البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية0%

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 146

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

مؤلف: آية الله السيد محمد حسن القزويني الحائري
تصنيف:

الصفحات: 146
المشاهدات: 63970
تحميل: 5188

توضيحات:

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 146 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63970 / تحميل: 5188
الحجم الحجم الحجم
البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

مؤلف:
العربية

المسألة السّادسَة

قد نسب الوهابيون إلى الإمامية أموراً ليست في كتبهم، ولا توجد في أصول مذهبهم:

منها: تجويزهم الطواف حول مراقد أئمتهم والحج إلى تلك المشاهد، اكتفاءاً منهم به عن الحج إلى البيت العتيق.

ومنها: تقديمهم القرابين والنذور للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام ، والحال أن النذر لا يكون إلاّ الله.

ومنها: اتخاذهم تلك المراقد مساجد يعبدونها ويصلون إليها كما يصلى إلى الكعبة.

فههنا دعاوى ثلاثة:

الأولى: تجويز الشيعة الطواف حول المراقد المشرفة... ولا يخفى أنها مدفوعة، لعدم جوازه عند الموحدين فضلاً عن المسلمين، فلو طاف أحد حول المراقد قاصداً به العبادة فهو كافر مشرك، وأما إذا طاف لا بذلك القصد بل بقصد التبرك والتشرف أو قاصداً به الإلحاح في طلب النجاح فلا يكون ذلك كفراً وشركاً «ولكل امرئ ما نوى».

ولا يكون الطواف في حد نفسه عبادة حتى يحرم إيقاعه مطلقاً، وإنما هو من الأفعال التي لا تكون عبادة إلاّ إذا أتى العبد به بقصد العبادة.

وقد نص الشارع على أن الأعمال بالنيات، ويزيدك وضوحاً أن الشكر

٨١

إذا وقع لله كان عبادة له، بخلاف ما إذا وقع لغيره تعالى، ولذا جاز الأمر به لغيره في قوله تعالى:( أن اشكر لي ولوالديك ) .

وأوضح من ذلك وقوع الأمر بالسجدة لآدمعليه‌السلام ، ولقد أجمع المفسرون لقوله تعالى:( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجد ) على أن هذه السجدة ليست سجدة عبادة بل سجدة تعظيم، نظير سجدة الملائكة لآدمعليه‌السلام .

فاندفعت شبهة الوهابية كما اندفعت أيضاً شبهة من يقول: إن أهل التوحيد كيف لا يجوزون عبادة غير الله تعالى؟

والحال أن القرآن ناطق بجوازها من قوله تعالى:( وإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) ومن قوله تعالى( يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) وقوله تعالى( ورفع أبويه على عرش وخروا له سجد ) ؟؟

مضافاً إلى أن عليها عمل المسلمين، حيث يطوفون حول البيت ويعظمون الأحجار بالاستلام، فنقول - جواباً عن شبهتهم ودفعاً لتسويلاتهم -:

إن المقصود بالطواف ليس عبادة البناء، وإنما هو كالسجود نحو الكعبة يراد به تعظيم المنسوب إليه، لأن البيت بيت الله تعالى، وأن سجدة الملائكة لآدم لم تكن سجدة عبادة، وإلاّ كان لإبليس أن يجيب بأنها شرك ينافي التوحيد، لا إنه يستكبر ويقول: أنا خير منه.

الثانية: دعوى تقديم الإمامية الذبائح والنذورات إلى المشاهد، ويكذبها

٨٢

الرجوع الى مصنفات الإمامية المصرحة بأن النذر والعهد والأضحية لا تكون إلاّ لله تعالى(١) .

نعم المشاهد مأوى الفقراء والمساكين، فكل من يقدم إليها النذر أو القربان غرضه التفريق على المستحق لا غير، فكل من قال بغير ما قلنا فقد كفر بالله، وكل من نسب ذلك إلى الإمامية فقد كذب وافترى.

الثالثة: دعوى أن الإمامية عباد القبور، فيسجدون إلى القبر.

