مواجهة التيّارات الأخرى التي تهدد وجودها ومستقبلها.. )(٢) .

ويقول صالح الورداني أيضاً حول هذا الموضوع في كتابه (عقائد السنّة وعقائد الشيعة، التقارب والتباعد):

____________________

(١) صالح الورداني/ أهل السنّة شعب اللَّه المختار: ٥-٦.

(٢) صالح الورداني/ الكلمة والسيف: ١٥.

٩٨

والسنّة حاضرة والشيعة غائبة..

هذه الجملة تلخّص لنا حركة التاريخ الخاص بالسنّة والشيعّة..

السنّة كانت دائمة الحضور وقد منحت الفرصة كاملة للبروز والانتشار..

والشيعة كانت دائمة الغياب بفعل الحصار والبطش والإرهاب..

لأن السنّة كانت على وئام مع الحكّام وتدين لهم بالسمع والطاعة برّهم وفاجرهم فقد منحت حريّة الدعوة وشرعيّة التواجد..

ولأن الشيعة تحمل راية آل البيت‏عليهم‌السلام الّذين يخشاهم الحكّام وتدين بالطاعة والولاء لأئمتهم الأطهار لم تنل رضا الحكّام وأخرجت من دائرة الإسلام فغابت عن الأنام..

ولأن السنّة كانت ظاهرة فقد أصبحت معروفة..

ولأن الشيعة كانت غائبة فقد أصبحت مجهولة..

ولكون الشيعة خصم للسنة غائب عن الأنظار فقد كثرت من حوله الشائعات ولفّقت له شتى الاتهامات التي تحوّلت بمرور الزمن إلى حقائق بنيت على أساسها مواقف ودانت بها مذاهب وصاحب الحق غائب..

هكذا يجسّم لنا التاريخ قضيّة السنّة والشيعة وكيف تحوّلت إلى لعبة سياسيّة في أيدي حكام بني أميّة وبني العبّاس وسائر الحكام..

وسوف تستمر السنة أداة الحكام على مر الزمان في مواجهة الشيعة، وبدونها لن يجدوا الشرعيّة التي تبرّر استمرارهم في الحكم..

والسنّة بدورها سوف تظل تتحصن بالحكام وتستمد منهم القدرة والدعم على مواجهة الشيعة والاستمرار في الصدارة..

السنّة تحتاج إلى الحكام، والحكام يحتاجون إلى السنّة، تحالف مصيري دائم، والضحيّة هي الشيعة..

٩٩

من هنا يبدأ تأريخ السنّة والشيعة، وهنا ينتهي )(١) .

ويلخص صالح الورداني الكلام حول تقييمه لمذهب أهل السنّة بهذه الوضعية:

( لقد عشت في دائرة الفكر السنّي لفترة طويلة أحسست فيها بالخلل والوضيعة غير السويّة.

أحست بأن المذهب السنّي هو مذهب حكومي تفوح منه رائحة السياسة وتشعر فيه بالخلل الذي لا يريح عقلك ولا يجيب على التساؤلات الكثيرة التي تدور في نفسك )(٢) .

ويشير محمد الكثيري أيضاً إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( المهم هو أنّ السلطات الحاكمة للمجتمع الإسلامي، خصوصاً مع بداية القرن الرابع قد أضفت الشرعيّة المطلوبة على بعض المدارس الأصوليّة والفقهيّة.

وتلقّاها عامّة الجمهور بالقبول، وأضفوا عليها مع مرور الزمن القداسة والاحترام، حتى أضحت تمثّل الإسلام في شكله ومضمونه، وعُدّ الخارج عنها مارقاً عن الإسلام، كافراً ضالاً وفي أحسن الظروف مبتدعاً، لذلك أحلّوا دمه وماله.

في المقابل عاشت فرق ومذاهب أخرى في الظل، ليس فقط لشذوذها الفكري والعقائدي، وركوبها الغلوّ الذي تنفر منه فطرة أغلبيّة الناس. ولكن لمعاداتها السلطات السياسيّة القائمة.

وأفضل مثال على ذلك الفرقة الشيعيّة بعامة والإماميّة الاثنا عشريّة بخاصّة، فإذا كانت هذه الفرق لم تعترف بشرعيّة أغلب السلطات السياسيّة التي قامت على طول التاريخ الإسلامي، فإنّ ردّ فعل تلك السلطات كان مماثلاً وزيادة بعض الشي‏ء.

فشوهّت أفكار الفرق المعارضة وحُرّفت عقائدها وقُتل دُعاتها ورجالات دعوتها وأرباب مدارسها، ولم يُسمح لها بنشر مذاهبها إلّا بطرق سريّة وخفيّة.

____________________

(١) صالح الورداني/ عقائد السنّة وعقائد الشيعة، التقارب والتباعد: ٢٦.

(٢) مجلة المنبر/ العدد: ٢٢.

١٠٠