وفيها: أما أولاً: فلأن الإمامية لا يصلون الى أي قبر كان، ولا جرت عادتهم عليها، فلو صلوا أحياناً فذلك لا لكون القبر عندهم قبلة، وكيف يكون ذلك عند من يدين بالإسلام ويقول: بأن القبلة هي الكعبة؟؟ فهل رأى أحد أن الإمامية يضحون أو يذبحون على خلاف القبلة أو نحو قبور الأئمة مع أن مذابحهم بمرأى ومنظر من عامة الخلق؟

جواز الصلاة إلى القبر عن كراهية

نعم الصلاة إلى القبر مسألة فقهية لا دخل لها بالعقائد الدينية، ولم يذكرها واحد من أهل الفضل في أصول العقائد. ألا ترى أن العلماء قاطبة اختلفوا في الصلاة في أماكن مخصوصة كراهية وتحريماً؟ مثل الصلاة في الحمام وبيوت الغائط وجواد الطرق وإلى نار مضرمة وإلى الصور والتماثيل أو إنسان مواجه مع أن القائل بالحرمة وفساد الصلاة فيها لم يقل بالكفر والشرك.

وفي البخاري: باب كراهة الصلاة في المقابر، وفيه أيضاً: باب من صلى

____________________

(١) وهي جائزة في أي مكان كان حتى في بيت المسلم نفسه.

٨٣

وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به وجه الله عزّ وجل. ثمّ ذكر ما يدل على جواز الصلاة إليها.

قوله: «فأراد به وجه الله» شاهد على أن مورد البحث نفس الصلاة إلى القبر، كما يصلي الإنسان إلى أي جدار كان، من غير أن يجعل القبر مسجداً يصلي نحوه كما يصلي إلى الكعبة، وإلاّ فلا وجه لاختصاص الحرمة وفساد الصلاة بالصلاة إلى القبر، بل يعم سائر الصور التي قالوا فيها بالكراهة.

بل لو صلى الإنسان نحو الحائط وجعله قبلة لصلاته عوضاً عن الكعبة كانت صلاته باطلة، ولو صلى لا بهذه الجهة كانت صلاته صحيحة.

ومثل ذلك الصلاة نحو القبر حيث أراد المصلي بصلاته وجه الله لا وجه صاحب القبر، فإنها إذ لم يرد من الشرع ما يدل على الفساد والحرمة كانت صحيحة، ولذا ذهب في البخاري إلى الكراهة.

واستدل على الجواز بأن عمر رأى أنس بن مالك يصلي عند القبر، فقال: القبر القبر، ولم يأمره بالإعادة.

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلاها. وبأنه لما مات الحسن بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثمّ رفعت، أورده في باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور.

وأما ثانياً: فلأن ما استدل به ابن تيمية بما عن عائشة أنه: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي مات فيه: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.

٨٤

فالجواب عنه: إن الحديث لا دلالة له على حرمة الصلاة نحو القبر إذا أراد المصلي بها وجه الله تعالى، وإنما يدل على لعن اليهود على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبدونها كما يعبدون موسى وعيسى، أو يجعلونها قبلة نظير بيت المقدس عندهم والكعبة عند المسلمين.

كلام ابن عبد الوهاب وابن تيمية في الصلاة إلى القبر

ويشهد لذلك ما في منهاج السنة من رواية مالك في الموطأ أنه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

فإن اذل الحديث ناطق بحرمة اتخاذ القبر مسجداً يسجد إليه، ومعلوم أن ذلك شرك لو اعتقده المصلي.

ويدل على ذلك أيضاً قول عائشة: «غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً».

قال السندي شارح النسائي: مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحذر أمته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم، من اتخاذهم تلك القبور مساجد: إما بالسجود إليها تعظيماً، أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها.

وعن النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء: إنما نهىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولذا قال في الحديث: «ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً» انتهى.

٨٥

وقال جلال الدين السيوطي في شرحه على النسائي:

قال البيضاوي: لما كان اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنها، ويجعلوها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثاناً لعنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنع المسلمين من مثل ذلك، وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه فلا يدخل في ذلك الوعيد.

٨٦

المسألة السابعة في هدم المساجد المشيدة حول المراقد المشرفة

مذهب الوهابية على وجوب هدم المساجد المبنية حول المراقد المشرفة واحتجوا لذلك: بأنها أسست على غير تقوى من الله، وبحديث عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة فيها تصاوير، فقال رسول الله: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

وقال الإمامية - بل وسائر المسلمين - على جواز البناء وحرمة الهدم، لكونها من مساجد الله الواجب تعظيمها، نظير مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسجد الأموي وبيت المقدس الذي دفن فيه كثير من الأنبياء من ولد إسحق، وعليه السيرة القطيعة أيضاً، وفتوى العلماء بأن من اتخذ فسحة من المكان مسجداً ولو كان في ناحية القبر - نظير مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبره وقبر أبي بكر وعمر - جاز ذلك، كما عرفته من كلام البيضاوي وجلال الدين السيوطي.

والجواب عن الرواية:

أولاً: أنها معارضة بما في البخاري وغيره من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلاها»، وبأنه لما مات الحسن بن عليعليه‌السلام ضربت امرأته قبة على قبره إلى سنة فإنه يدل على جواز الصلاة في ناحية القبر بالملازمة الواضحة.

وثانياً: أن كون النصارى واليهود شرار الخلق ليس من جهة بناء المسجد على القبر، وإلاّ لما مدح الله تعالى المؤمنين بقوله:( وقال الذين غلبوا على

٨٧

أمرهم لنتخذن عليهم مسجد ) ، بل لأن اليهود والنصارى زادوا على كفرهم كفراً آخراً، حيث أشركوا لأجل تعظيمهم صور الصالحين منهم بجعلها في معابدهم نظير الأصنام المعلقة في الجاهلية على الكعبة.

وأين هذا ممن جعل فسحة من الأرض مسجداً لا يريد به غير التوجه إلى الله ولا تعظيم أحد غير الله؟

والكتاب العزيز ناطق بجوازه، ففي تفسير الجلالين:( وقال الذين غلبوا على أمرهم ) وهم المؤمنون( لنتخذن عليهم ) أي حولهم «مسجداً» يصلى فيه، وفعل ذلك عن باب الكهف.

وفي تفسير الرازي( لنتخذن عليهم مسجد ) نعبد الله فيه ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك - انتهى.

وإذا جاز اتخاذ المسجد على باب الكهف بنص القرآن استبقاء للأثر من دون أن يكون شركاً، فها نحن نعمل بما جوزه القرآن إلى أن يثبت بنص - يعتمد عليه - النسخ أو التخصيص المخرج عن حكمه.

٨٨

خاتمة : مباينة الوهابية لسائر المسلمين

في بيان ما عليه الطائفة الوهابية، وهي عدة أمور اتخذوها شعاراً لهم، منها مباينتهم مباينة عظيمة لسائر طوائف المسلمين، حتى إنهم جعلوا ديارهم ديار توحيد وديار غيرهم ديار شرك، كما هو دأب الخوارج في أصول مذهبهم. وهذه مباينة مذمومة شرعاً، كيف لا وهي تفرق منهي عنه في قوله تعالى:( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقو ) وقوله سبحانه:( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ) .

وفي البخاري في كتاب الفتنة عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: هم من أهل جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها.

وليت علماء الوهابية الذين ألفوا رسائل في أصول التوحيد وبينوا فيها أنواع الشرك والكفر يعدون من أقسام الكفر كفر التفرقة عن الجماعة، نظراً إلى قوله تعالى( لست منهم في شيء ) وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام».

ومنها: أن الوهابية أصحاب الزلازل والفتن بنص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما

٨٩

في البخاري في كتاب الفتن عن أبي عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مرتين: اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا. قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان.

وفيه أيضاً عن سالم عن أبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قام إلى جنب المنبر فقال: الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان.

وأيضاً عن نافع عن ابن عمر أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: ألاّ إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان.

وفي شرح السنة عن عقبة بن عمر قال: أشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده نحو اليمن وقال: الإيمان ههنا، إلاّ أن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرن الشيطان.

في شرك المحبة والرد عليه

ومنها: أنهم جعلوا من أقسام الشرك «شرك المحبة» كما في كتاب مجموعة التوحيد، واستندوا في ذلك إلى قوله سبحانه:( ويجعلون لله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ) .

وفيه: أنه لم يتحصل معنى لما جعلوه شركاً، فإن أرادوا أن مجرد محبة غير الله شرك لزم عليهم شرك المسلمين جميعاً لمحبتهم آبائهم وأولادهم وأموالهم وأحبائهم، ولم يقل به أحد ولم يأت به شرع، وإن أرادوا أن المحبة ينتهي بها الأمر إلى عبادة المحبوب من الأنبياء والصديقين، قلنا: إن الانتهاء إليها ممنوع ولا ملازمة إلاّ عند الغلاة، وما عداهم من المسلمين لا يعبدون من يحبونه

٩٠

من نبي أو صديق بل يحبونهم لحب الله، لا إنهم يحبونهم كحب الله، فلا يجدون في أنفسهم إلاّ هذا المقدار من المحبة والمودة للأنبياء والأولياء. ولذا لم يقولوا في حقهم إلاّ ما قاله الله ولا يثبتون لهم إلاّ ما أثبته الله من القرب والمنزلة ورضي لهم من الشفاعة.

والعجب أنه لو سئل من الوهابية: إنكم تحبون رسول الله؟ فيقولون نعم، مع أن محبتهم للنبي لا ينتهي الأمر بهم إلى الشرك الخفي، فكيف تنتهي محبة غيرهم لولي أو صديق أو إمام معصوم إلى الشرك؟

ومنها: اجتراؤهم على الله ورسوله بهدم القباب الطاهرة لأئمة البقيع الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأن ذلك منهم إنكار لمودة ذي القربى التي هي من الضروريات الثابتة بالكتاب والسنة لقوله تعالى:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) فأقدمت جماعة من الأعراب على تخريب قبور أهل بيت رسول الله، كما أقدمت السابقة منهم على قتلهم، كم ترك الأول للآخر؟ وكم اقتفى المتأخر أثر المتقدم؟ فتركوا جميعاً وصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل بيته وراء ظهورهم.

هذا مع أن في الهدم بعد البناء من هتك احترام الميت ما لا يخفى...

كيف لا والحال اتفقت المذاهب على أن المشي على قبر المؤمن والاتكاء به والجلوس عليه هتك لحرمته؟ فبالأولوية القطعية يكون هدمه وتخريبه هتكاً لها.

٩١

هدم الوهابية للقبور

والذي ينبئك عن أن هدم قبور أئمة البقيع هتكاً لهم وتعرضاً بسوء إليهم ما نشره السلطان ابن سعود في المفاوضات الهندية قائلاً في ص ١٧:

«ذكرتم أسئلة ستة تتعلق بقبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيته، فقد أعلنا غير مرة رأينا في أن قبر النبي وبيته ندافع عنه بأموالنا وأرواحنا وبكل ما نملك ولم نقف أمام المدينة المنورة ونكتفي بحصارها إلاّ حرمة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمسجده».

وقال أيضاً في بعض مراسلاته إلى بعض العلماء:

«وبعد، فإننا نذكرهم أن القبة النبوية لم يمسها أحد بسوء ولم يخطر ببالنا قط أن نمسها بسوء، وإن للرسول حرمة لدينا لا تدانيها حرمة» انتهى.

فإنه كما ترى معترف بأن الباعث لحفظ مرقد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو احترامه بحيث لو مسته يد التخريب كان ذلك سوءاً منافياً للإحترام، وليته أيضاً يعترف بأن احترام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحترام أهل بيته موجب لحفظ مراقدهم وعدم مسهم بسوء، وإلاّ فأي فرق بين الاحترامين؟ أم أي تفكيك بينهما.

والحال أن ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبعاضه بنص القرآن( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) .

وفي البخاري: «فاطمة بضعة مني» فهم أبعاضهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واحترامهم احترامه، وهتكهم هتكه،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا كان هدم

٩٢

قبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مخالفاً لقول الله تعالى وتركاً للسنة ومساً بسوء كان هدم قبور آل الرسول كذلك أيضاً، والفرق تحكم بحت وقول بغير علم.

البناء على القبور في الأرض المسبلة

ومنها: ذهاب علماء الوهابية إلى أنه لو كان البناء على القبور في أرض مسبلة للدفن وجبت إزالتها لأنها تضيق على الناس، وجعلوا هذا وجهاً مصححاً لهدم القباب في البقيع. لكنه يتوجه عليهم:

أولاً: سؤال الوجه في هدم سائر البناءات التي ليست في البقيع، أو لم توجب الضيق على الناس، فإنه يحرم هدمها حيث أنه تصرف في أموال المسلمين وتضييع عليهم.

وثانياً: إن ذلك في الأراضي المسبلة للدفن دون المباحات الأصلية التي منها البقيع، حيث لم يعهد من أحد وقفها وتسبيلها للدفن، بل ولم يعهد أن أحداً ملكها ثمّ سبلها، فعلى من يدعي الوقف والتسبيل إثبات ذلك كله.. وعلى ما ذكرنا يستحق المسلمون منها مقدار حيازتها بدفن أو بناء على قبر.

وثالثاً: إن الهدم والتخريب فيما لو وجد بناء على قبر في أرض موقوفة للدفن وعلم أصله وأنه وضع بغير حق، وأما لو وجد بناء في أرض مسبلة ولم يعلم حاله ترك على حاله، لاحتمال أن يكون وضع بحق واللازم حمل فعل المسلم على الصحة فكيف بأفعال المسلمين في طول هذه المدة؟ فإن تلك البناءات والقباب تناولتها أيدي المسلمين في كثير من الأحقاب، وكانت بمرأى من الخلفاء والعلماء ولم ينكرها أحد ولا ادعى أنها بنيت على غير حق إلى أن

٩٣

ظهرت الوهابية فأقدمت على هدم تلك القباب الطاهرة ورفع آثارها وهدم المساجد المبنية حولها، بلا حق أظهروه ولا عدل أفشوه، بل ذلك خلاف منهم لله ولرسوله ولسيرة الخلفاء من بعده.

تجاسر الوهابيين على المسلمين

ومنها: تجاسر الوهابيين على المسلمين بقتلهم وهتك أعراضهم ونهب أموالهم، حتى إن السلطان أقر على ذلك كما أعلن بذلك في المنشور، بعنوان المفاوضات لوفد جمعية خدام الحرمين، لكن جلالة السلطان ابن مسعود برأ نفسه من كل عمل عمله أي رجل من قواده وجنوده مما لا يجوزه الشرع قياساً لحاله بحال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحال قواده بحال خالد بن الوليد حين بعثه النبي إلى رهط من العرب - لا على قتالهم - فخدعهم خالد وقتلهم، فلما انتهى الخبر إلى النبي رفع يديه نحو السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك من صنع خالد» ثلاث مرات.

أقول: مقايسة حال جلالة السلطان بحال خالد بن الوليد ليست من تمام الجهات، لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبعث خالداً للمقاتلة، وإنما هي شيء أتى به خالد من عند نفسه، والجنود المبعوثة من جانب السلطان إلى الحجاز إنما بعثت للقتال والجدال مع الخصم.

ومعلوم أن في الأقطار الحجازية من تكون ذمته بريئة ولا عهد ولا ميثاق له في المقاتلة والمجادلة، مع ما فيها أيضاً من النساء والصبيان وغيرهم من الضعفاء، والواجب على السلطان العارف بحقوق الرعية عدم التجاوز عن الحدود الشرعية المقررة في باب الجهات والدفاع عن البلاد، فلا يبعث إليها من يسومهم سوء

٩٤

العذاب ويعامل مع المسلمين المبرئين معاملة الألمان في بلاد بلجيكا والفرنسيين، ويسايرهم بسيرة الأوربيين.

أو يقال في مقام الاعتذار للوفد الهندي كما في المفاوضات المطبوعة اليوم:

«وليس ما وقع في الطائف بدعاً في تاريخ الحروب في العالم، فهذه أفعال الألمان في القرن العشرين مسطورة في بطون التاريخ من أعمال جنودهم في بلاد بلجيكا وبلاد الإفرنسيين، بل هذه أعمال جنود الحلفاء وسيرتهم في سائر البلاد التي دخلوها» انتهى.

فإذا كان هذا حال المسلمين في الجهاد وفتحهم البلاد، وهذا عذرهم إذا اعتدوا على واحد من أنفسهم وإخوانهم في الدين، فعلى الإسلام السلام، لأن سلوك مسلك الكفار خروج عن الدين. كيف لا؟ والحال أن الكفار لا يرون دون إنجاح مقاصدهم لواحد منهم أو من غيرهم عهداً ولا ذمة، وأين هذا من دين المسلمين المؤدبين بآداب سيد المرسلين؟؟

حتى إنهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل لهم في جهادهم شرائط شرعية واجبة الرعاية. التي لا يراعي واحداً منها أحد من الكفار والمشركين.

ثمّ إن ما قيل أو يقال في مقام الاعتذار من ناحية جلاله سلطان نجد ينافي ما صدر منه في ص ١٦ من المنشور المطبوع باسم المفاوضات ما هذا نصه هو:

«إن ديننا دين الإسلام ومرجعنا في أعمالنا كتاب الله وسنة رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وما عليه الأئمة الأربعة، الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أبو حنيفة، والإمام أحمد رحمهم

٩٥

الله تعالى. فإذا كان لدى أحد من الناس حجة يوردها علينا في أمر من الأمور فيما يتعلق بهذه الأقسام الثلاثة من كتاب الله أو سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من أعمال السلف الصالح أو من أقوال الأئمة الأربعة فليتفضلوا علينا بها لنكون أول المطيعين» انتهى.

أقول: إن كان الأمر كما ذكره جلالة السلطان وصدر من حضرته هذا الإعلان، فإني أقسم عليه برب الكعبة أن يراجع هذه المسائل المحررة في هذه الرسالة حتى يتبين لحضرته الحق وينكشف لديه الصواب، ويظهر له أن ما صنعته الأعراب من هدم المآثر الإسلامية لو كان بأمر منه فليتدارك، وإلاّ فالمشتكى إلى الله تعالى ونحتسب عنده ذلك.

ولنا التسلي بما صدر قبل الإسلام من تخريب مردة الدين الكعبة والبيت المقدس وسائر الأماكن المشرفة، وكذلك ما صدر بعد الإسلام مما صنعه يزيد بن معاوية من قتله ابن رسول الله وتركه تلك الجسوم الطاهرة على وجه الأرض بلا غسل ولا كفن ولا دفن، ثمّ عطفه على تخريب الكعبة وإباحته المدينة، بل وما صنعه الحجاج في واقعة ابن الزبير ورميه الكعبة بالمنجنيق..

ثمّ أقول: لو كانت ذمة جلالة السلطان في الواقع مشغولة، فالتبرئة لا تدفع عن حقوق الناس المتعلقة بالنفوس والأموال، بل الواجب أداء حضرته ما عليه من الحقوق التي صار هو سبباً لتضييقها على صاحبها، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معلوم أنه كان بريء الذمة، وإنما تبرأ جهاراً ليعلم الناس بأن ما فعله خالد من القتل والنهب خلاف لله ولرسوله، ولكنه مع ذلك أرسل علياًعليه‌السلام لتدارك ما أتلفه خالد على الرهط وجنى عليهم. وأين هذا من صنع السلطان؟

٩٦

فالقياس الصحيح بحال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقتضي أن يصنع السلطان مع المسلمين الذين جنت عليهم جنوده وقواده مثل ما صنع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أدائه رسوم الجنايات والتعويض لهم بما أخذ منهم، فإن لكل مؤمن برسول الله أسوة حسنة.

ومنها: أن الوهابية منعوا عن الحرية المذهبية في الديار النجدية والحجازية، وضيقوا على المسلمين في الأخذ بمذهبهم وما أباحه الشارع لهم على طريقتهم، فجعلوا يرمون من قال: يا محمد، ويا رسول الله، بالكفر والشرك، ومنعوا الناس من الترحيم والتذكير والتسليم في أوقاتها، ومنعوا عن مسح قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والالتصاق به والتوجه إليه حال الدعاء، ومنعوا عن شرب التتن وغير ذلك مما لم يصرح الشارع بحرمته والانتهاء عنه - لا خصوصاً ولا عموماً.

منع الوهابيين عن الحرية الدينية

وقد أعلنوا - كما في ص ١٧ من المفاوضات الهندية:

«إن كل مسلم حر في كل قول أو عمل يجيزه الإسلام، ونمنع من كل قول أو عمل يحرمه الإسلام، إن الحجاز هو مصدر الإسلام وأساسه، فإذا لم تكن الكلمة العليا فيه لكتاب الله ولسنة رسوله ولما كان عليه السلف الصالح، ففي أي مكان تكون الكلمة العليا لهذه الأسس العظيمة» انتهى.

والجواب عن هذا الإعلان: إن المراد من الحرية المذهبية المعروضة لدى السلطان ليست ما أقدمت عليه الأمم الأوربية كي يستحق الوفد هذا الجواب

٩٧

منه: وإنما يراد بها ما أعلنه الشارع في كتابه وسنة رسوله بقوله:( لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعه ) .

ومقتضى الآية - مضافاً إلى ما عرفت في المقدمة - إباحة ما منعت عنها الوهابية وزجرت الناس عليها، كما أن مقتضى قوله تعالى:( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتاً أو دماً مسفوح ) إباحة التدخين، فإن الآية وردت في تلقين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طريق إبطال شريعة اليهود حيث حرموا بعض ما رزقهم الله افتراء عليه.

والتعبير عن عدم وجود الحرام بعدم الوجدان للإشارة بعد إلقاء الخصوصية إلى كفاية عدم الوجدان في الرخصة الحلية، وإنه طريق إلى معرفة الأحكام الشرعية.

ومثل هذه الآية في الدلالة على حلية شرب التتن قوله تعالى:( وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) حيث دلت على كفاية خلو ما فصل من المحرمات عن ذكر حرمة شرب التتن في الحكم بعدم الحرمة.

ويكفي هذا المقدار من الآيات في نهوض الحجة على البراءة الشرعية وتكون هي الكلمة العليا في الأقطار الحجازية.

ولا يجب على المسلمين أن يجتمعوا على مذهب واحد، وإنما يجب عليهم اتباع الكتاب والسنة حسبما أدت إليه أنظارهم لقوله تعالى:( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، ولقوله سبحانه:( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا

٩٨

قومهم إذا رجعوا إليهم ) وقوله تعالى:( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .

وفسر أهل الذكر بالعلماء من غير حصر في واحد أو أزيد، فهم المرجع للعوام، كما أن المرجع للعلماء الكتاب والسنة.

وليس في آية أو رواية من حرمة التدخين شيء، والإسراف والتبذير واللغوية جهات خارجية لا تتوجه إلى من يرى الانتفاع بها، وليس التتن مما تنفر الطباع منه كي يعد من الخبائث.

في حلية شرب التتن

ولو سلم فليس بأشد تنفراً من القهوة المرة والعقاقير المتداولة، ولو رأت طائفة أنه حرام ليس لها منع الشارب إذا رأى أن شرب التتن مباح، فإن النهي عن المنكر إنما هو لمن يراه منكراً، وليست مسألة جواز التدخين أو حرمته من المسائل البالغة حد الضرورة كالصلاة والصوم، والأحكام المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلاّ الكتاب والسنة، وليس لأحد أن يلزم الناس بقول قاله شيخ أو رئيس أو حاكم أو أمير إذا لم يوافقه قول الله وقول رسوله.

قال ابن تيمية في ص ٣٢ من الجزء الثالث من منهاج السنة: من اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر - انتهى.

والقرآن حكم عدل وقول فصل ينادي بحيث يعرفه كل عربي: بأن

٩٩

الحكم بما أنزل الله فلا محيص له عن أن يسند حكمه إلى ركن وثيق، وإلاّ كان حكماً بغير ما أنزل الله.

تمت الرسالة بعون الله وحسن توفيقه يوم الجمعة لخمس بقين في شهر ربيع الأول في شهور سنة ١٣٤٦ هجري.

وقد تم طبعه في النجف الأشرف - العراق في غرة رجب سنة ١٣٨٢ هجري. وأعيد طبعه في الأوفست في طهران في سنة ١٣٩٤ هجري.

وتم طبع هذا الكتاب بطبعته الثالثة بالقاهرة بمعاونة الأستاذ إبراهيم أحمد إبراهيم وكان ذلك يوم ٩ أبريل سنة ١٩٧٧ - ٢٠ ربيع الثاني سنة ١٣٩٧ هجري.

١٠٠